الخطاب ٦٤

النعمة: ماهيتها وعملها

"١ثُمَّ دَخَلَ وَاجْتَازَ فِي أَرِيحَا. ٢وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ زَكَّا وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيّاً ٣وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْجَمْعِ لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ الْقَامَةِ. ٤فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. ٥فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ وَقَالَ لَهُ: «يَا زَكَّا أَسْرِعْ وَانْزِلْ لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ». ٦فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً. ٧فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذَلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ». ٨فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». ٩فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهَذَا الْبَيْتِ إِذْ هُوَ أَيْضاً ابْنُ إِبْرَاهِيمَ ١٠لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ»" (لوقا ١٩: ١- ١٠).

هذه حادثة أخرى حُفظت لأجل تنويرنا وندين بالفضل فيها كلياً للوقا، الذي كتب بإرشاد الروح القدس. لا نقرأ في أي من الأناجيل الأخرى عن هذه الزيارة إلى بيت زكا.

كان الرب يسوع يقترب من مدينة أريحا. وإذ دخل إليها كان لا بد له أن يمر على دار الجباية، التي كانت عند مدخل بوابتها على الجانب الأقرب إلى النهر. وعلى الأرجح أن هناك كان مكان عمل زكا، إذ كان رئيس الجباة. ما من أحد كان يروق له العشار أو جابي الضرائب. فهكذا إنسان كان يُنظر إليه على أنه خائن لشعبه. كان اليهود ينتظرون الوقت الذي سيظهر فيه المسيا الموعود ليحررهم من سلطة الرومان. كانوا يمقتون الإمبراطورية الاستبدادية ويكرهون دفع الضرائب لها. ومما زاد الأمر سوءاً أن منصب جابي الضرائب كان يُباع لمن يدفع أكثر. وذاك الذي ينال هذا الامتياز كان يفرض ضرائب كبيرة على الناس لكي يسترد ما دفعه لقاء المنصب ولينعم بحياة مرفهة. إن كان شريفاً نوعاً ما كان ليكسب مالاً جيداً، ولكن إن كان وغداً أو نذلاً كان سيجمع ثروة كبيرة. كان زكا رئيس الجباة، وكان غنياً. وهذا بحد ذاته يخبرنا عن قصته. نستطيع أن نفهم جيداً لماذا كان اليهود يبغضونه؛ لقد كوّن ثروة بظلم شعبه نفسه.

سمع هذا الرجل أن يسوع كان آتياً إلى مدينته. لا أعرف مدى ما عرفه عن يسوع، ربما قليل؛ ربما قال له الآخرون أن يسوع كان النبي المزمع أن يأتي إلى العالم ليعيد تأسيس مملكة إسرائيل ويعيدهم إلى الله. على كل حال، لقد سمع عن يسوع وأراد أن يراه. كان هناك أناس محتشدون حول ربنا، وزكا، إذ كان قصير القامة، لم يستطع أن يرى وجه يسوع. رَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ، أو فعلياً شجرة تين برية، وهي شجرة كثيرة الأوراق. مختبئاً بين أغصانها فكّر بأنه يستطيع أن يرى دون أن يُرى. هذا الرجل، زكا، بشكل من الأشكال، هو مثل جميعنا: لقد كان "مقزّماً". لقد كان قصيراً أو مقصّراً. يخبرنا الكتاب المقدس قائلاً: "الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ". كان زكا خاطئاً، كان مقزّماً، وفكر أن عليه أن يفعل شيئاً لكي يرى يسوع. الكثيرون لديهم هذه الفكرة. يتخيلون أن عليهم القيام بشيء خاص ما إذا ما أرادوا أن يتواصلوا مع المخلّص. جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ذلك الْمَكَانِ. توقف ونظر إلى الأعلى إلى الشجرة المورقة؛ أمكنه أن يرى ذلك الرجل الضئيل الحجم هناك على ذلك الغصن. وفي الحال ناداه باسمه. "يَا زَكَّا أَسْرِعْ وَانْزِلْ لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ". لقد كان يسوع يعرف اسمه. وفي الإنجيل نقرأ: "يدعو خرافه باسمها". ولذلك فمن الواضح أن الرب قد عرفه وعرف أنه سيستجيب إلى طلبه. نقرأ أن زكا "أَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً". ما من أحد آخر في كل أريحا دعا يسوع إلى بيته. ونقرأ في هذا الإنجيل عن أناس كثيرين يدعونه ليكون ضيفاً، وكان دائماً يقبل؛ ولا نقرأ أبداً أنه رفض دعوة. ولكن ما من أحد في هذه القرية كان مهتماً كفاية بيسوع ليعرض عليه ضيافته؛ ولذلك فإن يسوع دعا نفسه إلى منزل ذلك الرجل الذي كان يعتبره اليهود المتزمتون كبير الخطأة. واستجابة لمطلبه نقرأ أن زكا "أَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً. فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذَلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ»". لقد دعا يسوع نفسه، وسُرّ زكا بأن يستقبله في بيته. ذلك الرجل الضئيل نزل عن الشجرة بوقت أقل من الذي استغرقه في صعوده إليها، بالتأكيد. يمكننا أن نتخيله يهتف قائلاً: "يا سيدي، تفضل؛ لم أكن أحلم أبداً بشيء كهذا". وذهبا إلى البيت؛ وأُغلق الباب عليهما. كان شيء ما يجري داخل ذلك البيت لن نستطيع أبداً أن نعرفه إلى أن نصل إلى السماء. لا بد أنها كانت خبرة رائعة لهذا العشار المنبوذ المحتقر. بالتأكيد كان يسوع أميناً وصادقاً معه، وأنه أخبر زكا بضرورة أن يتوب وأن يصحح سيره مع الله.

وفي الخارج لم يستطع الناس أن يسمعوا ما كان يدور بين يسوع وزكا. هذا هو الحال دائماً عندما تلتقي نفس بالرب يسوع على نحو لصيق. شيء ما يجري بين المسيح والخاطئ لا يستطيع أحد آخر أن يدخل إليه. الأصدقاء يجرحون أحياناً بدل أن يشفوا؛ إنهم يقفون عائقاً في الطريق. يريد الرب أن يتكلم إلى الناس لوحده. ولذلك ففي هذا اليوم، وإذ كان يسوع جالساً إلى مائدة زكا، يستمتع بالطعام المعد له، كان الجمع الكبير في الخارج ينظر إلى البيت ويقول أحدهم إلى الآخر: "فكّروا بهذا الإنسان، هل هو نبي حقاً؟ يقول أنه المسيا، ولكن انظروا ما فعل؛ لقد دخل إلى بيت عشار، رجل خاطئ". أين يمكن أن يذهب أيضاً؟ ما من بيت في العالم يكون فيه خاطئ إلا ويزوره يسوع، لأنه "لاَ إِنْسَانٌ صِدِّيقٌ فِي الأَرْضِ يَعْمَلُ صَلاَحاً وَلاَ يُخْطِئُ". هؤلاء الفريسيون كانوا يعرفون أن زكا كان خاطئاً، ولكنهم كانوا يعتبرون أنفسهم أبراراً صالحين ولم يعرفوا أنهم هم أيضاً خطاة وفي حاجة إلى مخلّص.

غالباً عندما يحاول المرء أن يتكلم إلى الناس عن الرب- عن حاجتهم إلى الفداء- يبدأون بالكلام عن صلاحهم الذاتي، والإحسان الذي يقومون به، والمال الذي يقدمونه لأجل قضايا صالحة معينة؛ ويفكّرون أنهم ليسوا في حاجة لأن يتوبوا. نريد أن نقودهم إلى المسيح، ولكنهم يحاولون أن يظهروا أو يبرهنوا أنهم ليسوا خطأة وبالتالي ليس هناك حاجة لديهم إلى مخلّص. إن لم تكن خاطئاً فلا خلاص لك. إن استطعت أن تبرهن أنك لست خاطئاً، عندها أستطيع أن أبرهن لك أنه لن يكون لك مخلّص، وأنك لن تذهب أبداً إلى السماء، لأن السماء ستكون مليئة بالخطأة المفديين- خطأة تطهروا بدم المسيح الثمين. الخطأة وحدهم يحتاجون إلى الخلاص؛ ولذلك إن كنت باراً في نفسك فلن تكون لك حاجة إلى المسيح. قال يسوع أنه جاء لا ليدعو الأبرار بل الخطأة إلى التوبة. هؤلاء الفريسيون لم يدركوا أنهم خطأة. كانوا يعلمون أن ذلك الرجل داخل المنزل (زكا) كان خاطئاً، لأن كل العشارين كانوا خطأة، ولكن ليس هكذا حال الناس مثل الفريسيين. لقد كانوا يفتخرون ببرهم الذاتي. في أش ٦٤: ٦ نعلم أن كل برنا ما هو إلا ثوب عدّة. وهذا لا يعني أن الأسمال تصير نجسة بمجرد ملامستها لتراب الشوارع. بل إنها تشير إلى الثياب التي تتنجس بذاك الذي ينضح منها، كما من قروح الأبرص. لا يهم كم هي جميلة تلك الثياب، ولا يهم كم هو فاخر نسيجها، فهي جميعها ملوثة بالفساد الذي في داخلها. لن تشكر شخصاً يأتيك بثوب جميل يخص صديقاً أبرص مات وأوصى لك بالثوب. لا. بل ستقول: "خذه عني؛ إنه نجس قذر. لا أريده؛ إنه ملوث بنجاسة البرص". حسنٌ، هكذا ينظر الله إلى برنا ذاتنا. قلوبنا شريرة، ومع ذلك فإننا نتجنب الناس الآخرين ونفتخر بأنفسنا بأننا أفضل منهم. نقول: "قفْ مكانك بعيداً عني، لأني أقدس منك". ولكن الكلمة تقول: "لاَ فَرْق، إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ". البعض يدرك إثميته؛ وآخرون لا يدركون ذلك، ولكن عيني الله المقدستين تريان كل شيء على حد سواء. كان زكا خاطئاً. نعم، لقد شاء يسوع أن يكون ضيفاً عند رجل خاطئ. أولئك الذين كانوا ينتقدون زكا كان أيضاً خطأة، ولكنهم ما كانوا يدركون حاجتهم إلى مخلّص كما فعل زكا.

وما هي إلا برهة حتى انفتحت أبواب البيت على مصراعيها. وخرج زكا إلى نور النهار من جديد، وإلى جانبه كان يسوع. كان الجمع يتعجب مما يجري، ومن الواضح أن زكا عرف ما كان في قلب هؤلاء الفريسيين. لقد عرف كيف كان مبغضاً ومكروهاً، لقد عرف كيف كان محتقراً. ولكنه أمضى ساعة أو اثنتين لوحده مع يسوع، وجرى شيء ما لهذا الرجل غيّر كل شيء. قال زكا: "هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ". لا يتفق المفسرون حول إذا ما كان زكا قد تكلم عن عما يميز حياته، أو عما إذا كان قد أعلن نواياه بخصوص المستقبل. ولكن ثروته أعلنت أنه لم يكن شريفاً. أفترض من ذلك أنه وصل إلى معرفة نعمة الله في المسيح، وهذه النعمة غيّرت قلبه وكل موقفه. لقد قال: "من الآن فصاعداً سيكون كل شيء مختلفاً؛ سوف أوزع أموالي على الفقراء؛ وفوق كل ذلك، إن جاء أحد إليّ وأثبت أني أخذت منه شيئاً باتهام كاذب، فإني سأرد له ما أخذته منه ظلماً أربعة أضعاف". "فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ﭐلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهَذَا الْبَيْتِ". لماذا؟ هل بسبب إعطائه نصف ممتلكاته للفقراء؟ لا. هل بسبب أنه سيعيد إلى الآخرين أربعة أضعاف؟ لا. إذاً لماذا؟ "ﭐلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهَذَا الْبَيْتِ إِذْ هُوَ أَيْضاً ابْنُ إِبْرَاهِيمَ". يخبرنا الإنجيل أن أولئك الذين لديهم إيمان يتباركون بإبراهيم المؤمن. هذا الخاطئ البائس، هذا العشار المحتقر المرذول، كان له إيمان حقيقي بالرب يسوع المسيح ورأى فيه ابن الله ومخلّصه، وهكذا جاء الخلاص إلى بيته. النعمة خلّصته وغيّرت كل موقفه.

"لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ". كان هذا هو ذات الهدف الذي لأجله جاء يسوع إلى الأرض. لقد كان دائم البحث عن الخطأة الذين كانوا يعرفون حاجتهم وكانوا مستعدين لأن يخلصوا. ولا تزال هذه رسالته الثمينة العظيمة. رغم أنه جالس إلى عرش الآب إلا أنه يعمل بالروح القدس في قلوب خدّامه وهم ينقلون النبأ السار إلى الضالين، فيخبرونهم عن الخلاص من الخطيئة ودينونتها من خلال الإيمان بذاك الذي مات ليفتديهم.