الخطاب ٤٣

البحث في أحاديث المائدة

"٣٧وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ سَأَلَهُ فَرِّيسِيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ. ٣٨وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تَعَجَّبَ أَنَّهُ لَمْ يَغْتَسِلْ أَوَّلاً قَبْلَ الْغَدَاءِ. ٣٩فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافاً وَخُبْثاً. ٤٠يَا أَغْبِيَاءُ أَلَيْسَ الَّذِي صَنَعَ الْخَارِجَ صَنَعَ الدَّاخِلَ أَيْضاً؟ ٤١بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ. ٤٢وَلَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْلٍ وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَقِّ وَمَحَبَّةِ اللهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ! ٤٣وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الْمَجْلِسَ الأَوَّلَ فِي الْمَجَامِعِ وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ. ٤٤وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ مِثْلُ الْقُبُورِ الْمُخْتَفِيَةِ وَالَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ!». ٤٥فَأجَابَ وَاحِدٌ مِنَ النَّامُوسِيِّينَ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ حِينَ تَقُولُ هَذَا تَشْتِمُنَا نَحْنُ أَيْضاً». ٤٦فَقَالَ: «وَوَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ النَّاسَ أَحْمَالاً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ الأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ. ٤٧وَيْلٌ لَكُمْ لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. ٤٨إِذاً تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ. ٤٩لِذَلِكَ أَيْضاً قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ ٥٠لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هَذَا الْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ الْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ ٥١مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا الَّذِي أُهْلِكَ بَيْنَ الْمَذْبَحِ وَالْبَيْتِ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ هَذَا الْجِيلِ! ٥٢وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ». ٥٣وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهَذَا ابْتَدَأَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ يَحْنَقُونَ جِدّاً وَيُصَادِرُونَهُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ ٥٤وَهُمْ يُرَاقِبُونَهُ طَالِبِينَ أَنْ يَصْطَادُوا شَيْئاً مِنْ فَمِهِ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ" (لوقا ١١: ٣٧- ٥٤).

لقد لاحظنا من قبل في محاولتنا لأن نشرح هذا الإنجيل أن لوقا يخبرنا مراراً وتكراراً أن المخلّص كان يُدعى إلى العشاء وعن مشاركته للوليمة لمجموعات مختلفة من الناس. لقد ذكرنا أنه ليس من مكان أو ظروف تجعل الإنسان يتصرف على سجيته ويُظهر حقيقته أكثر من وليمة العشاء، عندما تكون محاطاً إما بأصدقائه الذين يستمتع بالصدقة معهم، أو وسط خصوم هم على استعداد لأن يجدوا أخطاء عليه. إن جزءاً كبيراً من إنجيل لوقا مركب من أحاديث المائدة لربنا. لقد تأملنا للتو في بعض الحوادث، وها هنا لدينا حادثة أخرى، في كل مناسبة مثل هذه كانت كلمات الرب صادقة جداً ونابعة من القلب. لقد كان ربنا دائماً صادقاً مع الناس؛ لم يجاملهم أبداً؛ ولم يدّعي بأنه غير ما هو حقيقته؛ ولم يبدر منه أي خطأ أبداً؛ ومع ذلك فهو لم يكن جلفاً ولا متجهماً غضوباً، بل حسن التعامل مع الآخرين وصادق في كل الظروف.

نقرأ هنا أن فريسياً معيناً دعا يسوع ليتعشى معه. "فَدَخَلَ وَاتَّكَأَ". كان هناك فريسيون آخرون حاضرون، ولاحظ الضيوف أنه عندما كان يسوع جاهزاً لأن يتكئ أو على وشك أن يتكئ إلى المائدة لم يمارس تلك الطقوس التي كانت عادة عندهم- فلم "يغتسل" قبل أن يتناول الطعام. لا يشير هذا ببساطة إلى غسل الأيدي، بل إلى تطهير مفصل يقوم به المرء لكي يكون ملائماً للمشاركة في الوليمة. لقد كان هذا ذا طبيعة تدينية. وكانوا يعتقدون أنهم بممارستهم لهذه الطقوس يكونون أطهار أمام الله. ولذلك فإن الفريسيين تعجبوا في أن يسوع لم "يغتسل" قبل أن يتناول الطعام. قال لهم الرب: "أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافًا وَخُبْثًا. يَا أَغْبِيَاءُ، أَلَيْسَ الَّذِي صَنَعَ الْخَارِجَ صَنَعَ الدَّاخِلَ أَيْضًا؟" في هذه الكلمات أكد ربنا يسوع المسيح أنه ورغم أن هؤلاء الغيورين المتحمسين للدين كانوا يضعون ثقلاً كبيراً على الأمور الخارجية لتقوى، إلا أنهم كانوا يهملون الحقائق الداخلية التي كان ينبغي أن تعني أكثر بكثير بالنسبة لهم. الكثير من المسيحيين المعترفين يرتكبون نفس الخطأ اليوم. إنهم يضعون ثقلاً كبيراً على الطقوس الخارجية أكثر من الحياة الداخلية. هناك، على سبيل المثال، من يتخيل أن فريضة المعمودية تطهّره من الخطيئة، وأنه يتجدد بها.

لقد كان الرب ينظر إلى قلوب الناس، وأخبرهم أنه لا يكفي أن يحفظوا الطقوس الناموسية. لو كان هنا اليوم لكان سيوبخنا ويؤنبنا، بشدة كما نراه يوبخ هؤلاء الفريسيين، نحن الذي نتخيل أن كوننا مسيحيين يعتمد على عضوية الكنيسة، وخدمة الطقوس، أكثر من تطهير النفس أمام الله. لقد قال ربنا لهؤلاء الفريسيين أنهم كانوا يهتمون كثيراً بتطهير خارج الكأس، ولكنهم لم يهتموا بتطهير الداخل. يبدو أنهم لم يفهموا أن من صنع الخارج صنع الداخل أيضاً. لقد كانوا يطهّرون الجسد بالماء، ولكن القلب كان مليئاً بالضراوة والشر والحسد. إن ما يريده الله فوق كل شيء آخر هو قلباً نقياً.

لم يكن ربنا يتجاهل أهمية تطهير الجسد، ولكن هذا وحده لم يكن كافياً: يجب أن يتنقى القلب بالإيمان، "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ". "بَلْ أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً، فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيًّا لَكُمْ". أي، عندما تملأ محبة الله القلب وتجعل المرء مهتماً بحاجات الآخرين، فعندها فقط هذه العادات الخارجية تكون لها قيمة. كم نحن في حاجة لأن نضع هذا في قلوبنا اليوم! إننا نتلقى البركة تلو البركة من الله، وكم هو قليل عدد المرات التي نتذكر فيها أنه علينا أن نتواصل مع الآخرين وأن ننقل إليهم النبأ السار الذي أعطانا الله إياه. يمكنكم أن تختبروا مدى روحانية المرء، ليس بالمظهر التقوي المتبدي على وجهه، ولا بكلماته، بل بشكل أساسي باستخدامه للوسائل التي أوكله الله بها. من يجمع لنفسه على الدوام، في لا مبالاة مطلقة للفقراء والمحتاجين الذي حوله، إنما يقدم دليلاً على أن محبة الله لا تسكن فيه.

أعلن ربنا ثلاث ويلات على الفريسيين. الأول بسبب الطريقة التي كانوا يؤكدون فيها على تعشير الأشياء الثانوية بينما ينكرون ويتجاهلون الأشياء الأهم في الحياة: "وَلكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْل، وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَقِّ وَمَحَبَّةِ اللهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ". كان ليمكن أن يذهبوا إلى الحقل أو يخرجوا إلى الأكمة أو ينزلوا إلى الشاطئ ويجمعون الأعشاب. ثم يقدّمون عشر ذلك لله، وهم يعتقدون أنهم بفعلهم ذلك، عندما يعشرون هكذا أشياء صغيرة، أن الله لا بد أن يكون راضياً عنهم. ولكن يسوع أوضح أنهم بينما كانوا حريصين على العشور، كان هناك أمور أهم مثل العدالة ومحبة الله التي كان يجب أن تأتي أولاً. إنه لمر صحيح تماماً أن نطبق العشر حتى على أصغر الأشياء، ولو الأشياء ذات القيمة الضئيلة، ولكن الأمر الأهم كان السلوك التقي- أن يسلك المرء في عدل وبر أمام الله والإنسان، وأن يُظهر محبة الله في الحياة. المشكلة مع الكثير من المتدينين هي أنهم لم يعرفوا أبداً حقيقة الولادة الجديدة. قال يسوع لنيقوديموس: "يَنْبَغِي أَنْ تُولَد مِنْ فَوْقُ"، و"إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ". الطقوس الخارجية لا تسدُّ ذلك النقص في الحياة الروحية الداخلية.

الويل الثانية أطلقها بسبب محبة الفريسيين للمجالس العليا في المجامع: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ الْمَجْلِسَ الأَوَّلَ فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ". لقد كانوا مولعين بالمظاهر الخارجية والتشاوف. كانوا يستمتعون بأن ينظر الناس إليهم بوقار واحترام وهم يدخلون إلى المجمع، وهذا نجد نظيراً له في الكنيسة اليوم. بعض الناس يحبّون أن يقترب منهم البوّاب في الكنيسة، ويقول لهم: "تفضل إلى هنا؛ لدينا مقعد خاص لكم". ويستمتعون عندما يقول الجميع: "لا بد أنه شخص مهم؛ من يكون هذا الشخص؟" وقد يضيف أحدهم قائلاً: "آه، إنه الدكتور فلان، أحد أعظ القادة الدينيين". وهذا الشخص الرفيع المقام يجلس راضياً مستمتعاً بنظرات الإعجاب التي تحيط به من قِبل الجماعة بينما هو يدّعي عبادة الله. في الواقع إنه إنما يسعى للإرضاء عن طريق اعتراف الآخرين به وتمييزه. هكذا تصرف يمقته الله الذي يعرف الكبرياء الكامن وراءه.

الويل الثالثة تتعلق بالنجاسة المخفية: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ مِثْلُ الْقُبُورِ الْمُخْتَفِيَةِ، وَالَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ!" إننا في حاجة لأن نفهم شيئاً مما كان مكتوباً في الناموس لكي نحصل على القوة الكاملة والمعنى الواضح لهذه الكلمات. بحسب ناموس موسى، كان الإسرائيلي يتنجس إذا ما سار فوق قبر أو احتك بعظام جسد ميت. كان عليه أن يمر بعملية تطهير قبل أن يستطيع أن يأخذ مكانه من جديد بين المتعبدين في بيت الرب. هؤلاء الفريسيون، الذين كان يجب أن يكونوا مثالاً عن القداسة، والذين كان يجب أن يكونوا هم الأشخاص الذين يأتي إليهم الناس طالبين المساعدة والإرشاد ، هؤلاء أنفسهم كانوا فاسدين وكانوا مضللين، بتأثيرهم غير المبارك وحياة الرياء التي كانوا يعيشونها. لقد كانوا زائفين كاذبين بالكلية. والاحتكاك بهم كان كمثل الاحتكاك مع عظام إنسان ميت والتنجس به، رغم أنهم يدركوا ذلك. كانت هذه الكلمات لاذعة من قِبل ربنا، وأسوأ ما في الأمر أنها كانت كلمات حقيقية وصادقة مئة بالمئة وكل فريسي كان على تلك المائدة أدرك أنها كانت حقيقية، رغم أنهم صرّوا بأسنانهم من الغيظ عندما سمعوا يسوع يقول تلك الأشياء.

كان هناك ناموسيون حاضرين، وهم رجال عملهم هو أن يشرحوا ناموس موسى، أنس كرسوا أنفسهم لسنوات من دراسة الكتابات المقدسة. عندما كانت تُطرح أسئلة تتعلق بتفسير مقاطع من الكتاب المقدس، فإن هؤلاء الرجال كان مفترض بهم أن يكونوا قادرين على أن يعطوا التفسير انهائي الصحيح. من الواضح أن أحدهم اهتاج في أعماق نفسه فقال: "يَا مُعَلِّمُ، حِينَ تَقُولُ هذَا تَشْتُمُنَا نَحْنُ أَيْضًا". كلمة "يتَشْتُمُ" هي ترجمة أفضل من كلمة "يوبّخ". "حِينَ تَقُولُ هذَا تَشْتُمُنَا نَحْنُ أَيْضًا". لقد أنبّه ضميره، لأنه كان يعلم أن ما قاله الرب للفريسيين كان حقيقياً ومنطبقاً عليه وعلى أصدقائه الناموسيين. لم يسحب يسوع كلامه في أي يوم من الأيام على الإطلاق. لم يكن يحاول أن يهين أحداً. لقد كان صادقاً بشكل مطلق. ما كان ليغطي خطاياهم أو يتجاهلها؛ لقد أتى بهم إلى النور، لكيما يدانوا في حضرة الله.

أعلن يسوع ثلاث ويلات على الناموسيين كما فعل مع الفريسيين. الويل الأولى كانت أنهم يحمّلون الناس أحمالاً ثقيلة لم يستطيعون هم أنفسهم أن يحملوها أو أن يحركوها بأحد أصابعهم. هؤلاء الناموسيون ما كانوا فقط يفسرون ناموس موسى بل كانوا يضيفون إلى الناموس تقاليد بشرية. قال يسوع: "لقد جعلتُم ناموس الله عديم الفعالية بتقاليدكم". ما كنوا يستطيعون أن يفسروا للناس كل تلك الوصايا مختلفة والقوانين والإجراءات والأعراف، ولكن يسوع صرّح بأنه، بينما يوضحون هذه الأشياء للناس الآخرين فإنهم هم أنفسهم ما كانوا ليعملوا بها. لم يكونوا صادقين بل كانوا مرائين منافقين. أكد يسوع على أهمية إطاعة الله. لقد كانوا يحثّون عامة الشعب على إطاعة الناموس والتقاليد التي أضافوها إليه ولكنهم لم يكونوا يطيعون الكثير من الوصايا هم أنفسهم. بمعنى آخر، كأنهم كانوا يقولون: "افعلوا كما نقول، ولكن لا كما نفعل".

في الدرجة الثانية، وبخ الرب الناموسيين وأطلق ويلاً عليهم بسبب نفاقهم الشديد. لقد كانوا يكرّمون قبور المقامات ويضخمون أهميتها. فقال يسوع: "وَيْلٌ لَكُمْ! لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ، وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. إِذًا تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ، لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ وَأَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ. لِذلِكَ أَيْضًا قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ". هذا هو المكان الوحيد في العهد الجديد حيث تُشخصَن حكمة الله. في سفر الأمثال لدينا هذا التشخيص. في الأصحاح ٨ تُحذر الحكمة الناس من خطر الرياء والحماقة الآثمة. هنا في العهد الجديد حكمة الله تتكلم، فتخبر الناس عن المصير المشؤوم الآتي عن أولئك الذين لم يبالوا بالإعلان الذي أعطاه الله، رغم أنهم يعترفون بأنهم يكرمون أولئك الذين جاء الإعلان عن طريقهم. قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: "إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ لِكَيْ يُطْلَبَ مِنْ هذَا الْجِيلِ دَمُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ الْمُهْرَقُ مُنْذُ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ، مِنْ دَمِ هَابِيلَ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا". سواء كان هذا يشير إلى زكريا، كاتب السفر الذي يحمل اسمه (والذي هو، بحسب الترجوم اليهودي، ذُبح في المقدس)، أم يشير إلى زكريا سابق له نجد رواية موته في أخبار الأيام الثاني ٢٤: ٢٠، ٢١، هو موضع نقاش. ولكن الأمر الهام الذي يجب أن نراه هو أن الله اعتبر إسرائيل غير المؤمن مسؤولاً عن كل الدم الذي أُهرق بسبب عدم أمانتهم له. روح الرفض نفسها التي عانى منها الكلمة والمعارضة لرسل الله كانت تتبدى في ذلك الجيل. وكما نعلم، فإن دينونات فظيعة رهيبة سرعان ما تبعت ذلك.

الويل الثالثة نجدها في الآية ٥٣: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ. مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ". كان المفتاح يرمز إلى المعرفة. المعلّمون الكبار في إسرائيل كانوا يضعون مفتاحاً، كما يفعل بعض المتخرجين من الجامعة لدينا، مثلاً، أولئك المتفوقون بشكل خاص باليونانية، الذين يضعون ما يسمى مفتاح Phi Beta Kappa . وأشار يسوع إلى ذلك عندما قال لبطرس: "أُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ". لكأن يسوع كان يقول لهؤلاء الناموسيين: "لديكم مفتاح المعرفة؛ ويفترض بكم أن تعرفوا، وأنتم معروفون بأنكم رجا على اطلاع بالكتب المقدسة. فلماذا لا تعطوا الكتب المقدسة للآخرين ببساطتها؟ لقد أبعدتموها عن الناس وتحتفظون بها لأنفسكم وحسب؛ ومع ذلك فإنكم لا تبالون بها، ويبقى الناس في حالة جهل". إنه تحذير خطير ضد إساءة استعمال الكتابات المقدسة. إن كان الله قد ائتمن إنساناً على معرفة الكلمة، فإنه مسؤول عن نقل تلك الكلمة بشكل واضح وبشكل مفيد لكي يتشارك الآخرون في البركة.

مع هذه الأقوال تأتي أقوال ربنا يسوع في هذه المناسبة إلى نهايتها. بما أنه قال هذه الأشياء لهم، بدأ الكتبة والفريسيون يسألونه، محاولين أن يمسكوا عليه شيئاً من فمه يستطيعون أن يدينونه ويتهمونه به. لقد كانوا يرغبون في أن يجدوا دليلاً يُظهر أنه كان يعلّم ما هو خلافاً لناموس موسى؛ ولكن ما كان يهمهم أن يكونوا أبرار أمام الله أنفسهم.