الخطاب ٧٤

يسوع أمام الكهنة

" ٦٣ وَﭐلرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ ٦٤وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ قَائِلِين: «تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟» ٦٥وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ. ٦٦وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ ٦٧قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ فَقُلْ لَنَا». فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ ٦٨وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي. ٦٩مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ». ٧٠فَقَالَ الْجَمِيعُ: «أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ». ٧١فَقَالُوا: «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ» " (لوقا ٢٢: ٦٣- ٧١).

لقد تأمّلنا في الآلام في جثسيماني والقبض على ربنا المبارك عندما أُخِذَ إلى بيت رئيس الكهنة في منتصف الليل. ثم لاحظنا إخفاق الرسول بطرس وإنكاره للمسيح؛ وإذ نظرنا أكثر إلى الرواية في الإنجيل رأينا كيف استرجعه يسوع بنعمته ورحمته. والآن نعود إلى بيت رئيس الكهنة. لقد كان أمراً مخالفاً للناموس أن تتم المحاكمة ليلاً في أورشليم، ولكنهم نسيوا كل ذلك عندما حرّكت البغضاء قلوبَ أعدائه ليسعوا لإدانة وهلاك الرب يسوع المسيح.

إذ نتأمل في هذا الجزء من النص نجد عدة أشياء يتم التأكيد عليها. أحدها هو التالي: لكي يخلص المرء لا يكفي أن يكون متديناً. أفترض أن هؤلاء الكهنة كانوا متدينين كمثل الجميع في إسرائيل في ذلك الوقت المعين. لقد كانوا قادة الدين للشعب؛ كانوا يؤمنون بقوة بالإعلان الذي أعطاهم إياه الرب عن نفسه بأنه الإله الوحيد الحقيقي والحي. يقول البعض أنه إن آمن المرء بإله واحد فليس المطلوب أكثر من ذلك؛ ولكن تذكروا ما قاله الرسول يهوذا (٢: ١٩): "أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!". الشياطين يدركون حقيقة وحدة الألوهية، وأنهم يوماً ما سيُستدعون للدينونة أمامه؛ ولذلك فإنهم يقشعرون لمجرد ذكر اسمه. الإيمان وحده، والاعتراف وحده، بحقيقة أن هناك إله واحد لا يخلّص أحداً. قد يتحول المرء من أسوأ أنواع عبادة الأوثان، أو الفَتَشية ۱، أو أي شكل آخر من الوثنية، ويقبل فكرة أن هناك إله واحد فقط ويعترف منذ ذلك الحين فصاعداً بأنه سيخدمه، ومع ذلك فقد لا يخلص على الإطلاق. هؤلاء الكهنة كانوا يؤمنون بإله واحد، ولكنهم لم يخلصوا. وأكثر من ذلك، فقد كانوا يؤمنون بوحي الكتاب المقدس؛ وكانوا يقبلون الكتابات المقدسة على أن الله هو من أعطاها، وكانوا يؤمنون بالطابع النبوي لهذه الكتابات. لقد كانوا يعلمون أن الكتب المقدسة قد تنبأت عن مجيء المسيا إلى العالم. ولقرون كان أسلافهم ينكبون على دراسة كتابات الأنبياء؛ وهم أنفسهم كانوا يتطلعون إلى مجيء هذا البار. وأما عن ذلك فعندما جاء الرب يسوع المسيح فعلياً في تحقيق لكل ما قد تمت الكتابة عنه مسبقاً، لم يعرفوه ولم يعترفوا به. لقد رفضوا قبوله؛ وازدروا به وقاوموه، وأحالوه إلى بيلاطس لكي يُصلب. لعلنا نتعلم شيئاً من هذا نحن. كثيرون يعترفون بأنهم يقبلون الكتاب المقدس كإعلان من السماء، على الأقل يدركون حقيقة أن الله تكلم فيه إلى البشر كما ليس في أي كتاب آخر. ومن هذا المنظور فإنهم قويمو الإيمان. ولكن تذكروا، قد يؤمن المرء بكل هذا ومع ذلك لا يعرف خلاص الله. لا يكفي أن تعرف الكتب المقدسة لكي تخلص. عندما زرت إرسالية جيري ماكلي لأول مرة قبل بضعة سنوات في نيويورك، حضرت خدمة رائعة للغاية، وفي ختامها أشار رجل إلى عجوز إسكُتْلنديٍّ يجلس في زاوية من الغرفة، وقال لي: "هذا هو الأصحاح-و-الآية العجوز". سألته عما يعني بذلك. فأجاب: "حسنٌ، هذا هو الاسم الذي أعطيناه له: الأصحاح-و-الآية العجوز. إنه مدمن على الكحول، لم نعرفه أبداً هادئاً ورزيناً. ومع ذلك ففي كل ليلة يكون في الاجتماع. إنه يغفو معظم الوقت، ولكن إذا ما قام أحدهم وقدّم شهادة وأخطأ في الاستشهاد أو الاقتباس من الكتاب المقدس فإن الأصحاح-و-الآية العجوز يستيقظ فوراً. إن لديه هكذا معرفة بالكتاب المقدس من فترة ريعان شبابه في إسكُتْلندا لدرجة أنه يهتاج عندما يسمع أي أحد يخطئ في الاقتباس من الكتاب المقدس. في إحدى الأمسيات قام أحدهم واقتبس مقطعاً من متى ١١: ٢٨ بحسب ترجمة الكتاب المقدس في كتاب الصلاة القديم، وليس بحسب النص المُعترف به: "تعالوا إلي يا جميع المرهقين".

وثب "الأصحاح-و-الآية العجوز" واقفاً وقال: "ليس كذلك. لا تتعاملوا مع كلمة الله بشكل غير صحيح. الآية لا تقول: " تعالوا إلي يا جميع المرهقين"، بل تقول: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ". ثم عاد إلى مجلسه وغطّ في النوم إلى أن أخطأ أحد آخر بالاستشهاد". يا للعجوز المسكين! لقد كان رأسه مليئاً بالكتاب المقدس وقلباً مليئاً بالخطيئة. يقول الكتاب المقدس أنه ما من سكّير سيرث ملكوت الله. هذا الرجل كان يعرف الكتاب المقدس ولكن ليس المخلّص الذي يتكلم عنه هذا الكتاب.

هؤلاء الكهنة كانوا يعرفون كتبهم المقدسة، ومع ذلك فقد كانوا يرفضون المسيح الذي في الكتاب المقدس. لقد كانوا الكتاب المقدس بشكل جيد جداً حتى أنه قبل ثلاثين سنة، عندما سمع هيرودس بولادة الملك واستعلم أين يجب أن يُولد المسيح، تذكر الكتبة ورؤساء الكهنة النبوءة في الحال، وأجابوا: "فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ لأَنَّهُ هَكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ" (مت ٢: ٦). لقد كانوا يعرفون تماماً أين سيولد المسيا، ومع ذلك فلم يقبلوه أو يستقبلوه. وإذ نما وصار رجلاً وراح يجول وهو يخدم الكلمة بين شعبه خاصته، حققوا فعلياً ما ورد في كتبهم المقدسة بإدانتهم له. وإذاً لم يكن كافياً أن يعرفوا الكتب المقدسة. على المرء أن يفتح قلبه للمسيح وأن يقبله مخلّصاً شخصياً له: إذ يقول الكتاب: "لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع ٤: ١٢).

الرجال الذين أخذوا يسوع هزأوا به وضربوه. أفترض أن هؤلاء كانوا الغوغاء من الشعب، الرعاع الطائشون. لقد أدركوا أن رؤساء دينهم كان ضد المسيح، ولذلك فقد وقفوا ضده هم أيضاً. "وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ قَائِلِين: «تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟»". ربنا المبارك المعبود، الذي اقتيد كحمل إلى الذبح وكخروف أمام أداوت الذبح كان صامتاً، ولم يجب بكلمة. "وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ".

مع بزوغ أول خيوط الفجر في الأفق، جاء رؤساء الدين، ورؤساء الكهنة، والكتبة معاً واقتادوه إلى مجلسهم. كان هذا هو المجلس الأعلى في إسرائيل والذي كان يتألف من سبعين من الشيوخ الأكثر بروزاً وشهرة. لقد كانوا هناك ليدينوا الرب يسوع المسيح؛ ونعلم من إنجيل آخر أنهم أتوا بعدد كبير جداً من الشهود الكذبة ليشهدوا ضده- أناس أعلنوا أنهم سمعوه يقول أشياء معينة جمعوها مع أقوال أخرى كانوا يحاولون أن يبرهنوا أنه قالها، ولكنه لم يكن قد قالها على الإطلاق. وعلى هذا النحو حاولوا اتهامه بالتجديف. "أَأَنْتَ الْمَسِيحُ؟” أجابهم الرب يسوع: "إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي". أي، لو أنه صادق على نفسه وقال: "أنا هو المسيا"، مستشهداً بالكتابات المقدسة ليظهر كيف أن كلمة الله قد تحققت فيه، لما كانوا سيصدقونه أو يؤمنون به. لقد كان يعلم أنهم كانوا في قلوبهم عازمين على رفضه. لم يكن ثمة دليل على التوبة لديهم، ولم يكن هناك أي معنى لحاجتهم إلى مخلّص. وهذا هو السبب في أن الناس، رجالاً ونساءً، ضالون اليوم: إنهم يرفضون المسيح؛ ويتخيلون أنهم يستطيعون أن يعيشوا حياتهم بدونه؛ وليس لديهم إدراك بالخداع والمكر المتأصل في قلوبهم. عرفت أشخاصاً عديدين كانوا يعارضون حقيقة الإنجيل، مدّعين أنهم لا يستطيعون تصديقه؛ إلى أن حدث أخيراً، إذ وقعوا تحت قدرة الروح القدس المبكِّتة، أن أدركوا حالتهم الهالكة وإثمية حياتهم، ووجدوا أن يسوع وحده كان يستطيع أن يسد حاجتهم. وعندها لم يجدوا صعوبة في الإيمان به؛ إذ أنهم رأوا، كما اعتاد جون هامبلِتون، الممثل المهتدي، أن يقول: "يسوع هو ما يلائمنا نحن الخطأة تماماً".

لم يحاول الرب يسوع المسيح أبداً أن يجيب على هؤلاء المعارضين، لأنه كان يعلم أنه لم تكن لديهم رغبة في أن يفهموا الحق. كان قد قال في إحدى المناسبات: "إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ هَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي" (يو ٧: ١٧). ولكن هؤلاء الناس ما كان لديهم رغبة بأن يقوموا بهذا الامتحان؛ ما كانوا على استعداد بأن يواجهوا الأمور بصراحة وصدق في حضرة الله.

وتابع يسوع ليقوم بالإعلان العجيب. فأخبرهم بأنه ورغم رفضهم له، "مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ". بالنسبة لهم كان هذا أعلى مستوى من التجديف؛ ما كان يعادل هذا سوى ادعاء الألوهة. فتابعوا امتحانه بالأسئلة- وإن كانت بدون رغبة في معرفة الحق- "أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟" لاشك أنهم تذكروا ما كتبه دانيال النبي، عن شخص يشبه ابن الإنسان جاء إلى قديم الأيام ليأخذ قوة ومجداً ومملكة. هل قصد يسوع القول أن تلك النبوءة تشير إلى نفسه؟ هل كان هو ابن العلّي؟ أجاب: "أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ". أي أنهم قالوا الحقيقة باستخدامهم لذلك اللقب عند إشارتهم إليه. لقد كان فعلاً ابن الله. فامتلأوا سخطاً وصرخوا: "مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ". وهكذا اعتبروه مداناً بالتجديف. وقد كانوا على حق، كما يدّعي كثيرون اليوم، لو كان فقط إنساناً، حتى وإن كان أفضل وأعظم البشر؛ لأنه إن كان أي إنسان سوى يسوع يدعي ذلك لكان إما منخدعاً بنفسه أو مجدفاً. ولكن الكلمة يعلن لنا أن ربنا المبارك هو الله الابن السرمدي الذي نزل إلى هذا العالم، واتخذ جسداً اتحد باللاهوت، لكيما يذهب إلى الصليب ويقدم حياته كفّارة عن الخطأة.


۱. - الفَتَشية: (fetishism ):الإيمان بالأفتاش، والفتش (fetish ) هو شيء، وخاصة شيء فاقد الحياة، يوقّره بعض الناس أو يعبدونه لأنهم يعتقدون أن فيه قوى وقدرات سحرية أو تحيا فيه روح. [المترجم].