الخطاب ٣٤

في أسفل الجبل

"٣٧وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي إِذْ نَزَلُوا مِنَ الْجَبَلِ اسْتَقْبَلَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ. ٣٨وَإِذَا رَجُلٌ مِنَ الْجَمْعِ صَرَخَ قَائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ أَطْلُبُ إِلَيْكَ. اُنْظُرْ إِلَى ابْنِي فَإِنَّهُ وَحِيدٌ لِي. ٣٩وَهَا رُوحٌ يَأْخُذُهُ فَيَصْرُخُ بَغْتَةً فَيَصْرَعُهُ مُزْبِداً وَبِالْجَهْدِ يُفَارِقُهُ مُرَضِّضاً إِيَّاهُ. ٤٠وَطَلَبْتُ مِنْ تَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». ٤١فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَال: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمِ ابْنَكَ إِلَى هُنَا». ٤٢وَبَيْنَمَا هُوَ آتٍ مَزَّقَهُ الشَّيْطَانُ وَصَرَعَهُ فَانْتَهَرَ يَسُوعُ الرُّوحَ النَّجِسَ وَشَفَى الصَّبِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلَى أَبِيهِ. ٤٣فَبُهِتَ الْجَمِيعُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ. وَإِذْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: ٤٤«ضَعُوا أَنْتُمْ هَذَا الْكَلاَمَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ». ٤٥وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا هَذَا الْقَوْلَ وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ لِكَيْ لاَ يَفْهَمُوهُ وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ. ٤٦وَدَاخَلَهُمْ فِكْرٌ: مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟ ٤٧فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ وَأَخَذَ وَلَداً وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ ٤٨وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ قَبِلَ هَذَا الْوَلَدَ بِاسْمِي يَقْبَلُنِي وَمَنْ قَبِلَنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأَنَّ الأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعاً هُوَ يَكُونُ عَظِيماً» ٤٩فَأَجَابَ يُوحَنَّا وَقَالَ: «يَا مُعَلِّمُ رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُ مَعَنَا». ٥٠فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ تَمْنَعُوهُ لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا»" (لوقا ٩: ٣٧- ٥٠).

إنه أمر رائع لو أمكننا دائماً أن نبقى على الجبل مع المسيح. الجبل في الكتابات المقدسة يرمز إلى مكان ذي امتياز خاص ورفيع مجيد. فعلى الجبل شهد التلاميذ التجلي المذهل الرائع لربنا المبارك. وكانوا لا يودون أن يبقوا هناك سعداء معه ومع أولئك الأشخاص البارزين من العهد القديم الذين ظهروا في المجد وهو يتكلمون عن خروجه الذي كان يُزمع أن يكمّله على جبل الجلجثة؛ ولكن جاء الوقت عندما اضطروا إلى ترك ذلك المكان المبارك وأن ينزلوا إلى أسفل الجبل لينضموا من جديد إلى بقية الرسل، وليلتقوا الجموع هناك الغارقين في خطاياهم والذين هم في حاجة. كثيرون منا قد عرفوا خبرات مشابهة. لقد كان امتيازاً سعيداً لنا في عدة مناسبات أن ندخل إلى أعظم وأروع وأثمن شركة مع الرب، بعيداً عن الهموم العادية ومسؤوليات حياتنا اليومية. على جبل البركة كنا أحرار لننشغل مع المسيح وحده. كم كنا سنبقى سعداء هناك وألا نعود من جديد لتأخذنا هموم الدنيا واهتماماتها وأمورها. ولكن ما كان ليمكن لذلك أن يكون. قد لا نتمتع دائماً بخبرة رأس الجبل. ينبغي علينا أن ننزل إلى السهول لنشارك في أمور الحياة العادية. الحقيقة هي أن خبرات قمة الجبل عُني من قِبل الله أن تُعدنا لأجل ممارسة دورنا في الخدمة لأولئك الذين لم يعرفوا ربنا؛ أو لأولئك الذين يعرفونه، ومع ذلك فقد كان فهمهم قليل للحقائق الثمينة التي سُرّ بأن ينقلها إلينا.

وهكذا نقرأ: "وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي إِذْ نَزَلُوا مِنَ الْجَبَلِ، اسْتَقْبَلَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ". من بين الحشد كان هناك أبٌ منزعج بائس لديه ولد تتملكه روح شريرة. وانطلق الأب في الحال يسعى وراء يسوع، يشق طريقه على عجلٍ عبر الحشود وينظر إلى يسوع بجدّية واهتمام. صَرَخَ قِائِلاً: "يَا مُعَلِّمُ، أَطْلُبُ إِلَيْكَ. اُنْظُرْ إِلَى ابْنِي، فَإِنَّهُ وَحِيدٌ لِي. وَهَا رُوحٌ يَأْخُذُهُ فَيَصْرُخُ بَغْتَةً، فَيَصْرَعُهُ مُزْبِدًا، وَبِالْجَهْدِ يُفَارِقُهُ مُرَضِّضًا إِيَّاهُ". من الواضح أن القوة الشيطانية كانت تسيطر على ذلك الفتى البائس لدرجة كبيرة حتى أنه كان يعاني من شيء يشابه كثيراً مرض الصرع، ولكن في ذلك الزمان كان كل شيء سببه قوة شيطانية. يمكننا أن نفهم جيداً ألم قلب الأب. هناك أمر مثير للشفقة وأخاذ جداً في هذه الكلمات. "إِنَّهُ وَحِيدٌ لِي". كم من آباء قد اختبروا هكذا ظروف مشابهة- ابن وحيد أو ابنة وحيدة تحت قوة إبليس، وظاهرياً ما من قدرة لديهم أو لدى الآخرين على اعتقاهم من محنتهم. ولكن عندما نذهب إلى الرب فإننا نذهب إلى الرب المناسب- إن صرخاتنا وتوسلاتنا لا يهملها الرب أبداً؛ لا يمكن أن يكون غير مبالٍ بمشاكلنا وهمومنا. قد لا يشفي في الحال اعتلالاتنا الجسدية، وقد لا يخلّصنا فوراً من قوة إبليس، ولكننا يمكن أن نكون دائماً متأكدين من أنه يسمع إلينا بمحبة وتعاطف؛ ولنا أن نكون متيقنين من هذا: في الوقت المناسب بالنسبة إلى الله ستُستجاب صلاة إيماننا.

غالباً ما نذهب في وقت محنتنا إلى إخوتنا المؤمنين، طالبين منهم العون، وأحياناً نحصل على خيبة أمل مريرة. قال الأب البائس: "طَلَبْتُ مِنْ تَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا". والآن نعلم أن الرب قد أعطى تلاميذه سلطاناً على الرواح النجسة، وفي مناسبة أخرى تلك القوة تجلت بطريقة عجيبة مذهلة، ولكن في هذه الحادثة بالذات بدا وكأنهم عاجزون كلّياً. لماذا؟ حسنٌ، يُوضح الرب يسوع الأمر بنفسه. قال: "هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ". لقد واجهتهم مشكلة لم يستطيعوا حلّها. لا شك أن أحد الأسباب هو أنهم كانوا قد صاروا منشغلين بأفكار التقدم والمكانة المرموقة في الملكوت الآتي، وهكذا لم يكونوا على تواصل مع الرب، كان ليمكن أن يمارسوا تلك الأفعال الاعتيادية التي كانوا يقومون بها بأن يضعوا أيديهم على الممسوس بروح نجسة، وأن يأمروا الروح النجسة بأن تخرج منه؛ ولكن لم تكن هناك نتيجة من عملهم لأن التلاميذ كانوا خارج شركة مع الله الذي كان قد لخاصته: "وأَنْتَ فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُوراً عَظِيمَةً؟ لاَ تَطْلُبُ!".

إنه ليسهل على خدام المسيح أن يصبحوا محترفين، وشبه محترفين، وأن يصبحوا متمحورين على ذاتهم وأن يُفسحوا مجالاً للكبرياء والاهتمامات الذاتية بأن تدخل إلى قلوبهم. عندما يكون الأمر كذلك، فإن الصلاة سوف تُرفض وتُهمل، ودراسة الكلمة سوف لن تعود وتشغلهم؛ وستكون لدينا قوة ضعيفة عندما نأتي إلى العمل الشخصي والسعي إلى تحرير الناس من سطوة الشيطان. في الواقع، المؤمن الذي لا يكون على تواصل مع الله ليس لديه قوة على الإطلاق؛ يصبح موضع هزءٍ من الشيطان. وقد يطلب من الروح الشري أن يغادر من ضحيته، ولكن روح الشر سترفض أن تفعل ذلك؛ والمسكين، التعيس المبتلي بالشيطان سوف لن يجد أي تحرر منه. إن كان لأحد أن يكون في المركز حيث يمكن لله أن يستخدمه، فيجب أن يكون هناك نوع من المحاكمة الذاتية والاعتراف، والتغذي يومياً على الكلمة، وعليه أن يبقى مثابراً على حياة الصلاة. في الحالة التي لدينا لم يستطع التلاميذ أن يفعلوا شيئاً لأجل هذا الأب المسكين المرتبك المنذهل، ولذلك فقد تحول إلى يسوع طالباً منه العون. وبّخ الرب يسوع التلاميذ، قائلاً لهم: "أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟" ثم قال للأب: "قَدِّمِ ابْنَكَ إِلَى هُنَا". وبينما كان الفتى البائس يُجلب إلى حضرة الرب، يخبرنا الإنجيل أن الشَّيْطَانُ مَزَّقَهُ وَصَرَعَهُ وألقى به على الأرض، والزبد يخرج من فمه. لقد كان مشهداً يثير الشفقة، وقلب يسوع الشفوق تأثر بعمق وبشدة. قال للأب: "كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هَذَا؟" لم يسأل السؤال لأنه لم يكن يعرف، بل أراد أن يلفت انتباه قلب الأب وأن يقوده إلى الثقة كلياً بذاك الوحيد الذي كان يستطيع أن يعطيه العون الذي كان يحتاج إليه. أجاب الأب قائلاً أن هذا كان يحدث لابنه مُنْذُ صِبَاهُ، وأن الروح الشرير َكَثِيراً مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. وهتف الأب، بعد أن أخبره بهذه الخبرات المحزنة، "إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا"؛ وفي الوقت "انْتَهَرَ يَسُوعُ الرُّوحَ النَّجِسَ، وَشَفَى الصَّبِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلَى أَبِيهِ".آهٍ، يا للفرحة التي لا بد أن غمرت قلب الأب عندما أدرك أن ابنه صار حرّاً وأن قوة الشيطان قد انكسرت!

الحمد لله أن المخلّص له نفس القوة اليوم. مهما كان ما فعله إبليس أو مدى ابتلاء الخطاة البائسين الضالين، ومهما كانت فظيعة تلك العبودية التي يرزح تحتها هؤلاء منذ السنين، فإنهم عندما يأتون إلى الرب الذي مات ليفتديهم، يمكنهم أن يتحرروا، وينعتقوا من السلاسل التي كانت تقيدهم، وسيعطيهم الرب فرح خلاصه.

قد لا تكون إرادته دائماً الآن في هذا الدهر التدبير من النعمة أن يحرر من الابتلاء الجسدي. كان الله قد وعد بني إسرائيل أنهم إن ساروا معه فإنه سيحررهم من المرض. لم يعد بذلك أولئك الذين ينتمون إلى جسد المسيح؛ ولكنه كان قد وعد بشيء أفضل- أعني، النعمة على التحمل والصبر. اكتشف بولس هذا. فقد عانى من مرضٍ جسدي مؤلم جداً، وتضرع إلى الرب ثلاث مرات لكي يحرره من هذا البلاء. لم يستجب الله له بالطريقة التي كان يتوقعها خادمه الحبيب الأمين في البداية، ولكن قال بشكل من الأشكال: "لا يا بولس، سوف لن أحررك من هذه البلوى، بل سأفعل ما هو أفضل لك؛ سوف أعطيك النعمة لتتحمل المرض والألم". فهتف بولس: "بِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ".

عندما رأى الناس كيف تحرر الفتى من الروح الشريرة التي كانت تسيطر عليه طويلاً، نقرأ: "بُهِتَ الْجَمِيعُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ". بينما كانوا ينظرون بعجب واستغراب إلى أعمال يسوع المقتدرة التي صنعها، استغل يسوع الفرصة ليخبر تلاميذه أنه قد اقترب ذلك اليوم الذي سيُسلّم هو نفسه إلى أيدي الناس. ثم، وبالفعل، سوف يحتاجون إلى الإيمان ليؤمنوا أنه كان حقاً مسيح الله. قال لهم: "ضَعُوا أَنْتُمْ هذَا الْكَلاَمَ فِي آذَانِكُمْ". عندما جاء ذلك الوقت فعلاً نسوا تحذيره، وهكذا كانوا في حالة ارتباك وحيرة عظيمة. لو أنهم أبقوا في ذهنهم حقيقة ما قاله لهم، لما كانوا انزعجوا أو اضطربوا عندما سُلّم إلى أيدي الناس ليُصلَب. قال لهم بما معناه: "لا تنسوا ما رأيتم وما سمعتم، لأنه سيأتي يوم ستحتاجون لأن تتذكروا هذه الأشياء في أذهانكم، عندما ترونني مقاداً إلى الموت، ومتروكاً لوحدي ظاهرياً ومعلّقاً هناك على صليب العار. يمكن أن تكونوا في خطر آنذاك إذا ما اعتقدتم بأني كنت مخادعاً، بل تذكروا هذه الأشياء عندما تأتي الساعة التي أُؤخذ منكم". بالطبع لم يفهموا إذ كان هذا الفهم محتجباً عنه، كما يخبرنا الإنجيل، و"لَمْ يَفْهَمُوا هذَا الْقَوْلَ، وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ لِكَيْ لاَ يَفْهَمُوهُ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ هذَا الْقَوْلِ". لو كانوا في شركة لصيقة أكثر معه، لكانوا التفتوا إليه بلا شك وسألوه عن مزيد من المعلومات، وكان ليعطيهم تلك المعلومات بسرور. نلاحظ ونحن نمر على هذه الروايات في الإنجيل أنه كانت هناك أوقات بدا فيها وكأنه ليس من حرج بين التلاميذ ويسوع، وكان الرب فيها قادراً على أن يتكلم إليهم بارتياح عما كان في قلبه. وفي أوقات أخرى، عندما كان يتكلم عن موته وقيامته، بدا وكأنه كان هناك حاجزاً بينه وبينهم. لقد كانوا مرتبكين محتارين. السبب الرئيس في ذلك هو نقص الإيمان والفهم لديهم هذا الذي تبدى في الحادثة التي تلت ذلك. نقرأ: "وَدَاخَلَهُمْ فِكْرٌ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟ فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ قَبِلَ هذَا الْوَلَدَ بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي، لأَنَّ الأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعًا هُوَ يَكُونُ عَظِيمًا". كيف يستدعي هذا عدم الثقة والتفاهة وعدم المصداقية في قلب البشر، حتى أولئك الذين عرفوا كربّهم وأحبوه فعلاً. لقد كان التلاميذ خاصته. لا شك كانوا من أفضل بني إسرائيل، ومع ذلك كانوا بشر بشكل لافت، وبدو وكأنهم ينسون بسهولة كبيرة ما كان متوقعاً منهم أن يكونوا عليه كأتباع لذلك المخلّص الحليم والمتواضع. لقد كان يتحدث عن موته، وهنا نجدهم يختلفون فيما بينهم حول من هو الأعظم. لنفكر في ذلك! هؤلاء الرجال الذين كانوا مع يسوع منذ وقت طويل، والذين لم يروه يقم بأي عمل أناني، ولم يسمعوه يقول كلمة تشير إلى أي روح كبرياء أو غرور أو عجرفة، ومع ذلك كانوا يختلفون مع معلّمهم حتى أنهم راحوا يتشاجرون فعلاً فيما بينهم حول من ينال المكانة الأعظم والأرفع في الملكوت الآتي. يا له من درسٍ لنا جميعاً إذ ندرك أنه "كَمَا فِي الْمَاءِ الْوَجْهُ لِلْوَجْهِ كَذَلِكَ قَلْبُ الإِنْسَانِ لِلإِنْسَانِ". لاحظوا الصورة الجميلة التي يضعها يسوع أمام التلاميذ. أَخَذَ طفلاً وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ، وقال: "مَنْ قَبِلَ هذَا الْوَلَدَ بِاسْمِي يَقْبَلُنِي". الطفل هو المهتدي المثالي: بسيط، وواثق، ومطمئن، ومستعد لأن يستقبل وأن يتلقى بفضل إيمانه بالشخص الذي يتكلم إليه. الصغير آمن بيسوع ولم يخف منه، ولذلك فقد بقي إلى جانبه في حالة ثقة واطمئنان كاملين.

هل فهم التلاميذ الدرس؟ هل فهموا أن روح ذلك الطفل الصغير هي التي يرغب الرب بأن يراها متجلية في خاصته؟ هل تدركون ذلك اليوم؟ هل ترون يسوع، في كل طفل صغير؟ وإذ ننظر إلى تلك الوجوه الصغيرة البريئة، هل نرى يسوع فيهم؟ وهل نقول في قلوبنا: "يجب أن نفعل لهذا الطفل الصغير كما كنا لنفعل ليسوع نفسه"؟ أن نقبل الطفل باسم يسوع يعني أن نقتبل يسوع، وأن نقبل يسوع يعني أن نقبل الآب الذي أرسله.

يضيف الرب: "الأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعًا هُوَ يَكُونُ عَظِيمًا". التقدم في المراحل، إذاً، في ملكوت الله يأتي أن نأخذ المكان الأكثر اتضاعاً.

في الآيات التالية لدينا توبيخ الرب للتعصب الطائفي. ربما نكون في مكانة كنسية مرموقة ونُظهر غيرة شديدة بينما نحن في الواقع بعيدين من التواصل مع الرب نفسه. أظهر يوحنا ذلك عندما رفع صوته وقال: "يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُ مَعَنَا". من الواضح أن هذا الرجل الذي كانوا قد رأوه كان أحد الذين آمنوا بيسوع وبقوة اسمه، وقد أخذ على عاتقه أن يسعى لطرد الأرواح الشريرة باسم يسوع، ومن الواضح أن الأرواح الشريرة كانت تخرج. ولكن لم يُسر هذا قلب يوحنا أو بقية التلاميذ، لقد كانوا ساخطين أن يستخدم أي أحد اسم معلّمهم بتلك الطريقة إن لم يكن فعلاً ينتمي إلى جماعتهم الصغيرة. كم لدينا من هكذا روح وسط المسيحيين الذين تستحوذهم هذه الفكرة أنهم وحدهم يشكّلون النخبة لدى الله، حتى أنهم لا يُسرون عندما يرون آخرين يعملون لأجل المسيح دون أن يكون هؤلاء الآخرون من جماعتهم المعينة أو طائفتهم المعينة. يا له من توبيخ تقدّمه كلمات الرب تلك، ليس فقط لأولئك التلاميذ في زمانه، بل لنا أيضاً: "لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا". قال يسوع في مكان آخر: "من ليس معنا فهو علينا". وكلا القولين صحيح. ليس من حياد بالنسبة إلى المسيح. إما أن نكون معه أو ضدّه. إن كنا معه، فلسنا ضده؛ وإن لم نكن ضده، فلا بد أن نكون معه. إن أمكننا أن نبقي هذا في أذهاننا فسنتجنب الكثير من التعاسة وسط المسيحيين المعترفين. أن يكون الناس لا يوافقوننا في الرأي في كل تفصيل لا يعني أنهم بالضرورة ضد المسيح. كثيرون يمكن أن يموتوا لأجل اسم المسيح رغم أننا لا نتفق معهم في نقطة ثانوية ما من العقائد أو الترتيب الكنسي. وقد نتساءل في أنفسنا كيف يستخدم الرب أناساً معينين ممن لا ينتمون إلينا، بنفس الطريقة مثلنا. هناك نفوس ثمينة تُربح للمسيح من خلال أشخاص ليس لنا شركة معهم.

هناك بالفعل عدة دروس مهمة نتعلّمها في أسفل الجبل. هناك نواجه صعوبات الحياة. ونكتشف أنه بالصلاة والصيام فقط نحظى بالقوة لكي نحرر الآخرين من تأثيرات الشيطان. وفقط عندما نحيا بشركة مع المسيح ولا نرغب بشيء لأجل أنفسنا، عندها نكون قادرين على أن نفهم ونتمتع بالحقيقة الثمينة لله ونتخّذ موقفاً صحيحاً نحو الآخرين. إننا بطيئون في التعلّم، ولكن نأمل أن يعطي الله لكل واحد منا نعمته لكي ننحني بندامة عند أقدام مخلّصنا ونتلقى التعليم الذي يرغب أن يعطينا إياه.