الخطاب ٤

شهادة يوحنا

"وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ. فَسَأَلُوهُ: «إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟» فَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا». «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟» فَأَجَابَ: «لاَ». فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ». وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا وَلاَ النَّبِيَّ؟» أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا: «أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ وَلَكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ». هَذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ. وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ. هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لَكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذَلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ». وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائِلاً: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ»" (يوحنا ١: ١٩- ٣٤).

في الرسالتين السابقتين كنا نتناول موضوع شهادة يوحنا المعمدان. أخشى أن يخفق الكثير من المسيحيين في إدراك مدى الدور الذي عهد به الله، بالروح القدس، إلى خادمه يوحنا. كثيرون منا يفكرون فيه وكأن دوره ضئيل جداً في نشر نور الإنجيل أو فهم شخص ربنا يسوع المسيح. ولكننا رأينا لتونا أنه عرف في الرب يسوع ذاك الكائنُ قبل الوجود. يقول في الآية ١٥: "كَانَ قَبْلِي"، وهذه الكلمات تتكرر في الآية ٣٠. وهكذا رأى يوحنا في الرب يسوع أنه ذاك الذي لم يبدأ حياته عندما وُلِدَ هنا على الأرض، بل ذاك الذي كانت له حياة مع الآب قبل أن تنازل بالنعمة لينحدر إلى هذا العالم ويربط لاهوته ببشريتنا، بمعزل عن الخطيئة فيها، ويُولَدَ كطفل من مريم.

إن كنتم تعتبرون أن الآيات ١٦- ١٨ قد تلفّظ بها يوحنا، فإنكم ستجدون فيها كشفاً رائعاً للحق بالفعل؛ ولكن يبدو على الأرجح أكثر أن هذه الكلمات هي تعليق الروح القدس وقد عبّرَ عنه من خلال الرسول يوحنا. هذه الآيات تشكل مقطعاً اعتراضياً، وبعدها تأتي شهادة يوحنا المعمدان من جديد في الآية ١٩، "حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: «مَنْ أَنْتَ؟»" لنفكّرْ بشكل أعمق بهذا المقطع المعترض. بدافع ملء النعمة المتجلية في يسوع، فإننا نحن الذين نؤمن، قد نلنا معونة فائقةً وافرةً تسدّ كل احتياج- نعمة فوق نعمة أو، كما يمكن أن نقرأها، نعمة محل نعمةٍ. ما هذا إلا دليلٌ تلو الآخر على نعمة الله الغنية، إذ نتابع لنعرف ونتمتع بالشركة مع ربنا المبارك، الذي كانت خدمته مختلفة جداً عن تلك التي لموسى، الوسيط والرسول للعهد القديم. فمن خلال موسى أُعطِيَ الناموس، وذلك الناموس كان كشفاً عن فكر الله، بالشكل الذي كان فيه البشر (في إسرائيل) مسؤولين عن أن يسلكوا وفقه إلى أن جاء المسيح. يقول بولس: "قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ" (غلاطية ٣: ٢٤). ولكن الآن النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ بِيَسُوعَ صَارَا، ولذلك "لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّب" (غلاطية ٣: ٢٥). إننا نرى في المسيح الإعلان الكامل عن الآب: النعمة والحق تجليا في إنسان هنا على الأرض، وذلك الإنسان كان مسرة قلب الآب. الناموس، كما أشرنا، كان حقاً ولكن كان حقاً بدون نعمة. الله نورٌ والله محبة؛ وهكذا أيضاً القداسة التي هي متوافقة مع الحق ومع النعمة، والتي تغطي كل خطيئة وتسد كل حاجة، وهذه كلها شُوهِدَتْ في يسوع. إنه الابن الوحيد، الساكن أبداً في حضن الآب، هو الذي أخبرنا عن الله بكل مجده الجوهري. الناس يتحدثون عن يسوع وكأنه ترك الأحضان الأبوية. ولكن ليست هذه لغة الكتاب المقدس. إن الحضن هو مكان العواطف. ويسوع لم يغادر ذلك المكان (حضن الآب). إنه يستمر في الوجود في حضن الآب. عندما كان هنا على الأرض، كان موضع محبة الآب حقاً، كما عندما كان في المجد الذي منه جاء ليفتدينا بموته الكفاري.

إن كان يوحنا المعمدان قد رأى كل هذا وتكلم ونطق بهذه الكلمات، فإن هذا يدل على أن معرفته بالمسيح كانت أكبر بكثير مما يُنسب إليه عموماً. ولكن، كما يبدو واضحاً، لدينا التعليق اللاحق للروح القدس، ولن ننسى أن كل شيء كان حقيقياً في يسوع حتى في أيام يوحنا.

لنتابع الآن المزيد من شهادة المعمدان.

لقد لفت (المعمدان) انتباهَنا بشدة بكرازته وتعميده للناس. في كل أرجاء أرض فلسطين كان الناس يتحدثون عن هذا النبي الغريب الذي ظهر في البرية وكان يجتذب جموعاً كبيرة خلفه. لقد كان يوبّخ الخطيئة والتعديات بشدة، ويدعو الناس إلى معمودية التوبة، ويعلن اقتراب ملكوت الله على الأرض. كثيرون آمنوا برسالته وأظهروا إيمانهم بأن اشتركوا في المعمودية كمثل أولئك الذي استحقوا الموت. وكان الناس يتأثرون في كل مكان.

أرسل اليهود بعض القادة المهمين إلى أورشليم لِيَسْأَلُوهُ: "«مَنْ أَنْتَ؟» فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ". لقد كان يعرف أن كثيرين كانوا يعتقدون أنه المسيا الموعود الذي طالما انتظروه والذي كان من المزمع أن يأتي بالسلام. ولكنه قال: " لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ. لستُ الموعودَ". فقالوا: "«إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟»". فلماذا سألوه هكذا؟ قبل مجيء يوحنا إلى العالم بأربعمئة سنة جاء أحدهم وتنبّأ قائلاً: "هَئَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوف، فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ" (ملاخي ٤: ٥، ٦). ولذلك سألوه: "إِيلِيَّا أَنْتَ؟ أأنت من سيأتي برسالة التحذير من الدينونة؟" فيقول يوحنا المعمدان: "لَسْتُ أَنَا". ومع ذلك فإنكم تتذكرون أن الرب يسوع المسيح نفسه عندما سأله التلاميذ حول إذا ما كان يجب أن يأتي إيليا أولاً ١ ، حيث أجاب قائلاً: "إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضاً قَدْ أَتَى وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ" (مرقس ٩: ١٣). وفهموا من كلامه أنه كان يتكلم عن يوحنا (المعمدان). لقد جاء بقوة وروح إيليا.

ولكن يوحنا أكّد أنه ليس إيليا شخصياً. وما كان ليوجّه الأنظار إليه. فقد كان قد أتى ليوجّه الناس إلى شخص آخر. وبعد ذلك سألوه: "«أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟»" فما معنى ذلك؟ لمن كانوا يشيرون؟ كُتِبَ في تثنية الاشتراع أن موسى قال: "يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً .... مِثْلِي" (تثنية ١٨: ١٥). وقال الله: "أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الذِي لا يَسْمَعُ لِكَلامِي الذِي يَتَكَلمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ" (تثنية ١٨: ١٨، ١٩). هذه الكلمات تشير إلى المسيح، وليس إلى يوحنا المعمدان. وهنا أيضاً يوضح المعمدان أنه ليس المعني بهذا الحديث. فسألوه: "«مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟»" ما كان يوحنا يتكلم عن نفسه أبداً. نحن نحب أن نتكلم عن أنفسنا أما يوحنا فلم يكن هكذا. فما كان يتكلم عن نفسه. ولم يحاول أن يلفت انتباه الناس إليه. لقد جاء ليوصلهم إلى ذاك الآتي. ولذلك فعندما سألوه: "مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟" أجاب قائلاً: "«أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ»". لا يمكنك أن ترى الصوت. يمكنك أن تسمعه، ولكنك لا تستطيع أن تراه. "أنا مجرد صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ".

الأصحاح ٤٠ في أشعياء يبدأ بهذه الكلمات: "عَزُّوا عَزُّوا شَعْبِي يَقُولُ إِلَهُكُمْ. طَيِّبُوا قَلْبَ أُورُشَلِيمَ وَنَادُوهَا بِأَنَّ جِهَادَهَا قَدْ كَمِلَ أَنَّ إِثْمَهَا قَدْ عُفِيَ عَنْهُ أَنَّهَا قَدْ قَبِلَتْ مِنْ يَدِ الرَّبِّ ضِعْفَيْنِ عَنْ كُلِّ خَطَايَاهَا" (أشعياء ٤٠: ١، ٢). أي أن خطاياها قد دُفِعَ ثمنها، في إشارة إلى العمل الكفاري لربنا يسوع المسيح. وهكذا يعلن النبي آنذاك إنجيل العزاء لشعب الله. في الآية ٣ نقرأ: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا". طريق من كان يجب إعدادها؟ طريق الرب. ومن هو الرب؟ "سَبِيلاً لإِلَهِنَا".

وإذاً تحدث يوحنا وبكل إدراك عن حقيقة أن الآتي هو الله متجلياً في الجسد. إذ عندما يقول: "أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ"، نجده يستخدم كلمة "يهوه" للإشارة إلى الرب. هذا الإنسان المتواضع، يسوع الناصري، الذي ظهر وسط الناس، لم يكن سوى الرب يهوه نفسه الذي جاء لفداء الخطاة البائسين. ولكن دعونا نتابع الإعلان الذي يذيعه أشعياء: "صَوْتُ قَائِلٍ: «نَادِ»" (أش ٤٠: ٦). فسأل: "بِمَاذَا أُنَادِي؟"، وأجاب الرب: "كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ الْحَقْلِ. يَبِسَ الْعُشْبُ ذَبُلَ الزَّهْرُ لأَنَّ نَفْخَةَ الرَّبِّ هَبَّتْ عَلَيْهِ. حَقّاً الشَّعْبُ عُشْبٌ! يَبِسَ الْعُشْبُ ذَبُلَ الزَّهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ" (أش ٤٠: ٦- ٨).

لعلك تقول: "لماذا لا نجد الكثير من العزاء في هذا؟" ظاهرياً معك حق فيما تقول. ولكن كانت هذه هي الحال دائماً في الطريقة التي يبدأ بها الله بتعزية الناس. الناس متكبرون جداً وكثيرو النسيان لإثميتهم. ضمائرهم خاملة جداً لدرجة أن الله إذا ما أراد أن يفعل شيئاً لأجل البشر، فإنه يضطر لجعلهم يدركون ضآلتهم وخطيئتهم. ومن هنا فإن الرسول بطرس ربط هذا المقطع بالإنجيل وبالولادة الجديدة. "لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ،وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ. وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا" ( ١ بطرس ١: ٢٤، ٢٥). ما حاجتنا إلى الولادة الجديدة؟ ذلك لأن "اَلْمَوْلُود مِنَ الْجَسَدِ جَسَد هُوَ" و "كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ". لماذا نحتاج إلى حياة جديدة؟ لأننا تحت الدينونة وهذه الحياة سرعان ما تنقضي وسنقابل الله لا محالة. "وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ" (عب ٩: ٢٧). لتدخل هذه الكلمة إلى أعماق نفوسنا. ولتوبخْنا على كبريائنا وثقتنا بكفاءتنا الذاتية. كل مجد الإنسان- كل الأشياء التي يُسَرُّ بها البشر أكثر ما يمكن- ما هي إلا زهرة سرعان ما تذوي. كم نحتاج إلى حياة من الله! "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ" (١ يوحنا ٥: ١٢).

وهكذا يرى يوحنا المعمدان في الأصحاح ٤٠ من أشعياء نبوءة تشير إليه. فيقول: "هذا هو أنا: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ". أولئك الذين أتوا كانوا من الفريسيين واستمروا في استجوابه. ما كانوا راضين. وتابعوا طرح السؤال تلو الآخر عليه ولم يتريثوا للتفكير في الإجابات. ما كان يهمهم أن يعرفوا حق الله. واستأنفوا طرح سلسلة جديدة من الأسئلة. "«فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا وَلاَ النَّبِيَّ؟»". لم يحاول يوحنا الدفاع عن نفسه أو أن يفسّر لهم، إذ كان يعلم موقفهم الجاحد الرافض للإيمان. لقد اكتفى بالقول: "«أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ وَلَكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ»". من الواضح أنه بهذا الجواب مضى هؤلاء الفريسيون في طريقهم. فما كان لديهم اهتمام حقيقي بهذه المسألة التي كانت تقلق فكر وضمائر الآخرين.

أما الآن، ففي القول التالي في المقطع نجد يوحنا يعلن إحدى أهم حقائق الإنجيل. "فِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ". ما من شك في أنه كان بين الفينة والأخرى يلقي نظرة إلى تلك الحشود ويتساءل: "ألم يأتِ بعد؟ أما حان وقت استعلانه بعد؟" ولكن يوماً فيوماً لم يكن هناك صوت يجيب سؤال قلبه. وها هو الآن يرى يسوع قادماً نحوه وروح الله يقول له: "ها هو ذا يا يوحنا". فهتف يوحنا في الحال: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ".

هل فكرتم يوماً في معنى هذا الكلام؟ طوال السنين والأجيال كان بنو إسرائيل يعرفون عن الحمل الكفاري. عرفوا ذلك منذ سنوات كثيرة عندما كان إبراهيم وإسحق صاعدين إلى الجبل، التفت إسحق إلى وجه والده وقال: "هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ وَلَكِنْ أيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟" (تكوين ٢٢: ٧). فقال إبراهيم: "اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي". وبعد ذلك عرفوا أن الله، عندما كان إسرائيل على وشك الخروج من مصر، قال: "اسْحَبُوا وَخُذُوا لَكُمْ غَنَما بِحَسَبِ عَشَائِرِكُمْ وَاذْبَحُوا الْفِصْحَ. وَخُذُوا بَاقَةَ زُوفَا وَاغْمِسُوهَا فِي الدَّمِ الَّذِي فِي الطَّسْتِ وَمُسُّوا الْعَتَبَةَ الْعُلْيَا وَالْقَائِمَتَيْنِ بِالدَّمِ الَّذِي فِي الطَّسْتِ. وَانْتُمْ لا يَخْرُجْ احَدٌ مِنْكُمْ مِنْ بَابِ بَيْتِهِ حَتَّى الصَّبَاحِ. انَّ الرَّبَّ يَجْتَازُ لِيَضْرِبَ الْمِصْرِيِّينَ. فَحِينَ يَرَى الدَّمَ عَلَى الْعَتَبَةِ الْعُلْيَا وَالْقَائِمَتَيْنِ يَعْبُرُ الرَّبُّ عَنِ الْبَابِ وَلا يَدَعُ الْمُهْلِكَ يَدْخُلُ بُيُوتَكُمْ لِيَضْرِبَ" (خروج ١٢: ٢١- ٢٣). وعرفوا ذلك أيضاً من خلال خدمة الهيكل، ففي كل صباح وكل مساء كان يُوضَع حملٌ على المذبح كمحرقة. وكان أشعياء قد تنبّأ عن ذاك الذي سيُقاد كشاة إلى الذبح، ليصير ذبيحة عن الخطايا. وأخيراً جاء ذاك الذي تحدثت عنه النبوءات، وأعلن يوحنا قائلاً: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ". لقد عرف في يسوع أنه هو من تكلمت عنه كل شهادات الأنبياء وأن فيه تحقيق كل رموز الناموس. لاحظوا كيف يتكلم عن الكفارة البدلية: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ". لقد كان يعرف أن أشعياء ٥٣ كان مكتوباً عن حمل الله: "هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أش ٥٣": ٥). وجاء أخيراً بحسب كلمة الله.    ولنلاحظ ما يلي: لا يقول يوحنا "خطايا" بل "خطية" (العالم). يستعمل كلمة "خطية" بالمفرد. أعتقد أنكم ستجدون أن الناس عندما يحاولون الاستشهاد بهذه الآية فإنهم يستخدمون عموماً كلمة "خطايا" العالم. إن الخطايا هي مجرد تأثيرات ناجمة عن سبب، وحمل الله قد جاء، ليس فقط ليرفع خطايا الأفراد بل أيضاً ليرفع أو يعالج مسألة الخطية ككل. قال الرسول بولس أن الله "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَاِ" (٢ كورنثوس ٥: ٢١). ليس هو حامل تعدياتنا وآثامنا وحسب، وهو لم يكفّر عن جميع أعمال خطيئتنا وحسب، بل مات من أجل ما نحن عليه كخطاة بالطبيعة. وسأقول لكم شيئاً قد يجعلكم تفقدون الثقة بي: "لقد كنتُ مذنباً بخطايا كثيرة وجبَ علي بسببها أن أُقْبِل إلى الله لأعترف بها، وأعرف أن كل تلك الخطايا قد غُفِرَتْ لي. ولكني لا أزال أسوأ مما كنتُ قبلاً". هل ستثقون بي الآن؟ إني أعني ما أقول. ففي داخل هذا القلب ميول نحو الخطيئة أسوأ من أي فعل خطيئة قد ارتكبتُ على الإطلاق. وهذا ينطبق علينا جميعاً. نحن خطاة بالطبيعة. والخطية تسكن فينا. لقد مات المسيح ليرفع الخطية، وليس الخطايا وحسب، بتقديم نفسه ذبيحة. لدينا في داخلنا ذلك الشيء الذي يدعوه الله "خطيئة في الجسد". لقد أخذ الله كل ذلك بعين الاعتبار عندما عُلِّقَ المسيح على الصليب. لقد مات المسيح بسبب ما كنا عليه. لقد أخذ مكاننا. وجُعِلَ خطيةً لأجلنا، وأُزيلَتْ الخطيئة، كعائق، وصار في مقدور أسوأ وأشر الخطاة أن يأتي إلى حضرة الله ويجد غفراناً. هل تعرف حمل الله هذا الذي يرفع خطية العالم؟

بعد ذلك يقول يوحنا: "هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ". من الواضح أنه كان في الخارج في الجماعة حيث كان يسوع، ولكنه لم يفهم أن هذا هو المسيا حتى الآن. إنه "لم يعرفه"، "لَكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذَلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ. وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائِلاً: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ"- لاحظوا أن هذا الحادثة تقع بعد المعمودية، التي لا يُشار إليها هنا، ولكنها تُذكر في أناجيل أخرى- "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ". العمل العظيم الذي كان يوحنا قد أُرسِلَ ليعمله كان يقترب من نهايته، وها هي الذروة: "أَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ". أتعلم هذا يا صديقي العزيز؟ هل وضعتَ ثقة إيمانك به؟ إن كنتَ لم تفعل ذلك بعد، أفلا تأتي إلى الله وتقر بخطيتك؟ "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ".


١. (مرقس ٩: ١١، ١٢).