الخطاب ٥

الوعد يتحقق

"٥٧ وَأَمَّا أَلِيصَابَاتُ فَتَمَّ زَمَانُهَا لِتَلِدَ، فَوَلَدَتِ ابْنًا.٥٨ وَسَمِعَ جِيرَانُهَا وَأَقْرِبَاؤُهَا أَنَّ الرَّبَّ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا. ٥٩ وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ جَاءُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ، وَسَمَّوْهُ بِاسْمِ أَبِيهِ زَكَرِيَّا. ٦٠ فَأَجَابَتْ أمُّهُ وَقَالَتْ:«لاَ! بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا». ٦١ فَقَالُوا لَهَا:«لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهذَا الاسْمِ». ٦٢ ثُمَّ أَوْمَأُوا إِلَى أَبِيهِ، مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُسَمَّى.٦٣ فَطَلَبَ لَوْحًا وَكَتَبَ قِائِلاً: «اسْمُهُ يُوحَنَّا». فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ. ٦٤ وَفِي الْحَالِ انْفَتَحَ فَمُهُ وَلِسَانُهُ وَتَكَلَّمَ وَبَارَكَ اللهَ.٦٥ فَوَقَعَ خَوْفٌ عَلَى كُلِّ جِيرَانِهِمْ. وَتُحُدِّثَ بِهذِهِ الأُمُورِ جَمِيعِهَا فِي كُلِّ جِبَالِ الْيَهُودِيَّةِ، ٦٦ فَأَوْدَعَهَا جَمِيعُ السَّامِعِينَ فِي قُلُوبِهِمْ قَائِلِينَ:«أَتَرَى مَاذَا يَكُونُ هذَا الصَّبِيُّ؟» وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ. ٦٧ وَامْتَلأَ زَكَرِيَّا أَبُوهُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَتَنَبَّأَ قَائِلاً:٦٨ «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ،٦٩ وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ. ٧٠ كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ،٧١ خَلاَصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا. ٧٢ لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ،٧٣ الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا: ٧٤ أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ ٧٥ بِقَدَاسَةٍ وَبِرّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا. ٧٦ وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ.٧٧ لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ، ٧٨ بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ.٧٩ لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ».٨٠ أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ" (لوقا ١: ٥٧- ٨٠).

بادئ ذي بدء، يتوجه انتباهنا إلى تحقيق الوعد المتعلق بولادة يوحنا المعمدان. مرّت ٩ أشهر كاملة بعد ظهور الملاك جبرائيل لزكريا وهو يخدم في هيكل أورشليم ويعلمه بأن زوجته الطاعنة في السن ستُنجب ولداً يُعد الطريق للمسيا الموعود. بدا الأمر غير قابل للتصديق، وسأله زكريا: "كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا؟" وقال الملاك: "هَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا". غادر زكريا الهيكل في ذلك اليوم وهو عاجز عن الكلام، وخلال كل أشهر الانتظار تلك كان أبكماً إلى أن حقق الله الوعد. حان ملء الزمان لأليصابات لتلد. فأنجبت ابناً. سمع جيرانها وأقرباءها والآخرون كيف أظهر الرب رحمة نحوها، وجاؤوا معاً ليشاركوها الفرح. لقد افتقد الله بطريقة رائعة هذه العائلة. والآن يتوجب عليهم إعطاء اسم للطفل المولود حديثاً. يتذكر بعضكم أيها الآباء كيف قلّبتهم الصفحات التي تحوي قوائم بأسماء في القاموس في محاولة لإيجاد اسم بارز لامع. وبمشاركة الآخرين استقريتم على اسم معين. كنتم قد أعلنتم سابقاً أن الصغير سيحمل اسم جدّه أو جدته، أو اسم أحد الأقارب. ولكن الأطفال غالباً ما يولدون ويعيشون عدة أشهر قبل أن يأتي أوان تسميتهم باسم مناسب. على نفس المنوال، جاء الأقارب والآخرون إلى عائلة زكريا يقترحون اسماً للطفل. كان يجب أن يُقدَّم ليُختَتن ويُعطى اسماً، وكان يُفترض أن يأخذ اسم أبيه، زكريا. لكن الأم قالت: "يُسَمَّى يُوحَنَّا". حدث أنه لم يكن هناك من يحمل اسمَ يوحنا في تلك العائلة. فقالوا لها: "لَيْسَ أَحَدٌ فِي عَشِيرَتِكِ تَسَمَّى بِهذَا الاسْمِ". ولكن الملاك كان قد أخبر زكريا قبلاً أن الطفل الذي سيُولد سيُسمى يوحنا. واسم يوحنا يعني "رحمة الله"، وولادته كانت دليلاً قاطعاً على رحمة الرب نحو عائلته. فالتفتوا إلى الأب وأومأوا إليه يسألونه ماذا يُسمي الصبي. وإذ كان غير قادر على التكلّم، طَلَبَ لَوْحًا وَكَتَبَ قِائِلاً: "اسْمُهُ يُوحَنَّا". لاحظوا هذه العبارة- ليس "سيُسَمَّى يُوحَنَّا"، بل "اسْمُهُ يُوحَنَّا". لقد سُمِّيَ للتو. لقد سمّاه الملاك قبل وقت طويل وحفظ زكريا ذلك في ذهنه. لقد انذهلوا. ولم يفهموا الأمر. وفي اللحظة التي صادق فيها زكريا هكذا على كلمة الملاك انفتح فمه، وتحرر لسانه، وتكلّم ومجّد الله. عدم الإيمان أغلق شفتيه؛ والإيمان فتحهما. عدم الإيمان جعله أبكماً؛ والإيمان مكّنه أن يتكلّم ويسبّح الله. ويخبرنا الإنجيل أنه وقع خوفٌ على كل الساكنين حولهم. شعر الناس أن هناك أمر غريب، أمر يكتنفه الغموض يحيط بكل ما يجري. لا شك أن هذا الطفل كان قد قُدّر له مصير ما لافت جداً. ومع انتشار هذه الأخبار، في كل أرجاء ريف اليهودية، حفِظ كل من سمع تلك الأخبار تلك الأمور في قلوبهم، وتساءلوا، "أَتَرَى مَاذَا يَكُونُ هذَا الصَّبِيُّ؟". لقد أمكنهم أن يروا أن يد الرب كانت عليه، إلى تلك الدرجة، فيما يختص بتحقيق الوعد بولادة الطفل والاسم الذي كان يحمله.

بقية المقطع يتعلق بنبوءة زكريا. كانت سنين كثيرة قد مضت منذ أن تكلّم الله عن طريق الأنبياء لآخر مرة. أما الآن، فبطريقة خاصة، فتح الله فم زكريا، والد هذا الطفل المميز، ومكّنه من أن يتكلّم نبوياً. امتلأ زكريا بالروح القدس. أن تتنبأ لا تعني فقط أن تكون قادراً على أن تخبر بالأحداث المستقبلية، بل أن تنقل فكر الله فيما يتعلق بالحاضر أو المستقبل. وهنا نرى الأمرين كليهما. رأى زكريا الأمور التي ستأتي، وأدرك شيئاً يتعلق بالمكانة المرموقة التي ستكون لابنه هذا. وتكلّم أيضاً عن المنافع الروحية التي ستنتج عن خدمة هذا الابن. "مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ". إنه لأمر لافت كيف أن الإيمان يجعل المرء يتكلم عن أمور بعيدة عن تفكيره. قال زكريا: "(الله) افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ". لم يُفتَدَوا بعد؛ أي لم يتم ذلك عملياً بعد، ولكن كان يمكنه أن يقول ذلك بالإيمان. لقد كان على يقين أنه طالما أن الوعد قد تحقق فيما يتعلق بولادة هذا الطفل، فإن الوعد بفداء إسرائيل، من خلال المخلّص الآتي، كان مؤكداً تماماً تحقيقه.

ما هو الفداء؟ إنه التحرر من العبودية. إنه دفع ثمن لاسترداد ما تمت مصادرته. ليس فقط إسرائيل، بل كل الأمم كانوا في عبودية الخطيئة وكانوا في حاجة لأن يُفتَدَوا. كانت قد صُودرت كل حقوقهم للبركة، وكانوا في حاجة إلى الفداء، وكان ربنا يسوع المبارك آتياً لافتدائهم. قال يسوع: "ابْن الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ". هل تعرفون القوة الافتدائية للرب يسوع المسيح؟ إنه يفدي، ليس فقط من الدينونة التي تستوجبها الخطيئة، بل إنه يفتدي أيضاً من قوة الخطيئة نفسها. إنه يحرّر من عبودية الخطيئة أولئك الذين يؤمنون به ويتّكلون عليه. كان زكريا يتطلع بالإيمان إلى الوقت الذي سيتحقق فيه كل هذا لأجل بني إسرائيل والأمم. "افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ، وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ". كان الله قد وعد منذ زمن بعيد بأن المسيا سيأتي من نسل داود، وكانت مريم ابنة داود. وبوساطتها سيُولد الطفل الذي سيأتي بالخلاص، وأمكن لزكريا أن يتكلّم عن هذا وكأنه تحقق فعلاً، لأن عدم إيمانه قد مضى وصارت لديه الآن ثقة مطلقة بكلمة الله. وهذا كله قاله الله، إذ "تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ".

إن كلمة "العالم" هنا لا تعني فقط الكون- العالم المنظَّم- بل دهور الزمان. فمنذ البدء كان الله يتكلم عن هذا الآتي. من جنة عدن فصاعداً، كان الله يخبر عن المخلّص الآتي، وحان الآن أوان ظهوره. لقد وصل سابقه للتو. كان الله قد أعطى كلمته وختم كلمته بقسمٍ؛ وهكذا كان على وشك أن يُنجز الرحمة التي وعد بها الآباء، وأن يتذكر عهده المقدس، "الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا". يخبرنا سفر التكوين أنه عندما أقام الله عهداً مع إبراهيم، قال له: "تَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ"، وأكّد الله ذلك بقَسَمٍ، وبما أنه ما كان ليستطيع أن يحلف بأعظم من اسمه، فقد حلف بنفسه. هو الوحيد الذي له الحق بأن يحلف هكذا. كان هذا مرتبطاً بالعهد القديم، والآن دم المسيح الثمين قد ختم العهد الجديد. وإننا نعلم أن القدير لن يخلف بعهده أو يتراجع عن وعده؛ وهكذا جاء ربنا يسوع المسيح باعتباره النسل الموعود من إبراهيم، ومن خلاله انطلقت بركة لا حد لها لتشمل اليهود والأمم، ولكن الوعود لم تتحقق بكلّيتها. فعندما تتحقق، يجب أن يخلص كل بني إسرائيل وأن يعودوا إلى الرب لأجل الفداء؛ والأمم جميعاً سيعترفون بسلطان الرب، والبر سيغطي الأرض كما تغطي المياه المحيط العميق. عندها الكون كله سيكون خاضعاً للرب يسوع المسيح.

وهذا ما كان يتطلع إليه زكريا- "أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ بِقَدَاسَةٍ وَبِرّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا". بالنَّسَبة إلى زكريا، كان يتوقع تحقيق كل ذلك. ومع ذلك مرت حوالي ألفي سنة حتى الآن ولا نزال نرى اليوم بني إسرائيل على حالهم. ربما يظن المرء أن كلمة الله قد أخفقت، وأن إعلاناته النبوية لم تتحقق، وأن هناك خطباً ما في الأمر. ولكن لا خطب في كلمة الله. الخطأ هو هنا. الله أرسل المخلّص. وجاء إلى خاصته وهم لم يقبلوه. اليهود والأمم كلاهما يتشاطران إثم رفض المخلّص الذي كان الله قد أرسله. قال الرب يسوع: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً". لقد تنبأ قائلاً: "تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة"، وسيكون هناك حرب ودمار في كل أرجاء العالم إلى أن يحين موعد رجوعه. عندما سيعود في المرة القادمة، ستتحقق كل هذه النبوءة. كان يمكن أن تتحقق قبلً لو أن البشر قبلوه. ولكنهم رفضوا أن يفتحوا قلوبهم له. إنه يتكلم الآن بالسلام لكل أولئك الذين يؤمنون به، وفي وسط عالم تمزّقه الحرب أولئك الذين اقتبلوه بإيمان سيعرفون معنى الكلمات التي تقول: "ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِمًا سَالِمًا، لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ". ليس من سلام في العالم لأنه رفض المسيح. ولكن هناك سلاماً دائماً لأولئك الذين يؤمنون به، حتى وسط أكثر الظروف فظاعة. ما وعد به الله سيتحقق يوماً ما، "أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ بِقَدَاسَةٍ وَبِرّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا". ما من يهودي أو أممي يمكن أن يتوقع خلاصاً من الله ما لم يكن هناك تحول حقيقي في القلب نحوه. هذه هي مشكلة العالم اليوم. البشر يريدون الله أن يتدخل لأجلهم. يريدونه أن يأتي وأن يُبدي رحمته، ولكنهم ليسوا على استعداد لأن يكرّموه بإطاعته وأن ينحنوا أمامه بالتوبة وأن يسعوا ليعيشوا لمجده. عندما سيخلّص الله شعبه، فهذا لن يكون فقط تحريراً لهم بل أيضاً سيخدمونه بدون خوف ويسلكون أمامه في القداسة والبر طوال أيام حياتهم. ألا ليته يحدث تحول عظيم نحو الله اليوم! ألا ليت الشعوب جميعاً في كل الأرض يدركون إثمهم في انفصالهم وابتعادهم عن الله، فيرجعون إليه، ويعترفون بفشلهم، ويقرّون بإثمهم، ويؤمنون بالمخلّص الذي منحه لهم، وعندها يسلكون أمامه في القداسة والبر. فعندها نترقب أن يأتي الله ويتدخل ويقدّم خلاصاً رائعاً. سوف لن يكون هناك سلام دائم للعالم إلى أن تتوب أمم الأرض أمام الله وتسير في البر أمامه؛ وكما نفهم الكلمة النبوية، فهذا لن يحدث إلى أن يرجع ربنا يسوع المسيح، أمير السلام الذي رفضوه، شخصياً ومرة أخرى إلى هذا العالم.

والآن، وفي الجزء الأخير من نبوءته، يلتف زكريا إلى الطفل اللاواعي الصغير المضطجع هناك، إما في مَهده أو بين ذراعي أمه، ويقول: "وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى". كم كان عظيماً هذا الامتياز! قال الرب يسوع فيما بعد أن يوحنا المعمدان كان أعظم ابن ولدته امرأة على الإطلاق. وكذلك زكريا أدرك أن هذا الطفل الذي رُزق به سيكون له الشرق الكبير بأنه نبي العلي. "لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ". لقد كان يقتبس فعلياً هنا من العهد القديم. إذ نعلم من العهد القديم أن يوحنا سيسير أمام وجه الرب ليعد الطريق. وقد سار يوحنا أمام وجه يسوع ليعد الطريق. إن يسوع العهد الجديد هو رب العهد القديم المتجسد. كان يوحنا سيتَقَدَّم أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِيعِدَّ طريقه، ولِيعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ. يبدو لي أننا أحياناً نقلّل من شأن عمل يوحنا المعمدان ونبخسه حقه. نفكر به ببساطة على أنه من جاء فقط ليعد طريق الرب، وننسى أنه أعطى رسالة النعمة، الإعلان المحدد عن الإنجيل. فقد كان هو من قال: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم". هل تستطيعون أن تجدوا رسالة إنجيلية أوضح من هذه في أي مكان؟ هذا هو إنجيل نعمة الله بكل بساطته. لقد أُعطي إلى يوحنا ليدل على المخلّص، ليس فقط كملك إسرائيل، وليس فقط على أنه الذي سيحقق الوعود ويملك في البر على كل العالم، بل أيضاً على أنه الذي سيُقدّم الخلاص للبشر الخطاة. فمن خلاله فقط يأتي الخلاص. "لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ". عندما عمّد يوحنا فقد كان ذلك لأجل مغفرة الخطايا. كانت معموديته هي اعتراف من جهة الناس بأنهم خطاة ويستحقون الموت. وإذ كانوا ينزلون في ماء المعمودية فكأنهم كانوا يقولون: "يجب أن نموت عن خطايانا". ولكن يوحنا تكلم عن ذاك الآتي ليدفع جزاء تلك الخطايا، وآمن الناس بتلك الرسالة، وهكذا ابتهجوا في معرفتهم بالمغفرة. "لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ، بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ". يا لها من لغة جميلة تلك التي يستخدمها زكريا! إنه يتكلم عن نعمة ورحمة الله التي تجلّت هكذا للبشر الخطاة كشروق شمس الصباح بعد عتمة الليل، "لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ". تلك كانت حالة العالم عندما تكلم زكريا ناطقاً بتلك الكلمات؛ وهذا هو حال جزء كبير من العالم اليوم، وهذا هو السبب في أننا مؤتمنون على أن ننقل بشارة الإنجيل إلى كل أصقاع الأرض، لكي يسمعها الناس رجالاً ونساءً في كل مكان- علّها تمنح النور لأولئك الذين في الظلمة، وفي ظل الموت. ونقرأ عن أولئك الذين ابتعدوا عن الله وانحرفوا عنه، الذين يعيشون لأجل ذواتهم وفي الخطيئة، أن "طَرِيقُ السَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ" (أش ٥٩: ٨)؛ ولكن كان على يوحنا المعمدان أن يمضي أمام وجه الرب ليعلن الشهادة التي أعطاها الله، لكي يرشد أقدام الناس إلى طريق السلام. خادم الله الذي يوجه الناس رجالاً ونساءً إلى المسيح يُظهر لهم طريق السلام، إذ "قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ".

لدينا فضول طبيعي في أذهاننا وهناك أشياء كثيرة لا تتكلم عنها الأناجيل ونريد معلومات عنها. نود أن نعرف عن فترة التدريب التي مر بها هذا الطفل. نود أن نلقي نظرة إلى ما وراء الستارة ونرى بعضاً من حياة يوحنا المعمدان في البيت كطفل صغير وفتى شاب يترعرع. نود أن نعرف ما الذي قاده في نهاية الأمر إلى البرية وكيف كان الله يكلّمه. ولكن الرب لم يُرد أن يرضي فضولنا فيما يتعلق هذه الأمور. إن الرب يخبرنا بكل ما هو مهم أن نعرفه، ويترك الباقي. وهذه سنكتشفها بعد حين عندما نصل إلى ديارنا في السماء.

ولكن قصة حياة يوحنا المعمدان الباكرة- كل القصة- تتلخّص بآية واحدة (الآية ٨٠): "أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ". إنها بضعة أسطر فقط أقل من أربعة في الكتاب المقدس، ولكنها تغطّي فترة تقارب الخمس وعشرين سنة أو ثمان وعشرين سنة من حياة المعمدان، وهي ترسم لنا بطريقة تصويرية نابضة بالحياة طفلاً ينمو ويترعرع أمام الله، مكرساً له، قوياً بالروح، يقاوم الشر، ويختار الخير؛ ومن ثم، وعندما تأتي الدعوة الإلهية، ينعزل عن بقية العالم، وينعزل لوحده في البرية حيث يتواصل مع الله، وحيث كان يمكنه أن يسمع بشكل أفضل صوته وتعاليمه، لكيما يظهر، في الوقت الملائم، أمام شعب إسرائيل كرسول لله، وقد جاء ليعدّ طريق الرب.