الخطاب ٦

ولادة المخلِّص

"١وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ.٢ وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. ٣ فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. ٤فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ،٥ لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. ٦ َبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. ٧ فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ. ٨ وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ،٩ وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. ١٠ فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ:«لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: ١١ أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. ١٢ وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ».١٣ وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ:١٤ «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ». ١٥ وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرجال الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ».١٦ فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ. ١٧ َلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا الصَّبِيِّ. ١٨ َكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ. ١٩ وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. ٢٠ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ" (لوقا ٢: ١- ٢٠).

تجسد ربنا ليس مجرد مبدأ عقائدي يختلف عليه في الرأي اللاهوتيون من مدراس مختلفة؛ بل هو حقيقة مجيدة، حقيقة عجيبة رائعة، ليس من خلاص بدونها للبشر الخطاة. "لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" (غل ٤: ٤، ٥). الولادة العجائبية لمخلّصنا هو أحد حجارة الأساس لإيماننا المسيحي. إنها الحقيقة المرافقة لحقيقة ذبيحته التكفيرية على الصليب. وبسبب ذلك، فإننا نجد عموماً أن من ينكر الأولى ينكر الثانية، لذلك لا يمكن إيلاء كبير أهمية إلى الحقيقة التاريخية بأن يسوع وُلِدَ لأمٍّ عذراء وأنه "يُولَدُ ..... وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً" (أش ٩: ٦). فذاك الذي تنازل ليدخل إلى ظروف بشرية بولادته في بيت لحم هو الذي "مَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ" (مي ٥: ٢). نكران ذلك يعني الجحود بحقيقة الإنجيل، والتي بدونها لا رجاء للعالم الساقط.

هذا المقطع مرتبط بشكل محدد جداً بالنبوءة التي أُعطيت قبل حوالي ٧٠٠ سنة من حصول الأحداث، والتي نجدها في الأصحاح الخامس من سفر ميخا. كان ميخا معاصراً لأشعياء، وكلا النبيين تنبآ بمجيء المسيّا، ربنا يسوع المسيح. في الأصحاح الخامس من ميخا، الآية الثانية، نقرأ: "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ". إنه لأمر لشيق أن نلاحظ الآية الثانية. لعلكم تتوقعون أن النبي سيعلن أن كل بني إسرائيل سيعرفون فوراً المسيا الذي ينتظرون ويعترفون به ويجدون فداءً من خلاله؛ إلا أننا نقرأ: "لِذلِكَ يُسَلِّمُهُمْ إِلَى حِينَمَا تَكُونُ قَدْ وَلَدَتْ وَالِدَةٌ، ثُمَّ تَرْجعُ بَقِيَّةُ إِخْوَتِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ".

كم كان الاحتمال ضعيفاً على ما يبدو، وحتى النهاية، في إمكانية تحقيق الآية ٢. لقد أُعطيت هذه، كما ذكرت، قبل ولادة الرب يسوع المسيح بـ ٧٠٠ سنة. لقد دلّ الروح القدس بشكل محدد على المكان الذي سيولد فيه المخلّص- بيت لحم، مدينة في اليهودية. لقد كانت مدينة داود. لم تكن مدينة كبيرة، بل كانت أجمل مدينة في كل فلسطين. كانت بيت لحم مدينة مسيحية لأكثر من ألف سنة قبل الحملة الصليبية الأولى، على الأقل بالاسم. لم يكن المسلمون قد استولوا عليها بعد، ولكن كانت فيها جماعة مسيحية متميزة. قال النبي أن المسيّا سيولد هناك، وأعلن أن ذلك الطفل المكتنف بالأسرار سيكون هو ذاك الذي "مَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ". يقول صاحب المزامير: "منذ الأزل إلى الأبد أنت الله".

هذا الطفل، إذاً، سيكون إلهاً وإنساناً معاً- إلهاً وإنساناً متحدين في شخص واحد، لا ينفصلان أبداً. وهذا هو سر التجسد.

كان هذا إعلان ميخا، ولكن بدا، وحتى وقت متأخر قبل حصول الحدث فعلياً، أن تلك النبوءة ما كانت يمكن أن تتحقق حرفياً. لقد كانت مريم وحتى النهاية تقريباً تسكن في مدينة الناصرة، في شمال البلاد. في تلك الأيام، وإذ كانت وسيلة السفر الوحيدة هي على الأقدام أو على ظهر الحمار أو الجمل، كانت تستغرق الرحلة من الناصرة إلى أورشليم فترة طويلة. الأمر مختلف اليوم مع وسائل النقل الحديثة. فالرحلة تستغرق حوالي ثمان ساعات بالسيارة. ما كان يمكن السفر بتلك السرعة في تلك الأيام. كانت مريم هناك في بيتها في الناصرة، تترقب كل يوم تقريباً أن تلد ابنها الرائع، والتي كانت وحدها تفهم سر حملها به، ومع ذلك، فقد قالت النبوءة أنه "سيولد في بيت لحم". لا أدري إن كانت مريم قد فكرت في كلمات ميخا. وأتساءل إذا ما كان يوسف مهتماً بالمسألة. هل كان يوسف يعرف أن الطفل سيولد إلى العالم في بيت لحم؟ على كل حال، يبدو أنهم ما كانوا ليقومون بأية استعدادات لذلك. ثم يخبرنا الإنجيل أنه جاء ذلك اليوم حيث صدر مرسوم من أغسطس قيصر بأن يُكتتب كل العالم. لقد كان حاكم العالم القديم. كان عرشه في مدينة روما. بينما كانت النبوءة تقول أن المسيا سيولد في بيت لحم، ومريم كانت تنتظر في الناصرة. وهكذا فإن الله جعل في قلب الإمبراطور أن يأمر بأن يذهب كل امرئٍ إلى مدينته الخاصة، حيث مسقط رأسه، لكي يكتتب من أجل اقتطاع الضرائب. كانت هذه هي طريقة الله لجلب مريم ويوسف إلى بيت لحم في الوقت الملائم، لكي تتحقق كلمته. ونعلم أن هذا الاكتتاب قد جرى أولاً عندما كان كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. النُقاد، أولئك الذين يحاولون أن يجدوا خطأ في الكتاب المقدس ويشككون بالوحي الذي فيه، اعتادوا إلى أن يشيروا إلى هذه الآية الثانية ويقولوا: "الآن لدينا دليل قاطع على أن إنجيل لوقا لم يُكتب بوحي إلهي لأن هناك خطأ فيه. لقد حكم كيرينيوس سوريةَ حوالي العام ٦ ميلادية، وفعلياً بعد ولادة المسيح الحقيقية بعشر سنوات، لأنه وُلد قبل أربع سنوات من تغيير التقويم من قبل الميلاد إلى بعد الميلاد". هؤلاء المعترضون قالوا أن كيرينيوس كان والياً على سورية، التي كانت تشتمل على فلسطين، لعدة سنوات، ابتداءً من العام ٦ ميلادية وصاعداً. فما كان لهذا الاكتتاب أن يتم في وقت كيرينيوس إن كان قد جرى في الوقت الذي يُعتبر أن المسيح وُلد فيه. لقد رد الله على النُقاد بطريقة رائعة جداً في عصرنا الحالي. رفش عالم الآثار كشف أموراً لافتة عظيمة كثيرة برهنت حقيقة الكتاب المقدس. كتب أحد علماء الآثار الروّاد في يومنا مؤخراً: "إني على إطلاع عملي بكل نتائج اكتشافات علم الآثار للسنوات المئة الأخيرة، ولكني لم أجد بينها ما يلقي الشك على الكتاب المقدس، بل على العكس وجدتُ مئات من الأشياء التي برهنت صحة ما ورد فيه بشكل مطلق".

لقد دونتُ باختصار قولاً أخذته من أحد الكتابات يقول: "لقد كان يُعتقد أن لوقا قد خلط بين هذا الإحصاء وذلك الإحصاء الذي جرى في عهد كيرينيوس حوالي العام ٦ أو ٧ ميلادية عندما صار والياً للمرة الثانية. يشير لوقا إلى ذاك أيضاً في أع ٥: ٣٧ بقوله "أَيَّامِ الاِكْتِتَابِ". ولكننا نعلم أن كيرينيوس كان حاكماً على سورية قبل ذلك، تحت حكم أغسطس، من العام ١٢ ق.م. إلى العام ٣ ق. م. وخلال هذه الفترة جرى ذلك الاكتتاب، الذي يشر إليه لوقا هنا في إنجيله. الناس ضيّقو الأفق للغاية وضعيفو المعرفة، فلا يستطيعون أن يجدوا خطأ في الكتاب المقدس. فكلما حصلنا على فرصة معرفة حقائق أكثر كلما برهن الكتاب المقدس غلبته في كل جدال. لقد رتب الله الأمور على ذلك النحو لكي يجري الاكتتاب، وكان هذا يعني وجوب ذهاب يوسف ومريم إلى بيت لحم.

نقرأ في الآية ٤، "فصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، (لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ)". ولذلك فقد كانوا هناك عندما حان وقت ولادتها. وهكذا سترون أن الله قد حرّك العالم كلّه- ملايين من الناس يذهبون إلى مدنهم ليكتتبوا من أجل فرض الضرائب، وذلك لكي تتحقق إحدى النبوءات في العهد القديم في الوقت المحدد، ويولد المسيح هكذا في بيت لحم اليهودية. ما كانوا يبحثون عنه هناك. ولم يلقى أية ترحيب. رغم أن يوسف كان من نسل داود ورغم أن مريم كانت ابنة بيت داود، إلا أنه لم يكن هناك من صوت أبواق ترحّب بهم عندما وصلوا. ولم يكن لديهم حجز في النزل المحلّي. ونقرأ أنه "لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ". أفترض أن مئات من الناس كانوا يحتشدون في بيت لحم. كان الأغنياء قد حجزوا مسبقاً واستحوذوا على الأماكن الجيدة ليمكثوا فيها. وأستطيع أن أتخيل يوسف ومريم قادمين، ومتعبين ومنهكين بعد تلك الرحلة الطويلة، يقولان لصاحب النزل: "ألديك مكاناً مريحاً؟" وأتخيل صاحب النزل يقول لهما: "لم تقوما بأي حجز. والغرف كلها مشغولة". يمكنكم أن تتخيلوا عدم انتباه الناس لهذا النجار الفقير. ومع ذلك فقد صنع الله تدبيراً لهما. بما أنه لم يكن هناك مكان لابن الله ليُولد فيه في النزل، فقد كان هناك مكان له في زريبة وسط الماشية. وهكذا نقرأ: "فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ". لا يجب أن تفكروا أن الزريبة في تلك الأيام هي على شاكلة الإسطبل في أيامنا هذه. ما كانت لتكون زريبة خشبية، بل مغارة محفورة في حجر الكلس. يمكنكم أن تروا هذه المغارة في بيت لحم اليوم، ويمكنكم أن تروا المكان الذي كان يُحتفظ فيه بالأغنام والماعز والثيران؛ وإذ تمرون بنوع من الممر الذي يشبه السرداب، تصلون إلى كهف آخر حيث أمضى جيروم سنوات عديدة يترجم الكتاب المقدس من اليونانية إلى اللاتينية. فبحسب ما كتبه، قال أن المغارة التي كان فيها كانت قريبة جداً من تلك التي وُلد فيها يسوع. يمكنكم أن تروا المغارة اليوم، لقد كانت نوعاً من الزريبة في مغارة حيث وُلد ربنا المبارك. أخذوا الطفل الصغير وقمّطوه بثياب، واتخّذوا كمهد له مذوداً كانت الماشية تأكل طعامها منه عادة.

فكروا في ابن الله المبارك: لقد صار إنساناً لأجل فدائنا. وُلد في زريبة، ووُضع في مذودٍ كالمهد. ونجد السماء كلها تتحرك. في هذه الأصحاحات الأولى من لوقا تجدون نشيداً تلو الآخر. لديكم نشيد أليصابات، ونشيد زكريا، ونشيد مريم، وهنا تجدون نشيد الملاك. أعرف أنه ليس لدينا فعلياً كلمة "نشيد" هنا. فالنص لا يقول فعلياً أن الملاك أنشد. ولكني على يقين بأن كلام الملائكة العادي هو أحلى وأعذب وأرخم لحناً من أي نشيد أنشده أي إنسان على وجه الأرض. لقد تأثرت السماء كلها. ويخبرنا الإنجيل أنه "كَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا". لقد كانوا قد سمعوا عن ملائكة يظهرون في الماضي. ولكن مضت ٤٠٠ سنة على ظهور آخر نبي، ولم يكن هناك أي تدوين موثوق به عن ملائكة ظهروا على الأرض إلى أن ظهر جبرائيل لزكريا في الهيكل. والآن أضاءت السماء كلها وظهر كائن مهيب فعلياً للبشر. لقد خَافُوا خَوْفاً عَظِيماً. فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: "لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ". يا لها من رسالة- "لاَ تَخَافُوا!" كان جبرائيل قد استخدم هذه الكلمات مرتين قبل ذلك، ولا بد أن جبرائيل نفسه كان هنا أيضاً. "لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ". ذاك هو الإنجيل. الكلمة تعني "النبأ السار". وإن كلمة "إنجيل" تأتي من كلمة تعني "النبأ السار". وهكذا فإن الملاك جاء ليكرز بالإنجيل، وتلك الكلمة ستحيط بكل كلمة الله. لقد أُعلن الإنجيل لإبراهيم، ولبني إسرائيل. وأُعلن الإنجيل على مرّ الزمان ومن خلال خدمة يوحنا المعمدان، والإنجيل يُعلن اليوم بقوة الروح القدس، الذي أُرسِل من السماء. إن الإنجيل هو رسالة الله المتعلقة بابنه المبارك. هناك إنجيل واحد فقط. يقول بولس: "إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم، فليكن «أناثيما»". لقد كان هذا ملاكاً من السماء. فإن بشّر أحد بأي إنجيل آخر غير الذي بشّرنا به، فليكن ملعوناً. إنه النبأ السار من الله عن ابنه المبارك. إنه يتخذ أشكالاً مختلفة في أوقات مختلفة. لقد كان إنجيل الملكوت، وتحديداً عندما بشّر به ربنا المبارك والرسل الأوائل.

ومنذ أن صعد المسيح إلى السماء، نزلت الرسالة إلى الأرض، بأن المخلّص جلس عن يمين الآب. وهذا يُنبئنا بالعمل الذي أُكمل. إنه يُدعى "الإنجيل المجيد" لأنه يؤدي إلى المجد، و"الإنجيل الأبدي" لأنه إنجيل لكل العصور. الإنجيل سيكون فرح قلوبنا إلى الأبد. تلخّصه كله تلك الكلمات الرائعة في يو ٣: ١٦، "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ".

هناك نبأ سار عن فرح عظيم لكل البشر، وليس فقط لنخبة، وليس فقط لعدد محدود محصور، بل هو لكل البشر. كل الناس في كل مكان مدعوون ليؤمنوا بالمخلّص الذي أرسله الله إلى العالم. لدينا الإعلان القاطع الواضح عن ولادة الرب كما قال الملاك: "أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ".

بعدئذٍ نقرأ أنه: "ظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ»". يبدو هذا الأمر غريباً- أليس كذلك؟ إنه أمر مستغرب أن نسمع هذه الكلمات يتردد صداها عبر كل العصور، بينما نفكر في الحالة المريعة التي تسود في الأرض اليوم. انظروا حيث تشاؤون؛ ليس هناك من سلام. انظروا إلى كل ما حولنا؛ هناك حرب. انظروا بتمعن إلى بلادنا نفسها، إنها نزاع بين الرأسمالية والطبقة العاملة- نزاع بين الجماعات المختلفة. هناك بؤس وتعاسة في كل مكان- قلق واضطراب من كل جهة؛ ومع ذلك قال الملاك: "عَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ". إلا أن ذلك السلام كان يستند على اقتبال المخلّص الذي أرسله الله إلى العالم. ولكن للأسف فقد رفضه الناس. لقد رفضوه، وهذا هو السبب في أن العالم بقي في حالته التعيسة هذه.

بحسب ميخا، سيعود المسيا ثانية، عندما ترجع بقية بني إسرائيل إلى إلههم.

لم يقف الرعاة ليسألوا أو يشكّوا، بل نقرأ أنه: "لمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرجال الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ»". تروق لي بساطة إيمانهم. لم يقولوا: "لِنَذْهَبِ الآنَ وَنَنْظُرْ إن كان هذَا الأَمْرَ قد وقع فعلاً". بل قالوا: "لِنَذْهَبِ الآنَ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ". لقد كانوا مقتنعين حتى قبل أن يروا. لقد أتوا على عجل وجاؤوا ووجدوا مريم ويوسف، ورأوا الطفل مضطجعاً في المذود؛ وعندما رأوه أخبروا بما قيل لهم بخصوص هذا الطفل. أول المبشّرين في الدهر الجديد كان أولئك الرعاة البسطاء الذين راحوا يقولون: "لقد جاء"، و"لقد رأيناه. لقد وُلد في بيت لحم. ورأيناه هناك مضجعاً في مذود". وانطلقوا يعلنون مجيء ربنا المبارك يسوع المسيح، وكل من سمعوهم تعجبوا من تلك الأمور التي أخبرهم بها الرعاة.

فكروا في الأم العذراء- ما الذي كان يعنيه هذا بالنَّسَبة لها! كانت ترقد هناك في بيت التبن. وهناك- على أرضية الزريبة- هناك كان الطفل الصغير في المذود حيث كانت بالكاد تستطيع أن تمد إليه أصابعها الناعمة الرقيقة؛ وكانت طوال الوقت تفكر بالرسالة الرائعة التي أتت إليها قبل بضعة أشهر، وقد تحققت الآن. ما معنى كل ذلك؟ ما كانت تستطيع أن ترى إلا القليل من النتائج الرائعة التي كانت ستتجلى عبر الدهور، ولكنها كانت تعرف أن الله قد جاء، بالنعمة والرحمة، وافتقد شعبه. نقرأ: "أما مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ".

كم تبتهج قلوبنا بهذه القصة. لقد قرأناها مراراً وتكراراً، ولكنها تبقى جديدة دائماً؛ أليس كذلك؟ إنها أجمل وأعذب قصة سمعناها على الإطلاق- مجيء ربنا يسوع المسيح إلى الأرض. لم يكن له مكان في النزل. هل يوجد لديه مكان في قلوبكم؟ هل أعددتم مكاناً له؟ هل اقتبلتموه؟ هل آمنتم به؟ إن كنتم لم تُفسحوا له مجالاً بعد، يمكنكم ذلك الآن، ويمكنكم أن تنشدوا:

تعال إليّ، يا ربي، ادخل،
واجعل من قلبي مسكناً لك،
تعال إليّ ونقِّ نفسي من الإثم،
وامكث معي وحدي".

إنه يبتغي أن يدخل، وسوف يدخل إن فتحتم الباب.