الخطاب ٦٧

مثل الكرم

" ١ وَفِي أَحَدِ تِلْكَ الأَيَّامِ إِذْ كَانَ يُعَلِّمُ الشَّعْبَ فِي الْهَيْكَلِ وَيُبَشِّرُ وَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ مَعَ الشُّيُوخِ ٢وَكَلَّمُوهُ قَائِلِين: «قُلْ لَنَا بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا أَوْ مَنْ هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ هَذَا السُّلْطَانَ؟» ٣فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَقُولُوا لِي: ٤مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟» ٥فَتَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ ٦وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ فَجَمِيعُ الشَّعْبِ يَرْجُمُونَنَا لأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ». ٧فَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ. ٨فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا». ٩وَﭐبْتَدَأَ يَقُولُ لِلشَّعْبِ هَذَا الْمَثَلَ: «إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَاناً طَوِيلاً. ١٠وَفِي الْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ عَبْداً لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ فَجَلَدَهُ الْكَرَّامُونَ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ١١فَعَادَ وَأَرْسَلَ عَبْداً آخَرَ. فَجَلَدُوا ذَلِكَ أَيْضاً وَأَهَانُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً. ١٢ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ ثَالِثاً. فَجَرَّحُوا هَذَا أَيْضاً وَأَخْرَجُوهُ. ١٣فَقَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ابْنِي الْحَبِيبَ. لَعَلَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ يَهَابُونَ! ١٤فَلَمَّا رَآهُ الْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا الْمِيرَاثُ. ١٥فَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟ ١٦يَأْتِي وَيُهْلِكُ هَؤُلاَءِ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ لآخَرِينَ». فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «حَاشَا!» ١٧فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «إِذاً مَا هُوَ هَذَا الْمَكْتُوبُ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. ١٨كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ؟» " (لوقا ٢٠: ١- ١٨).

رفض العالم للمسيح هو ما يثبت مكان المسيحي في هذا العالم. فذاك الذي يدين له المؤمن بكل شيء للأبدية قد رفضوه ونبذوه وصلبوه. أولئك الذين كانوا يمثلون النظام العالمي الحالي؛ لأن اليهود والأمم اتحدوا في رفض الاعتراف به كرب وهو الذي أرسله الآب إلى العالم. هذا يتبين بشكل واضح في مثل الكرم وما يليه هنا وفي الأصحاح ٢١. لقد اختُبر العالم بالحضور الشخصي لابن الله، الذي كان قد جاء بنعمة، يطلب بركة الإنسان ويخبرهم عن محبة قلب الآب. هذا هو الذي قال الناس عنه: "لاَ نُرِيدُ أَنَّ هَذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا". مرفوضاً من الناس، صعد إلى يمين الآب، حيث ينتظر مترقباً إلى أن يصير أعداؤه موطئاً لقدميه (الآية ٣٤). في هذه الأثناء يستمر العالم على حاله دون تبدل في معارضته لملكه الشرعي، كما تبدى بكراهيته لأولئك المدعوين الآن لأن يمثلوه في هذا العالم. عندما تزال العوائق أمام النور المسيحي، فإن طبيعته الحقيقية ستتجلى، كما نرى في عدة بلدان اليوم، في كل من أوربا وشرق آسيا، حيث بدت قضية المسيح ولسنوات كثيرة في تصاعد، ولكن حيث اندلع الاضطهاد الجديد بعنف كما في فترات الماضي البعيد.

في الآيات الثمانية الأولى لدينا الجدال بين يسوع ورؤساء الكهنة، والكتبة، وشيوخ إسرائيل. قادة الشعب هؤلاء، الذين كانوا قد رفضوا منذ البدء شهادة المسيح، تجمهروا حوله الآن وهو يعلّم الناس في الهيكل: أي في باحة الهيكل الخارجية حيث كان المعلّمون يلتقون بتلاميذهم. فطرحوا سؤالاً على يسوع: "قُلْ لَنَا بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا". كانوا يشيرون إلى تطهير الهيكل الذي كان قد جرى قبل برهة قصيرة. وسألوه سؤالاً آخر: "مَنْ هُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ هَذَا السُّلْطَانَ؟" لقد استاؤوا من فكرة أن مجرد نجار من قرية الناصرة الوضيعة تلك قد جرأ على أن يدخل إلى أفنية الهيكل وقام بتطهيره بطرد أولئك الذين كانوا يبيعون الحمام والحملان، الخ.، التي تقدم كذبائح، وجابهوه على هذا النحو. فأجاب يسوع: "وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَقُولُوا لِي: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا مِنَ السَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟” ما علاقة هذا بسؤالهم؟ حسنٌ، إن له علاقة كاملة به. معلناً أنه أُرسل ليعد طريق الرب، كان يوحنا المعمدان قد وجه الناس إلى يسوع مشيراً إلى أنه مسيا إسرائيل. فقال: "أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ". لقد دلَّ يوحنا الناس على يسوع، قائلاً: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!". كم تبارك يوحنا بكرازته للإنجيل! سمعت أحدهم يقول أن يوحنا المعمدان لم يعرف الإنجيل أبداً، وأن كل ما كرز به كان تعليماً ناموسياً، مبكّتاً الناس على خطاياهم وداعياً إياهم ليعترفوا لكي تُغفر خطاياهم. ولكن الروايات في الكتابات المقدسة تظهر أن هذا القول كان خطأ. لم يعد يوحنا أبداً بمغفرة الخطايا عن طريق المعمودية؛ لم يكرز أبداً بأن المعمودية كان يمكن أن تطهر الناس من آثامهم. أولئك الذين جاؤوا إلى يوحنا لكي يعتمدوا لم يتبرروا بالمعمودية. في معموديتهم أقروا بخطاياهم وحاجتهم إلى مغفرة الخطايا، وحمل يوحنا الشهادة للمسيح على أنه ابن الله، حمل الله، الذي به وحده يمكن أن تُمحى كل الخطايا. كان يوحنا هو السابق ليسوع، وقد وجه الناس إلى ربنا باعتباره المسيا والمخلّص. لو قبِل هؤلاء الرؤساء يوحنا كنبي لكانوا سيعرفون من أعطى يسوع السلطان ليدخل على الهيكل ويطهره، لأنه مكتوب في العهد القديم: "يَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ" (ملاخي ٣:١). عندما طرح يسوع هذا السؤال على الناموسيين ذوي البر الذاتي، "تآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ فَجَمِيعُ الشَّعْبِ يَرْجُمُونَنَا لأَنَّهُمْ وَاثِقُونَ بِأَنَّ يُوحَنَّا نَبِيٌّ». فَأَجَابُوا أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»". لاحظوا أن ربنا لم يحاول أن يوضح الأمور لهؤلاء المرائين؛ لم يحاول أبداً أن يشرح الأسرار الإلهية لأناس ما كانوا صادقين. لو جاء الناس إليه متسائلين بجدية، وكانوا صادقين ويريدون المعونة فعلاً، لكان سيُسر بإعطائهم ما يحتاجون إليه؛ ولكن بالنسبة إلى هؤلاء الرجال الذين رفضوا عن عمد شهادته ورفضوا أن يقبلوه، فقد فعل كما أمر تلاميذه: "لاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ" (مت ٧: ٦). لم يقبل أبداً أن يرد على مماحكاتهم.

"وَﭐبْتَدَأَ يَقُولُ لِلشَّعْبِ هَذَا الْمَثَلَ: إِنْسَانٌ غَرَسَ كَرْماً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ زَمَاناً طَوِيلاً". الله نفسه هو الذي يمثله هنا رمزياً صاحب الكرم، الذي يمثل شعب إسرائيل (أش ٥: ١- ٧). كان الكرامون حكامهم، زمانياً وروحياً. "فِي الْوَقْتِ أَرْسَلَ إِلَى الْكَرَّامِينَ عَبْداً لِكَيْ يُعْطُوهُ مِنْ ثَمَرِ الْكَرْمِ فَجَلَدَهُ الْكَرَّامُونَ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً". هكذا عامل الأنبياء الذين أُرسلوا إلى إسرائيل باسم الله ليدعو الناس للرجوع بالقلب إلى ناموسه؛ ومع ذلك فهم ليس فقط أداروا أذناً صمّاء لمناشداتهم، بل أيضاً اضطهدوهم لقولهم الحق (مت ٦: ١٢). "عَادَ وَأَرْسَلَ عَبْداً آخَرَ. فَجَلَدُوا ذَلِكَ أَيْضاً وَأَهَانُوهُ وَأَرْسَلُوهُ فَارِغاً". وأُرسل مرسَلون آخرون من وقت إلى آخر، ولم يلقوا سوى نفس المعاملة بازدراء وإهانة (أع ٧: ٥٢). لقد كشف هذا كله الحالة الحقيقية لقلوب رؤساء إسرائيل.

"ثُمَّ عَادَ فَأَرْسَلَ ثَالِثاً. فَجَرَّحُوا هَذَا أَيْضاً وَأَخْرَجُوهُ". لقرون عديدة جاء نبي تلوَ الآخر، ليجني ثماراً لله، ولكن صار واضحاً أكثر فأكثر أنه لم تكن هناك رغبة لتمجيده من قِبل أولئك الذين تباركوا جداً. إذ ننظر خلفاً إلى روايات العهد القديم نجد أن هذا يتوافق تماماً مع تاريخ الأنبياء. لقد أُسيئت معاملتهم، ورُفضت شهادتهم؛ وبعض منهم قُتل، وآخرون عُوملوا بأكثر ما تكون عليه الوقاحة.

وأخيراً نجد صاحب الكرم يقول: "مَاذَا أَفْعَلُ؟ أُرْسِلُ ابْنِي الْحَبِيبَ. لَعَلَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ يَهَابُونَ!". يا له من تبصر يقدمه لنا هذا إلى قلب الله! نستطيع أن نراه، وهو ينظر إلى شعب إسرائيل، ويدرك الإثم والضلال الذي فيه، ومع ذلك يقول: "سوف أرسل ابني إليهم. بالتأكيد سوف لن يعاملوه كما عاملوا الأنبياء". بالطبع كان الله يعفر تماماً ما سيحدث، ولكن هذا ما يسميه اللاهوتين "التجسيم" ۱- الله يُصور وهو يتكلم ويتصرف على مستوى بشري. في ملء الزمان أرسل ابنه (غل ٤: ٤). ذاك الذي كان مسرة قلب الآب أُرسل إلى العالم، إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل (مت ١٥: ٢٤)، ليعلن محبة إله آبائهم. لقد أساء شعب إسرائيل معاملة رسل الله؛ وقتلوا العديد منهم؛ ولكن الله أرسل ابنه ف النهاية. هل سيقبلوه ويقدمون الطاعة لكلمته؟ بدلاً من ذلك، نعلم أنه "لَمَّا رَآهُ الْكَرَّامُونَ تَآمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِلِينَ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ لِكَيْ يَصِيرَ لَنَا الْمِيرَاثُ". كان هذا تجاوب الإنسان الخاطئ مع محبة الآب. بدلاً من تبجيل الابن، صمموا على التخلص منه ورفضوا الاعتراف بسلطانه.

"أَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ". يستبق ربنا هنا الأحداث التي يعرف أنها ستجري قريباً جداً. لقد أظهر لأعدائه أنه تنبأ بكل ما سيفعلون. موته كان مرسوماً مسبقاً من الله، ولكن دورهم في رفضه كان التعبير عن قلوبهم الشريرة، كما أخبرهم بطرس فيما بعد (أع ٢: ٢٣). الصورة واضحة. والآن ما هي الخطوة التالية؟ يسأل يسوع المستمعين إليه: "مَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ صَاحِبُ الْكَرْمِ؟” كيف يجب أن يُعامل شعب تمتع بهكذا امتيازات ولكنه رفضها كلها؟ ويأتي الجواب: "يَأْتِي وَيُهْلِكُ هَؤُلاَءِ الْكَرَّامِينَ وَيُعْطِي الْكَرْمَ لآخَرِينَ". تحققت هذه الكلمات حرفياً بعد حوالي أربعين سنة من صلب ربنا يسوع المسيح، عندما سمح الله بتعامل إداني للجيش الروماني بأن يجتاح أرض فلسطين ويحاصر مدينة أورشليم ويدمرها بالكامل. وصار بنو إسرائيل مشتتين تائهين منذ ذلك الحين. لقد ضاعت عليهم الفرصة للدهر الحالي على الأقل، وأعطى الله كرمه إلى كرامين آخرين؛ والأمم يتمتعون بالبركة التي كانت لدى إسرائيل. إذ خسروا كل إدعاء تجاه الله بسبب موقفهم من المسيح، فإن بني إسرائيل بحسب الجسد يجب أن يُنحوا وأن يُعطى الكرم إلى أولئك الذين سيرجعون في يوم ما لاحق إلى الله تائبين. الدعوة هنا ليست للأمم تماماً، بل للمتجددين من بني إسرائيل في الأيام الأخيرة. يوماً ما ستكون هناك بقية تقية من بني إسرائيل سيتم استرجاعه. وخلال هذا الدهر تتم تنحيتهم بسبب رفضهم للمسيا الذي كان آتياً إليهم. والرب نفسه يعلن بان الله سيهلك هؤلاء الكرامين الأشرار ويعطي الكرم لآخرين.

"إِذاً مَا هُوَ هَذَا الْمَكْتُوبُ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ". لفت يسوع انتباه مستمعيه إلى نفس المزمور ١١٨ الذي منه أنشد الأولاد وهو داخل إلى أورشليم، حيث نجد في الآيتين ٢٢ و٢٣ الرفض الذي سيتلقاه وانتصاره اللذين تم التنبؤ بهما. بحسب التقليد اليهودي، كُتب المزمور ١١٨ تقريباً في نفس وقت اكتمال هيكل سليمان وربما أُنشد لدى تكريسه. يُقال أن المقطع الذي استشهد به يسوع ربما كان فيه إشارة إلى شي حدث خلال بناء الهيكل. يجب أن نتذكر أن الأمر استغرق سليمان سبع سنوات لبناء هذا الهيكل المجيد، وأنه كان لديه آلاف من العمال، الذين كانوا يعملون مدة ستة أشهر دفعة واحدة ثم يليهم آخرون؛ وبالتالي كان قليلاً عدد أولئك الذين كانوا في البدلاء الأُوَّل المشتركين في البناء عندما كان على وشك أن يُكمل. من سفر الملوك نعلم أن الحجارة التي بُني بها الهيكل كانت تُقطع وتُنحت بشكل مرتب في مقلع الحجارة في الأسفل قبل أن تُرسل إلى المنبسط العظيم على قمة جبل المُريّا.

يقول اليهود أن هذه الحجارة كانت عملياً وكلها بنفس القياس والشكل، وأن حجراً واحداً أُرسل كان مختلفاً جداً عن بقية الحجارة حتى احتاروا في معرفة ما يفعلون به. لم يبدُ أنه يلائم أي مكان. بعد التشاور قرروا أن خطأ ما قد وقع، ولذلك فقد وضعوا الحجر على بكرات ودفعوها إلى حافة جبل المريا وشقلبوها إلى الأسفل إلى الوادي. "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ". ولكن مع مرور الوقت وقرب الانتهاء من الهيكل، آن أوان وضع حجر الزاوية. لم يكن في المنبسط أي حجر مناسب لذلك. فأرسلوا خبراً إلى عمال مقلع الحجارة ليرسلوا لهم حجر الزاوية هذا، لأنهم كانوا على استعداد لوضعه، ولكن جاءهم الجواب أن: "لقد أرسلنه لكم قبل زمن طويل؛ لا بد أنه لديكم في موقع الهيكل". ولكن أخفق بحثهم الشامل في إيجاد الحجر. ثم قال عامل عجوز: "لقد تذكرت الآن؛ كان هناك حجر أُرسل لنا عندما بدأنا البناء أولاً، ولكننا لم نجد مكاناً له، فرشقناه إلى الهاوية. انزلوا إلى الأسفل، وستجدونه". وهكذا أرسلوا فريق بحث واكتشفوا في النهاية أنه كان به مغطى بالحطام وقد نمت الطحالب عليه. فرفعوه بجهد كبير إلى المنبسط في الأعلى ووجدوا أنه يلائم تماماً المكان المعد له. وهكذا فإن لحجر الذي رُفض صار رأس الزاوية.

"كُلُّ مَنْ يَسْقُطُ عَلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ". وقع شعب إسرائيل على الحجر، وتحطموا إلى كِسَر كجماعة وتبعثروا بين الأمم (أش ٨: ١٤). "وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ". عندما سيأتي للمرة الثانية سيقع الرب، كما الحجر في دا ٢: ٣٤، ٣٥، ٤٥، على شعوب الأمم العظيمة ويحطمهم إلى ركام، لكي تصبح ممالك هذا العالم ملكوت ربنا ومسيحه (رؤ ١١: ١٥).

قال الرب يسوع عملياً: "أنا هو ذلك الحجر، لأني أتيت إليكم، ولكنكم لم تعرفوا أني أنا حجر الزاوية في الهيكل الروحي الذي يوشك الله الآن على بنائه". لذلك رفضوه. لقد ألقوا به بعيداً، ولكن الله الآب أقامه من الموت وجعله رأس الزاوية. ويخبرنا بولس: "يَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ" (أف ٢: ٢٠).

"طَلَبَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ أَنْ يُلْقُوا الأَيَادِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَلَكِنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْمَثَلَ عَلَيْهِمْ. فَرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إِلَى حُكْمِ الْوَالِي وَسُلْطَانِهِ". عاجزين عن إجابته، وقد رفضوه عن عمد، انحطوا إلى أكثر الطرق خسّة ووضاعة لكي يكذّبوه ويشوّهوا سمعته أمام الناس، وراحوا يتحينون الفرصة لكي يتهموه أمام بيلاطس.

الناس لا يهلكون لأنهم لا يعرفون بشكل أفضل؛ بل يهلكون لأنهم يخطئون ضد النور الذي يعطيه الله لهم. هؤلاء الناس كان لديهم وفرة من النور، ولكنهم رفضوه. وذاك الذي هو نفسه نور العالم كان واقفاً في وسطهم، ولكن أعينهم عميت بسبب عدم الإيمان والبر الذاتي، ولم يعرفوه. ما من شيء يُظهر الفساد والشر المقيم في قلب الإنسان الخاطئ مثل حضور يسوع. قداسته تؤكد فجور الإنسان. وبره يفضح نجاستهم وإثمهم. محبته تحرّك الكراهية في الإنسان. إنه لأمر محزن أن الطبيعة البشرية الساقطة عندما جاء الله بنفسه إلى خليقته بشخص ابنه المتجسد، فإن الناس، وبدلاً من أن يلينوا بنعمته، تقسّوا بسبب صلاحه، ولم يرضوا إلى أن رأوه مسمراً على صليب الجناة. أعلن الله: "كَمَا فِي الْمَاءِ الْوَجْهُ لِلْوَجْهِ كَذَلِكَ قَلْبُ الإِنْسَانِ لِلإِنْسَانِ" (أم ٢٧: ١٩). وحدها نعمة الله العاملة في النفس هي التي تقود الإنسان إلى الإيمان بالمسيح والتوبة عن رفضه في الماضي.


۱. - التجسيم؛ التَّشبيهية: (anthropomorphism ): أي خَلْعُ الصفات البشرية على اللـه. [المترجم].