الخطاب ٤٢

التطهير بالماء

"أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى. فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ. يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا. فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ». فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضاً قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ. لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ" (يوحنا ١٣: ١- ١٧).

نبدأ، مع هذا الأصحاح الثالث عشر، دراسة الجزء الثاني من إنجيل يوحنا. لقد رأينا في الأصحاحات الاثني عشر الأولى الرب يسوع يقدم نفسه إلى العالم بكل جانب أمكن للروح القدس أن يصوره فيه للرجال والنساء، لكي يبكتهم على خطيتهم ويأتي بهم إلى معرفته على أنه مخلصهم. والآن ندخل إلى القسم الثاني العظيم من هذا الإنجيل، فنرى ربنا يظهر نفسه لتلاميذه ولأولئك الذين اقتبلوا شهادته وقبلوه رباً ومخلصاً. إنهم هم الذين يُشار إليهم في هذه الآية بالقول "خاصته".

ونقرأ: "أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ". طوال الأيام كان يتطلع إلى هذه الساعة؛ ساعة يمضي إلى الصليب ليُصار خطيئةً لأجلنا، ولينتقل من الصليب إلى القبر، صعوداً إلى المجد هناك. يسوع، وإذ كان يعلم أن الوقت المعين قد أتى ليذهب إلى الآب، "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". لقد رأينا كيف جاءت عبارة "إلى خاصته" في الأصحاح الأول. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". أي إلى بلده، وإلى مدينته. كل ما في هيكله كان يرمز إلى مجده. ولكن شعب العهد، غالبية شعب إسرائيل، لم يقبلوه. "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ". وهؤلاء هم الذين يشير إليهم التعبير "خاصته". "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ". لقد كانوا خاصته بخمس جوانب لهذا المعنى: (١) إنهم خاصته بالخلق؛ فهو من أتى بهم إلى الوجود. الحياة نفسها التي لدينا آتية منه. (٢) وأكثر من ذلك، فإنهم خاصته بالفداء؛ لقد مضى إلى الصليب ليبتاعهم. بالطبع، لم يكن قد مات بعد عندما شارك هذه المجموعة الصغيرة أسراره في العلية، ولكنه ينظر إلى الصليب وكأنه صار في الماضي. لقد جاء لأجل هذا الهدف. وبالدرجة الثالثة (٣) إنهم خاصته بعطية من الله الآب. في الأصحاح ١٧ من هذا الإنجيل، يتحدث يسوع إلى الله الآب، أب "اِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ". نحن الذين خلصنا أُعطينا للابن بالآب. بهذا المعنى نحن خاصته. وأكثر من ذلك، (٤) نحن خاصته بالحق. كان عليه أن يعمل في قلوبنا وضمائرنا مبكتاً إيانا على الخطيئة، وهذه أدت إلى توبتنا تجاه الله، وإيماننا بالرب يسوع المسيح. وهكذا وُلِدنا بالروح القدس وجُعِلنا أبناء الله. (٥) ثم أننا خاصته بإذعاننا: نعمته هي التي أنهت تمردنا وكبلتنا بسلاسل المحبة إلى قدميه. لذلك فإننا ننتمي إليه بهذا المعنى الخماسي الجوانب.

جميع المؤمنين مشمولون بهذا العدد الذي يقول عنه الروح القدس: "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". ترجم أحدهم ذلك التعبير الأخير كما يلي: "أحبهم بكل شيء". بكل ماذا؟ بكل شيء. لقد أحب بطرس بكل شيء رغم تبجحه وإخفاقه، وأحبه إلى أن انتصر إيمانه وإخلاصه. والحمد لله، عندما يهتم لشأن خاطئٍ بائس بالنعمة، فإنه يحبه بكل شيء. ويمكن أن نقول عن كل مسيحي: "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". "الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ".

والآن نتعلم من هذا الأصحاح شيئاً عن كيفية اعتنائه بخاصته. بعد أن خلصتنا نعمته من الدينونة، نرى كيف يُحيط قديسيه بعنايته ويُطهر أقدامهم إذ أنهم يسيرون وسط عالمٍ ملوث. بمعنى آخر، لدينا هنا مثل مطبق عملياً . إنه يصور تلك الخدمة التي كان منشغلاً بها لأكثر من عشرين قرن منذ عودته إلى المجد.

"فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ". يا للشفقة! يهوذا، الذي سار مع الرب لثلاث سنوات ونصف، وسمِع كلمات نعمته، ورأى أعمال قدرته، وعاين حياته الرائعة، بقي قلبه بعيداً ولم يربحه المسيح. لقد كان يسوع يعرف كل شيء عنه؛ فهو لم ينخدع به. الرب يسوع قال عنه "ألم أختركم أنتم الاثني عشر، وأحدكم شيطان؟" يهوذا لم يتجدد. قلبه المتقسي لم يتقد بالمحبة للمسيح. لقد كان أحد الاثني عشر، ولكنه لم يكن أحد أولئك الذين ولدوا ثانية بالفعل. هذا يُظهر كيف أن المرء قد يكون متديناً بشكل مؤقت ويكون تحت أفضل تعليم ويرى أدلة قاطعة تبرهن تدخل القدرة الإلهية، ومع ذلك فإنه لا يأتي حقاً إلى الله على الإطلاق كتائب خاطئ ويعترف بالمسيح رباً. إن سلوك يهوذا قد ينطبق على أي واحد منا، ويُحذرنا ويدفعنا إلى أن نتفحص أنفسنا لنرى إن كنا في الإيمان أم لا.

يهوذا على وشك أن يُسلمه. وعلى ضوء ذلك نقرأ: "يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي". لنترك هذه الكلمات تغوص إلى قلوبنا. كان يسوع يعرف أن الآب قد وضع بين يديه كل الأشياء. وفيما بعد نسمعه يقول: "لقد أعطي لي كل سلطانٍ في السماء وعلى الأرض". وأيضاً: "اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ، وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ".

تذكرون في العهد القديم، في سفر التكوين، العبد الذي نزل ليأتي بعروس إلى اسحق، فقال لوالدي رفقة: "لقد أعطى سيدي كل ما يملك لاسحق" ، وهكذا وضع الله كل شيء في يد الرب يسوع المسيح. "يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي". وفي صلاته كرئيس كهنة عظيم قال: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم". لقد جاء من الآب. وكما قال ميخا: "مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل". لقد جاء من مجد الله الأكمل إلى صليب الجلجلة، ثم عاد إلى الله، وهناك يجلس على يمين الآب ليصنع شفاعة لأجلنا.

ومن منظار كل ذلك، يأخذ مكانة الخادم. "قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا". إن ربنا المبارك، ذاك الذي له السيادة والسلطان على الكون، يأخذ مكان عبد. لقد انتقل من واحد إلى آخر من تلاميذه ليغسل أقدامهم الملوثة الدنسة. لقد كان مألوفاً في البيوت في تلك الأيام ان يفعلوا ذلك عندما يُراد إكرام وفادة الضيف. كان يأتي خادم ويغسل قدميه. ولكن لم يكن هناك أحد يقوم بذلك للتلاميذ أو ليسوع، ولذلك فإن يسوع يأخذ دور الخادم. ذاك الذي تنازل ليأخذ صورة إنسان فقير بائس، يئتزر بمنديل، ويتنقل من تلميذ إلى آخر ليغسل أقدامهم. وإذ يفعل ذلك، يراقبه سمعان بطرس. إنه يراه منتقلاً من تلميذ إلى آخر من أصحابه، فيغسل ويمسح أقدامهم. امتلأ قلب بطرس بالسخط. "لماذا يسمح له يوحنا بأن يقوم بهكذا فعلٍ متّضع، كما توما ومتى؟ سأنتظر حتى يأتي إلي. وسوف لن أسمح للرب بأن يذل نفسه على هذا الشكل عند قدميه". وأخيراً جاء إلى سمعان بطرس، وقال بطرس: "يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!" وفي النص الأصلي يستخدم الضميرين التوكيديين هنا: "يَا سَيِّدُ أَأنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ أنا؟" وفي هذا يضع بطرس نفسه في تقابلٍ وتضاد مع يسوع المسيح. ولكن لنصغِ إلى جواب يسوع. إنه يستخدم الضميرين التوكيديين هو نفسه أيضاً: "أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ". "يا بطرس، إني أفعل شيئاً لست تفهمه الآن". لو كانت فقط مسألة غسل أرجل التلاميذ بماءٍ حرفياً بمعنى الكلمة، لكان المعنى واضحاً لبطرس. لقد كان يقوم بعمل الخادم، مُطهراً أقدامهم. إلا أن يسوع يقول: "لا، يا بطرس؛ ثمة صورةٍ هنا. وأنت لم تفهم بعد". "مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ". متى سيكون هذا الـ "فيما بعد"؟ متى سيفهم بطرس معنى هذه حقاً ويعرف قصد المسيح من غسل رجليه؟ ذلك سيكون بعد سقوطه في قذارة وحمأة الخطيئة، بعد تجبنه وإنكاره للرب وأنه لا يعرف الرجل. فعند ذلك يسوع هو الذي سعى إليه ووضع ماء الكلمة على أقدام بطرس النجسة، وجعله أهلاً من جديد ليسير في الشركة مع الرب. ولكن الآن لم يفهم بطرس، ويشير يسوع إلى أن الفهم سيأتي في المستقبل. قال بطرس، بدون إدراك، ومن جديد وبتأكيدٍ أكبر: "لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!" وكما تعلمون فإن هذه الجملة لا تدل على معنى إيجابي كثيراً. "لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!". ولكن يسوع أجابه، وأعتقد أن كان هناك حنانٌ رائعٌ في صوته إزاء توكيد بطرس بصوت مرتفع، فقال له في حنوٍ كبير: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ". أفلا نأخذ هذه الكلمات ونطبقها على أنفسنا؟ لأنها في الواقع ليست موجهة لبطرس فقط، بل إنها لكل المؤمنين إلى منتهى الدهر. إن يسوع يقول لك، يا صديقي، ولي، ولكل واحدٍ منا: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ".

والآن لاحظوا ما لم يقله يسوع، ولاحظوا ما قاله فعلاً. هو لم يقل: "إن لم أغسلك ليس لك فيَّ نصيب". بل قال: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ". ما الفرق بين "فيَّ نصيب" و "مَعِي نَصِيبٌ"؟ حسنٌ. إن "فيه نصيب" هي الحياة، وبطرس لديه لتوه حياة مقدسة. لقد كان لتوه "فيه". وأن تكون في المسيح هي بعكس أن تكون في آدم. نحن في المسيح بالولادة الجديدة. وبطرس ولد لتوه لله. تلقى الرب لتوه مخلِّصاً له، وهكذا فإنه كان فيه. ولكن يسوع يقول الآن: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ"، و"معه" يعني الشِركة. "معه" يعني الرفقة. كل مؤمن مرتبط بالرب يسوع المسيح برابطين. هناك رباط الوحدة، ورباط الوحدة قوي لدرجة أن ثقل العالم لا يمكن أن يحطمه. يقول: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي". لعله يمكننا أن نترجمها على النحو التالي: "سوف لن تهلك، ولا بأي شكل من الأشكال، وسوف لن ينتزعها أحد من يدي". ذلك هو رابط الاتحاد.

ولكن هناك أيضاً رابط التواصل ورابط التواصل ضعيف لدرجة أن أقل خطيئة غير معترف بها ستكسره في لحظة، والطريقة الوحيدة التي يمكن إصلاحه بها هي بالاعتراف وبترك الخطيئة التي أدت إلى قصمه.

وهكذا يقول يسوع: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ". ويقصد بذلك: "إن لم أغسل قدميك يومياً من النجاسة التي تلصق على الدوام بأقدام المرء فلا يمكن أن تكون لك شركة معي". هل من أمر أعظم وأثمن من معرفة أن باستطاعتك أن تعترف له بكل شيء؟ يمكنك أن تخبره عن كل تجاربك وصعوباتك وأفراحك، الخ. يمكنك أن ترفع إليه الشكر والتسبيح. إنه لأمر في غاية السهولة أن نذهب إليه مع مشاكلنا واضطراباتنا ومحنتنا وأن نُعبر أمامه عن أحزاننا وقلقنا- وعلينا أن نفعل ذلك. إنه يدخل إلى كل تلك معنا. مكتوبٌ: "في كل ضيقهم تضايق". ولكنه سيجعلنا نتشارك أفراحنا معه أيضاً عندما تكون الأمور سارة ومُبهجة، وأن نخبره عن كل تلك الأشياء التي تملأ قلبنا بالبهجة. ولكن لا يمكننا أن نفعل ذلك وأن نحظى بالشركة معه إن كنا نجسين بالخطايا التي لا نعترف بها. يجب أن نكون أنقياء لنتمتع بالشركة مع المسيح. "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ".

والآن يذهب بطرس إلى الحد الأقصى. فيقول: "يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي". لكأنه يقول: "يا رب، لم أفهم، ولكن إن كان النصيب معك يعني أن أغتسل على يدك، فلن أُعارضك من بعد. يمكنك أن تعطيني إغتسالاً كاملاً إن أردتَ". ولكن يسوع يقول: "لا، يا بطرس؛ ها إنك تخطئ من جديد. ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ؛ وأنتم أنقياء أطهار، ولكن ليس كلكم. لأنه كان يعرف من سيُسلمه؛ لذلك قال: "وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ". لم يعرف يهوذا أبداً تطهير التجدد ذاك. ما الذي يخبرنا به المخلص هنا؟ ولماذا؟ عندما يخفق المسيحي ويتدنس في الفكر أو الفعل أو القول، فبذلك لا يتوقف عن أن يكون مسيحياً؛ لا يفقد صفته كابنٍ لله ولا يتوجب عليه أن يبدأ كل شيء من جديد، بل يحتاج بكل بساطة إلى أن يغسل قدميه- إنه في حاجة إلى أن يغسل سلوكه ومسيره.

يشعر الكثير من المسيحيين الأعزاء من ذوي الضمائر النقية بأنهم إذا ما أخطأوا فإن كل شيء ينتهي ويصيرون ضالين ساقطين هالكين من جديد. عدو نفوسنا يأتي إلينا ويقول: "لقد انتهى بك الأمر الآن. عليك أن تبدأ كل شيء من جديد". بعض الناس الأعزاء يخلصون مراراً وتكراراً. أذكر حادثةً طريفة لو لم تكن محزنة جداً. خرج فتى عزيز علي إلى أمام الكنيسة حيث كنت أعظ. واعترف وشعرنا أنه صار لدينا مهتدٍ جديد وابتهجنا به كثيراً. بعد أن صلينا معه وقلنا له عبارات كتابية مشجعة ومطمئنة جاء إليه أحد أصدقائه وقال: "يسرني أن أراك هنا من جديد. ولكن كم من مرة قد اهتديت حتى الآن؟" فقال: "آهٍ، مع هذه المرة يصبح العدد ٩٩ مرة". يا صديقي العزيز البائس! كان لديه ضمير نقي لدرجة أنه فكر أنه في كل مرة يخطئ عليه لأن يتجدد ثانية. بمعنى آخر، كان يحاول أن يحصل على اغتسال كامل كلما تدنس. "ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ".

أترى؟ في تلك الأيام كان رب البيت الغني لديه حمام في مركز الباحة وعندما كان يستيقظ في الصباح كان يثب إلى المسبح ويحصل على تطهير كامل. ثم كان يخرج مُنتعلاً حذاءً مفتوحاً، وإذ كانت شوارع تلك المدن الشرقية قذرة، فعندما كان يعود إلى البيت، كان يأتي أحد خدامه ويغسل قدميه. ما كان في حاجة إلى حمام كامل كلما عاد إلى البيت، بل كان يكفي أن يغسل قدميه.

عندما نتطهر بدم المسيح الثمين فإننا نغتسل كلية ونهائياً. وهذا لا ينبغي أن يتكرر. "دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية". أي أنه يُطهرنا بشكل مستمر. فنحن دائماً أنقياء طاهرين بهذا المعنى.

ولكن الآن، "ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ"، والرجلين تشيران إلى مسيرنا. ونقرأ: "أرجل أتقيائه يحرس"، ولذلك فكل مرة نخفق فيها، كمؤمنين، فعلينا أن نتجه إلى ربنا المبارك ونقول: "طهرني بغسل الماء بالكلمة". ونقرأ في أفسس ٥: ٢٥، ٢٦ "أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدسها، مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة". تلاحظون أن كلمة الله مرتبطة دائماً بالماء. في المزمور ١١٩: ٩ نقرأ: "بم يزكي الشاب طريقه؟ بحفظه إياه حسب كلامك". لنفترض أن يدي قد صارت نجسة دنسة. فما الذي أفعله؟ أذهب وأغتسل بالماء وبعد الاغتسال بالماء يزول الدنس. عندما يصبح قلبي وضميري مدنساً، ما الذي أفعله؟ أدع الرب المبارك يغسلني بماء الكلمة. "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم". إن كلمة الله هي الماء الذي نسكبه على قلوبنا وضمائرنا فيطهرنا من كل نجاسة.

كان يسوع يدرك حقيقة أنه ليس كلهم قد تلقوا الاغتسال الأولي. ويهوذا لم يعرف ذلك الاغتسال. "لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ". لم يغتسل يهوذا بالمسيح على الإطلاق. ثم بعد ان غسل أقدامهم وأخذ ثيابه وجلس قال: "أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟" حسناً، بالطبع رأوا ما صنع لهم، ولكنهم لم يفهموا الدرس وراء ذلك بعد. لذلك قال: "أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟" "أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ".

هلّا تلاحظون هنا شيئاً أخشى أن كثيرين من المسيحيين يغفلون عنه؟ إنه يقول: "أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ". ماذا تدعونه؟ لقد استحسن أن يدعوه تلاميذه "معلم" و "رب". هل لاحظت ابداً هذا لدى قراءة العهد الجديد أنه ما من أحد من الناس حتى المقربين يدعو يسوع باسمه الشخصي؟ لم نقرأ أبداً أن بطرس ناداه بـ "يسوع" عندما كان يخاطبه. ولم نقرأ أن يوحنا ناداه هكذا. وأنتم بالتأكيد لم تقرأوا أن أحداً ناداه بـ "يسوع الحبوب"، "يسوع الحلو"، الخ. وهذا الأمر له مغزى. أليس كذلك؟ كيف كانوا يخاطبونه؟ كانوا يقولون: "يا معلم"، "يا رب"، "يا سيدي"، "يا إلهي"، الخ. فقد امتدحهم لأجل ذلك. "أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ". كلما أرشدنا الروح القدس في صلواتنا فإننا نُمجده ونُعظمه عندما نخاطبه سيقودنا إلى التعرف عليه كرب. بعض الناس يخاطبون مخلصنا بطريقة تقلُّ احتراماً عن مخاطبتهم لرئيس الولايات المتحدة. إذا ما تم تقديمك إلى الرئيس فإنك لن تدعوه باسمه. سوف لن تجرؤ على ذلك. سوف تستخدم بعض عبارات التقدير والوقار والاحترام اللائقة بمنصبه. ولن تفعل خلاف ذلك. حسنٌ، عندما تخاطب مخلصك في المرات القادمة، تذكر أنه وغن كان اسمه يسوع إلا أنه معلمنا وربنا، والروح القدس يحب أن نُعظمه ونُمجده (ليسوع).

"أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً وَحَسَناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ". ما الذي يقوله لنا هنا؟ بعض الأعزاء، بعض الأتقياء الذين لم أجد لهم مثيلاً، يعتقدون أن الرب كان يؤسس لطقس مسيحي ثالث، ولذلك يحفظون من وقت إلى آخر تقليداً يدعونه "غسل الأرجل". ولكن أخشى أن ينسى المرء أحياناً أن يسوع قال: "لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ". لو كانت مسألة غسل أقدام حرفياً بالماء لكانوا عرفوا جميعاً بما يجري. ولكن يسهل أن يُساء فهم المعنى الحقيقي من وراء هذا التصرف.

كيف نغسل أقدام بعضنا البعض؟ وما هو ذلك الماء؟ ذلك الماء هو الكلمة. إلام ترمز أقدامنا؟ إلى طرق سلوكنا. إننا نغسل أقدام بعضنا البعض عندما نطبق كلمة الله على طرقنا. عندما يزل أحد المسيحيين قليلاً ربما تقول: "لقد كان مسيحياً مثالياً على نحو رائع، إلا أنه غدا الآن دنيوياً أكثر". ولكن ما الذي ستفعله حيال ذلك؟ يمكنك بكل بساطة أن تتجاهل الأمر وأن تتجاوزه، أو يمكنك أن تنتقده وتقول أشياء غير لطيفة؛ ولكن ما من طريقة من هذه ستكون مفيدة. يمكنك أن تذهب على الأخ أو الأخت المعني وأن توضح له بحنوٍ من كلمة الله الخطأ الذي يرتكبه، الخطيئة التي يسقط فيها. يمكنك أن تريه كيف أن حياته صائرة إلى النجاسة. وهكذا تغسل أقدامه. هل حاولت ولو مرة أن تغسل أقدام أخيك؟ هناك نص كتابي يقول: "لا تبغض أخاك في قلبك. إنذاراً تنذر صاحبك ولا تحمل لأجله خطية" (لاويين ١٩: ١٧). إن الأمر يتطلب نعمة أن تكون مخلصاً صادقاً لطيفاً. يقول البعض لي: "حسنٌ. لقد حاولت، ولكن لم أستفد شيئاً". نحن في حاجة لنعمة كبيرة لنغسل أقدام بعضنا البعض. إن كنت ستغسل أقدام أقاربك، فعليك أن تكون منتبهاً إلى درجة حرارة الماء. سوف لن تذهب إلى أي شخص وتقول له: "ضع قدميك في هذا الدلو الذي يحوي ماءً يغلي، وسأغسلهما لك". والماء المجلد هو بنفس السوء. بعض الناس يأتون غليك بطريقة تجعلك تنفر مبتعداً عنهم. البعض يكونون حارين، والبعض بارد أو مجلد أو رسمي. لا يروق لك أي منهم؛ أليس كذلك؟ الأمر الملائم هو ما يلي: عندما ترى أخيك يخطئ، أدخل إلى حضرة الله وصلِّ لأجله. ثم تذكر الكلمة التي تخبرنا في غلاطية ٦: ١ أن "أيها الإخوة، إن انسبق إنسان فأخذ في زلة ما، فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظراً إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضاً". عندما تذهب إلى أخيك على هذا النحو محاولاً أن تطبق كلمة الله بإخلاص، فإنه سيكون في حالة سيئة جداً إن لم يُصغِ إليك. إن لم يكن مستعداً، يمكنك أن تستمر في الصلاة لأجله وأن تنتظر إلى أن يسمح الله لك بأن تساعده.

"اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ".