الخطاب ٢٣

مواجهة الناموسيين

"مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ. أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟» أَجَابَ الْجَمْعُ وَقَالُوا: «بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «عَمَلاً وَاحِداً عَمِلْتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعاً. لِهَذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الْخِتَانَ. لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى بَلْ مِنَ الآبَاءِ. فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ. فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الْخِتَانَ فِي السَّبْتِ لِئَلاَّ يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأَنِّي شَفَيْتُ إِنْسَاناً كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟ لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً». فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟ وَهَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَاراً وَلاَ يَقُولُونَ لَهُ شَيْئاً! أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِيناً أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ حَقّاً؟ وَلَكِنَّ هَذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ». فَنَادَى يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ قَائِلاً: «تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ وَهُوَ أَرْسَلَنِي». فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ. فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ وَقَالُوا: «أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مَتَى جَاءَ يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الَّتِي عَمِلَهَا هَذَا؟». سَمِعَ الْفَرِّيسِيُّونَ الْجَمْعَ يَتَنَاجَوْنَ بِهَذَا مِنْ نَحْوِهِ فَأَرْسَلَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ خُدَّاماً لِيُمْسِكُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً بَعْدُ ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا». فَقَالَ الْيَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «إِلَى أَيْنَ هَذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لاَ نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ الْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ الْيُونَانِيِّينَ؟ مَا هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَ: سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟»" (يوحنا ٧: ١٨- ٣٦).

إنه ليدعو للشفقة أحياناً أن يكون المرء، بسبب اكتمال السرد، عاجزاً عن أن يغطي روايةً كاملة كتلك التي لدينا في الأصحاح السابع هذا، لأن الموضوع يدور حول لقاء ربنا باليهود في ساحة الهيكل في أورشليم. فالأحداث تتسارع الواحدة تلو الأخرى في تتابع، ولكنها كلها مرتبطة معاً.

في رسالتنا الأخيرة رأينا الرب يقدّم نفسَه للناس، ونعتبر أن هذه بداية حواره معهم. والآن، في الآية ١٨، نتابع في نفس الحادثة. كان الرب يسوع المسيح قد قال، في الآيات ١٦- ١٧: "«تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي. إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ هَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي". والآن يضيف قائلاً: "مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ". لقد كان الرب يسوع يقول دائماً أنه المُرسَل من قِبَل الآب، ومن ثم يقول: "إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ". ويقصد بذلك، بالطبع، أنه إن كان الناس راغبين حقاً في معرفة وعمل مشيئة الرب وسيأتون إليه طالبين منه الاستنارة، فسيكتشفون إن كان هو نفسه شخصاً متمحوراً على ذاته يحاول أن يجمع الناس حوله لتمجيده شخصياً أو إن كان، وعلى حد قوله، المرسَل من الله كمخلصٍ وفادٍ. لو كان يتكلم من نفسه لكان سيسعى لمجده الذاتي وحسب. إننا نتذكر ذلك المقطع الوارد في سفر الأمثال ٢٥: ٢٧ الذي يقول: "أَكْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَسَلِ لَيْسَ بِحَسَنٍ وَطَلَبُ النَّاسِ مَجْدَ أَنْفُسِهِمْ ثَقِيلٌ". إن المثال التوضيحي الموجود هنا يُستخدم بطريقة ممتعة حقاً. لطالما استخدمه سليمان. العسلُ هو كل ما سار بشكل طبيعي وموافق، وأفترض أنه ما من شيء أكثر مسرّةً من أن نرى الناس يتكلّمون بالحُسنى عنّا. هناك شيء فينا يجعلنا نستمتع بسماع الناس يقولون أشياء ظريفة عنا. وبحسب الكتاب المقدس، ذلك هو العسل. لا نُؤخذ كثيراً بذلك. فإنْ فَعَلْنا ذلك سنستاء ونضطرب. ولذلك يقول: "أَكْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَسَلِ لَيْسَ بِحَسَنٍ"، وكثيرون يعتبرون أنه لمن المخزي أن يجتذبوا الانتباه إلى أنفسهم. إنه لأمرٌ شائنٌ للناس أن يطلبوا مجدَهم الذاتي. تذكرون في إرميا ٤٥: ٥، أن الله يرسل رسالة خاصة إلى باروخ يقول له فيها: "وَأَنْتَ فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُوراً عَظِيمَةً؟ لاَ تَطْلُبُ! لأَنِّي هَئَنَذَا جَالِبٌ شَرّاً عَلَى كُلِّ ذِي جَسَدٍ يَقُولُ الرَّبُّ وَأُعْطِيكَ نَفْسَكَ غَنِيمَةً فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَسِيرُ إِلَيْهَا".

ذلك هو طريق البركة. لم يأْتِ ربّنا يسوع المسيح ليعملَ إرادتَه بل إرادة الذي أرسَلَه. وكان سابقُه رجلاً له شخصية مشابهة. لقد قال: "يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ" (يوحنا ٣: ٣٠).

ولذلك فإن ربّنا يسوع يُذكّرنا هنا بأنه إنْ كان إنسانٌ يتكلّم على الدوام عن عمله الذاتي وإمكانياته وقدراته الذاتية، وهكذا أشياء، انطلاقاً من فكرة أن يشغل الناسَ بنفسه، فإنه إنما يبحث عن مجده الشخصي. "مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ". وهذا ما جاء الرب يسوع ليفعله. فقبل أن يذهب، كما صلّى في تلك الليلة قبل صعوده إلى الجثسيماني، قال: "أَيُّهَا الآبُ، أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ" (يوحنا ١٧: ٤). وفي هذه يصبح مَثَلاً أعلى لنا.الأمر الوحيد الذي على الناس أن ينشغلوا به فوق أي شيء آخر هو أن يسعوا لتمجيد ذاك الذي افتداهم. يعجبني ذلك السؤال في مختصر التعليم المسيحي في اعتراف ويستمنستر الذي يقول: "ما هي غاية الإنسان الرئيسية؟" والجواب هو: "غاية الإنسان الأساسية هي تمجيد الله وإرضائه إلى الأبد". أترون، إننا نرتكب خطأً عندما نضع الذات أولاً. إننا نقول في أنفسنا أنه إن لم نسْعَ وراء اهتماماتنا الذاتية، فما من أحد آخر سوى الكلمة سيعلن أن هذا ليس حقيقياً. "اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" (متى ٦: ٣٣). بمعنى آخر، ضعوا الله أولاً والذات أخيراً، والله سيرى كيف سيعطيكم كرامةً في الوقت الذي يجده هو مناسباً.

وهذا ما وضعه الرب يسوع كهدف لحياته- أن يسعى لتمجيد ذاك الذي أرسله. ولكنه في تلك الأثناء يلتفت إلى معانِديه الذين يتّهمونه بأنه كاذب أو زائف، ويقول: "أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ!". لقد كان شرفاً كبيراً لبني إسرائيل أن الله أعطاهم ناموساً على جبل سيناء. والآن شعب آخر نال ذلك الإعلان عن فكر وإرادة الله كما تبدت لهم. ويقول يسوع أنه "مع ذلك"، "لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ". ما من إنسانٍ قبل المسيح قد سَلَكَ في إطاعة كاملة لذلك الناموس. ولذلك فإن الناموس ما كان إلا ليدين. كان الناموس يقول: "«مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»" (غلاطية ٣: ١٠). وفي العهد الجديد نقرأ: "مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب ٢: ١٠). هذا يلغي أية إمكانية أو احتمال بأن نتبرر أمام الله عن طريق إطاعة الناموس. ما مِن أحد سوى المسيح قد أطاع الناموس كاملاً. ومع ذلك مضى إلى صليب الجلجثة وحمل لعنة كسر الناموس لكيما ننال الفداء.

ولكن هذا الشعب من بني إسرائيل كان منشغلاً جداً بمكانتهم الخاصة وامتيازاتهم التي كانوا يتفاخرون بها وما كانت إلا لتدينهم. فوضع الرب يسوع إصبعه على الجرح. وقال: "لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟" ولكن عامة الناس ما كانوا مدركين لكل هذا، فأجاب الحشد وقالوا: "«بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟»". ألا يدل هذا على مدى اتضاع يسوع؟ إنه خالق السماء والأرض، ولكنه يقف هادئاً وسط شعبه ويسمح لهم بأن يتهمونه هكذا، ومع ذلك أجابهم في هدوء تام. قالوا له: "بِكَ شَيْطَانٌ". فيرد يسوع: "عَمَلاً وَاحِداً عَمِلْتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعاً". إلامَ كان يشير؟ إلى شفائه للرجل عند بركة بيت حسدا. فهم لم يغفروا له أنه أبداً شفاءه لذلك الرجل في يوم سبت. لقد انتشرت الإشاعة بأنه كان خارجاً على الناموس، لأنه وجد تلك النفس البائسة، التي مضى عليها ثمان وثلاثين سنة وهي في حالة عجز، فشفاه في يوم سبت. لقد استنتجوا أن ذلك كان انتهاكاً للناموس. فبيّن لهم يسوع أن هناك أشياء معينة كان لا بد من القيام بها يوم السبت: مثل ختانة طفل. أوضح يسوع قائلاًَ: "لِهَذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الْخِتَانَ". في يوم سبتٍ كانوا ينفّذون ذلك المطلب. في يومٍ سبت كانوا يضعون علامة الختان على جسد الأطفال. فإن كان هذا الإنسان قد قام بالختان في يوم سبتٍ، فلماذا ينزعجون منه لأنه جعل رجلاً معافى تماماً في يوم سبت؟ إن كان الله قد أعطى القوة إلى المُقعد العاجز المشلول، واختار أن يفع ذلك عن طريق يسوع في يوم سبت، أفلا يفترض فيهم أن يبتهجوا لأن الله كان يفتقد شعبَه ويغدق بالبركة على البشر؟ ثم يضيف قائلاً: "لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً". كم ينبغي أن نضع هذه الوصية في قلوبنا! كم نتسرع في الإدانة بدون معرفة كل الحقائق! هذا ما كانوا يفعلونه. لقد سمعوا أنه جاء وشفى الرجل في يوم سبت وقفزوا إلى الاستنتاج إلى أنه كان تحت سيطرة الشيطان، وأنه كان يخالف ناموسَ الله، ولذلك أدانوه وكأنه قد أخطأ ضد الناموس، ومع ذلك فقد كان يتصرف طوال الوقت كابن لله في نعمة نحو النفوس المحتاجة.

لقد قال ربنا في مكان آخر من الكتاب: "لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا" (متى ٧: ١)، ثم أضاف قائلاً: "لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ" (متى ٧: ٢). ما الذي عناه حقاً؟ هناك أوقات يُدعى فيها المسيحيون إلى أن يحكموا أو أن يدينوا. فمثلاً، إذا نشأ شرٌ وسط المؤمنين، فإن المسيحيين مدعوون ليدينوا الإنسان الشرير ويفصلوه من الشركة معهم، وإن لم يفعلوا ذلك، فإن الله سيعتبر أن الكنيسة مسؤولة. كيف ينسجم هذا مع الكلمات التي تقول: "لا تدينوا لكيلا تُدانوا"؟ لقد كان ربنا يشير هنا إلى الدوافع. أنا وأنت لسنا كاملين لندين الدوافع الداخلية الكامنة وراء تصرفات الآخرين. كم نكون قساة أحياناً! لعلّني أكون متحاملاً تجاه شخص ومع ذلك لا أستطيع أن أجد عيباً في حياته الخارجية، ولكني على استعداد لأن أنسب الشر إلى كل شيء يفعله. لعلّ هناك إنساناً يقوم بالكثير من عمل الرب، فأقول: "إنه يفعل كل ذلك لكي يلفت الانتباه". ومن هنا نجد الرب يسوع يقول: "ليس لكم أن تدينوا". إن الله يقرأ ما في القلوب؛ أما أنتم فلا. "لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ". "الْإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ, وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ" (١ صمو ١٦: ٧). "احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً"، والحكم العادل، بالطبع، هو على أساس ما هو ظاهر وواضح. وهذه، كما ترون، لم تكن هي الحالة عندما كانوا يدينونه لانتهاكه الناموس.

ولكنهم كانوا متحيرين في أمرهم: "فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟" لقد كانوا يعرفون أن الرؤساء كانوا يحاولون إلقاء القبض عليه وقتله، ومع ذلك فإن كلماته واحتماله كانت عظيمة رائعة لدرجة أن عجزوا معها عن فهم السبب الذي يدعو أياً كان إلى أن يبغضه ويريد قتله. ولذلك تساءلوا متعجبين: "أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟"، "فلماذا هو جريء ويَتَكَلَّمُ جِهَاراً؟ أفلا يعلم أنهم مندسون وسط الجمع؟ هل يعرف الحكّام من يكون ذاك؟ أفيعقل أن يكون قادتنا يعرفون في قرارة أنفسهم أنه المسيا الموعود؟" تعلمون، بالطبع، أن كلمة "المسيح" في اليونانية هي الكلمة العبرانية "المسيا"، وكلتا الكلمتين تعنيان "الممسوح". "هل من الممكن أن يكون رؤساءنا يعرفون أنه الممسوح من الله- من كان سيأتي إلى العالم ليعتق إسرائيل؟" ومع ذلك فإنهم محتارون. "فلا يمكن أن يكون هذا هو، في نهاية الأمر، ذلك لأننا نعرف هذا الإنسان ومن أين يأتي". لقد كانوا يعرفون أنه وُلِدَ في بيت لحم. ولكنهم يقولون: "َأَمَّا الْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ". عجيب، فكلمة الله (في العهد القديم) قالت: "«أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ»" (ميخا ٥: ٢). من هذا الشخص الغامض الغريب؟ إنهم يقولون، لا نستطيع أن يفهم ذلك، ولكن هذا الإنسان نعرف كل شيء عنه. لقد وُلِدَ في بيت لحم، وعاش في الناصرة، وعمل في ورشة النجار. ولكن يسوع رفعهم إلى مستوى أعلى فيما كانوا يقولون. لقد أمكنه أن يسمع أفكار قلوبهم، "فَنَادَى يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ قَائِلاً: «تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ". "تعلمون أني وُلِدتُ في بيت لحم وعشتُ في الناصرة، ولكنكم لا تعرفون أبي. إنكم لا تعرفون ذاك الذي أرسلني. ولو كنتم تعرفون، لكنتم تقبلونني. ولكني أعرفه؛ أعرف من يكون الآب. فأنا منه وهو أرسلني". وفي هذا كان يعلن ألوهيته، إذ يقول، كما تذكرون، أنه آتٍ من الله وذاهب إلى الله، وإذ صلّى فإنه قال: "مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ" (يوحنا ١٧: ٥). لقد كان واحداً مع الآب منذ الأزل. لقد كان مدركاً لذلك كإنسان وهو هنا على الأرض. وعرف الآب كما لم يعرفْه أحدٌ آخر.

ولكن، في فكرهم، كان هذا معادلاً أو مساوياً للتجديف. فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ. هذا سيوضح لنا أن يسوع لم يكن خاضعاً لسلطة إنسان. لم يمُتْ يسوع على الصليب لأنه كان عاجزاً بين يديّ أعدائه، وإلى أن حانت الساعة المحدّدة عندما كان عليه أن يخرج ليموت، هل كان من المكن لأي إنسان أن يؤذيه أو لأي أحد أن يقتله؟ "لَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ". بنتيجة ذلك نقرأ أن كثيرين من الناس آمنوا به. لم يَعْنِ هذا بالضرورة أنهم قد آمنوا به كمخلّص، بل آمنوا بصدقه وإخلاصه، بل حتى أنه كان عل الأرجح المسيّا الحقيقي. لقد كانوا ينتظرون أن يروا كيف سيُظهر نفسَه. فقد قالوا: "«أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مَتَى جَاءَ يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الَّتِي عَمِلَهَا هَذَا؟»". كيف كان ليمكنهم أن يصدّقوا أيّ شخص على أنه المسيّا إن لم يكن الوحيد الذي تنبّأ عنه الأنبياء والذي كان سيأتي لخلاص إسرائيل؟

ولكن الفرّيسيين، الأكثر تزمّتاً بين اليهود، والذين كان يُنظَر إليهم على أنهم من ذوي الإيمان القويم، والذين كانوا يقبلون كل العقائد الأساسية في الكتاب المقدس ومع ذلك يرفضون الرب يسوع المسيح، سمعوا أن الناس يتكلّمون عنه، وعن أن الفريسيين ورؤساء الكهنة أرسلوا خداماً ليمسكوه وأن يسوع التقى بهؤلاء وقال لهم: "أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً بَعْدُ ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي"، فكأنه كان يقول: "لا تستطيعون أن تقبضوا عليّ، فلم تأْتِ الساعة بعد؛ ولستُ مستعداً أن أسلمكم نفسي. لا زال علي أن أمضي بالخدمة في وسطكم". "أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً بَعْدُ ثُمَّ أَمْضِي (طواعيةً وبمحض إرادتي) إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي". لقد كان يعرف أنه سيمضي إلى الصليب، وإلى القبر. لقد جاء إلى العالم لأجل ذلك الهدف. ولكن من القبر كان سيقوم منتصراً وسيصعد إلى السماء إلى حضرة الآب. أما بالنسبة لأولئك الذين جاء من أجلهم ومن أجل خدمتهم، فما كان موقفهم إلا أن رفضوه وقسّوا قلوبَهم ضدّه، فقال لهم: "سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا". يا لها من كلمات جليلة، ليس فقط بالنسبة لهم، بل أيضاً بالنسبة للناس الذين يعيشون اليوم؛ فمن جديد يقدّم يسوع نفسَه للجنس البشري من خلال الكرازة بالإنجيل، ويطلب من الناس أن يفتحوا قلبَهم ليقبلوه، ولكنّهم يرفضون أن يفعلوا ذلك. بالنسبة لهم، سيأتي وقتٌ عندما سيطلبونه ولكن لن يجدوه. لقد قصد بذلك أنه عندما سيعود إلى الآب، إن ظلوا رافضين إطاعة رسالته، فإنهم لن يكونوا هناك معه أبداً.

هل ترون كم يتناقض هذا القول مع المفهوم الذي لدى كثيرين بأنه بغض النظر عن أسلوب الحياة الذي يعيشه الإنسان فإن الجميع سيذهبون إلى السماء في نهاية الأمر؟

إننا نود أن نؤمن بأن في الموت شيئاً يطهّر، حتى أن النفس تتطهر من الخطيئة، ولكننا لا نجرؤ على الاعتقاد بأن هذا سيكون بشهادة الإنجيل. لا. فيسوع يقول: "إن رفضتم قبول شهادتي، حيث أنا، فهناك لا يمكنكم أن تأتوا". ما لم يقبل الناسُ المسيحَ هنا على الأرض فإنهم لن يكونوا معه هناك في الأبدية. هل آمنتم به؟ هل قبلتموه مخلّصاً شخصياً لكم؟ أم أنكم لا تزالون تفكّرون في الأمر وتقولون: "لعلّني يوماً ما أسوّي هذه المسألة". كونوا على ثقة بأن الوقت قصير لذلك. سرعان ما ستخسرون فرصتكم. حاولوا بشكل أكيد أن تأتوا إليه، إذ أنه ينتظركم بنعمته ورحمته، قبل أن يقول لكم: "سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي".

لم يفهم اليهود أنه كان يتكلم عن موته، فقالوا: "إِلَى أَيْنَ هَذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لاَ نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ الْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ الْيُونَانِيِّينَ؟" ما الذي عنوه بذلك؟ كما ترون، مرت قرون منذ تشتت إسرائيلُ وسط الأمميين. وكانوا يذهبون إلى أورشليم عاماً بعد عام ليحفظوا الأعياد. ولكنهم كانوا يسكنون وسط الأمميين، واليهود الذين عاشوا في فلسطين كان يُنظر إليهم بازدراء. ولذلك طرحوا السؤال: "أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ الْيُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ الْيُونَانِيِّينَ؟" لا، لم يقصد ذلك بالضبط، ومع ذلك كان هذا أمراً حقيقياً بمعنى من المعاني، إذ بعد قيامته سيُنقل الإنجيل، ليس إلى المشتتين من بني إسرائيل، بل إلى كل الأمميين في كل مكان.

ولكن لم يكن هذا هو ما قصده بقوله: "حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا". لقد كان يشير إلى صعوده إلى السماء. ولكنهم سألوا: "مَا هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَ: سَتَطْلُبُونَنِي وَلاَ تَجِدُونَنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟»" وبهذا انتهى الحوار الحالي. من الواضح أن الرب يسوع قد تنحّى عنهم ولم يقل المزيد، بل غادرهم ليفكّروا في الأمر ويتناقشوا مع بعضهم في المسألة. وفيما بعد ظهر من جديد وسطهم في اليوم الأخير، يوم العيد العظيم، ولكني سأؤجل الحديث عن هذا الموضوع إلى الخطاب التالي.

هل آمَنّا به؟ هل فتحْنا قلوبَنا له؟ ليتنا نفعل ذلك، دعونا نسعى لنمضي في خدمته بشكل أفضل، ودعونا نسعى، بالنعمة، لنصبحَ مثلَه على نحو مطّرد من خلال الشهادة إلى عالمٍ ضالٍ ضائعٍ.