الخطاب ١

الكلمة الأزلي

"فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ وَﭐلنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ" (يوحنا ١: ١- ٥).

عند البدء بدراسة أي من الأناجيل، من المُستحسن أن نطرح السؤال التالي ونحاول إيجاد إجابة عليه: لماذا تُوجَدُ أربعةُ أناجيل ولماذا تبدو مختلفةً عن بعضها؟ لا بد أن إلهنا كان في مقدوره بالتأكيد أن يوحي لأحد خدامه بأن يكتب تدويناً متواصلاً عما فعله وقاله يسوع. الناس يكتبون كتباً على هذا النحو، ولكن الآب لم يرتَضِ ذلك. بل بالعكس، أعطانا أربعة تدوينات متمايزة، وحاول الناس منذ القرن الثاني للحقبة المسيحية أن يحيكوا من هذه الأربعة كتاباً واحداًً، كمثل ذاك الذي يسمى "توافق الأناجيل" أو "اتفاق البشيرين". ولكنهم دائماً وأبداً كانوا يجدون صعوبة في ذلك، بسبب جهلهم بالتسلسل الزمني الكرونولوجي للأحداث وبأمور أخرى كثيرة تتعلق بالأزمنة والعادات والتقاليد التي كانت سائدة عندما كان يسوع هنا على الأرض. هذه التدوينات كل منها مستقلٌ ومتكاملٌ بحد ذاته. لقد أوحى بها الله، وحتى لو بدا في بعض الأحيان تعارض في الشهادة بينها، إذ أن سبب ذلك يعود إلى نقص معرفتنا بالحقائق.

في إنجيل متى ليس لدينا أية صعوبة في رؤية أن الهدف البارز للروح القدس كان تصوير الرب يسوع على أنه المسيا والملك الموعود. لذلك فإننا أحياناً نسمّي إنجيل متى بالإنجيل العبراني. أود دائماً أن أحترس من هذا التعبير، على كل حال، بسبب سوء استخدامه في بعض الأحيان. لا نقصد بذلك أنه لم تكن فيه رسالة إلى المسيحيين. ولا نقصد أنه يمكننا أن نتحمّل الاستغناء عنه، ولكن نقصد أنه الإنجيل الذي كان الله قد حدَّده بشكل خاص ليصوِّرَ حياة الرب يسوع المسيح بطريقة تروق للفكر اليهودي، وخاصة لليهودي المهتم بعهده القديم. ليت اليهود كانوا أكثر ألفةً مع كتابهم المقدس. لو كانوا كذلك، لكان أسهل علينا بكثير أن نكرز بالمسيح لهم. لسوء الحظ، عبر العصور والقرون، اهتم اليهود بشكل كبير بالتلمود أكثر من الكتاب المقدس الذي تصعب على أذهانهم مقاربته. ولكن متّى يفترض مسبقاً معرفة قرّائه بالعهد القديم، ولذلك فطوال الوقت نجد مثل هكذا عبارات: "لكي يتمّ"، "كما كُتِبَ"، الخ. ويقدم لنا الحادثة تلو الأخرى في حياة المسيح التي كانت تحقيقاً مباشراً لنبوءة العهد القديم. يصورُ متى يسوعَ كمسيا إسرائيل، ورسالته البارزة هي: "هوذا ملككم".

من جهة أخرى، يبدو مرقس وكأنه يكتب من وجهة نظر مختلفة. فهو يصور يسوع على أنه النبي الخادم العظيم، والذي يعمل، في هذا العالم، مشيئة الله. يعود ذلك إلى حقيقة أنه ليس في كتابه (إنجيله) سلسلة نسب. فسلاسل النسب في متى وفي لوقا، ولكن ليس لدينا أي شكل من أشكال سلاسل النسب في مرقس. لماذا؟ ذلك لأنكم تعلمون، عندما تعلنون عن حاجتكم إلى خادم ليعمل لديكم، فإنكم لا تقولون: "دعني أسألك: ما هي سلسلة نسبك؟ هل أنتَ سليل شخصية مشهورة ما؟" لا. وليس: "من كان والدك؟"، بل: "ما الذي تستطيع أن تفعله؟" وهكذا ففي إنجيل مرقس لدينا الرب المبارك وقد تم إضفاء هذه الصفة أو المهمة عليه منذ البداية. فيقول: "هوذا خادمي/عبدي" ١ .

عندما نأتي إلى إنجيل لوقا، نرى الرب يسوع يُصوَّرُ كإنسانٍ كامل- الإنسان الوحيد الكامل الذي سار على هذه الأرض. ولذلك تجدون الرب يسوع يدخل في كل أنواع وأشكال الظروف. وفي مناسبات عديدة ترونه جالساً إلى المائدة. لا أعرف كيف يمكن وصف أي إنسان أفضل منه عندما يكون على مائدة الطعام. إن أردتم أن ترسموا إنساناً في الخارج (خارج منزله)، يكفي أن تُجلسوه إلى مائدة طعام جيدة وتجعلوه يبدأ بالتحدث. لقد قرأتُ الكثير من السير الذاتية عن مارتن لوثر، ولكني لم أعرفْه حتى قرأتُ كتاب "أحاديث لوثر على المائدة". وعلى نفس المنوال نجد أن الكثير من إنجيل لوقا قد كُتِبَ استناداً إلى "أحاديث المائدة" لربنا يسوع المسيح. إنه يقول: "هوذا الإنسان"- الوسيط الوحيد بين الله والإنسان، "الإنسان يسوع المسيح".

والآن عندما نتحول إلى إنجيل يوحنا، نرى السموات مفتوحة والابن السرمدي ينزل من الأعلى، آخذاً مكانه في رحم العذراء- الله والإنسان في أقنوم واحد مبارك مجيد- الابن السرمدي متجلياً في الجسد. يقول يوحنا: "هوذا إلهكم". وإنجيلُه كُتِبَ لتأسيس وترسيخ حقيقة لاهوت وألوهية ربنا يسوع المسيح. في الأصحاحات الـ ١٢ الأولى لدينا الابن الإلهي مُقَدَّماً إلى العالم، وفي الشخصيةِ التي كانت لتروق للناس في عالم الخطاة. سنلاحظ هذه الميزات المتنوعة ونحن نمضي في دراستنا هذه لإنجيل يوحنا.

بدءاً من الأصحاح ١٣ فصاعداً حتى النهاية، لدينا استعلان ربنا يسوع كابن، لشعبه الحبيب الذي يخصه، على أنه الذي يحفظ أقدامَهم بعيداً عن النجاسة. هذا كشفٌ مذهل ورائع لتأييده ومدافعته والحقيقة المجيدة عن اعتنائه بشعبه خلال هذا الدهر. ثم لدينا الوعد بمجيئه ثانية بالمجد في نهاية الدهر ومجيء المعزّي، الذي سيرشد الناس إلى كل الحق.

إنجيل يوحنا، إذاً، يشدّد ويركّز على ألوهية ربنا المبارك. إنه يصوره على أنه الكلمة السرمدي الذي صار بالنعمة جسداً لفدائنا. ما مِن سلسلة نسب بشرية في إنجيل يوحنا، على خلاف إنجيل متى ولوقا، ولكن يعود بنا يوحنا مباشرة إلى الأزلية الماضية. "في البدء" هنا تسبق زمنياً العبارة التي ترد في (تكوين ١: ١). هناك- في التكوين- بدء الخلق، ولكن هنا نجد إشارة إلى زمن بعيد قبل بدء الخلق حيث نجد الابن في حضن الآب. عندما راح كل شيء له بداية يبدأ بالتكوّن، كان الكلمة. لاحظوا سبعة أشياء نراها أمامنا ونحن نقرأ إنجيل يوحنا:

١- أزلية كينونة ربنا: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ".

٢- شخصيته المتميزة: "الْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ".

٣- لاهوته الحقيقي: "كَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ".

٤- علاقته التي لا تحوّل فيها: "هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ".

٥- مجده الخلقي الكامل: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ".

٦- قدرته على إعطاء الحياة: "فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ".

٧- تجسده: "ﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً".

لنتابع هذه النقاط السبع بحسن انتباه. أولاً نلاحظ أزلية كينونته. وهنا تنتفي التوحيدية مهما كان نوعها. الكلمة لم يكن له بداية أبداً. الابن هو أزلي كما الآب. إن علّمْنا خلاف ذلك، فإننا بذلك ننكر أسس إيماننا نفسها. ما كان يمكن أن تكون له بداية، لأنه هو نفسه البداية والنهاية (رؤيا ٢٢: ١٣).

ولكن هذا لا يعني فقط أنه كان أزلياً في الألوهية. فالكتب تلفت الأنظار بشدة وعلى نفس الدرجة إلى أقنوميته المتمايزة. وهذا نجده ضمنياً في العبارة: "الْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ". ويخبرنا الكتاب عن الحكمة، في أمثال ٨: ٢٧: "لَمَّا ثَبَّتَ السَّمَاوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا". ومن جديد في الآية ٣٠: "كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً". الحكمة الأزلية والكلمة الأزلي هما واحد وهما نفسهما. طوال العصور الماضية كان المسيح أقنوماً متمايزاً في الألوهية. وكانت هناك شركة بين الآب والابن.

ولكن هذا لا يعني انتقاصاً أو دونية من جهة الابن. فقد كان فيه ملء اللاهوت: "كَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". فتماماً كما كان الآب هو الله والروح القدس هو الله، كذا كان الكلمة هو الله. ولا يمكن زيادة شيء على ذلك.

الآية التالية تبدو وكأنها تكرار: "هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ". إلا أنها في الحقيقة تضيف إلى ما جاء قبلها. إنها تخبرنا عن شخصانيته غير المتبدلة. فقد كان هو نفسه منذ الأزل؛ أي أنه كان الابن الأزلي. لم يصبح الابنَ عندما وُلِدَ في العالم، بل "إنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَ الاِبْنَ مُخَلِّصاً لِلْعَالَمِ" (١ يوحنا ٤: ١٤). فهو لم يصبح الابنَ بعد أن أُرسِلَ، بل كان الابنَ منذ البدء.

ويُنسبُ الخلْقُ لكل أقنوم من أقانيم الألوهية (الله). وهنا بشكل خاص يقول الكتاب: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ". وفي مكان آخر نقرأ: "الصَّانِعَ السَّمَاوَاتِ بِفَهْمٍ" (مز ١٣٦: ٥). إيلوهيم ٢ ، الله المثلث الأقانيم الواحد في الجوهر، خلق السموات والأرض. الآب خطط، والكلمة كان الوكيل، والروح القدس كان المنفّذ للمشورات الإلهية، وكما أن الكلمة هو من أوجد الخليقة الأولى، كذا فإنه هو نفسه "بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ اللهِ" (رؤيا ٣: ١٤). وهذا لا يعني أنه كان أول مخلوق خلقه الله، بل أنه هو من يوجد خليقة الله، أي الخليقة الجديدة التي ينتمي إليها كل المؤمنين.

بدونه ليس من حياة. هو نبع الحياة، وهذه تشتمل على الحياة الطبيعية والروحية. كل الحياة الطبيعية تأتي منه، ومن ناحية الحياة الروحية فمكتوبٌ: "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ" (١ يوحنا ٥: ١٢). تلك الحياة تبدّت بكل كمالها وتمامها فيه كإنسان على الأرض. "الْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ". وبينما كان يجول في هذا العالم، كان يلقي النور على كل إنسان، مُظهراً الأشياء كما يراها الله.

هذا يأتي بنا إلى النقطة السابعة، ألا وهي تجسده. "ﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً". "صار" هنا من الأفضل قراءتها "صُيّرَ" أي "جُعِلَ". ففي الحقيقة هو لم "يُصنع أو يُخلَق" أبداً، بل بنعمته واتضاعه صار جسداً لكي يكشف الآبَ للإنسان وليفتديه إلى الله.

إنجيل يوحنا مكرسٌ لهذا الغرض المضاعف. إذ نتابع صفحاته المقدسة نرى الكلمة الأزلي، وقد صار جسداً، يجول وسط الناس، ممجداً الآب في كل طرقه الكاملة، وكاشفاً فكر الله على نحو كامل، وفي نهاية الأمر مقدماً ذاته على الصليب لكي يصالح الناس مع الله ويفتديهم ويشارك الله في المجد إلى الأبد.

من المعروف جيداً أن كلمة "الكلمة" هنا هي الترجمة للكلمة اليونانية "لوغوس" (logos ). وكانت هذه الكلمة مصطلحاً معروفاً عند أهل الفكر في الفترة التي ظهر فيها ربنا على الأرض. فقد كانت كتابات أفلاطون منتشرة في كل أرجاء العالم الذي كان يتكلم اليونانية. لقد تحدث عن عدة أسرار، ولكنه كشف عن الرجاء بأنه يوماً سيأتي الـ "كلمة" ("اللوغوس") من الله الذي سيوضح كل شيء. ربما كانت هذه الفكرة في ذهن يوحنا عندما كتب هذا الإنجيل، فبتوجيه من الروح القدس، خطَّ بقلمه هذه الجمل الرائعة التي يبدأ بها إنجيله. لكأنما الله يقول: إن "الكلمة" قد نُطِقَ بها الآن. في المسيح تكشّفَ كُلُّ فكر الله. فمن يسمعه يسمع الله، إذ "فيه خُبِّئت كلُّ كنوز الحكمة والمعرفة".

إذ نُجيلُ النظر خلال الأصحاح، نلاحظ بقلوب متعبّدة مليئة بالعجب الألقابَ العديدة والمتنوعة والعبارات المستخدمة لوصفه. فهو "المسيح"، "الممسوح"، "مسيا إسرائيل". ويشير إليه يوحنا المعمدان على أنه "حمل الله"، "حامل الخطايا"، وهو أيضاً يعلن عنه "ابن الله". ويعترف التلاميذ به كـ "معلّم". وفيلبس متأكد أنه وَجَدَ في يسوع الناصري، ابن يوسف، كما فُهِمَ في تلك الحقبة من الزمان، ذاكَ الذي "كَتَبَ عنه موسى في الناموس والأنبياء". وعَرَفَ فيه نثنائيلُ "ابنَ الله"، وأقرَّ به على أنه "مَلِكَ إسرائيل". ويسوع نفسه يستخدم العبارة التي سيشيع استخدامها على شفتيه "ابن الإنسان"، ويرينا أن ابن الإنسان هذا هو مثل "سلّم يعقوب"، صلة الوصل بين الأرض والسماء، والذي كان يصعد عليه الملائكة وينزلون.

إذ نمر على هذا الإنجيل نراه يصوّر المسيحَ بكل طريقة أمكن للروح القدس أن يصوره فيها ويمكن للفكر البشري، منوّراً بالنعمة الإلهية، أن يفهمها.


١. في الترجمة البروتستانتية (سميث-فاندايك/البستاني): "هوذا فتاي".

٢. إيلوهيم/إلوهيم (Elohim ): اسم عبري بالأصل، وهو أحد أسماء الله في العهد القديم، وهو في صيغة جمع. ونلاحظ أن هذا الاسم لله يُستخدم كثيراً في سفر التكوين وفي المزامير. ويدل هذا الاسم على صفة الله كالخالق العظيم، وعلى علاقته منذ القدم مع جميع شعوب العالم من أمم ويهود [فريق الترجمة].