الخطاب ٥٥

إيجاد الضالين

"١وَكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. ٢فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: «هَذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ». ٣فَكَلَّمَهُمْ بِهَذَا الْمَثَلِ قَائِلاً: ٤«أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ ٥وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً ٦وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ. ٧أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ»" (لوقا ١٥: ١- ٧).

طوال سنوات خدمة ربنا الثمينة هنا على الأرض كان هناك أولئك الناس ذوي الذهنية الناموسية الذين أخفقوا في فهم اهتمام يسوع بالضالين، الخطأة رجالاً ونساءً. لقد تخيلوا أنهم لم يكونوا ضالين؛ كانوا يعترفون بأنفسهم أنهم وسط الأبرار. كانوا حريصين على الشكليات حول إطاعة وصايا الناموس، ليس فقط تلك التي أعطاهم الله إياها، بل أيضاً وصايا أخرى كثيرة تمت إضافتها. لقد أُضيفت وصايا كثيرة لدرجة أن الرب يسوع المسيح نفسه قال: "قَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ". لقد كانوا مدققين على حفظ تقاليد الشيوخ أكثر من إطاعة وصايا الله. لقد كانوا يتكلون على برهم الذاتي، ولم يدركوا إلى أي درجة صاروا مقصرين.

كان ربنا يسوع المسيح مهتماً دائماً بالخطأة. لقد نزل من مجد بيت أبيه ليخلّص الخطأة. لم يستطع أولئك الناموسيون أن يفهموا ذلك. ونعلم هنا أن جماعة كبيرة من العشارين والخطأة قد اقتربوا من يسوع، ولكن الكتبة والفريسيين ذوي البر الذاتي والمتكبرين نظروا إلى هذا بازدراء، لأنهم لم يستطيعوا أن يفهموا لماذا لم يبعد يسوع نفسه عن هؤلاء الناس البؤساء والأشرار، ولم يفهموا السبب في أنهم لم يؤثر أن يسعى وراء هؤلاء الأفراد المحترمين كما كانوا يظنون أنفسهم. لقد راحوا يدمدمون فيما بينهم قائلين: "هَذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُم". لم يعرفوا أنهم كانوا يعلنون حقيقة رائعة عندما قالوا ذلك. يسوع يقبل الخطأة، وهو يأخذهم إلى صداقة وشركة مع نفسه. الحمد لله، لقد كان هذا صحيحاً على مر العصور منذ ذلك الحين ولا يزال. أليست نعمة رائعة أن يقبل يسوع كل من يأتي إليه، وأن يحررهم من خطاياهم؟

"رنموا أيضاً وأيضاً؛
فالمسيح يقبل الخطاة".

إن وصلت هذه الكلمات إلى مسامع أي شخص يشعر بأن لديه شكّ في أن الرب يسوع المسيح يقبله أو لا، دعوني أخبركم ما يلي: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ". إنه مهتم بك؛ إنه مهتم بي. لقد جئت كخاطئ، ولم يرفضني ولم يُشح بوجهه عني. لقد قبلي وخلّصني، وسيفعل نفس الأمر لك إن أتيت إليه.

رداً على الدمدمة والتذمر الذي أبداه الكتبة والفريسيون، سرد الرب يسوع المثل الثلاثي الأجزاء الذي نجده هنا في هذا الأصحاح. لا حاجة لأن نفكر بأن هذه ثلاثة أمثال منفصلة. إنها قصة نعمة الله مصورة بثلاث طرق. الجزء الأول يتناول الخروف الضال الذي كان الراعي مهتماً به. والثاني يحكي عن الدرهم الضائع، ويظهر اهتمام المرأة وهي تضيء النور في زوايا البيت وتكنس المنزل لكي تجده. والقسم الأخير يتناول قصة ابن ضال رحب والده بعودته إلى البيت بسرور عندما رجع معترفاً بخطيئته وإخفاقه وكان على استعداد أن يقبل مغفرة أبيه.

قال يسوع: " أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟" أنتم جميعاً تعرفون تلك القصة المصورة في تلك الترنيمة الإنجيلية القديمة التي جعلها إرا د.سانكي منتشرة جداً، والتي نحبها جميعاً. وتذكرون ما تقول:

"هناك تسعة وتسعون يرقدون في أمان
ملتجئين إلى تلك الحظيرة".

ولكن ليس هذا ما قاله يسوع. لقد قال: "أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ"- ليس "آمنين في الحظيرة" بل "فِي الْبَرِّيَّةِ"- "وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟" التسعة والتسعون كانوا مثل الناموسيين الذين كانوا يتخيلون أنهم أبرار. لم يعتبروا أنهم كانوا ضالين، ولذلك لم يفكروا في أنهم بحاجة إلى من يبحث عنهم ويجدهم. الخروف الضال هو الخاطئ البائس الذي يعرف أنه ضال، الذي يعرف أنه بحاجة إلى مخلّص. يترك الراعي التسعة والتسعين في البرية، في رضاهم عن ذاتهم، وينطلق طالباً ذاك الضال، ولا يستسلم إلى أن يجده.

قبل سنوات كنت أمكث مع أصدقاء لي كان لديهم مربى ماشية كبير للأغنام، وفي إحدى الأمسيات كنا ننتظر على العشاء عودة الزوج إلى البيت. كنا قد كنا نتوقع أن يصل حوالي الساعة السادسة، ولكنه كان متأخراً. عندما دخل إلى البيت وقال لزوجته: "يا عزيزتي، يجب أن أشرب فنجان قهوة وأكل وجبة خفيفة فقط هذه الليلة، إذ بينما كنتُ قادماً من المحطة سمعتُ ثغاء حملٍ ضائعٍ، ويجب أن أهرع وأجده قبل أن تنال منه حيوانات القيوط أو أفعى مجلجلة". سألتُ إذا كان في مقدوري أن أذهب معه، فوافق. لقد انذهلت إذ رأيت اهتمام الرجل بأحد الخراف الضالة. فهو وصديق له كان لديهم أكثر من خمسة آلاف غنمة، وحرفياً آلاف الخراف؛ ومع ذلك فإن ذلك الخروف الضال كان لديه مكانة في قلبه حتى أنه لم يستطع أن يقاوم الخروج في الليل للبحث عنه. قلت له، وأنا أسير معه في ممر ضيق: "إن لديك الكثير من الأغنام والخراف، فأتساءل لماذا أنت قلقٌ جداً بخصوص هذا الخروف؟" فقال: "سوف لن أستطيع أن أنام الليلة بسبب التفكير بأن خروفاً صغيراً هو في العراء في البرية، وربما تمزقه إرباً حيوانات القيوط أو أفعى مجلجلة". وراح ينادي وهو يسير في الممر مخلّداً صوت الثغاء وأصغى بانتباه منتظراً جواباً. وأخيراً سمعنا من بعيد في وادٍ ضيق وسط أجمة كثيفة صوتاً ضعيفاً صغيراً يثغو. فردّ عليه أيضاً صديقي بثغاء مرتفع. وقال: "ها هو ذا هناك. ابقَ هنا؛ سأنزل وأتي به". ونزل إلى الأسفل، ممسكاً بضوء ومضي بيده؛ وعندما وصل إلى القاع صرخ هاتفاً: "لقد وجدته؛ وهو على ما يرام". عدنا إلى البيت مبتهجين معاً. فكرتُ كم أنها صورة رائعة مثالية عن ربنا يسوع المسيح يبحث عن الخطأة الضالين البؤساء! لقد كان يعرف أن الناس تاهوا عن الله، وكانوا في حاجة إلى من يجدهم، ولذلك فقد نزل من السماء إلى هذا العالم المظلم، ومضى يبحث عن أولئك الضالين. وهنا نقرأ عن ذلك: "إِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً". هو لم يجده ليتركه ويسمح له بان يشق طريقه إلى البيت إن أمكنه ذلك. بل كما في حالة ذلك الحمل الصغير الذي تكلمت عنه، لم يضعه الراعي على الأرض إلى أن صار في الحظيرة في جوار المنزل. "يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ". وهكذا فإن ربنا لا يخلّصنا فقط، وثم يطلب منا أن نتبعه ونحافظ على السير معه إن استطعنا. بل إنه يحملنا إلى البيت مبتهجاً. "أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ". مهما كان أصدقاؤنا في السماء يعرفون أو لا يعرفون وفيما يتعلق بما يجري هنا على الأرض، إلا أن هناك أمر واحد يعرفونه بالتأكيد: إنهم يعرفون دائماً متى يجد الراعي الصالح خروفاً ضالاً، إذ أنه يجمعهم حوله ويقول: "افْرَحُوا مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ".

في الجزء الثاني من المثل يقدم لنا الرب يسوع المسألة من وجهة مختلفة، لكي يظهر بوضوح عجزنا الكامل وحاجتنا إلى قدرة إلهية.

"٨«أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ لَهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ الْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِاجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟ ٩وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو الصَّدِيقَاتِ وَالْجَارَاتِ قَائِلَةً: افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ. ١٠هَكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ»" (لوقا ١٥: ٨- ١٠).

هذه صورة جميلة. أحد قطع من عشرة دراهم فضية ضاع. هذه القطع الفضية كانت تُجمع معاً في سلسلة ويعطيها الزوج لزوجته كختم لطقس الزواج. كانت ترتديها العروس على جبهتها وكانت لها قيمة بمثابة خاتم الزفاف في أيامنا هذه. إن ضاع درهم واحد منها فكان يُظن أن ذلك إشارة إلى عدم إخلاص الزوجة إلى زوجها. فمن الطبيعي، عندما تختفي إحدى القطع أن تقول الزوجة: "ما الذي سيقوله زوجي إذا ما جاء إلى البيت ووجد أني أضعت واحدة من هذه القطع؟" ففي انزعاجها ومحنتها أضاءت شمعة وكنست البيت بعناية، وأخيراً وجدت الدرهم الذي تدحرج ربما إلى زاوية الغرفة. ذهبت إلى الباب ونادت جيرانها قائلا: "افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ". ثم تعيد الدرهم بعناية إلى مكانه حيث يجب أن يكون. لقد كان من الضروري أن تكون نشيطة وأن تعمل بسرعة لكي تجد الدرهم. وقد لا يعود إليها. وفي هذا نرى نشاط وفعالية روح قدس الله يعمل من خلال شعبه. إن لنا دور في أن نسعى وراء الضالين. إن نور الكلمة هو الذي يكشف حالتهم الحقيقية ويمكّننا من أن نجده. قال الرب يسوع: "هَكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ". "فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ". لاحظوا أنه لا يقول كما يعتقد البعض أنه يقول. هو لا يقول : "هناك فرح بين/وسط الملائكة"، رغم أني على يقين بأن الملائكة يفرحون فعلاً؛ ولكن ليس هذا ما يقوله؛ بل يقول: "فَرَحٌ قُدَّامَ/في حضور مَلاَئِكَةِ اللهِ". فمن يكون إذاً حاضراً أو قدّام الملائكة؟ جميع المفديين الذين هم غائبون عنا بالجسد الآن ولكن حاضرون مع الرب- إنهم قدّام الملائكة. يقول الرب يسوع لهم: "افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ". في السماء، حيث يعرف الجميع جيداً قيمة كل نفس، يبتهج الجميع ويفرحون عندما يخلص المرء.

"١١وَقَالَ: «إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. ١٢فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. ١٣وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الاِبْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. ١٤فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ. ١٥فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. ١٦وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. ١٧فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! ١٨أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ ١٩وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. ٢٠فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. ٢١فَقَالَ لَهُ الاِبْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. ٢٢فَقَالَ الأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ وَاجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ ٢٣وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ ٢٤لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ. ٢٥وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً ٢٦فَدَعَا وَاحِداً مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟ ٢٧فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً. ٢٨فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. ٢٩فَأَجَابَ وَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَذَا عَدَدُهَا وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. ٣٠وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ. ٣١فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. ٣٢وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ لأَنَّ أَخَاكَ هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ»" (لوقا ١٥: ١١- ٣٢).

في هذا الجزء الثالث لدينا ربما القصة الأكثر تأثيراً وحنواً التي رواها ربنا يسوع عل الإطلاق ينما كان هنا على الأرض. إنها قصة نعرفها جميعاً جيداً، ومع ذلك فإنها لا تفقد أبداً حلاوتها وقيمتها الثمينة. في الجزء الأول وجدنا خروفاً ضالاً؛ وفي الجزء الثاني وجدنا درهماً ضائعاً؛ والآن لدينا ابن ضال. كان هناك ابنان، وأحدهما كان ضالاً. هذان الابنان هما نموذجان يمثلان الجنس البشري بأكمله. نفكر هنا بالله كأب للأرواح، خالق كل البشر. بينما كلمة الله لا تعطي أي تأييد للنظرية المعاصرة عن أبوة الله الكونية والأخوة العالمية لبني البشر؛ مع ذلك في الأصحاح ٣ من هذا الإنجيل نجد انه في تتبع سلسلة نسب ربنا يسوع رجوعاً إلى آدم، نعلم أن آدم كان ابن الله. بهذا المعنى يكون اله أباً لكل البشر.

"فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ". بدون أن يكون قانعاً بانتظار الوقت إلى أن يموت والده، يطلب الابن الأصغر حصته من الممتلكات حالاً لكي يستمتع بها مقدماً. ويذعن الأب له ويعطيه ما كان يُفترض أن يكون ملكه. "وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الاِبْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ". وهناك استطاع أن يعيش الحياة التي يرغبها في استقلالية عن إرادة أبيه. ولذلك أمضى فترة وجيزة في الملذات، كما يخبرنا الإنجيل، إلى أن ذهب كل شيء وانقضى في نهاية الأمر. "فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ". أنا على يقين بان كل نفس تائبة يمكن أن تقول: "أنا أيضاً تهت بعيداً عن الله، وأنا أيضاً بددت الأشياء الجيدة التي منحني إياه، لقد عشت في بلد بعيد، وأعرف كل ما يعنيه ذلك من خبرات". إنها ليست مسألة كمية الخطيئة التي يرتكبها هي التي تجعله مبذراً. هذا الشاب كان خاطئاً في الحقيقة إزاء محبة والده في اللحظة التي اجتاز فيها عتبة الباب وانطلق إلى البلد البعيد. لم يكن هذا الشاب يريد أن يكون خاضعاً لأبيه؛ لقد كان يرغب بأن يذهب بعيداً حيث يستطيع أن يعيش كما يحلو له. لم يتبعه الأب. لم يصر على ابنه لكي يعود، بل سمح له بأن يذهب وأن يتعلّم بعض الدروس التي قد لا يتعلّّمها بأي شكل آخر.

وجاء اليوم عندما صرف كل شيء ووجد نفسه في محنة شديدة. الأصدقاء الذين كونهم- أين هم؟ لقد كانوا أصدقاءه فقط عندما كان لديه نقود. وعندما خسر كل شيء في نهاية الأمر، عندما صرف ثروته، هؤلاء الأصدقاء المخلصين في السراء فقط لم يكونوا إلى جانبه؛ لقد تركوه في حاجته الشديدة، وما من أحد أعطاه شيئاً. وفي محنته، ولكي ينجو من الموت جوعاً، اضطُر لأن يعمل بشيء كان يعتبر بالنسبة إلى يهودي من نسب صالح عادي أو وجدان أمراً يثير الاشمئزاز. "فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ". لقد كان هناك وسط تلك الحيوانات النجسة، وهو نفسه منجَّساً، حتى أنه بدأ يدرك حماقته وعقوقه. لم يستطع أن يقتات من طعام الخنازير؛ كان ليود ذلك لو استطاع. ولكنه كان إنساناً خُلق على صورة الله الذي وضع فيه شيئاً لا يمكن لأحد سوى الله أن يشبعه. إنه أمر مستحيل تماماً بالنسبة لنا نحن الذين خُلقنا للأبدية، أن نجد أي شيء في العالم على الإطلاق يرضي نفوسنا. عندما وقع هذا الشاب الفتي في محنة لم يعرف كيف يخرج منها. فعندها "رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ". إنه تعبير في غاية الأهمية! الخطيئة أمر مريع؛ إنها حماقة قصوى. هذا الشاب كان يعاني من ضلال فكري. والآن عاد إلى رشده. بدأ يدرك ولأول مرة الحماقة التي وقع فيها من جراء تركه بيت أبيه، في محاولة أن يجد الرضى والشبع في البلد البعيد. هل وصلتم يوماً إلى هكذا حالة؟ هل بينكم من حاول لسنين أن يجد شبعاً في أشياء هذا العالم ولم يستطع؟ ألا ليتكم ترجعون إلى أنفسكم وتواجهوا حالتكم كما هي، وتنعطفوا إلى الله وتتحولوا عن تلك الأمور التي انجرفتم إليها لزمن طويل!

هذا الشاب رجع إلى نفسه؛ بدأ يفكر. إن استطعتم أن تجعلوا الناس يفكرون فسيحدث أمر ما. الشيطان يفعل كل جهده ليبعد الناس عن التفكير. بعض الناس يتساءلون لماذا نعترض نحن المسيحيون عن المتعة الدنيوية. إنهم يعتقدون أننا ضيقي الأفق ومتعصبين لأننا نستهجنها. حسنٌ، إننا نعلم أنها قُدرت للشيطان أن يبقي البشر رجالاً نساءً بعيدين عن مواجهة وقائع الحياة وإدراك حالتهم الحقيقية أمام الله. إنه يريد أن يبقي الناس بعيدين عن التفكير، وأن ينسوا أنهم خطاة ضالين ذاهبين إلى الهلاك. عندما يبدأ الناس بالتفكير فإن هذه تكون خطوة تؤدي بهم إلى الخلاص. هذا الشاب وصل إلى تلك النقطة. قال عملياً: "يا لي من أحمق، قد تركت بيت والدي ومنزلي". "كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ". إن كان أحد ممن يقرأ هذه الأسطر غير مخلّص، فليته يأتي إلى اتخاذ نفس القرار، وأن يقول بنفس قصد القلب: "سأنهض؛ سأقوم وأمضي إلى بيت أبي. سأعود إلى الله، وسأخبره أني خطئت". يقول الكتاب المقدس: "يُغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ: قَدْ أَخْطَأْتُ وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيمَ وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ. فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ". "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ". ذلك الشاب، وإذ شعر بعدم استحقاقه وتفاهته، قرر في قلبه ما سيقوله. كان سيخبر والده أنه كان غير مستحق أن يُدعى له ابناً، وسيطلب منه أن يجعله كأحد أُجراءِه. ولكنكم ستلاحظون عندما وصل أنه لم يحتج إلى قول كل ذلك. فالأب لم ينتظر أن يسمعه يقول تلك الكلمات. لقد "قَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ". لقد رأيتُ عدة صور عن الابن المبذّر يرحّب به والده، ولكني لم أرَ أية واحدة تبدو في توافق كامل مع هذه القصة. لقد رأيتُ صوراً للأب يقف في مدخل البيت متدثراً ثياباً فاخرة ويمد ذراعيه إلى الابن، ولكن ليس هذا ما يخبرنا به يسوع. لقد قال: "وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ". لم ينتظر وصول ابنه إلى عتبة الباب؛ لم ينتظر أن يصل إلى المنزل، بل رآه آتياً بعيداً على الطريق، وقال: "هو ذا ابني! لطالما انتظرته كل هذه الأشهر!" يا له من مشهد مؤثر يصوره لنا يسوع. إنه صورة الله الآب. عندما يرجع الخاطئ إليه، فإنه يكون هناك لملاقاته والترحيب به. بدأ الفتى البائس يتكلم فقال: "أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً....". هذا ما استطاع أن يقوله؛ لم يقل المزيد. لم يطلب أن يكون أحد أجراء أبيه. بل كان الأب لديه ما يكفي من الخدّام. لقد كان ابناً يُرحّب به في المنزل. فهتف فرحاً قائلاً: "أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ"- بالنسبة لنا تلك الْحُلَّة هي كمال المسيح. "وَاجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ"- الخاتم يدل على محبة لا تنتهي. "وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ"- كان الخدّام يسيرون حفاةً، وأما الأبناء فيرتدون أحذية. "وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ". وذلك الفرح والمرح لم ينتهِ أبداً. بالطبع، جاء وقتٌ انتهت الوليمة فيه في ذلك البيت. ولكن عندما يربح الآب خاطئاً بائساً إليه ويقول: "هذا ابني كانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ"، ويدخلان في شركة معاً، فإن الفرح الذي يبدأ يستمر إلى الأبد.

ولكن لدينا الآن هنا ملاحظة مفاجئة إضافية. أخوه الأكبر كان في الحقل. لقد كان فريسياً، وكان لا يجرؤ على أن يقول أنه مخلّص بل لم يتخيل أنه كان ضالاً. في قلبه لم يكن هناك محبة حقيقية نحو أبيه أكثر من أخيه الشاب. "وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً فَدَعَا وَاحِداً مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً". وهنا، ذلك الأخ، وبدلاً من أن يبتهج ويقول: "آهٍ، دعوني أراه؛ دعوني أشارك في هذا الفرح والمرح"، فإنه "غَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ". لقد كان مثل أولئك الكتبة والفريسيين الذين قالوا: "هذَا (الإنسان) يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ". لقد اعتبر أن أبيه كان يهين نفسه بمعاملته لذلك الابن المبذّر على هذا النحو؛ ذلك الابن الذي أساء التصرف. لقد كان غاضباً ولم يُرد أن يدخل. جاء والده واستعطفه، ولكنه قال: "هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَذَا عَدَدُهَا وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ". لقد كانت هذه هي نفس الروح التي قادت الابن الأصغر أن يترك المنزل ويذهب إلى البلد البعيد. هذا الابن بقي في المنزل وكان أكثر احتراماً، ولكنه لم يكن أفضل من الابن الأصغر. لقد انتقد أبيه فعلياً على لطفه هذا. هو لم يقل "أخي، الذي لطالما صلّيت لأجله"، ولا "أخي"، بل "ابنكَ". فقال له الأب: "يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ". لقد كان يستطيع أن يأخذ كل ذلك لنفسه ويتمتع به إذا رغب في ذلك. يذكر الأب الابن الأكبر بما غفل عنه: "كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ لأَنَّ أَخَاكَ هَذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ". الناموسي لا يمكن أن يفهم أبداً نعمة الله. إنها أمر غريب تماماً بالنسبة له.

ألا فليهبنا الله ألا نخفق في فهم وتقدير نعمته كما فعل هذا الابن الأكبر الساخط البائس.