الخطاب ٣٢

الراعي الصالح

"«اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ الْخِرَافِ بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَافِ. لِهَذَا يَفْتَحُ الْبَوَّابُ وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا. وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ. وَأَمَّا الْغَرِيبُ فلاَ تَتْبَعُهُ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ لأَنَّهَا لاَ تَعْرِفُ صَوْتَ الْغُرَبَاءِ». هَذَا الْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ. جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ وَلَكِنَّ الْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ. أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى. اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ. أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَجِيرٌ وَلَيْسَ رَاعِياً الَّذِي لَيْسَتِ الْخِرَافُ لَهُ فَيَرَى الذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ الْخِرَافَ وَيَهْرُبُ فَيَخْطَفُ الذِّئْبُ الْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. وَﭐلأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ وَلاَ يُبَالِي بِالْخِرَافِ. أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ. وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ" (يوحنا ١٠: ١- ١٦).

لدينا قسمان متمايزان حقيقةً في هذا الجزء. الآيات الخمس الأولى تشكّلُ مثلاً متكاملاً بحدِ ذاتها، ومن ثم لدينا الآيات من ٦ إلى ١٦ التي أضفنا فيها تعليماً وكشفاً أكمل لحقيقة شخصية الراعي في ربنا يسوع المسيح. إنه الراعي الصالح بشكلٍ لافتٍ للنظر. إنه لأمرٌ هامٌ جداً أن نُلفت الانتباه إلى أن كلمة "صالح" هنا تحمل في أحد معانيها المعنى "الراعي الجميل". بالطبع، إنها تشيرُ إلى جمال شخصيته- الراعي الذي هو غير غيري بشكلٍ مطلق ومكرس لمشيئة الآب. لقد قدمَ نفسه لبني إسرائيل كراعٍ لهم وكان هذا بتوافقٍ مع العديد من النصوص المسيانية الواردة في العهد القديم.

"في تكوين ٤٩، عندما يتكلم يعقوب بإلهام إلهي عن يوسف ، يختتم حديثه بهذه الكلمات: "يُوسُفُ غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ عَلَى عَيْنٍ. أغْصَانٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ حَائِطٍ. فَمَرَّرَتْهُ وَرَمَتْهُ وَاضْطَهَدَتْهُ أرْبَابُ السِّهَامِ. وَلَكِنْ ثَبَتَتْ بِمَتَانَةٍ قَوْسُهُ وَتَشَدَّدَتْ سَوَاعِدُ يَدَيْهِ. مِنْ يَدَيْ عَزِيزِ يَعْقُوبَ (مِنْ هُنَاكَ مِنَ الرَّاعِي صَخْرِ اسْرَائِيلَ)"، أي أن الراعي هو من الإله القدير الذي يعبده يعقوب؛ وهو يذكر هذا هنا لأن الخبرات التي قُدِّرَ للراعي الحقيقي، صخر إسرائيل، أن يمر بها كانت قريبة أو شبه مماثلة لتلك التي كان على يوسف أن يمر بها، مرفوضاً ومرذولاً ومزدرى به، كما كان هو نفسه، وذلك من قِبَلِ إخوته أنفسهم.

ثم لدينا الحديث عن المسيا على أنه راعي الرب في المزمور ٢٣، تلكَ الجوهرة الجميلة التي نحبها كثيراً جداً. قال أحدهم أن هذا النص هو من أكثر المقاطع المحبوبة لدى القراء وأقلها تصديقاً من أي جزءٍ من الكتاب المقدس. "الربُّ راعيَّ، فلا يعوزني شيءٌ". إننا نحب أن نرددَ هذه الكلمات، ولكن كم من الناس يؤمنون بها؟ لطالما نشعرُ بالذعر عندما يفرغ كيس نقودنا ونكون عاطلين عن العمل. هناك أمرٌ واحد نفعله، وذلك أن نقبل إليه ونتكل عليه في كل شيء. "الربُّ راعيَّ، فلا يعوزني شيءٌ".

في المزمور ٨٠: ١ نقرأ: "يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ اصْغَ يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَالضَّأْنِ يَا جَالِساً عَلَى الْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ". راعي إسرائيل لم يكن سوى الله نفسه، الذي كان يرعى شعبه ويسهر عليهم، والذي كان سيأتي إلى العالم في هيئة بشرية ليرشدهم إلى البركة. أشعياء يصوّره على هذا النحو. في (أشعياء ٤٠: ١٠، ١١) نقرأ: "هُوَذَا السَّيِّدُ الرَّبُّ بِقُوَّةٍ يَأْتِي وَذِرَاعُهُ تَحْكُمُ لَهُ. هُوَذَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَعُمْلَتُهُ قُدَّامَهُ. كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ الْحُمْلاَنَ وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا وَيَقُودُ الْمُرْضِعَاتِ". كانت هذه هي النبوءة عن مجيء ممسوح الرب، مسيا إسرائيل، إلى هذا العالم.

ثم في إرميا ٣١- نجد ذلك الأصحاح العظيم الذي يتكلم عن اهتمام الله الدائم والأبدي بشعبه إسرائيل- في الآية ١٠ نقرأ: "اِسْمَعُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ أَيُّهَا الأُمَمُ وَأَخْبِرُوا فِي الْجَزَائِرِ الْبَعِيدَةِ وَقُولُوا: [مُبَدِّدُ إِسْرَائِيلَ يَجْمَعُهُ وَيَحْرُسُهُ كَرَاعٍ قَطِيعَهُ]. لأَنَّ الرَّبَّ فَدَى يَعْقُوبَ وَفَكَّهُ مِنْ يَدِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ". وأعطِيَ لحزقيال أن يؤكد ذلك، عندما يقول في ٣٤: ١٢- ١٥: "كَمَا يَفْتَقِدُ الرَّاعِي قَطِيعَهُ يَوْمَ يَكُونُ فِي وَسَطِ غَنَمِهِ الْمُشَتَّتَةِ, هَكَذَا أَفْتَقِدُ غَنَمِي وَأُخَلِّصُهَا مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي تَشَتَّتَتْ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَالضَّبَابِ. وَأُخْرِجُهَا مِنَ الشُّعُوبِ وَأَجْمَعُهَا مِنَ الأَرَاضِي, وَآتِي بِهَا إِلَى أَرْضِهَا وَأَرْعَاهَا عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ وَفِي الأَوْدِيَةِ وَفِي جَمِيعِ مَسَاكِنِ الأَرْضِ. أَرْعَاهَا فِي مَرْعًى جَيِّدٍ, وَيَكُونُ مَرَاحُهَا عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ الْعَالِيَةِ. هُنَالِكَ تَرْبُضُ فِي مَرَاحٍ حَسَنٍ, وَفِي مَرْعًى دَسِمٍ يَرْعُونَ عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ. أَنَا أَرْعَى غَنَمِي وَأُرْبِضُهَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ.

ربما نتحول إلى مقاطع أخرى كثيرة تصف أو تصور الربَّ كراعٍ؛ مقاطع كانت لتجدَ تحقيقها في شخص ربنا يسوع المسيح. وذلك فعندما وقفَ وسطَ بني إسرائيل وأعلنَ نفسه أنه الراعي الصالح، كان يجب أن يفهموه في الحال، لأنهم كانوا على إطلاع جيد على محتوى العهد القديم. هذه المقاطع كانت في قلوبهم وأذهانهم منذ قرون. فقد كانوا يبحثون عن راعي الرب الآتي، وها هو يسوع قد ظهرَ الآن وقال لهم: "أنا الراعي الصالح". نلاحظُ قبل قليل، عند حديث المسيح باستخدام العبارات التي تبدأ بـ "أنا"، إن هذا التعبير هو لقبٌ إلهيٌ محددٌ. فيسوع يأخذُ ذلك الاسم الذي يُطلق على الله والذي لا يمكن لأحد أن يرفضهُ ويقول: "أنا هو الراعي الصالح".

وإنه يضع نفسه على تضاد مع الرعاة الزائفين الذين كانوا يظهرون من وقتٍ إلى آخر:

"«اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ الْخِرَافِ بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَاف".

أعتقدُ أن هذه الكلمات يساءُ تطبيقها عامةً أو تطبق بشكلٍ مغلوط. لا أقصد أنها وُضعت لتُعلِمَ شيئاً مغلوطاً زائفاً، ولكنها تُستخدم بعكس المعنى المراد بها في الآية المحددة التي تحويها. لطالما نسمع الناس يقولون: "إذ حاولَ أحدٌ أن يصعدَ إلى السماء بطريقةٍ أخرى سوى بالمسيح، فإنهُ لصٌ وسارق". ولكن ليس هذا ما كان يتحدث عنه الرب هنا، على الإطلاق. الحق يُقال أنه إن حاولتم أن تدخلوا السماءَ بطريقةٍ ما عدا وضع ثقتكم بالرب يسوع المسيح، فإنكم ستكونون كمثلِ لصٍ يحاولُ أن يقتحمَ مكاناً ليس له حقٌ في دخوله.

"لأنه لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع ٤: ١٢).

ولكنَّ هذا ليس هو ما يتحدث عنه المُخلِّص هنا. إنهُ لا يتكلم عن الصعود إلى السماء. فالسماءُ ليست الحظيرة. كانت اليهودية هي الحظيرة وخلالَ النصف قرن قبل ظهور ربنا يسوع المسيح كان هناكَ كثيرون جاءوا يدعونَ أنهم المسيَّا، ولكنهم لم يدخلوا من الباب- أي، بحسب الكتاب المقدس. لقد كانوا يحاولون أن يتسلقوا طريقاً أخرى، وعنفهم يسوع بقسوةٍ واصفاً إياهم بسراق ولصوص. ثم يتحدث عن نفسه على خلاف حديثهِ عنهم:

"أَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَهُوَ رَاعِي الْخِرَافِ". لقد جاء كما في الكلمة النبوية. وكانت حياته متوافقة تماماً مع تنبؤات وتوقعات كتابات العهد القديم. "لِهَذَا يَفْتَحُ الْبَوَّابُ وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا". يوحنا المعمدان كان الْبَوَّاب الذي كان قد أرسله الله ليعلن مجيء المسيا. وأخبر عن شخص لا يجد نفسه مستحقاً أن يحل سير حذائه. وبالنسبة له جاء المسيح لأجل المعمودية. لقد قال يوحنا: "يا معلّم، لست أستحق أن أُعمّدَك. بل أنا في حاجة لأن أعتمد منك. فأنت الذي بلا خطيئة، وما أنا إلا معمِّدٌ خاطئ. هذه معمودية توبة، وليس لديك ما تتوب عليه". فقال له يسوع: "اسْمَحِ الآنَ لأَنَّهُ هَكَذَا يَلِيقُ بِنَا". وبمعموديته أخذ على عاتقه أَنْ يكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ مطلوب أمام عرش الله، وأن يسد حاجة الخطأة. وإذ خرج من الماء، أعلن صوت من السماء قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". لقد دخل عبر الباب إلى الحظيرة. والبوّاب فتح له الباب. وروح الله نزل من السماء وحلَّ عليه ماسحاً إياه على أنه المسيا. هذا ما تعنية كلمة "المسيا" أي "الممسوح". لقد مُسِح ذلك اليوم من روح قدس الله كراع حقيقي للخراف.

وهكذا دخل من الباب، وكان هناك في الحظيرة أولئك الذين اقتبلوه. كان هناك الذين هم أولاد الله حقاً. فقد كانوا قد فتحوا قلوبَهم لحقّه، وعندما جاء قالوا: "ها هو المخلِّص الذي كنا ننتظر". "الْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ". ما كان ينوي أن يتركهم إلى الأبد في حظيرة اليهودية، بل كان سيقودهم إلى حرية النعمة والبركة في المسيحية. لقد دخل إلى حظيرة اليهودية ليخرجَ كنيسته من اليهودية إلى حرية النعمة. "مَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ". هذا هو الامتحان الأعظم. يقول أحدهم: "حسناً. أعتقد أني مسيحي، ولكني لا أفهم لماذا توجّب على المسيح أن يأتي إلى هذا العالم وأن يموت ليخلّص الخطأة. لا أستوعب ذلك". هذا يدل على حقيقة محزنة. هذا يعني أنك لا تعرف حقاً صوت الراعي. ولم تأخذ بعد مكانك أمام الله كخاطئ تائب أو تقبل المسيح بإيمان بسيط. أولئك الذين فعلوا ذلك مولودون من جديد، واقتبلوا الحياة الأبدية، ومع هذه الحياة الجديدة صارت لديهم طبيعة جديدة تجعلهم يُسَرّون في إطاعتهم لصوته. إنهم يعرفونه. إنهم يعرفون صوت الراعي. وسوف لن يتبعوا الغريب.

ولذلك نقرأ في الكتاب: "هذَا الْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ" (يوحنا ١٠: ٦). لم يفهموا ما قال. وكانت أعينهم عمياء. لم يفقهوا معنى هذه الصورة البسيطة الجميلة. ولذلك تابع يشرح لهم بإيضاح أكثر: "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ. جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ وَلَكِنَّ الْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ. أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى".

وهنا يغير الرب يسوع الاستعارة التشبيهية. فقد قال قبل قليل: "أنا هو الراعي، وقد دخلْتُ من الباب". والآن يقول: "أَنَا هُوَ الْبَابُ". فهل من تناقض؟ لا على الإطلاق. لعلكم سمعتم  عن حادثة صغيرة أخبرنا بها الدكتور بيازي سميث. ففي إحدى المناسبات رأى راعياً يصعد بخرافه إلى إحدى التلال. فقادهم إلى الحظيرة وأراحهم هناك، فقال له الدكتور سميث: "هل تترك الخراف في هذه الحظيرة طوال الليل؟" فأجاب: "نعم". فسأله: "ولكن أليس هناك وحوش برية في الجوار؟" فرد بالإيجاب. وهنا سأله السيد سميث: "أفلا يحاولون الوصول إلى الخراف؟" فقال الراعي: "بلى". فسأله: "حسناً. ليس لديك باب هنا، فأنى لك أن تضمن عدم دخول الوحوش إلى الحظيرة؟" فما كان من الراعي الأعرابي سوى أن اضطجع  على جنبه عند المدخل، ورفع بصره مبتسماً وقال: "أنا هو الباب". أترون؟ ما من وحش يمكن أن يدخل دون أن يوقظه، ولن يخرج أي خروف من فوقه.

ولذلك قال يسوع: "أنا هو الباب ومن خلالي تدخل خرافي إلى البركة وأنا حارسهم ومرشدهم". ثم يقول: "أنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى". وهذا ما عناه داود بقوله: "فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي" (مز ٢٣: ٢). الراعي يُعنى بالخراف، ويقودها إلى المراعي المناسبة حيث تنتعش وتتغذى. وهكذا ربنا المبارك يأخذ على عاتقه مسؤولية أولئك الذين يؤمنون به ويضعون فيه ثقتهم.

والآن بعكس نفسه، كان هناكَ معلمون وأنبياء كذبة، كانوا مهتمين فقط بمصلحتهم الشخصية الخاصة. كان هناكَ مثل هؤلاء على طول القرون والعصور وتكلمَ الربُّ عنهم بلهجةٍ قويةٍ شديدةٍ. "اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ". لقد جاءَ ليقدمَ حياةً أبدية لكل الذين وضعوا إيمانهم فيه. وإن كنا نسلكُ في شركةٍ مع الله فإن لدينا تلك الحياة الوافرة. مسيحيونَ كثيرونَ لديهم حياة، ولكن لا يبدو أن لديهم حياة وافرة. كنتُ مؤخراً في بيت حيث كان هناك طفلان. كان أحدهما متوعك الصحةِ وشاحباً، بينما كان الآخرُ مفعماً بالحياةِ لدرجة أنه كان مصدرَ إزعاجٍ مستمر للصغير المريض. وإذ نظرتُ إليهما فكرتُ في نفسي قائلاً: "إنهما مثلَ المسيحيين". هناكَ كثيرونَ من المسيحيين الذين لديهم حياة؛ فقد آمنوا بيسوع مخلصاً، ولكن لا يبدو أنهم يتكلون كثيراً على الله- فما من شهادةٍ يقدمونها. ثم هناكَ آخرون مليئون بالحماسة الروحية يحملون شهادةً عن ذاك الذي فداهم، متألقينَ ومشرقين لأنهم يعيشون في شركةٍ مع الله.

أولاً، يقول يسوع: "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ". ثم يعلن قائلاً: "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ أعرف خرافي وخرافي تعرفني". ها أنكم ترونَ جانبين من الحقيقة هنا. فكراعٍ صالح ذهبَ إلى صليب الجلجثة وهناكَ وضع حياته. وهناك جُرح لأجل معاصينا وطُعِنَ لأجل آثامنا وبجلداته قد شُفينا. يا لهُ من راعٍ رائع.

"أيها الراعي العظيم الكريم،
يا من أهرقَ دمهُ لأجلنا،
 وسُلّمَ للعارِ والموت،
 وذلك كلهُ لأجلِ أن يُدنينا إلى الله".

ذلك، كما ترون، لأنهُ لم يكن هناكَ من وسيلةٍ أخرى. في جثسيماني صلّى يسوع قائلاً: "إن أمكن أجر عني هذه الكأس". أي: "إن كان ممكناً أن ُأخلِّص الخطأ بطريقةٍ أخرى ما عدا شرب كأس الدينونة، فليكن ذلك". ولكن لم يكن هناكَ من طريقٍ آخر، وهكذا مضى الراعي الصالح ليموت.

ولكنَّ ذاك الذي مات يحيا من جديد. إنه يحيا في المجد، وهو لا يزالُ الراعي الصالح. في مكانٍ آخر يُدعى الراعي العظيم والراعي الكبير. "إِلَهُ السَّلاَمِ الَّذِي أَقَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ رَاعِيَ الْخِرَافِ الْعَظِيمَ، ..... لِيُكَمِّلْكُمْ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ لِتَصْنَعُوا مَشِيئَتَهُ، عَامِلاً فِيكُمْ مَا يُرْضِي أَمَامَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ". (عبرانيين ١٣: ٢٠، ٢١). ولكنَّ هذا الراعي العظيم هو الراعي الصالح لا يزال، ويعرفُ خرافهُ، ويقول: "خرافي تعرفني". ألا يُعزي هذا قلبكَ، يا أيها الابنُ العزيز لله؟ إن كانَ يسمعني أحدٌ يضطجعُ على سريـرِ المـرض- فلعلَّ بعضكم ما كان قادراً على أن يتركَ سريره لسنين، ولعلَّ الإغراء والتجربة كانا يجعلانه يشعر بأنه متروك كلياً ومنعزل ومُتعب وضجر من كل ذلك- فيا عزيزي، أيها المريض، تذكر أن يسوع يقول: "أنا هو الراعي الصالح وأنا أعرفُ خرافي". إنه يعرفُ صراعتك، وخيباتك، والكأس الذي عليكَ أن تشربهُ. لقد شربَ من كأسٍ أشد مرارةٍ من الذي لك بكثير.

"إن وجِدت بعضُ أشواكٍ في طريقك،
ففكر بمن حمَِِلها على جبينه.
إن وجِدَ حزنٌ في قلبكَ المتألم،
فإنه يتقدسُ أكثر منك".

في تعاطفه العميق يدخل (الرب) إلى تجاربك ومحنك ويشاطرك أحزانك. وعندها- أليست هذه بركة؟- إنه يقول: "أعرف خرافي وخرافي تعرفني". ونقول مرة أخرى مع داود: "الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء". ونسمع يسوع أيضاً يقول: "كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ". بالتأكيد هو لا يتكلم بالدرجة الأولى عن الخراف في الحظيرة اليهودية. بل نقرأ في الآية التالية: "وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ". وإن كلمة "حظيرة" هنا ينبغي ترجمتها بـ "قطيع". أترون، لقد كانت اليهودية حظيرة، محيط دائرة بدون مركز، أما المسيحية فهي قطيع، حيث لدينا مركز بدون محيط دائرة. ليس لدينا جدران حولنا، ولكننا متجمعون حوله، راعينا الصالح. إن ربنا يسوع المسيح هو بالفعل راعينا الصالح، الذي "لَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ" (تكوين ٤٩: ١٠).