الخطاب ٣١

رسالة الاثني عشر

"١وَدَعَا تَلاَمِيذَهُ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَاناً عَلَى جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ ٢وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُوا الْمَرْضَى. ٣وَقَالَ لَهُمْ: «لاَ تَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ لاَ عَصاً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ. ٤وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا وَمِنْ هُنَاكَ اخْرُجُوا. ٥وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَانْفُضُوا الْغُبَارَ أَيْضاً عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ». ٦فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. ٧فَسَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ وَارْتَابَ لأَنَّ قَوْماً كَانُوا يَقُولُونَ: «إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ». ٨وَقَوْماً: «إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ». وَآخَرِينَ: «إِنَّ نَبِيّاً مِنَ الْقُدَمَاءِ قَامَ». ٩فَقَالَ هِيرُودُسُ: «يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا!» وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ. ١٠وَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا فَأَخَذَهُمْ وَانْصَرَفَ مُنْفَرِداً إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صَيْدَا. ١١فَالْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ وَالْمُحْتَاجُونَ إِلَى الشِّفَاءِ شَفَاهُمْ. ١٢فَابْتَدَأَ النَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ الاِثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَهُ: «ﭐصْرِفِ الْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى الْقُرَى وَالضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَاماً لأَنَّنَا هَهُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاَءٍ». ١٣فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا: «لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ طَعَاماً لِهَذَا الشَّعْبِ كُلِّهِ». ١٤لأَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «أَتْكِئُوهُمْ فِرَقاً خَمْسِينَ خَمْسِينَ». ١٥فَفَعَلُوا هَكَذَا وَأَتْكَأُوا الْجَمِيعَ. ١٦فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ. ١٧فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعاً. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ: اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً" (لوقا ٩: ١- ١٧).

لدينا أربعة أقسام نتأمل فيها في هذه الآيات السبعة عشر: الأول، إرسال الاثني عشر؛ وثانياً، رد فعل هيرودس على خدمة ربنا يسوع؛ وثالثاً، عودة الاثني عشر؛ وأخيراً، إطعام الجمع. هذه الأقسام الأربعة مرتبطة معاً على نحو وثيق يجعلنا نُلجأ إلى التأمل بها دفعة واحدة.

من المهم أن نلاحظ الفرق في التفويضين الذين أعطاهما الرب للتلاميذ بينما كان هنا على الأرض، وذلك الذي أعطاه لهم بعد أن قام من بين الأموات. لقد جاء على أنه ملك إسرائيل الموعود، مسيح الرب. وقدّم نفسه إلى الناس في إسرائيل على ذلك النحو: "تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ". لقد كان هناك على استعداد لتأسيس الملكوت لو كانوا مستعدين له. ولكن الناس الذين كانوا ينتظرون المسيا طويلاً لم يكونوا مستعدين لقبول المسيح. لقد رفضوه، ولكنه لم يرفضهم. دعا سبعين تلميذاً إليه وأرسلهم. وفيما بعد دعا  اثني عشر تلميذاً وأعطاهم القوة والسلطان على الأرواح الشريرة، وعلى أن يشفوا كل الأمراض. لم تكن لديهم قوة من تلقاء أنفسهم، بل هو أعطاهم تلك القوة- القوة التي تخصّه. كان على التلاميذ أن يعلنوا أن الله يدعو كل الناس بالاعتراف بالملك الشرعي، وكانوا سيشفون المرضى كمصادقة على رسالتهم. لاحظوا التعليمات التي أعطاهم إياها يسوع: "لاَ تَحْمِلُوا شَيْئاً لِلطَّرِيقِ لاَ عَصاً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ خُبْزاً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ. وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا وَمِنْ هُنَاكَ اخْرُجُوا. وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَانْفُضُوا الْغُبَارَ أَيْضاً عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ". كما ترون كان هناك سبب خاص جعله يعطيهم التعليمات على ذلك النحو: لقد كانوا سيذهبون إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل. لقد جاء كراعٍ لإسرائيل. وكان عليهم أن يعلنوا مجيئه وأن يدعو الجميع إلى أن يفتحوا قلوبهم له. وكان يُفترض على ما يبدو أن يعتني بهم ويطعمهم أولئك الذين ذهبوا إليهم. نحن الذين نكرز بالإنجيل اليوم لا نتصرف بشكل صحيح إن كنا ننطلق بدون تأمين المال اللازم لنفقاتنا أو بدون الثياب الملائمة، متّكلين على عطايا وتقديمات الذين يستمعون إلينا، لأنه ليس لنا حق بأن نتوقع أن يدعمنا العالم ويؤازرنا ويخدمنا. نقرأ في رسالة يوحنا الثالثة أن التلاميذ الذين انطلقوا كانوا "لاَ يَأْخُذُونَ شَيْئاً مِنَ الأُمَمِ". لقد كان بولس يرفض أن يأخذ أي شيء من العالم الأممي، وكان يختلي بنفسه ويصنع الخيام، عند الضرورة، ليؤمن حاجاته. ما كان ليريد أن يكون مديناً للعالم. أترون، لم يُرسل التلاميذ الاثني عشر في هذه المهمة الإرسالية إلى "العالم" بالمعنى الذي نستخدم فيه الكلمة اليوم. لقد انطلقوا إلى شعب إسرائيل- أولئك الذين كانوا ينتظرون المسيا بترقب. كان التلاميذ سيُقبلون إن كان قلب أولئك الناس بارّاً أمام الله، وكانوا سيزودون الاثني عشر بما يحتاجون إليه. ولذلك أمر الرب التلاميذ الاثني عشر ألا يأخذوا معهم ثياباً إضافية، بل ليذهبوا ويعلنوا أن ملكوت السماوات قريب. وهكذا انطلقوا. وحيث تم استقبالهم، لا يمكن أن يتخيل المرء الشركة المباركة التي تمتعوا بها عندما كانوا يخبرون عن يسوع وولادته من أم عذراء، وكيف كان مستعداً الآن ليؤسس الملكوت لو أن الشعب كان مستعداً لاقتباله. من جهة أخرى، كان على التلاميذ، إن لم يتم الترحيب بهم، أن يتركوا المكان، وأن "ينْفُضُوا الْغُبَارَ أَيْضاً عَنْ أَرْجُلِهمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ". كان يجب عليهم في هذه الحالة أن يكملوا مسيرتهم إلى القرى أخرى ويكرزوا بالملكوت. في كل مكان ذهبوا إليه كانت رسالتهم تُؤيَّد بشفاء المرضى. هذا أمر مختلف عن شهادة خدام الله اليوم، الذين يستندون على المأمورية العظمى المعطاة في آخر كل من الأناجيل الإزائية.

في القسم الثاني من أصحاحنا لدينا رد فعل هيرودس على الخبر الذي وصل على مسامعه. كان قد رفض يوحنا المعمدان وقطع رأسه. وهنا نجده منزعجاً مستاءً. "فَسَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ وَارْتَابَ لأَنَّ قَوْماً كَانُوا يَقُولُونَ: «إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ». وَقَوْماً: «إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ». وَآخَرِينَ: «إِنَّ نَبِيّاً مِنَ الْقُدَمَاءِ قَامَ»".  ولكن بينما طابق ربنا نفسه يوحنا المعمدان بإيليا، مع ذلك فإن هيرودس كان مرتعباً وهو يفكر في ذلك النبي العظيم المقتدر الذي عمل آيات ومعجزات في أيام آخاب، وراح يتساءل إذا ما كان هذا النبي قد عاد إلى الأرض. "فَقَالَ هِيرُودُسُ: «يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هَذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هَذَا!» وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ". لم يُرسل هيرودس في طلب يسوع ولا دعاه للمجيء إليه. كان قد أرسل وراء يوحنا المعمدان مراراً وتكراراً، وطالما كان يوحنا يتكلم عن مواضيع الملكوت، فكل شيء كان على ما يرام، ولكن عندما أشار بشكل مباشر إلى عشيرة، هيرودس، هيروديا، التي كان قد سرقها من شقيقه، صار هيرودس ساخطاً ووضع يوحنا في السجن، وهيروديا نفسها أمرت بقتله. لم يرسل هيرودس أبداً في طلب يسوع ولا رآه إلى أن كان ربنا على وشك أن يُصلب: فقد أرسله بيلاطس إلى هيرودس. ورغم أن هيرودس كانت لديه لأن يستمع إلى من هو أعظم من كل الأنبياء في الماضي، كما وصف الرب يوحنا المعمدان، إلا أنه خرج مباشرة إلى أبدية هالكة ليواجه خطيئته إلى الأبد. يا له من تحذير نجده في هذه العبرة يمكن أن ينطبق على من يستمرون في الخطيئة بعناد ويتحولون عن يسوع!

نقرأ في الآية ١٠ أنه "لَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا". لقد رجعوا سعداء وأخبروا يسوع عما نتج عن رسالتهم. من الواضح أنهم تلقوا معاملة جيدة رائعة في أماكن كثيرة، وإذ كان قد أُعطي لهم سلطاناً على جميع الأمراض، فقد حرروا كثيرين من أمراضهم ومن قوة الشيطان. وهكذا "أَخَذَهُمْ وَانْصَرَفَ مُنْفَرِدًا إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صَيْدَا". في إنجيل مرقس، لدينا جملة مضافة وهي لافتة جداً: التفت يسوع إليهم وقَالَ: "«تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ... وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً»". رأى الرب يسوع أن خدامه كانوا نوعاًَ ما متعبين وكانوا يحتاجون إلى بعض الراحة والهدوء. حسنٌ، على ما أعتقد، إذا ما انتبهنا اليوم إلى كلمته واختلينا بأنفسنا واسترحنا لبعض الوقت. أتخيل أن هناك الكثير من خدام الرب الذين يعملون بما يفوق قوتهم ولا يأخذون سوى بعض الراحة عند قدمي يسوع. ولهذا السبب فإن كثيرين يفقدون صحتهم، ويتعرضون لانهيارات عصبية، وضعفات وزلات أخرى. إن أردنا أن نصغي إليه ونمضي المزيد من الوقت، فإن هذا أفضل لنا بكثير. يُقال أحياناً أن الاهتراء أفضل من الصدأ. وهذا صحيح، ولكن لا يزال من الأفضل أن نعمل وبعدها نستريح، كما أمرنا الرب. قال داود كاتب المزامير: "يُرْبِضُنِي". خراف الرب لا يبدو أنها تأخذ المعنى إلى ذلك الحد. إنهم بحاجة إلى أن "يبتعدوا... وَيسْتَرِيحُوا قَلِيلاً". كانت الخراف لتفعل ذلك. المكان الذي جرت فيه هذه الحادثة لم يكن بَيْتَ صَيْدَا التي على الشاطئ الغربي من البحيرة؛ بَيْتَ صَيْدَا هذه كانت على الشاطئ الشرقي، وهذا هو المكان حيث ذهبوا ليتمتعوا ببعض الوقت من الراحة.

نقرأ في القسم الأخير أن "الْجُمُوعُ، إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ، فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ، وَالْمُحْتَاجُونَ إِلَى الشِّفَاءِ شَفَاهُمْ". يخبرنا النص في إنجيل آخر أن يسوع "لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ"، إذ انتشر الخبر بأن يسوع كان هناك، وعندما سمع الناس ذلك، ورغم أن المخلّص أخذ الاثني عشر بعيداً لينعموا ببعض الراحة، لحقوا به، وهم يتوقون لرؤية الأعمال التي كان يقوم بها وأن يستمعوا إلى الرسالة التي كان يقدّمها. "فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ، وَالْمُحْتَاجُونَ إِلَى الشِّفَاءِ شَفَاهُمْ".

كَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ! بالطبع كان هذا يعني التأسيس الواضح لملكوت حرفي هنا على الأرض، ولكن لكي نكون ملائمين لذلك الملكوت لا بد من التجدّد. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ". لعلنا نكون على يقين بأنه لم يتكلم فقط عن هذا الأمر لنيقوديموس، بل إنه أكّد هذا الأمر نفسه للجميع. وهكذا فقد أعلن يسوع رسالة ملكوت الله، وشفى أولئك الذين كانوا في حاجة إلى الشفاء. "فَابْتَدَأَ النَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ الاثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَهُ: «اصْرِفِ الْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى الْقُرَى وَالضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَامًا، لأَنَّنَا ههُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاَءٍ»". من الواضح أن الناس كانوا متأثرين جداً حتى أنهم لم يفكروا بحاجاتهم الذاتية الأساسية؛ ما من أحد دبّر أمر طعامهم، ولا المأوى لتلك الليلة. كثيرون منهم كانوا بعيدين عن بيوتهم، وكان الليل يقترب. هذا هو حال كثير من الناس اليوم- بعيدون عن ديارهم، وجائعون. أتساءل إذا كان من بين المستمعين إلي اليوم، أناس بعيدون عن ديارهم وبعيدون عن الله، وجائعين، في حين أن الليل يقترب. الحمد لله، ربنا المبارك نفسه يدبر الأمور لكم ويعتني بكم. لم يفهم التلاميذ ذلك، لأنهم قالوا: "«اصْرِفِ الْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى الْقُرَى وَالضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَامًا، لأَنَّنَا ههُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاَءٍ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا»". إن طلبه إليهم أن "أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا" هي كلمة موجهة لكل من شارك في خبز الحياة. إن علينا مسؤولية نقله إلى الآخرين. وهذا هو الدافع وراء كرازتنا بالإنجيل ودعوتنا الناس رجالاً ونساء لأن يصغوا إلى كلمة الله. إننا ندرك أن الناس يموتون في خطاياهم وأنهم جائعون. لقد أمّن ربنا المبارك الخبز اليومي، وأرسلنا لنخبر الجموع. "أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا"، هذا ما قاله يسوع لهم. "فَقَالُوا:«لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ طَعَامًا لِهذَا الشَّعْبِ كُلِّهِ»". ويخبرنا إنجيل آخر أن التلاميذ قاموا بحساب المسألة وأخبروا المعلّم بأن الأمر يحتاج إلى أجر سنة كاملة لتأمين الطعام لكل ذلك الشعب. لقد كان أجر العامل لمدة سنة يعادل ديناراً. قال التلاميذ: "يا معلّم، الأمر يتطلب مئتي دينار لتأمين الطعام لكل هذا الجمع، وليس لدينا شيء هنا سوى خمسة أرغفة وسمكتين". من أين حصلوا على الأرغفة والسمكتين؟ لقد قام أندراوس باستكشاف الجماعة ووجد غلاماً يحمل خمسة أرغفة وسمكتين. لا شك أن ذلك كان غداء ذلك الغلام. وربما كانت والدته قد حزمت له هذه الصرّة من الزّاد عندما غادر البيت ليمضي وراء يسوع. لقد كان منشغلاً مع يسوع حتى أنه لم يفكر بطعام غدائه وهكذا أعطى الطعام لأندراوس. لقد كانت تقدمة صغيرة، ولكن بيدي المخلّص كان يمكن لتلك أن تسد حاجات كل ذلك الشعب المحتشد هناك. ما الذي تملكه بين يديك ويمكنك أن تعطيه للرب فيصير بركة لآخرين؟ قرأتُ عن تقدمة لإرسالية، وأن تلك النقود كانت تأتي ببطء حتى أن فتاة مقعدة صغيرة عزيزة أعطت كل ما كانت تملك: لقد أعطت عكّازها الصغير إلى وكيل الكنيسة ليعطيه إلى القسيس من أجل يسوع، وقالت: "بِعْهُ، واستخدم المال من أجل الإرساليات". حمل الواعظ ذلك العكّاز عالياً، وأخبر الجميع بالقصة. وسألهم: "من منكم يود أن يشتري عكّاز ماري الصغيرة هذا؟" فأتته مئات الدولارات، وعندها أعادوا العكّاز إلى الفتاة الصغيرة. إن عطية صغيرة في أحيان كثيرة يمكن أن تتضاعف عندما تُعطى إلى الرب. "كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُل. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «أَتْكِئُوهُمْ فِرَقًا خَمْسِينَ خَمْسِينَ»". مئة مجموعة تتألف كل منها من خمسين شخصاً. تجمع الجميع هناك معاً، وأخذ الرب الأرغفة الخمسة والسمكتين وباركهم وبدأ يكسرها، وأعطاها للتلاميذ ليوصلوها إلى الجموع. أستطيع أن أتخيل أول جماعة تحصل على الطعام بتوق، والناس وراءهم يقولون: "يا لله! سوف لن يكون هناك ما يكفي من الطعام لنا". إلا أن يسوع عندما يقيم الوليمة تكون هناك وفرة دائماً. "فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعًا. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً". كم قفة فضلت عنهم؟ اثنتي عشر! وأستطيع أن أتخيل أن كل واحد من التلاميذ الاثني عشر يحمل قفة ويذهب بها. إنك لا تعطي شيئاً للرب بل هو الذي يعطي أكثر لك.

والآن أخذ ربنا كل هذا وأعطاه مضموناً تطبيقياً روحياً. فأوضح لهم أن الخبز الحقيقي الذي يشبع النفس هو ليس الخبز الطبيعي، لأن الإنسان لا يحيا على الخبز وحده. خبز الله هو يسوع الذي نزل من السماء ليعطي الحياة للعالم. إنه يدعو الناس رجالاً ونساءً اليوم لاقتباله وهو الذي بذل نفسه عنهم. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ".