الخطاب ٤

العظيم

"٣٩ فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا،٤٠ وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ. ٤١ فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ،٤٢ وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ:«مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ!٤٣ فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ ٤٤ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. ٤٥ فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ». ٤٦ فَقَالَتْ مَرْيَمُ:«تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ،٤٧ وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، ٤٨ لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، ٤٩ لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، ٥٠ وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ.٥١ صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. ٥٢ أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. ٥٣ أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ. ٥٤ عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً،٥٥ كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ». ٥٦ فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا" (لوقا ١: ٣٩- ٥٦).

يمكننا أن نفهم جيداً المشاعر التي ملأت قلب مريم العذراء المباركة بعد لقائها هذا مع الملاك. عندما علمت في قرارة نفسها أن كلمات الملاك ستتحقق بمرور الأيام، لا بد أنها تأثرت للغاية وهي تتأمل في السر العظيم الذي أُعلن له. فهي- الصبية غير المتزوجة التي عاشت حياة من الطهارة الكاملة جسدياً- ستصبح أمّاً لابن. أنى لها أن تستطيع أن تفسر الأمور لأولئك الذين يعرفونها والذين سيرتابون طبيعياً بالقصة التي سترويها لهم عن زيارة الملاك والرسالة التي نقلها إليها. لعل أفكاراً كهذه كانت من بين الدوافع التي قادت مريم أن تصعد إلى ذلك الريف على عجلة، إلى مدينة في اليهودية، وهناك زارت قريبتها أليصابات؛ فرغم أن ظروف أليصابات كانت مختلفة عن ظروف مريم كلياً، إلا أن الطابع الفائق الطبيعة دخل إلى حالتها أيضاً؛ ويمكننا أن نعتقد فعلاً أن المرأة الطاعنة في السن سيكون لديها الكثير لتقوله للصبية ما يشكّل عزاءً وعوناً لها. في الواقع، كلمات أليصابات الأولى من التحية لا بد أنها أبهجت نفس مريم وأكّدت كلمات الملاك، إذ هتفت أليصابات قائلة: "مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ. فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟". فها هنا إيمان مطلق، ليس فقط بعفة مريم بل أيضاً إيمان بكلمات جبرائيل، في أن ذلك الطفل المكتنف بالأسرار الذي سيولد سوف لن يكون سوى الله نفسه متجلياً بالجسد. تخيلوا كم ابتهجت مريم بتلك التحية. ومن ثم، وإذ تابعت أليصابات التعبير عن المزيد من التأييد والمصادقة وأعلنت بركة على قريبتها الصبية لأنها آمنت بكلمة الرب، لا بد أن ذلك أحدث يقيناً مضاعفاً، إذ من الواضح أنها لم تقل أي كلمة لأليصابات تتعلق بحالتها قبل أن تُعلن المرأة الطاعنة في السن بهتاف أنه سيكون هناك إنجاز لتلك الأمور التي أخبرها بها الرب.

وعندما فتحت مريم فمها أخيراً، كان ذلك لتحمد الرب وتسبّحه بنشيد تسبيحي جميل يماثل جداً أي مزمور كتبه بوحي إلهي داود، صاحب المزامير الموهوب في إسرائيل. وبلا شك، فإن مريم نفسها أُوحِيَ لها حتى نطقت بتلك الكلمات. إن لتلك الكلمات قيمة عظيمة بالنَّسَبة لنا، ليس فقط بسبب جمالها الشعري وطابعها التعبدي الرفيع، بل أيضاً لأنها تجعلنا نعرف علامَ استندت مريم، نفسها، لأجل خلاصها الذاتي. تقول الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أن مريم وُلدت بدون خطيئة أصلية ولذلك ما كانت تحتاج إلى فادٍ، ولكنها نفسها تقول: "تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي". لاحظوا هذه الكلمات الأخير: "اللهِ مُخَلِّصِي".

إذاً مريم، المحببة كما هي، والجميلة في شخصيتها، والتي تفوق كل صبية في أيامها، أدركت في نفسها مع ذلك أنها كانت خاطئة تحتاج إلى مخلّص، وقد وجدت ذلك المخلّص في الله نفسه. لم تنسب إلى نفسها أي فضل في أي برّ فائق الطبيعة رفعها فوق سائر البشر، بل تابعت كلامها معترفة أن "نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ". وإذ كانت تدرك، أن كل شيء كان من النعمة، أمكنها أن تبتهج بالمحبة واللطف الذي نالته.

يجدر بنا نحن المسيحيين البروتستانت أن ننتبه بعناية إلى الكلمات التي قالتها تالياً: "هُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي". لأن مريم، في الكنيسة الرومانية، قد أُعطيت مكانة تفوق كل ما منحته إياها كلمة الله، فإننا نميل إلى الخوف بأن نكرّمها كثيراً جداً إن تكلمنا عنها على أنها "العذراء المباركة". لدينا مبرر لمناداتها بالمباركة من كلماتها نفسها كما نجدها هنا. لقد كانت مباركة فعلاً بشكل رائع عجيب فوق كل النساء ويجب ألا نخشى أن نقر بذلك. بما أن ربنا نفسه اختار مريم لتكون الوسيلة التي أتى بها إلى العالم كطفل صغير، فلماذا نتردد ولو لوهلة في أن نتكلم عنها على أنها العذراء المباركة؟

إنها تعزو كل شيء إلى صلاح وجود الله، إذ تهتف قائلةً: "لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ". إنها تُظهر فهماً لله نفسه يفوق سنوات عمرها ووضعها الحياتي. من الواضح أنها تلقت تعليماً إلهياً، وإلى درجة كبيرة لافتة. تدل كلماتها الأخيرة على أنها غالباً ما كانت تتأمل في وضع شعبها المتضع المتدني والقمع والظلم الذي كانوا يعانون منه، ورأت في ابنها الذي لم يُولد بعد المسيا الموعود الذي سيحرر إسرائيل من كل بلواهم ويفتقد المضطهدين بالدينونة. لاحظوا كلماتها: "صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ". لو كانت الأمور طبيعية في إسرائيل، لكان بيتها قصراً بدلاً من كوخ للفلاحين؛ وكان سيُعترف بيوسف خطيبها كرئيس في بيت داود الملكي، وما كان ليُضطَر ليكسب معيشته كنجّار؛ ولكن يا للعجب فيما صنعه الرب إذ رفع المتواضعين بأن أقام معهم هذه العلاقة المباركة واللافتة.

هناك مبدأ إلهي تكشف عنه الآية ٥٣، نراه في كل الكتابات المقدسة ويميز تعاملات الله مع البشر في كل الدهور التدبيرية، "أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ". المشكلة مع البشر عموماً هي أنهم لا يدركون حاجتهم؛ لا يدركون حالتهم الهالكة، وهكذا، فإنهم لا يتجهون إلى الله لأجل من يحررهم ويخلّصهم. إنهم يحاولون أن يقيتوا أنفسهم بقشور هذا العالم، ولم يتعلّموا بعد أن هكذا محاولة عبثية هي لا طائل تحتها، وأنه من المستحيل إرضاء نفس خُلقت لحياة أبدية، بأمور مؤقتة زائلة؛ وبسبب ثروتهم الوهمية، فإنهم ينحون عن الغنى الأبدي ويستمرون في خطاياهم. ليت البشر يدركون حاجتهم؛ حالما يبدأون بالشعور بالجوع والعطش إلى البر؛ حالما يدركون فقرهم الروحي- حالما يدركون كل ذلك، سيجدون في الله ذاك الذي يسد كل احتياجاتهم. دعونا نبقي في قلوبنا تلك البركة التي ينالها الفقراء بالروح؛ أي، أولئك الذين ليس لديهم ميزات روحية يتّكلون عليها، بل يأتون إلى الله كخطاة في فقر مدقع لينالوا السخاء الذي يسر الله أن يمنحه لهم. يتكلم الكتاب المقدس عن غنى الله بأربعة طرق مختلفة: نقرأ عن غنى رحمته، وغنى نعمته، وغنى محبته، وغنى مجده. كل هذه متاحة لأولئك الذين يأتون إليه مقرين بفقرهم وحاجتهم، والذين هم على استعداد ليتلقوا من يده السخاء الذي يُسرّ بأن يمنحه لهم.

روح النبوة تمكّن المرء من أن يقول أشياء لا تبدو على حالها؛ وفي الآيات الختامية من نشيد مريم التعظيمي، تقوم مريم بهذا الأمر. فهي ترى بالإيمان تحقيق كل وعود الله فيما يتعلق باسترداد إسرائيل، وبركتهم الأخيرة في الملكوت الموعود به من قِبل الأنبياء. فتهتف قائلة: "عَضَدَ إِسْرَائِيلَ فَتَاهُ لِيَذْكُرَ رَحْمَةً، كَمَا كَلَّمَ آبَاءَنَا. لإِبْراهِيمَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَدِ". هناك أمر جميل وعظيم في الطريقة التي تثق بها هذه المرأة الصبية المحببة بوعود الله وتتّكل عليه ليحققها حرفياً وتماماً. ليكن لنا نفس الإيمان والعزاء!

يعلمنا الإنجيل أن مريم مكثت لثلاثة أشهر مع نسيبتها أليصابات ثم رجعت إلى بيتها في الناصرة. كان ذلك قبل ولادة يوحنا المعمدان، ولذلك لم تكن مع أليصابات عندما جرى ذلك الحدث. كانت الناصرة تقع في القسم الشمالي من أرض فلسطين، وكان النبي ميخا قد أعلن أن يسوع كان سيُولد في بيت لحم. يبدو وكأنه كان هناك احتمال ضعيف لتحقيق تلك النبوءة، ولكن سنرى فيما بعد كيف أن الله عمل لكي يحقّقها.