الخطاب ٢٠

تعليم المسيح الأخلاقي

"١٧وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْلٍ هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ مِنْ جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ الَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ ١٨وَﭐلْمُعَذَّبُونَ مِنْ أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ. وَكَانُوا يَبْرَأُونَ. ١٩وَكُلُّ الْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي الْجَمِيعَ. ٢٠وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ. ٢١طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ. ٢٢طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ. ٢٣ﭐِفْرَحُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا فَهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ. ٢٤وَلَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. ٢٥وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الشَّبَاعَى لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. ٢٦وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ النَّاسِ حَسَناً. لأَنَّهُ هَكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ" (لوقا ٦: ١٧- ٢٦).

في تأملنا في إنجيل لوقا نأتي الآن إلى ما يقابل العظة على الجبل التي يقدمها لنا إنجيل متى بتفاصيل أكتر. يقدم لنا لوقا رواية مختصرة، بينما في إنجيل متى نجد ثلاثة أصحاحات تتناول العظة على الجبل.

على مر القرون والعصور ميّز الناس ذووا الفكر السليم التعليم الأخلاقي الرفيع والروحانية العميقة في العظة على الجبل. وعموماً، إن هذه العظة تقدم لنا أعلى تعليم أخلاقي في العالم. إنها لبّ تعليم المسيح. ولكن عندما تتفحصونها بعناية ستجدون أنها ليست الإنجيل على الإطلاق، لأن الإنجيل هو إعلان الله فيما يتعلق بابنه المبارك. في العظة على الجبل ليس لدينا إشارة إلى عمل ربنا يسوع المسيح، بل هي رسالة من المسيح إلى التلاميذ تبين لهم كيف يجب أن يتصرف أولئك الذين يعترفون به. إنها تقدم لنا المبادئ التي تميز ملكوته دائماً وأبداً.

ذلك الملكوت سيتأسس هنا في نهاية الأمر. العظة على الجبل تطلق المبادئ التي يجب أن يسير عليها التلاميذ خلال زمن غياب المسيح، بينما هم لا يزالون مرفوضين من قِبل العالم. إنها لحماقة أن نقول أن العظة على الجبل تنطبق فقط على الألفية، لأنها تدل على ظروف لن تسود آنذاك. سوف لن تكون هناك مثل هكذا ظروف في الألفية، إذ أن الناس سيكونون مدعوين إلى أن يعانوا من أجل البر. إلا أن يسوع هنا يتكلم عن البركات التي تخصهم بطريقة خاصة. في ذلك اليوم من الظفر سلطان يسوع سيتم الاعتراف به في كل مكان. هذه العظة تعطينا المبادئ التي يجب أن تحرّك وتحفّز التلاميذ بينما هم ينتظرون عودة معلّمهم بقوة ومجد.

هناك كثيرون يقولون أن العظة لا تنطبق علينا اليوم على الإطلاق. ولكن علينا أن ندرك أن كل ما هو روحي في أي عصر أو دهر ينطبق على شعب الله في هذا الدهر التدبيري وأيضاً في كل زمان. "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ" لأجل إرشادنا ونحن نعبر هذا العالم الملحد، في انتظار عودة ربنا. ولذلك، لا يمكنني أن أتجاهل أي جزء من الكتابات المقدسة إن أردت أن أكون على معرفة جيدة بالله اليوم، وأن أحيا لمجده. وماذا عن الناموس؟ ألا ندرك حقيقة أن المؤمنين تحرروا من الناموس وهم الآن تحت النعمة؟ نعم، إن لعنة الناموس هي ما تحررنا منه. ولكن الرسالة إلى رومية، التي تخبرنا أَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنا مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ، تعلن أيضاً أن بر الناموس قد يُكمل فينا، نحن الذين نسلك لا بحسب الجسد، بل بحسب الروح. كل ما له سمة البر، والذي يتطلبه الناموس من الإنسان، سيتحقق في حياة الأتقياء من الرجال والنساء اليوم.

يجدر بنا أن نتذكر، كما قال أحدهم، أن "بعض الأشياء صحيحة لأنها مطلوبة؛ وأشياء أخرى مطلوبة لأنها صحيحة". قال الناموس: "لا تسرق". ولكن السرقة خطأ دائماً وأبداً. فقد كان من الخطأ ارتكاب السرقة من أيام آدم إلى نوح ومن أيام نوح إلى موسى، كما كان الحال بعد أن أُعطي الناموس. كل ما كان صحيح أخلاقياً في أي دهر ينطبق علينا اليوم. ولذلك، عندما نأتي إلى التعليم الأخلاقي والروحي في العظة على الجبل، علينا ألا نتجاهله وألا نضعه جانباً.

والآن أتكلم قليلاً عن الظروف التي تمت هذه العظة فيها. في متى الأصحاح ٥، نقرأ أن يسوع صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ وَجَلَسَ هُنَاكَ. ولكن لوقا يخبرنا أن يسوع: "نَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْل، هُوَ وَجَمْعٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، الَّذِينَ جَاءُوا لِيَسْمَعُوهُ وَيُشْفَوْا مِنْ أَمْرَاضِهِمْ". بينما كان واقفاً في السهل، يعطي هذه العظة على الجبل. كان هنالك بعض ممن تسرّع إلى القول أن هناك تناقض ما هنا. يقول متى "جبل" أما لوقا فيقول "سهل". حظيتُ قبل عدة سنوات بفرصة الوقوف مع بعض أفراد عائلتي على سفح ذلك الجبل، قرب كفرناحوم. يمكنكم أن تروا طريقاً يصعد حتى يصل إلى نَجْد عريض فسيح وثم يعلو أكثر فأكثر حتى يصل إلى القمة. صعد ربنا يسوع إلى الأعلى أولاً "إلى الجبل"، أي إلى أعلى القمة. ثم نزل في الصباح إلى السهل. "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي الصَّلاَةِ للهِ. وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ دَعَا تَلاَمِيذَهُ، وَاخْتَارَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضًا «رُسُلاً»؛ وَنَزَلَ مَعَهُمْ وَوَقَفَ فِي مَوْضِعٍ سَهْل....". وإذ التفت إلى تلاميذه، والجموع تصغي إليه، تكلم إليهم. ليس من تناقض هنا. المشكلة الوحيدة هي أن المرء عندما لا يفهم الظروف فإنه يقفز إلى الاستنتاجات. صدق من قال أنه كلما درس المرء أكثر كلمة الله كلما وصل إلى الاستنتاج بأنه ما من أحد يعرف ما فيه الكفاية ليقول أن تلك الكلمة كان فيها تضارب أو تناقض ذاتي. وهذا أحد الأمثلة على ذلك.

والآن، وإذ جمع الرب خاصّته حوله، "رَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ". لا يُقصد بذلك الفقر الآني وحسب، فيسوع لا يقول أن على المرء أن يكون قانعاً بالفقر، بل إنه يعزّي أولئك الفقراء والمساكين بقوله لهم بأنهم ورغم فقرهم في هذا العالم، يمكن أن يكونوا أغنياء بالإيمان. إنها حقيقة لافتة أن أتباع الرب يسوع المسيح بشكل أو بآخر فقراء دائماً تقريباً. قال ربّنا: "لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ". الغالبية العظمى من أتباع الرب يسوع كانوا من الفقراء والمتواضعي الحالي، ولكن كم كانت كبيرة نعمة ومحبة المسيح في نظرهم. كم من منزل وضيع ومتواضع تألق بالشركة مع الرب يسوع المسيح. لا يقول يسوع أي كلمة تنافي فكرة الخروج من الفقر، بل إنه يشجع أولئك الفقراء بالأموال والفقراء بالروح بأن يضمن لهم نصيباً في ملكوت الله. في رواية متى نجد يسوع يركز، ليس فقط على الفقر في الأمور المادية، بل يقول: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ". ما معنى ذلك؟ المعنى هو أن يكون المرء بدون ميزات أو حسنات روحية. إنه الاعتراف بأنه ليس لك في ذاتك أبداً أي شيء يرضي الله، وأنك عندما تتكّل على نعمته فعندها فقط يمكنك أن تقول أن ملكوت الله لك.

"طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ، لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ". يقول متى: "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ". إن كنت تشعر بتوق كبير في نفسك لشيء لم تجده في هذا العالم، فلك أن تتشجع وتتحول إلى ذاك الذي يؤمّن خبز الحياة، الذي يسدّ جوع كل من يؤمنون به. "طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ". كم من محنٍ وشدّاتٍ اضطُر الكثير من شعب الله لأن يحتملها! قال سافونارولا: "الحياة المسيحية حافلة بالتجارب والضيق، فتصنع الخير وتعاني من الشر". إذ تحاولون أن تتبعوا الرب في عالم كهذا، ستذرفون دموعاً كثيرةً. مخلّصكم كان رجل دموعٍ، رجل أوجاعٍ وعلى ألفة مع الحزن، ولكن "مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ" (عب ١٢: ٢). كل المعاناة التي سيمر بها شعب الله ستكون هنا على الأرض، ولكن سينعمون بالفرح إلى الأبد معه في العالم الآتي. أما أولئك الذين يسعون ليجدوا فرحهم هنا بدون المسيح فسوف يجدون الأسى والحزن في العالم الآتي.

ثم يتكلم يسوع عن أولئك الذين سيعانون من أجل اسمه قائلاً: "طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ". هل ستتخلون عن هذه الغبطة أيها المسيحيون؟ يجب ألا تخسروها. الحمد لله، فهذا أمر حقيقي سيبقى إلى أن يؤسس يسوع ملكوته وسلطانه على كل العالم.

"الحياة بالمحن القاسية تُثقل عليَّ،
بيد أن السماء ستقدّم لي راحة أجمل".

هذا هو العالم الوحيد الذي يمكننا أن نتمتع فيه بذلك الامتياز بأن نعاني من أجل اسم الرب. فلنهتف من قلوبنا قائلين: "ما أجمل الصليب، ما أروع الصليب! سوف أقتبله". قال يسوع: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي".

والآن لدينا الويلات الأربعة: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ". على نفس المنوال، تكلم الرب، في مناسبة أخرى، عن الغني، الذي كان يعاني في الجحيم، والذي كان قد تلقّى خيرات في هذه الحياة وانقضى الآن يومه. عندما يأتي الموت، فإن هؤلاء الأغنياء يكونون أفقر من أفقر الفقراء.

"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الشَّبَاعَى، لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ". أولئك الذين يتخمون أنفسهم بمسرات العالم الحالية، ويتجاهلون الحاجات الروحية الأكثر أهمية، سيجدون أنفسهم متروكين في حالة من الخيبة المريرة والشوق المضني عندما ينقضي يوم الحياة القصير.

"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ". أن تحيا لأجل المتعة وأن تسعى وراء الحماقة والمرح الشهواني الدنيوي في عالم لا يحتمل العقلانية والجدّية والرزانة، يعني أن تواجه الأبدية بالدموع والنحيب إذ ستشعر بالحزن على المواهب والفرص الضائعة.

"وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ النَّاسِ حَسَنًا. لأَنَّهُ هكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ". أن تكون موضع تقدير كبير من محبي الدنيا يعني أنك جزء من العالم، والعالم يحب خاصته؛ ولكن يسوع قال إننا إن شئنا أن نتبعه فيجب ألا نستغرب إذا ما أبغضنا العالم، لأنه أبغضه قبلنا. لا دليل على أن الإنسان يسير في مرضاة الله إن كان على علاقة طيبة مع الناس غير المسيحيين وغير الروحانيين. العالم يُسرّ بأولئك الذين هم خاصته ومن نوعه. أما نحن المسيحيون فإننا مدعوين بأن نكون خارج هذا العالم وأن نتبع ذاك الذي رفضوه. ألا فليهبنا الله النعمة لندخل أكثر فأكثر إلى الشركة مع ربنا المبارك، الذي لا يزال خارج المحلّة.