الخطاب ٣٦

إنسان يموت عن الأمة

"فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعاً وَقَالُوا: «مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا». فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ قَيَافَا كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ: «أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً ولاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا». وَلَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ. فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ. فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضاً يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ علاَنِيَةً بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا أَفْرَايِمُ وَمَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ. وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً. فَصَعِدَ كَثِيرُونَ مِنَ الْكُوَرِ إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبْلَ الْفِصْحِ لِيُطَهِّرُوا أَنْفُسَهُمْ. فَكَانُوا يَطْلُبُونَ يَسُوعَ وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَهُمْ وَاقِفُونَ فِي الْهَيْكَلِ: «مَاذَا تَظُنُّونَ؟ هَلْ هُوَ لاَ يَأْتِي إِلَى الْعِيدِ؟» وَكَانَ أَيْضاً رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْراً أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ" (يوحنا ١١: ٤٧- ٥٧).

لقد تأملنا في إقامة لعازر، تلك الحادثة التي تُعتبر الأعظم بين آيات ومعجزات وعجائب ربنا يسوع الدالة على قدرته على الغلبة على الموت، والتي تثبت أنه كان بالفعل المسيا الذي كان سيأتي إلى العالم ليس فقط ليُعتق بني إسرائيل، بل ليكون وسيلة بركةٍ لكل الأمم و لتحقيق الوعد الذي كان قُد قطع لإبراهيم.

قد يفكر المرء بأن تلك الحادثة كانت ستشكل علامةً تخاطب قلوب حتى أكثر الناس عداءً للرب يسوع المسيح، وتبرهن على أن هذا الإنسان الذي كان يجول بينهم بتواضع ويجترح المعجزات وأعمال الرحمة العجيبة كان فعلاً وحقاً عمانوئيل. ولكن ليس الحال هكذا. إن كانت ضمائر الناس غير حية أو متيقظة، أو كان الناس مصممين على مقاومة الحق، فإن المعجزات لن تكسَبهم إلى المسيح.

هل تذكرون تلك القصة التي رواها يسوع عن رجل غني؟ إننا نقرأ بأن ذلك الرجل الغني قد مات وذهب إلى الجحيم، وفي الجحيم رفع عينيه- ذاك الرجل الذي كان قد تمتع بكل ميزات وفرص الحياة على الأرض، ولكنه عاش فقط ليرضي رغباته الذاتية- ذاك الرجل بدأ يتوسل من أجل إخوته الخمسة. يا لها من عائلة: ستة أخوة، أحدهم في الجحيم وخمسةٌ على الطريق إلى هناك! فصرخ متوسلاً إلى إبراهيم، الذي أمكنه أن يراه في الفردوس، قائلاً له: "أَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اللهِيبِ" (لوقا ١٦: ٢٤). وعندما قيل له أن هذا الأمر مستحيل، قال بأنه يتوسل إليه أن يرسله إلى إخوته الخمسة، لكي ينبههم فلا يأتون إلى موضع العذاب هذا. فقال له إبراهيم: "عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ". وهذا يعني أن لديهم كلمة الله، ألا وهي العهد القديم. فليقرأوه ويؤمنوا بما جاء في كتابهم المقدس. ولكن الرجل الغني رد عليهم قائلاً: "لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ". ولكن جاءه الجواب حاسماً جازماً: "إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ".

يا لها من حقيقة مهيبة تتكشف لنا هنا! إن كان الناس مصممين وعازمين على أن يسلكوا طريقهم الخاص، إن كانوا لن ينحنوا أمام شهادة كلمة الله، فإن الآيات والمعجزات لن تصل إلى قلوبهم المقسّاة وتأتي بهم إلى التوبة. هؤلاء الكتبة والفريسيون قد نصّبوا أنفسهم ضد كلمة الله. لقد رفضوا كل رسالةٍ منه، وإقامة لعازر ما كانت سوى لتحركهم وتحرضهم على الشعور بأنهم كانوا على الأرجح سيفقدون السيطرة على الشعب. لقد رأوا بذور رغبةٍ واضحةٍ وسط العامة ليجعلوا يسوع ملكاً، ونتيجة ذلك سوف يُصار إلى إرسال فيالق الرومان لفرض إرادة قيصر عليهم بحد السيف.

لقد قالوا: "والآن، ما الذي نصنعه إزاء ذلك؟" لعلك تظن أنهم قالوا شيئاً مثل: "علينا أن نهتدي إلى الله وأن نقرّ بخطايانا وأن نواجه معصيتنا وآثامنا. علينا أن نكون على علاقة سليمة مع الله. قوة القيامة في يسوع تبرهن أنه هو المرسَل من الآب". ولكن ليس الحال هكذا. لقد قالوا: ""إِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً". على الأرجح أن يجتذب هذا الرجل الناس وراءه. علينا أن نأخذ موقفاً حازماً تجاه هذا الإنسان وعجائبهِ". لقد جرأوا لتوهم على أن يقولوا للحشد أن يسوع قد صنع تلك المعجزات بقوة بعلزبول، وهكذا فإنهم جدفوا على الروح القدس الذي كان يعمل من خلاله (الرب يسوع). والآن قالوا: "إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ". فكروا بذلك! لقد كانوا خائفين من أن يؤمن الناس بيسوع.

دعوتُ مرةً سيدة إلى لقاءٍ كتابيّ. فقالت: "أخشى أن أذهب لئلا أهتدي". تخشى! تخشى أن تصبح على علاقة سليمة قوية مع الله؟ أذكر رجلاً، تسير أموره على أحسن حال في أوساط العمل التجاري على الشاطئ الغربي. قلت لزوجته ذات مرةٍ: "لم أرَ زوجَك منذ فترةٍ. هل فقد اهتمامه؟" فقالت: "حسنٌ، إنه في الواقع يخاف أن يأتي؛ لأنه عندما يأتي ويسمع الكلمة، سيحتاج إلى حوالي أسبوعين ليتغلب عليها". كم يجب أن نُبقي في الذهن الدليل الواضح بأن روح الله يتكلم لكل واحدٍ منا! هناك أناس في هذا العالم اليوم، على ما أخشى، قد سمعوا الرسالة الأخيرة من كلمة الله وكانت هذه آخر كلمة سيسمعونها. إنه أمرٌ كئيبٌ عندما يتوقف الله عن أن يتحدث إلى النفس.

ولكن هؤلاء الفريسيين كانوا عازمين على أن يمضوا في طريقهم وأن يرفضوا المسيح. فقالوا: "علينا أن نزيل تأثيره عن الشعب، وإلا فإن الرومان سوف يدمرون مدينتنا وشعبنا". ولاحظوا هذا، الأمر نفسه الذي كانوا يخافون من حدوثه قد حدث. ولكنه قد حدث، ليس لأن الشعب آمن بيسوع بل لأنهم رفضوا نعمته. لقد رفضوه بازدراء عندما أظهر ذاته أمامهم على أنه أمير السلام. عندما قال بيلاطس: "هل أصلب ملككم؟" وقالوا "ليس لنا ملك سوى قيصر"، ما الذي حدث؟ صُلب يسوع، رفضه البشر، مات هناك على صليب الجلجثة لأجل افتداء العالم.

ولكن ماذا عن الشعب؟ ما لبث الرومان أن جاؤوا فعلاً وأزالوا مدنهم وشتتوهم إلى كل أصقاع الدنيا. وكل الآلام والمعاناة التي تعرضوا لها كانت نتيجة لعدم معرفتهم بيوم افتقاد الرب لهم.

ولذلك فإن الأمر الذي كان الفريسيون يظنون أنهم يحاولون تجنبه برفض يسوع، هو نفسه الذي حدث وأصابهم لأنهم رفضوه. إن الناس قصيروا النظر وعاجزون عن التنبؤ بالمستقبل، لدرجة أنهم يرفضون الشهادة التي يقدمها الله نفسه.

وبينما كانوا يتجادلون حول هذا الأمر، تزعم أحدهم الجمع- وكان قيافا، الذي كان رئيس الكهنة في ذلك العالم. وهذا الأمر بحد ذاته يشير إلى معارضة الناس لسلطة الرومان. بحسب ترتيب الله الأصلي، عندما كان أحد أبناء هارون يتقلد منصب رئيس الكهنة، كان يبقى فيه إلى حين وفاته. ولكن الشعب سقط إلى أسفل الدركات لدرجة إن الرومان كانوا يبيعون منصب رئيس الكهنة كل عام لمن يدفع أعلى سعر. وفي هذا الوقت المحدد كان قيافا هو رئيس الكهنة. كان هناك آخرون لهم منصب رئيس الكهنة، ولكن كانت قد تمت تنحيتهم جانباً.

ولذلك فإن قيافا الآن، في ذلك العام، قال لهم: "إنكم لا تعلمون شيئاً على الإطلاق". وحسنٌ ما قال، على حد قول أحدهم، وكانت هذه طريقة جيدة لإنهاء أي نقاش أو جدال يمكنك أن تلجأ إليه. يكفي أن تقول: إنكم لا تعلمون شيئاً على الإطلاق. إنكم لا تعلمون ما تتحدثون عنه". لا يمكنك أن تقنع الناس على هذا النحو. إنهم يعرفون الأمر برمته، ولن يقروا ولو لدقيقة بأن لديك أية معلومات ذات قيمة بالنسبة لهم. أعتقد أن أصدقاء أيوب كانوا على هذا النحو نوعاً ما. وتتذكرون أنه أجابهم في أحد المناسبات قائلاً لهم: "أنتم الشعب، والحكمة ستموت معكم". أي: "تظنون أنه ما من أحدٍ سواكم يعرف شيئاً".

كان هذا هو الموقف الذي اتّخذه قيافا: "أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً ولاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا". وفي هذا تسمعون صوت السياسي الخسيس الجبان. لقد كان يعرف أن يسوع كان بريئاً من كل تهمةٍ يمكن أن يتهم بها. لقد كان يفترض به أن يكون مخلّص الأبرياء، ولكنه، ولغاية السياسة كان ضد يسوع. لقد فكّر أن: "علينا أن نزيحه من الطريق وإلا فإننا سوف نعاني، ولذلك فإن أفضل شيء هو أن نتخلص منه. هاتوا تهماً زائفة، إن احتاج الأمر، لكي نخّلص الناس". لقد كانت نصيحةً غاشةً ومع ذلك فإن الأمر العجيب هو أن الله كان وراء كل ذلك، واستخدمها لينفذ مخططه الخاص. لا يغيب عن بالنا ولو لوهلة كلام قيافا ولكن من جهة أخرى، إن شهادة الروح القدس هنا لتخبرنا أنه كان يقول أكثر مما كان يعرف حقاً. السبب وراء كلامه على ذلك النحو هو الأنانية، ولكن ما اقترحه هكذا إنما هو، بمعنى أرفع مما يستطيع أن يفهمه، كان تحقيق قصد الله في فداء، ليس إسرائيل فقط، بل كل العالم البائس الذي يحتاج إلى الخلاص.

ونقرأ هنا: "لَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ". أي أنه ظن أنه كان يقدم لهم نصيحة ذات طبيعة سياسية، ولكن روح قدس الله كان هو المتحكم فيه وهو الموجه له وراء فكره الذاتي. هل نعتقد أن روح الله يمكن أن يستخدم إنساناً شريراً كهذا؟ في حالة بلعام، الذي أحب أجرة الفجور، لدينا ثلاثة أصحاحات في سفر العدد تحتوي بعض أعظم النبوءات في الكتاب المقدس، والتي أتت من شفتين غير مقدستين. لقد كان الله هو المتحكم لأجل البركة.

ولذلك فإن الله كان هو الذي يتحكم بالأمور هنا، وقد استخدم إنساناً سيئاً، سياسياً أنانياً وصولياً، لينطق بحقيقةٍ مهيبةٍ جليلةٍ. "لَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ". بدون معرفة منه، بل إن روح قدس الله كان يتحدث من خلال هاتين الشفتين الدنستين. "تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ"، ولو لم يكن ذلك بالمعنى الذي قصده. لقد كان يعني أن موت هذا الإنسان البريء سيستخدم لخلاص الشعب من الرومان. ولكن هذا لم يؤد إلى تلك النتيجة، لأن اليهود سُبيوا بعد ذلك الزمان. إلا أن النبوءة كانت حقيقية بمعنى أنه كان سيصبح ذبيحة خطيةٍ عظيمة، آخذاً على عاتقه اللوم والدينونة المتأتية عن إثم أولئك الناس، حمل الخطيئة ذاك، وبحمله له أمام الله واقتباله للدينونة التي كانت تستحقُها تلك الخطيئة. وهذا ما كان أشعياء قد رآه، عندما قال، وهو ينظر عبر الأجيال بعيني الإيمان، أن: "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (أش ٥٣: ٥، ٦). فها هنا كان الفادي القريب العظيم، الذي نظر إلى شعبه بعين الرأفةِ الذي بيع تحت الخطيئة، وقال: "سأدفع الثمن بدمي الثمين"، وهكذا قدم ذاته كفارة عن الجميع. ولكن موته لم يكن فقط من أجل ذلك الشعب. فنقرأ: "أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ". أي أن العمل الذي قام به ربنا يسوع المسيح على الجلجلة لم يكن فقط من أجل شعب إسرائيل. ليس فقط من أجل خطايا وآثام ذلك الشعب قد جاء ليفتدي الناس، بل أيضاً، وعلى حدّ قوله: "لي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ" (يوحنا ١٠: ١٦). وأولئك الـ "خِرَاف أُخَرُ" هم الأمميون، الشعوب الذين خارج بني إسرائيل، أولئك الناس الذين لم يكن لديهم في ذلك الوقت أي إعلان مكتوب من قِبَلِ الله. فلم يكن لديهم كتاب مقدس، لا ولا أنبياء ومعلمين. كانت لديهم شهادة الخليقة، وأشاحوا عن تلك، ولذلك فإن الله قد سلّمهم إلى كل أنواع الخطية والنجاسة والفجور. ومع ذلك فإن قلبه كان يعطف عليهم وكان قد خطط مسبقاً أن يأتي ابنه المبارك ليكون كفارة عن الجميع. يا لها من نعمة مذهلة! فالله كان سيرسل يسوع، ويسوع ذاك سيأتي ليموت عن عالم أثيم. وإننا نقرأ: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ (وأمكن للرسول بولس أن يضيف قائلاً:) الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (١ تيطس ١: ١٥).

واليوم نرنم قائلين:

"مخلّصين بدم المصلوب،
ومفتدين من الخطية إلى حياة جديدة،
أرنم وأسبح الآب، وأسبح الابن،
فقد خلصتُ بدم المصلوب"

يمكننا أن نقول أنه ما من خاطئ في كل العالم اليوم ومهما كان شريراً آثماً مذنباً، يأتي إليه بفضل ذبيحة الصليب، إلا ويستقبله الله، ويحرره بلا مقابل ويفغر له ويمنحه حياة جديدة. أبينكم من لا يدرك أن المسيح مات "لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ". أينما كنتم اليوم، إن انحنيتم معترفين بخطاياكم وآثامكم، وإن كان ضميركم يؤنبكم أمام الله القدوس وتقولون: "آه، أعلم أني لا أستطيع أن أكون في سلام مع الله، فكيف يمكنني أن أكون على علاقة صحيحة معه؟" فأقول لكم أنه ليس واجباً عليكم أن تصنعوا سلاماً معه (مع الله) بأنفسكم. لقد صنع يسوع سلاماً بدم صليبه. تعالوا إليه بقلبٍ منسحقٍ نادمٍ. اعترفوا بخطاياكم ومعاصيكم، وآمنوا به مخلّصاً. لعلكم تعرفون نعمته الفادية اليوم. يكفي أن تأتوا إليه وكما أنتم.

ولكن لاحظوا أيضاً ما يلي: فيما يختص بهذه المحاولة للحكم على ابن الله كمجرم يستحق الموت من جهة البشر الذين عرفوه على أنه بريء: "فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ". لم يكن هناك لينٌ في القلب، ولا أي إحساسٍ بشرّهم وإثمهم الذاتي. إن الخطية تُقسّي القلوب. ونجد تحذيراً ضد خطر أن تتقسّى قلوبُنا من جرّاء خداع الخطيئة. إن الطريقة الوحيدة لنتعامل مع الخطية أو لنعالجها هي في أن نواجهها بصدق أمام الله، الذي هو وحده يمكنه أن يمنح الخلاص من سطوتها، من خلال الإيمان بالرب يسوع المسيح. بعد ذلك نقرأ: "لَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضاً يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ علاَنِيَةً بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا أَفْرَايِمُ وَمَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ". لم تكن قد أتتْ ساعتُه بعد ليُسَلَّمَ إلى الموت، ولذلك فقد تابع عمل رسالته، كارزاً وخادماً الناس في منطقة أخرى.

ويقال لنا أن فصح اليهود قريبٌ. يا له من تعبيرٍ غريب كما لاحظنا قبلاً- فصح اليهود. لقد كان أصلاً عيداً للرب، ولكنهم كانوا مستمرين بحفظه خارجاً بينما يرفضون المسيح الذي كان يرمز العيد إليه. أعتقد أننا نرى شيئاً من هذا في الوقت الحالي. أخشى أن يكون هناك الآلاف من الناس الذين هم حريصون على الشكليات بما يتعلق بعضوية الكنيسة وحضور الخدمة الإلهية، والذين يلقون أهمية كبيرة على الطقوس المسيحية كمثل الطقوس المقدسة للمعمودية وعشائر الرب، ومع ذلك فإن قلوبهم ترفض المخلص الذي تدل عليه كل هذه الأشياء. إن الله، الذي ينظر إليها، يرى فيها شعائر فارغة وطقوس يقوم بها الناس في الجسد ولا تفيدهم شيئاً لأنهم يرفضون الرب يسوع المسيح.

فكروا في وقار وإجلال حفظ عشائر الرب وتناول الخبز والخمر اللذين يرمزان إلى المخلص المصلوب، بينما نرفض ذلك المخلص، رافضين أن نؤمن به، نابذين نعمته، فنأكل ونشرب دينونةً لأنفسنا، بسبب عدم تمييزنا جسد الرب. لنكن صادقين، ولنواجه الأمور كما هي في الواقع أمامه.

إن فصح اليهود كان قريباً جداً. خرج كثيرون من الأرياف إلى أورشليم ليطهّروا أنفسهم. كان هؤلاء أبناء الريف، وليسوا سكان المدينة الذين كانوا رفضوه، ونقرأ عن ذلك في الكتاب المقدس حيث نسمع أن "كان عامة الشعب يَسمعه بسرور".

وإذ جاؤوا ليحفظوا عيد الفصح، كانوا يتساءلون: "هل ستتاح لنا الفرصة لرؤيته؟" لقد كانوا تواقين لأن يروه و يصغوا إلى تعليمه. لقد كانوا يبحثون عنه وهم يقولون في أنفسهم: "«مَاذَا تَظُنُّونَ؟ هَلْ هُوَ لاَ يَأْتِي إِلَى الْعِيدِ؟»". نعم؛ لا بد أن يكون هناك. وما هي إلا برهة ويرونه هناك. ولكن للأسف، كل نعمته العجيبة لن تغير موقف القادة والزعماء في ذلك الشعب. ونقرأ: "كَانَ أَيْضاً رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْراً أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ". لماذا؟ ألكي يتفحصوا أقواله ويواجهوا الأمور بصدق أمام الله ويقرروا إن كان هو المسيا أم لا؟ لا. لم يكن هذا هو الدافع. لقد "أَصْدَرُوا أَمْراً أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ"، ويقبضوا عليه، ويقتلوه بالتالي. كم كانت ضئيلة معرفتهم بأن أحدهم سيخونه ويسلمه لهم، وهذا كان أحد الذين يُعتَبَرون من أتباعه.