الخطاب ٢٣

معجزتان لافتتان

"١وَلَمَّا أَكْمَلَ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا فِي مَسَامِعِ الشَّعْبِ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ. ٢وَكَانَ عَبْدٌ لِقَائِدِ مِئَةٍ مَرِيضًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ وَكَانَ عَزِيزًا عِنْدَهُ. ٣فَلَمَّا سَمِعَ عَنْ يَسُوعَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخَ الْيَهُودِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَشْفِيَ عَبْدَهُ. ٤فَلَمَّا جَاءُوا إِلَى يَسُوعَ طَلَبُوا إِلَيْهِ بِاجْتِهَادٍ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هَذَا ٥لأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا وَهُوَ بَنَى لَنَا الْمَجْمَعَ». ٦فَذَهَبَ يَسُوعُ مَعَهُمْ. وَإِذْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنِ الْبَيْتِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَائِدُ الْمِئَةِ أَصْدِقَاءَ يَقُولُ لَهُ: «يَا سَيِّدُ لاَ تَتْعَبْ. لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي. ٧لِذَلِكَ لَمْ أَحْسِبْ نَفْسِي أَهْلًا أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ. لَكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَيَبْرَأَ غُلاَمِي. ٨لأَنِّي أَنَا أَيْضًا إِنْسَانٌ مُرَتَّبٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. وَأَقُولُ لِهَذَا: اذْهَبْ فَيَذْهَبُ وَلآخَرَ: ائْتِ فَيَأْتِي وَلِعَبْدِي: افْعَلْ هَذَا فَيَفْعَلُ». ٩وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ هَذَا تَعَجَّبَ مِنْهُ وَالْتَفَتَ إِلَى الْجَمْعِ الَّذِي يَتْبَعُهُ وَقَالَ: «أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَانًا بِمِقْدَارِ هَذَا». ١٠وَرَجَعَ الْمُرْسَلُونَ إِلَى الْبَيْتِ فَوَجَدُوا الْعَبْدَ الْمَرِيضَ قَدْ صَحَّ. ١١وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ. ١٢فَلَمَّا اقْتَرَبَ إِلَى بَابِ الْمَدِينَةِ إِذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ ابْنٌ وَحِيدٌ لأُمِّهِ وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ. ١٣فَلَمَّا رَآهَا الرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: «لاَ تَبْكِي». ١٤ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ النَّعْشَ فَوَقَفَ الْحَامِلُونَ. فَقَالَ: «أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ». ١٥فَجَلَسَ الْمَيْتُ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ. ١٦فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: «قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ». ١٧وَخَرَجَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْهُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي جَمِيعِ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ. ١٨فَأَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلاَمِيذُهُ بِهَذَا كُلِّهِ" (لوقا ٧: ١- ١٨).

في هذا الأصحاح السابع القيّم على نحو رائع من إنجيل لوقا لدينا أربعة أمثلة توضيحية مذهلة صاعقة عن نعمة الله في المسيح التي تتخطى كل الحدود وتتدفق خارجة لتسد حاجات القلوب المضطربة. كان قائد المئة رومانيًا، وليس أحد الخراف الضالة من بيت إسرائيل، الذين أُرسل المسيح لأجلهم (مت ١٥: ٢٤). ابن الأرملة كان قد توفي لتوه وكان الجثمان يُنقل إلى مكان الدفن. وحدها القوة الإلهية يمكن أن تفيد هنا. كل رجاء بشري كان قد زال. اضطرب تلاميذ يوحنا المحتارين لأن الملكوت لم يظهر فورًا. أظهر لهم يسوع بالنعمة علامات الملكوت ليعزز إيمانهم إذ أن معلّمهم الآن في السجن. وأخيرًا، تلك المرأة الخاطئة التي وجدت غفرانًا لها عند قدميه، كانت خاطئة من الشوارع، محتقرة من أولئك الأبرار ذاتيًا، ولكنها بالنسبة إلى يسوع كانت أحد أولئك الذين جاء، لا ليسعى وراء الأبرار، بل ليطلب ويخلّص ما قد هلك (لو ١٩: ١٠). إنها نعمة غزيرة دائمًا وأبدًا- نعمة تُسرّ بأن تعطي، ولا تطلب شيئًا بالمقابل، بل تخلق في المتلقي موقف امتنان وخدمة حافلة بالمحبة.

لم يجترح يسوع المعجزات ليرضي فضول الآخرين أو ليفرض الاندهاش والإعجاب في نفوس محبي الدنيا المنغمسين في شؤون الأرض. كل إعمال لقوته كانت له أهداف واضحة ألا وهي تمجيد الله وخدمة الناس المحتاجين. كان قلبه المليء بالحنو يتجه نحو البشر في أحزانهم ومحنهم، وكانت مسرته أن ينقل كلمة الشفاء ويحرر النفس المضطربة المنزعجة. لم يكن ليستطيع أن يكون غير مبالٍ بما صنعته الخطيئة، ولذلك فقد جاء ليدمّر أو ليبطل أعمال الشيطان (١ يو ٣: ٨). لم يأتِ ليدمر حياة البشر، بل ليخلّصهم (لو ٩: ٥٦)، لكي يكون الناس على أكمل وجه من أجل الله.

عندما نقول عن أي شيء بأنه معجزي، فإننا نعني أنه يفوق طاقة وقدرة الإنسان الطبيعي العادي. المعجزة فيها استخدام لقوة فائقة للطبيعة، وكما نجد في الكتاب المقدس، فإنها دائمًا تهدف إلى تخفيف ألم الناس أو محنهم وفيها إظهارٌ للسلطان الإلهي. لقد تمت المصادقة على يسوع باعتباره ابن الله ومسيا إسرائيل عن طريق أعمال الاقتدار التي صنعها.

في هذا القسم الحالي الذي نتناوله، لدينا أولًا شفاء عبد قائد المئة الروماني (الآيات ١- ١٠)؛ ومن ثم إقامة ابن أرملة نايين من الموت (الآيات ١١- ١٨). سنتأمل في هاتين الحادثتين بالترتيب كما وردتا.

يخبرنا الإنجيل أن يسوع دخل إلى كفرناحوم، بعد أن ألقى العظة العظيمة، هذا الجزء الذي حُفظ لنا في الأصحاح السابق، والذي نجد تدوينًا أكمل له في متى ٥- ٧. فوّضه شيوخ اليهود، الذين جاؤوا إليه من أجل الضابط العسكري، قائد المئة، الذي كان عبده (المتعلق به جدًا)، في حالة مرضية خطيرة. يخبرنا متى أن قائد المئة بنفسه قد جاء إلى يسوع (مت ٨: ٥)، ولكن يمكننا أن نفهم بسهولة أن الشيوخ عرضوا حالته على الرب، كممثلين عن قائد المئة. لا يوجد تناقض إلا في ذهن أولئك الذين يسعون وراء أدلة خيالية على أن الكتابات المقدسة ليست موحى بها كليًا من الله. لقد كانت حالة الفتى عاجلة ملحّة. إذ كان الشاب في حالة احتضار.

ناشد الشيوخ يسوع لشفاء ابن قائد المئة قائلين: "إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هذَا، لأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا، وَهُوَ بَنَى لَنَا الْمَجْمَعَ". إنها لأمر هام أن تعرفوا أنه تم في السنوات الأخيرة اكتشاف مجمع هو عبارة عن بناء روماني الطراز ولكن ذي زخرفة يهودية متمايزة وذلك وسط الآثار في كفرناحوم. إنه شعور مثير أن تقف على المنبر في ذلك البناء العتيق وتتخيل أقدام ذاك الذي وقف هناك على نفس تلك الحجارة حيث وقف المخلّص القدوس في أحد الأيام. لقد كان هذا امتيازًا حظيت به قبل بضعة سنوات.

قائد المئة كان قائدًا لمئة جندي في الجيش الروماني. كان لهذا الضابط خادمٌ، عبدٌ، كان يحبه وكان على حافة الموت. من الواضح أن قائد المئة هذا كان مؤمنًا حقيقيًا في الرب يسوع المسيح. كان قد سمع عنه من أصدقائه وعلى الأرجح أنه كان قد سمع بتوقٍ رسائله السمحة. وكان قد شهد أعمال اقتداره وكان على قناعة بأن يسوع كان أكثر من إنسان. رغم أن قائد المئة هو في مركز حياتي أعلى من يسوع، إلا أنه كان يعترف بأعلوية المسيح وسموه، ولذلك فقد أرسل له رسلًا يطلبون من يسوع الرحمة والمعونة، بدون أن يلفت الانتباه أو يبدي عجرفةً. كان إيمانه كأس فرحٍ قُرّب إلى شفتي المبارك الذي كان قد رفضه ورذله أولئك الذين كان يسعى ليخلّصهم بمحبة.

انطلق يسوع في الحال متجهًا نحو بيت قائد المئة، ولكن رسلًا آخرين قابلوه على الطريق، فقالوا بلسان صديقهم الجندي: "يَا سَيِّدُ، لاَ تَتْعَبْ. لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي". لاحظوا الفرق. قال الشيوخ: "إِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ". ولكنه أصرَّ بنفسه على القول: "لَسْتُ مُسْتَحِقًّا". لقد كان موقفه موقف توبة لرجل خاطئ غير مستحق أمام الله. وإذ كان يدرك شيئًا من طبيعة وشخص يسوع الحقيقيين قال: "لِذَلِكَ لَمْ أَحْسِبْ نَفْسِي أَهْلًا أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ. لَكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَيَبْرَأَ غُلاَمِي". أوضح قائد المئة كرجل عسكري أنه كان يستطيع أن يأمر بسلطان فيطيعه جنوده. وبالتأكيد يستطيع يسوع أن يتكلم بنفس الطريقة فيوبخ المرض الذي كان يتهدد حياة خادمه.

هكذا تعبير عن إيمان واثق سرّ قلب ربنا. وتعجب من الإيمان البسيط عند هذا الرجل- أي هذا الإيمان الذي لم يجد مثله في إسرائيل. ما من شيء يمجد الله كمثل الثقة بكلمته. تجاوبًا مع إيمان قائد المئة، شُفي في الحال خادمه الذي كان يحتضر. لقد كان هذا هو الإيمان بالفعل. لم يشعر أنه كانت هناك حاجة ماسة لوجود يسوع شخصيًا ولمسه للخادم المحتضر لكي يُشفى. لقد كان يدرك حقيقة أنه: "حَيْثُ تَكُونُ كَلِمَةُ الْمَلِكِ فَهُنَاكَ سُلْطَانٌ" (جا ٨: ٤)، وكان على يقين بأن يسوع كان لديه ذلك السلطان، وأن كلمة منه ستعيد الصحة لمن كان مريضًا جدًا.

مكافأة الإيمان أمر أكيد. عندما عاد الرسل إلى البيت، وجدوا الخادم سليمًا معافى، وباستعلامهم تأكدوا أن تحسن حالته قد جرى في الوقت الذي نطق يسوع بكلمته (مت ٨: ١٣).

ولكن دليلًا أكبر على قدرته سرعان ما تبين. في اليوم التالي كان يسوع يمشي مع تلاميذه إلى مدينة نايين القريبة، والتي لا تزال آثارها موجودة في الجليل. تبعه حشد كبير، وبلا شك كانوا قد تأثروا بما جرى في اليوم السابق، وكانوا يرجون أن يروا معجزة أخرى عظيمة يجترحها يسوع؛ وما كان ليخيب أملهم. إذ دنا الحشد من القرية، رأوا موكب جنازة يشق طريقه إلى المقبرة. وسرعان ما أدركوا أنها كانت جنازة شاب، وكانت أمه الأرملة هي المفجوعة. وإذ اقترب يسوع، امتلأ قلبه الحنون بالإشفاق إذ أبصر علامات حزنها. فطلب منها أن تكف عن البكاء؛ ثم لمس النعش الذي كان يحمل جثمان الشاب، وقال بسلطان: "أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ". وفي الحال، وفي تجاوب مع الصوت الذي سيوقظ جميع الأموات يومًا ما، فتح الفتى عينيه. وعادت الحياة إلى ذلك الجسد البارد. ولدهشة الجميع، جلس الميت وبدأ يتكلم. يا لجمال التصوير الذي يصف به لوقا هذا المشهد، وكم تأثر قلب أولئك الجموع المتفرجين إذ رأوا يسوع وقد "دَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ". من يستطيع أن يجفف الدموع مثل يسوع؟ سيمسح يومًا كل الدموع من عيون مفدييه (رؤ ٢١: ٤)، لأنه إله وأيضًا إنسان. عندما طلب من الأرملة أن تكف عن البكاء لم يكن يقصد أن يهدئ أحزانها، بل كان على وشك أن يصنع معجزة ستملأ قلبها بفرح غير متوقع.

وكان ذلك إظهارًا لقوة إلهية لم يشهدوا لها مثيلًا من قبل، فمجدوا الله، وأعلنوا أن نبيًا عظيمًا قد أُقيم بينهم.

خَرَجَ خَبَرُ هذَه المعجزة عَنْهُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي جَمِيعِ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ، ووصل إلى مسامع يوحنا المعمدان، الذي كان ملقىً في السجن بسبب أمانته لله وتوبيخه الملك هيرودس على شرّه وإثمه.

وهكذا أقام الله شهادة على ما كان يقوله ابنه، الذي جاء بالنعمة إلى العالم ليكون مخلّص الخطأة.

لطالما سُرّ الله بأن يُثمن إيماننا، لأن الإيمان هو الذي يكرمه. الإيمان يثق بكلمة الله، ويتكل على الأشياء التي لا تبدو كما هي في الظاهر (رو ٤: ١٧). ولكن ليس الإيمان هو الذي يجعل الله يعمل. ليس الإيمان سوى وسيلة يستخدمها الله ليطلق قدرته اللا متناهية. الإيمان هو اليد التي تجعل الكلي القدرة يعمل. عندما كان إنسانًا على الأرض، كان ربنا هو الإنسان النموذج عن الإيمان وقد علّم الإيمان للآخرين. لقد اختار، في عالم اتضاعه، أن يحيا متكلًا يوميًا على الآب الحي (يو ٦: ٥٧). ولذلك فإن أعمال القدرة التي صنعها هي تلك التي أعطاه الآب أن يصنعها (يو ١٤: ١٠). في توبيخه للمرض والموت، وفي تخليصه من الخطايا أولئك الذين كانوا يطلبون نعمته، كان يسوع يظهر قلب الله نحو العالم المحتاج. اهتمامه بحياة وصحة البشر لم يكن سوى تعبير عن رغبة الله الآب في أن يخلص كل من يؤمن به من تأثيرات الخطية. ليست إرادته دائمًا أن يمنح الصحة الكاملة آنيًا، ولكن الإيمان يمكن أن يثق به بشكل أكيد في كل ظرف في الحياة.