الخطاب ٢٩

هل هناك شيطان كشخص؟

"أَجَابوه: «إِنَّنَا ذرِّيَّة إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطّ. كَيْفَ تَقول أَنْتَ: إِنَّكمْ تَصِيرونَ أَحْرَاراً؟» أَجَابَهمْ يَسوع: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقول لَكمْ: إِنَّ كلَّ مَنْ يَعْمَل الْخَطِيَّةَ هوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَﭐلْعَبْد لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ أَمَّا الاِبْن فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ. فَإِنْ حَرَّرَكمْ الاِبْن فَبِالْحَقِيقَةِ تَكونونَ أَحْرَاراً. أَنَا عَالِمٌ أَنَّكمْ ذرِّيَّة إِبْرَاهِيمَ. لَكِنَّكمْ تَطْلبونَ أَنْ تَقْتلونِي لأَنَّ كلاَمِي لاَ مَوْضِعَ لَه فِيكمْ. أَنَا أَتَكَلَّم بِمَا رَأَيْت عِنْدَ أَبِي وَأَنْتمْ تَعْمَلونَ مَا رَأَيْتمْ عِنْدَ أَبِيكمْ». أَجَابوا وَقَالوا لَه: «أَبونَا هوَ إِبْرَاهِيم». قَالَ لَهمْ يَسوع: «لَوْ كنْتمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ لَكنْتمْ تَعْمَلونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! وَلَكِنَّكم الآنَ تَطْلبونَ أَنْ تَقْتلونِي وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَه مِنَ اللَّهِ. هَذَا لَمْ يَعْمَلْه إِبْرَاهِيم. أَنْتمْ تَعْمَلونَ أَعْمَالَ أَبِيكمْ». فَقَالوا لَه: «إِنَّنَا لَمْ نولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهوَ اللَّه». فَقَالَ لَهمْ يَسوع: «لَوْ كَانَ اللَّه أَبَاكمْ لَكنْتمْ تحِبّونَنِي لأَنِّي خَرَجْت مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْت. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لاَ تَفْهَمونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكمْ لاَ تَقْدِرونَ أَنْ تَسْمَعوا قَوْلِي. أَنْتمْ مِنْ أَبٍ هوَ إِبْلِيس وَشَهَوَاتِ أَبِيكمْ ترِيدونَ أَنْ تَعْمَلوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ وَلَمْ يَثْبتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّه لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّم مِمَّا لَه لأَنَّه كَذَّابٌ وَأَبو الْكَذَّابِ" (يوحنا ٨: ٣٣- ٤٤).

هذا الجزء من إنجيل يوحنا يوحي بهذا السؤال ويجيب عليه بآنٍ معاً: "هل هناك شيطان كشخص؟" كان ربنا لا يزال في مجادلةٍ مع العنصر الشعائري والناموسي التشريعي في الشعب اليهودي الذين كانوا يعارضون تعاليمه في باحات الهيكل حيث كان يقوم بخدمته في ذلك الوقت. لقد راح يعرض حقيقةً تلو الأخرى ليؤثّر فيهم، ولكن في كل مناسبةٍ كانوا يسعون لمجادلته معارضين إياه بدلاً من أن يفتحوا قلوبهم لاقتبال رسالته. والآن يضيف إلى ما كان قد قاله سابقاً: "تَعْرِفونَ الْحَقَّ وَالْحَقّ يحَرِّركمْ"، فأجابوا: "إِنَّنَا ذرِّيَّة إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطّ. كَيْفَ تَقول أَنْتَ: إِنَّكمْ تَصِيرونَ أَحْرَاراً؟"

إنه مثالٌ مذهل وصاعق: كيف أن الناس يسندون أنفسهم، حتى ولو كان تاريخهم كله يبرهن أموراً أخرى مختلفة تماماً. تخيّلوا هؤلاء الرجال في اليهودية يقولون: "لمْ نُستَعبَد لأحدٍ قط". حتى لحظة قولهم هذا، كانوا خاضعين للحكم الروماني، ومنذ الأسر إلى بابل كانوا تحت وطأة عبودية سلطةٍ تِلوَ أخرى. لعلهم كانوا يريدون أن يقولوا: "بينما نحن خاضعون للحكومات الأمميّة، مع ذلك فإن أرواحنا هي حرّة، ولذلك فلم نقبع أبداً تحت عبوديةٍ، ولم نُذعن دينياً لأي نظامٍ من اختراع الإنسان". ولكن الرب يسوع المسيح أراد أن يُظهر لهم أن هذا لم يكن كافياً. فلا بد من الإفشاء عن حياةٍ إلهية، والأعمال المصاحِبة لها. وكان يعرف، وهم أيضاً يعرفون، أنهم كانوا عبيداً للخطيئة بالفعل. ولذلك أَجَابَهمْ يَسوع وقال: "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقول لَكمْ: إِنَّ كلَّ مَنْ يَعْمَل الْخَطِيَّةَ هوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ". من هو مستسلم لممارسة الخطيئة هو عبد للخطيئة. "وَﭐلْعَبْد لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ أَمَّا الاِبْن فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ. فَإِنْ حَرَّرَكمْ الاِبْن فَبِالْحَقِيقَةِ تَكونونَ أَحْرَاراً". هذا يعني أنه قد أخبرهم بأنه لم يكن كافياً أن يكونوا حرفياً منحدرين من نسل إبراهيم، بل أن عليهم أن يعرفوا ذلك التحرر والانعتاق من سلطة الخطيئة الذي عرفه إبراهيم، إن كانوا يريدون أن يُعتَبروا أبناءً لله. وعلى غرار حالتهم، يجرؤ يسوع على أن يقدم نفسه على أنه هو الذي لم يقع أبداً تحت عبودية الخطيئة ويقول: "الابن يبقى إلى الأبد". وفي الحقيقة، كان هو نسل إبراهيم الموعود والذي من خلاله ستتبارك كل الأمم. رغم أن كل الأمة قد تهاوتْ، وفي حالة كثيرة تم التجديفُ على اسم الله وسط الأمميين بسبب خطاياهم وإخفاقاتهم، مع ذلك فقد بقي يسوع هو المحرر أو المعتق الموعود من نسل إبراهيم الذي كان سيحقق الخلاص عما قريب. إنه يقدم حريةً لنا اليوم: "فَإِنْ حَرَّرَكمْ الاِبْن فَبِالْحَقِيقَةِ تَكونونَ أَحْرَاراً".

دعوني أستطرد قليلاً فأخرج عن شرح المقطع لأطبق هذا على عدة عبيد للخطيئة الذين هم بيننا، رجال ونساء يصارعون ضد العادات الشريرة، والعواطف والرغبات، والذين يجهلون في عبوديةٍ كاملةٍ مُطبقة. ومن جديد صرخوا قائلين:

"آهٍ، هل من إنسانٍ يبزغ في داخلي،
لكي ينعدم الإنسان الذي فيّ الآن؟"

يا أصدقائي الأعزاء، من الممكن أن تخلصوا من الخطيئة، ليس فقط من ذنب الخطيئة، بل من الممكن أن تخلصوا من سلطان الخطيئة، من خلال تجددكم وسكنى الروح القدس فيكم. هذا ما قصده يسوع بكلامه عندما قال: "إِنْ حَرَّرَكمْ الاِبْن فَبِالْحَقِيقَةِ تَكونونَ أَحْرَاراً". الحقيقة التي كان يتكلم عنها هي برنامج التجديد المبارك المقدّم لنا في كلمته المقدسة. عندما يؤمن الناس بهذه الرسالة فإنهم يتحررون بسبب الولادة الجديدة، وإذ ينطلقون في شركة مع الله، ويسلكون بقوة الروح القدس، فإنهم لا يخضعون بعد لشهوة الجسد، بل يسلكون في حرية أبناء الله.

الطقسيّون وأصحاب البر الذاتي لا يفهمون هذا، بل هم يبحثون دائماً في داخلهم عن التحرر والانعتاق. ولكن التحرر يأتي من الخارج فقط.

والآن يتابع الرب كلامه لأولئك المجادلين. يقول: "أَنَا عَالِمٌ أَنَّكمْ ذرِّيَّة إِبْرَاهِيمَ". فبشكل طبيعي، انحدر هؤلاء من نسله. "لَكِنَّكمْ تَطْلبونَ أَنْ تَقْتلونِي لأَنَّ كلاَمِي لاَ مَوْضِعَ لَه فِيكمْ". ولكن مع ذلك فقد كان هو ذاك الذي كان إبراهيم يبحث عنه، وكان هو النسل الذي ما برح بنو إسرائيل ينتظرونه طوال القرون والعصور: "يَتَبَارَك فِي نَسْلِكَ جَمِيع أمَمِ الأرْضِ" (تكوين ٢٢: ١٨). لقد كان موجوداً أمامهم ولم يعرفوه.

لقد برهن بالفعل أنه كان الموعود، وذلك من خلال أعماله وقدرته التي صنعها، ومع ذلك كان هناك أولئك المراؤون أصحاب البر الذاتي، وهؤلاء لم يعرفوه ولذلك رفضوا أن يضعوا ثقتهم وإيمانهم به، ذاك الذي جاء بحسب الوعد. "لَكِنَّكمْ تَطْلبونَ أَنْ تَقْتلونِي لأَنَّ كلاَمِي لاَ مَوْضِعَ لَه فِيكمْ. أَنَا أَتَكَلَّم بِمَا رَأَيْت عِنْدَ أَبِي وَأَنْتمْ تَعْمَلونَ مَا رَأَيْتمْ عِنْدَ أَبِيكمْ". لقد نزل إلى الأرض كابن الآب، ويوماً فيوماً كان الله يكشف له كلمته ليعمل ويقول الأشياء التي يريدها. "الْكلاَم الَّذِي أكَلِّمكمْ بِهِ لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي". "أنَا أَتَكَلَّم بِمَا رَأَيْت عِنْدَ أَبِي وَأَنْتمْ تَعْمَلونَ مَا رَأَيْتمْ عِنْدَ أَبِيكمْ". لا بد أن كلامه ذاك كان لاذعاً حاداً. لقد كان يوصلهم إلى الحقيقة- أبيكم: أبي. فيضع الاثنين في تضاد معاً.

يتحدث الناس بدون تروٍ اليوم عن الأبوة الكونية لله والأخوّة الكونية للإنسان. هذا السِّفر لا يتكلم بتلك الطريقة. بعض الناس يقولون أن هناك استثناءات، ولكن اقرأوا السّفر كله وانظروا إن كنتم تستطيعون أن تجدوا هكذا عبارات فيه. فها هنا عائلتان يُشار إليهما: يقول يسوع: "أنَا أَتَكَلَّم بِمَا رَأَيْت عِنْدَ أَبِي وَأَنْتمْ تَعْمَلونَ مَا رَأَيْتمْ عِنْدَ أَبِيكمْ". لقد كان الله أباه: أما أبوهم- كما سيقول لهم- فليس الله، بل العدو الكبير لله والإنسان. إذاً نجد هنا عائلتين: المُفتَدين الذين يشكلون عائلة واحدة، وأولئك الذين يرفضون نعمته فيشكلون عائلةً أخرى. ولذلك ليس لدينا أبّوة كونية أو أخوّة كونية. صحيحٌ أنّ إلهاً واحداً، خالق كل البشر، وهو الله، قد جعل الكل من دم ٍواحدٍ، ولكن للأسف، دخلت الخطيئةُ وحوَّلت الإنسانَ عن الله، وهذا هو السبب في حاجة الناس إلى أن يُولَدوا من جديد لكي ندخل إلى عائلة الله، ولكي نرفع أعيننا إلى وجهه ونقول: "أبانا الذي في السماوات". هل تعرفون بركة هذا؟ هل تعرفون معنى أن تُولدوا من الله؟

قال لهم: "أَنْتمْ مِنْ أَبٍ هوَ إِبْلِيس". هذا القول أثار اهتياجهم وسخطهم. كان يعرف أن هذا ما سيحدث، ولكن كانت هذه الحقيقة. من الضروري أحياناً أن نقول الأمر الذي قد يثير نقمة الرجال والنساء. يقول البعض علينا أن نكون حريصين لئلا نؤذي مشاعر الناس بخصوص خطاياهم. على سبيل المثال، يجب أن ننتبه أن لا نذكر موضوع الطلاق، إذ أن بعضاً من مستمعينا ربَّما يكونوا قد تزوجوا عدة مرات، ولذلك فإن مشاعرهم ستتأجج بسهولة. ويقولون أن علينا أن ننتبه لئلا نشير إلى الخلافات في العقائد أو أي شيء من هذا القبيل. إن كنا سنتجنّب كل تحاملٍ من الناس علينا فإننا سوف لن نتحدث عن أي شيء.

لقد سمعتم عن ذلك المبشِّر الذي ذهب إلى بلدةٍ في نيفادا لكي يجري بعض اللقاءات، فقال له القس هناك: "الآن، يا صديقي الطّيب، هناك خطايا معيَّنة عليك ألاّ تشير إليها: فعلى سبيل المثال، ينبغي عليك أن لا تتحدث عن الطلاق أو أي شيء من هذا القبيل، إذ أن هذه البلدة فيها أعلى نسبة طلاق. ويجب ألا تذكر شيئاً عن الكحول لأن بعض الأعضاء الأكثر دعماً مالياً لنا يعملون في تجارة الكحول. وكثيرٌ من أُناسِنا يكسبون معيشتهم بتقديم وسائل التسلية الدنيوية؛ فانتبه إلى ذلك". فنظر إليه المبشّر المسكين وقال له: "إذا ً عن أي خطايا سأتحدث؟" فكان جواب القس: "يمكنك أن تتحدث عن الهنود البيوتيين وخطاياهم. فهم لا يذهبون إلى الكنيسة على كل حال". إنّ التهاون مع الناس ليس دائماً أمراً مُستحسناً. لقد كان الرب يدرك أنّ الناس يجب التحدث إليهم بصدق وإخلاص عن خطاياهم. بعض أعظم المسيحيين الذين أعرفهم كانوا يغضبون جداً عندما يسمعون خطابات الكارز الواعظ، ولكنهم كانوا يأتون فيما بعد ويسمعون المزيد، إلى أن كان الله يتكلم إليهم ويأتي ويربحهم إليه.

قال يسوع: "أَنْتمْ تَعْمَلونَ مَا رَأَيْتمْ عِنْدَ أَبِيكمْ. أَجَابوا وَقَالوا لَه: «أَبونَا هوَ إِبْرَاهِيم». قَالَ لَهمْ يَسوع: «لَوْ كنْتمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ لَكنْتمْ تَعْمَلونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ»". هذا يعني، أخلاقياً وروحياً، أن عليهم أن يعملوا أعمال إبراهيم. لقد تبرّر إبراهيم بالإيمان أمام الله وبالأعمال أمام الناس. لقد كانوا يدّعون أنهم أبناء إبراهيم، ولكنهم لم يتميّزوا بالعيش البارّ مثله. "الآنَ تَطْلبونَ أَنْ تَقْتلونِي ..... أَنْتمْ تَعْمَلونَ أَعْمَالَ أَبِيكمْ". هذا ما أعطاهم الفرصة. تحدث بهذه الطريقة مرتين. فقالوا له: "إِنَّنَا لَمْ نولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهوَ اللَّه". ما الذي قصدوه بذلك؟ لقد كانوا يقصدون المعنى بأنه كان الابن غير الشرعي لمريم الناصرية. لقد كانت تلك هي طريقتهم في أن يردوا عليه بتلميحاتهم الرديئة لأنهم كانوا قد سمعوا عن الولادة العذرية، ولذلك استخدموا هذه الفكرة في محاولة منهم لإهانته، وهو ابن الله القدوس.

يقول الناس لي أن عقيدة الولادة العذرية لا ذكرَ لها بأي شكل من الأشكال في إنجيل يوحنا. حسناً، سترونها هنا بأنفسكم. لقد كانوا يضعون هذا الأمر عملياً أمام وجهه- "لَمْ نولَدْ مِنْ زِناً". ولكن الرب يسوع قال لهم: "لَوْ كَانَ اللَّه أَبَاكمْ لَكنْتمْ تحِبّونَنِي". ها هنا اختبار رائع: إن أحبَّ الناس الله فإنهم سيحبون ابنَه، والعكس بالعكس. "لَوْ كَانَ اللَّه أَبَاكمْ لَكنْتمْ تحِبّونَنِي لأَنِّي خَرَجْت مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْت. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لاَ تَفْهَمونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكمْ لاَ تَقْدِرونَ أَنْ تَسْمَعوا قَوْلِي". أي لا تستطيعون أن تسمعوا، بمعنى أنكم لن تسمعوا؛ إنكم تسمحون بالخطيئة لأن تدخل ولذلك لا تستطيعون أن تسمعوا.

ثم يتكلم مباشرة عما كان يلمّح إليه سابقاً: "أنْتمْ مِنْ أَبٍ هوَ إِبْلِيس وَشَهَوَاتِ أَبِيكمْ ترِيدونَ أَنْ تَعْمَلوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ وَلَمْ يَثْبتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّه لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّم مِمَّا لَه لأَنَّه كَذَّابٌ وَأَبو الْكَذَّابِ".

والآن لاحظوا كيف وضع الرب أمامنا في آيةٍ واحدة ما يتعلّق بتلك العقيدة الهامة عن الشيطان. هل هناك شيطانٌ شخصٌ، أم أن الشيطان هو مجرد تجسيد للشر؟ غالباً ما يُقال لنا هذه الأيام أن الاعتقاد بشيطان شخصي هو من بقايا العصور المظلمة، وأن هذا أمرٌ منافٍ للعقل أن نؤمن بوجود هكذا كائن. ولكن ها هي شهادة الروح القدس- رجاءً تمعّنوا في هذه الآيات. يقول يسوع: "خَرَجْت مِنْ قِبَلِ اللَّهِ". إنه يعلن نفسَه ابنَ الله. "أَنْتمْ مِنْ أَبٍ هوَ إِبْلِيس". ولكن هل يعني أن يقول: "أنتم مغلوب على أمركم من قِبَل الشيطان"؟ ولكنه يذهب أبعد من ذلك؛ فيستخدم ضميراً شخصياً ويقول عن الشيطان أنه "كَانَ قَتَّالاً". إنه يتحدث عن شخص، شخص لم يكن دائماً كما هو عليه الآن. بمعنى آخر، يخبرنا يسوع أن هناك روح شرير حاقد يحرض ويحرّك أولئك الذين لا يقرون لله بالسلطان. وهذا الروح الشرير الحقود لم يكن دائماً هكذا؛ فلم يكن دوماً كما هو الآن. فهو "لَمْ يَثْبتْ فِي الْحَقِّ".

غالباً ما يطرح الناس هذا السؤال: "إن كان هناك شيطان، فلماذا خلقه الله الصالح؟" إن الإله الصالح لم يخلق الشيطانَ. الكائن الذي خلَقَه اللهُ كان ملاكاً نقياً وبريئاً. في أشعياء ١٤: ١٢ نقرأ كيف سقط هذا الملاك. عمّن يدور الحديث هنا؟ إنه يُدعى "لوسيفوروس، ابن الصبح". "لوسيفوروس" تعني "نجم الصباح"، وهو كائن مجيد كان يقيم في حضرة الله. ونقرأ عن رئيس ملائكة واحد فقط؛ ألا وهو ميخائيل. يبدو أن لوسيفوروس قد كانت له مكانة مشابهة قبل سقوطه. كيف سقط؟ بسبب الإرادة الذاتية. فلخمس مرات نجده يقول: "أريد": "أريد أن أصْعَد إِلَى السَّمَاوَاتِ. أريد أن أَرْفَع كرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللَّهِ وأريد أن أَجْلِس عَلَى جَبَلِ الاِجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشِّمَالِ. أريد أن أصْعَد فَوْقَ مرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أريد أن أَصِير مِثْلَ الْعَلِيِّ" (أشعياء ١٤: ١٣، ١٤). هذا الملاك المخلوق تجرأ على أن يتوق لمكان معادل لله، إن لم نقل أن يزيحه عن العرش ليحل محله. ورداً على هذه الـ "أريد" المكررة خمس مرات يأتي صوت الله مدوياً من الأعالي وصارخاً: "لَكِنَّكَ انْحَدَرْتَ إِلَى الْهَاوِيَةِ إِلَى أَسَافِلِ الْجبِّ. وهكذا تحوّل الملاك المجيد فصار شيطاناً. كان هذا كله قد بدأ عندما لَمْ يَثْبتْ فِي الْحَقِّ.

في سفر حزقيال لدينا نص كتابي مرموق آخر. في الأصحاح ٢٨ يتحدث الله عن أمير صور، ولكن بالعودة إلى أمير صور نجد أنه أحد الذين يدعوهم ملك صور، أحد الذين يسيطر عليهم هذا الأمير الأرضي، والذي هو نفسه كان أكثر من إنسان. "كنْتَ فِي عَدْنٍ جَنَّةِ اللَّهِ. كلّ حَجَرٍ كَرِيمٍ سِتَارَتكَ, عَقِيقٌ أَحْمَر وَيَاقوتٌ أَصْفَر وَعَقِيقٌ أَبْيَض وَزَبَرْجَدٌ وَجَزْعٌ وَيَشْبٌ وَيَاقوتٌ أَزْرَق وَبَهْرَمَان وَزمرّدٌ وَذَهَبٌ. أَنْشَأوا فِيكَ صَنْعَةَ صِيغَةِ الفصوصِ وَتَرْصِيعِهَا يَوْمَ خلِقْتَ" (حزقيال ٢٨: ١٣). "كنْتَ فِي عَدْنٍ جَنَّةِ اللَّهِ". كان هذا شيئاً لم يمكن أبداً أن يُقال عنه أنه حاكم أرضي. هذه الأحجار الكريمة كانت تُستخدم لتمثّل الجوانب المختلفة من شخصيته. فعنا كان قائد الجوق السماوي. هذا الكائن المجيد كان يعزف على المزمار في حضرة الله إلى أن جاءت الخطيئة. "أَنْتَ الْكَروب الْمنْبَسِط الْمظَلِّل. وَأَقَمْتكَ. عَلَى جَبَلِ اللَّهِ الْمقَدَّسِ كنْتَ. بَيْنَ حِجَارَةِ النَّارِ تَمَشَّيْتَ. أَنْتَ كَامِلٌ فِي طرقِكَ مِنْ يَوْمَ خلِقْتَ حَتَّى وجِدَ فِيكَ إِثْمٌ" (حزقيال ٢٨: ١٤، ١٥). وعن ذاك الإثم يخبرنا الكتاب في الآية ١٧: "قَدِ ارْتَفَعَ قَلْبكَ لِبَهْجَتِكَ. أَفْسَدْتَ حِكْمَتَكَ لأَجْلِ بَهَائِكَ. سَأَطْرَحكَ إِلَى الأَرْضِ وَأَجْعَلكَ أَمَامَ الْملوكِ لِيَنْظروا إِلَيْكَ".

لقد سقط لوسيفوروس من جراء الكبرياء. الإرادة الذاتية كانت التعبير الأول عن ذلك الكبرياء والغرور، ولذلك صار الملاكُ شيطاناً. إنه يُدعى الشيطان وأيضاً يُدعى إبليس. "الشيطان" تعني "المفتري" و"إبليس" تعني "الخصم"، وهو يدمج بين الاثنين في ذاته. فهو يتّهم الإنسانَ أمام الله واللهَ أمام الإنسان؛ ولكنه عدو خاصة لله نفسه وابنه المبارك، وبشكل أعم هو عدو لكل شيء من الله هنا على الأرض. ليس هو على الأرض هنا فقط لكي يغوي الناس؛ إذ لديهم في قلوبهم ما يقودهم إلى الخطيئة، بل إن العمل الكبير الذي ينشغل به هو في إلقاء تبعات الشر على ما هو من الله. إنه يدعى "الْمشْتَكِي عَلَى إِخْوَتِنَا" (رؤيا ١٢: ١٠). ونأمل ألا نكون من بين أصحابه.  عندما أسمع الناس يعطون صوراً سيئة عن أناس الله، أقول في نفسي: "إنهم يقومون بعمل الشيطان. ذلك هو العمل الذي ما برح ينشغل به إبليس طوال كل القرون والعصور. علينا أن نأخذ موقفاً محدداً صارماً تجاه كل سلوك شرير كهذا".

الشيطان إذاً مرتدٌ. هو لم يثبت في الحق. وقد حاد عنه. وهو قاتلٌ منذ البدء. والكلمة المُترجمة "قتّال" هنا تعني حقاً "سفّاح". ليس فقط أن مُكْرَه موجّهٌ ضد البشر، إلى تلك الدرجة، بل هو يعرف أيضاً أن الله محبٌ للبشر وإنه لمن المؤلم لله أن يرى البشر قد تنحّوا عنه.

ليس فيه حقّ، كما يُقال لنا في الكتاب. عندما يكذب فإنه يتحدّث من ذاته، لأنه كاذبٌ وأبو الكذّاب. في رسالة بطرس الأولى نسمع الرسول يقول: "اصْحوا وَاسْهَروا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجول ملْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعه هوَ. فَقَاوِموه رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ، عَالِمِينَ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الآلاَمِ تجْرَى عَلَى إِخْوَتِكم الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ" (١ بطرس ٥: ٨، ٩). إن سلكنا في الحق لا نخاف قوة إبليس. إن لبسنا سِلاَحَ اللهِ نستطيع مقاومة إبليس بنجاح.

ولكن دعونا لا نقلّل من قدرة هذا العدو. فهناك شيطان شخصي، إنه أمير هذا العالم، والرجال والنساء في حالتهم عير المُخلَّصة خاضعون لسيطرته. يُحَذّرُ المسيحيون من الإصغاء إلى إيحاءاته، أو السلوك في طرقه. أن نُعتَقَ ونتحرر من قوته يعني أن نقف ضده، محاربين بإخلاص لأجل الحق الذي عهد الله به إلينا. عندما يكون الرجال والنساء متيقّظين إلى خطاياهم، يدركون قدرة إبليس، ولكن، الحمد لله، فإن ربّنا يسوع المسيح مات لكي يهلك ذاك الذي كان يتمتع بقدرة الموت ولكي يعتق أولئك الذين يضعون ثقتهم وإيمانهم به خوفاً من الموت. لقد أغوى الشيطانُ الإنسانَ إلى الخطيئة، وبالخطيئة جاء الموت، والآن يستخدم إبليس الموت ليرعبَ ويخيفَ ضحايا خداعه، الذين، في حماقتهم، قد ابتعدوا عن طريق إطاعة الله. ولكن الرب يسوع المسيح قد أبطل الموت بمروره به وقيامته منتصراً، والآن يٌعتق أولئك الذين يؤمنون به ويتّخذون به ملجأً ضد الخوف من الموت.

هل توقعُ فكرةُ الموت الخوفَ في قلوبكم؟ هل تقولون: "ليتني لا أواجه تلك المحنة الأخيرة العظيمة!" أصغوا إليّ: إن كنتم ستضعون إيمانَكم بذاك الذي مات وقام ثانية، فستعرفون أن الموت هو مجرد باب إلى الحياة. يقول يسوع: "أَنَا هوَ الطَّرِيق وَالْحَقّ وَالْحَيَاة. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يوحنا ١٤: ٦). "مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظّلْمَةِ بَلْ يَكون لَه نور الْحَيَاة" (يوحنا ٨: ١٢).

"حصنٌ منيع هو إلهنا!
متراسٌ لا ينهار أبداً:
معيننا هو، وسط طوفان
الأوبئة المميتة المنتشرة.
إذ أن عدونا القديم
يسعى ليبلينا:
لا حد لمكره وقدرة خداعه،
وقد تسلّح بالحقد الوحشي؛
وما من أحد يقدر عليه من أهل الأرض".

مارتن لوثر