الخطاب ١٧

الشهود الخمسة

"أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً. ﭐلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ. أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلْحَقِّ. َأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً. وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي. وَﭐلآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ. فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي. ولاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ. «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ وَلَكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ. كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟ «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلاَمِي؟»" (يوحنا ٥: ٣٠- ٤٧).

هذا مقطع ممتع ولافت جداً، نرى فيه خمس شهادات متمايزة على حقيقة أن ربنا يسوع المسيح هو المُرسَل من الآب، الذي جاء إلى العالم لننال به الحياة وتكون لنا وافرةً، ولكي يكون ذبيحة كفارية استرضائية عن خطايانا. إنه يتحدث إلينا كإنسان في أيام إذلاله على الأرض هنا. في الآية ٣٠ نراه يقول: "أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي". وفي هذه نرى الرب يسوع المسيح يأخذ المكان المعاكس الذي كان يتوق إليه لوسيفر ١ القديم. غالباً ما يطرح الناس هذا السؤال: "لماذا خلق الله الشيطان؟" الله لم يخلِقْ الشيطانَ. لقد خَلَقَ لوسيفورس، ملاكاً رئيساً، ولكن الغرور أصابه بسبب شدة جماله. ولخمس مرات أعلن إرادتَه أمام الله قائلاً: "أُريدُ". "أريدُ أن أكون مثل العلي القدير. أريدُ أن أرتقي عرش الله". وفي هذا كان هلاكه ودماره. بسبب فرضه إرادته الذاتية صار لوسيفورس، الملاك الرئيس، شيطاناً أو إبليساً.

خلافاً لهذا الشخص، نجد هنا من كان في هيئة الله منذ الأزل، ومع ذلك، وبدافع رحمته ونعمته، فإنه تخلى عن المجد الذي كان له قبل تأسيس العالم. إذ عاش إنساناً متواضعاً هنا على الأرض، رفض الرب يسوع أن يستخدم قدرته الذاتية، بل كل ما فعله قام به بقوة الروح القدس. وقال: "لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ". لماذا؟ لأن دينونته كانت دينونة الله نفسه. لقد عمل كل شيء تحت سلطان الله، أبيه. وحده بين كل الناس عاش في هذا العالم وأمكنه دائماً أن يقول: "لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي".

المعيارُ الذي نحاكي فيه أنا وأنت، كمسيحيين، ربّنا يسوع في هذا سيكون هو المعيار الذي سنُمجّد فيه أيضاً الله هنا على الأرض. نتخيلُ أحياناً أن السعادة الأعظم التي يمكن أن نحظى بها هي أن نسلك طريقنا الخاص، ولكن هذا خطأ. الرجل أو المرأة الأكثر سعادة على الأرض هو ذاك الذي يصنع مشيئة الله الأسمى. لم تكن ليسوع مشيئةٌ من ذاتهِ أو خاصة به. رغبتهُ الوحيدة كانت أن يصنع مشيئة أبيه، التي لأجلها أُرسِل إلى العالم.

أما وقد أعطى هذا الإعلان، فإنه يتابع كلامه قائلاً: "إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً". ما الذي يعنيه بهذا؟ لقد كان قد قال لتوه أنَّ الآب قد وضع في يديه كل شيء. وأخبرنا أن صوته يوماً ما سيجعل الأموات يقومونَ من القبور. وأعلن أيضاً أنه المُرسل من قِبَلِ الآب والآن يقول: "إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي (الأمر الذي كان يقوم به) فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً". ما الذي يقصدهُ بذلك؟ إنه يقصد أنه إن كان وحدهُ يحملُ شهادةً عن نفسه، فإن تلك الشهادة ليست صالحة أو صحيحة. إذ نقرأ في موضع آخر أنه: "عَلى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلى فَمِ ثَلاثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ" (تثنية ١٩: ١٥). إن جاء أحدٌ يحملُ شهادةً عن نفسه ويتكلم عن نفسهِ ولم يكن هناك آخرون يُصادِقون على كلامه، فإن شهادته ستُرفضُ في المحكمةِ ولذلك لن تكون صالحة أو صحيحة. يقول: "إن كنتم ستعتمدون فقط على ما أقول، فأني أُدرك أن ذلك لن يكون صحيحاً أو صالحاً كشهادة". ثم يضيف قائلاً: "ولكن لدي شهوداً آخرين يؤكدون ما أقوله لكم". ويُورد الرب يسوع أربع شهادات أو يأتي بأربعة شهود يقدّمونَ شهاداتٍ واضحةٍ تماماً على حقيقة أنه بالفعل المُرسَل من قِبَلِ الآب، وكل هؤلاء هم إضافة إلى إعلانه الخاص. إنه الشاهد الأول.

الشاهدُ الثاني هو يوحنا المعمدان. هناكَ أمرٌ واضحٌ في أن الغالبية العظمى كانت تنظرُ إلى يوحنا المعمدان كنبي. ولكنَّ رؤساء إسرائيل رفضوا قبولَ شهادته لأنها كانت تُدينهم إلا أنَّ حشود الناس كانت تصدّق وتؤمن بأنه كان مُرسلاً من الله. ولذلك يقول الرب يسوع: "إن كنتم لا تقبلون شهادتي وإن كان لا يُصادقها أحدٌ آخر، فإني سأستدعي شاهداً آخر إلى المحكمة". ولذلك يُحضر يوحنا المعمدان للشهادة. "ﭐلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ". ها هنا شهادة ثانية، وهكذا يمكن قبول شاهدين في المحكمة. "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ". "أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلْحَقِّ". أي حق يقصد؟ إنه الحق نفسُه الذي كان الرب نفسه قد أعلنه. فقد عرّف الناس بيسوع قائلاً عنه: "إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي" (يوحنا ١: ١٥). وكان يوحنا المعمدان كان قد دلَّ عليه في مناسبة أخرى وقال: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يوحنا ١: ٢٩). إنه يشهدُ على حقيقة أن الرب يسوع المسيح كان الذبيحة المعينة الذي كان سيقدّم نفسهُ عن خطايانا على صليب العار ذاك. وبعد ذلك ثانيةً أعلن يوحنا: "رأيتُ وأشهدُ أن هذا هو ابن الله". حسناً ذلك هو السؤال بالضبط. هل يسوع هو ابن الله؟ هل هو الابنُ الأزلي المُرسل إلى العالم ليُحقق مخططَ الفداء؟ أجاب يسوع، وقال: "إن كنتُ أنا الوحيد الذي يقول هذا فإنكم لن تصدقونني، ولكن ها هنا هذا الشخص الذي اجتمعتم لتسمعوه، وعرفتم أنه كان نبياً. حسناً، إنه يشهدُ على نفس الأمر الذي أُخبركم به. يوحنا المعمدان يُخبركم أني ابن الله، حمَلُ الله الآتي ليموتَ عن الخطاة. أنا المسيحُ الذي كان قبل الوجود". ويستأنف يسوع كلامهُ قائلاً: "ولكني لستُ مُتّكِلاً على يوحنا. لستُ في حاجةٍ إلى شهادته لكي تصدقوا الأمور التي أقولها. لستُ مُتكِلاً على شهادة إنسان، ولكني أقول هذه الأشياء لكي تتأكدوا من حقيقيتها". لقد أرادَ الربُّ أن يزيلَ أيَّ أساسٍ يمكن أن يستندوا عليه تبريراً لجحودهم. لقد كان يرغب أن يوضح أنه كان المُخلِّص الذي تمَّ الاعتراف به. ولكنه لم يكن في حاجةٍ إلى شهادة يوحنا، رُغم مدى صلاحهِ وعظمته. الحقيقةُ تبقى حقيقةً بمعزلٍ عن أيِّ اعترافٍ بها من قِبَلِ أي إنسان. كان يوحنا إنساناً رائعاً، "نوراً ساطعاً متألقاً". ذلك الشاهد كان صامتاً لبعض الوقت. قطع هيرودس رأسه، ولكنَّ شهادتهُ بقيت، واليوم نسمع صوتَ يوحنا المعمدان يُعلن أن يسوع هو ابن الله، حَمل اللهَ، ذاك الذي كان سابقاً للوجود.

ولكن المخلص يقول الآن: "لدي شهادة أخرى". ما هي هذه الشهادة الثالثة؟ "هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي". وهذه هي الدافع وراء معجزات ربنا يسوع المسيح. لقد صنع أعمال الاقتدار تلك لكي يبرهن أنه المُرسَل من قِبَل الله الآب. ولكن يسوع لم يصنع تلك المعجزات لطي يُظهر نفسَه. لقد عملها ليخفف آلام البشرية ويساعد جنس البشر. وهذا ما كان قد تنبأ عنه العهد القديم. لقد قال الأنبياء أن أعين العميان ستنفتح، ويسمع الصمُّ بآذانهم من جديد، والعُرْج سوف يثبون في فرح، وسيتلاشى الحزن والأسى والمرض، وستنكسر قيود الخطيئة. هذه الأشياء حقّقها الربُّ يسوع المسيح خلالَ تلك السنوات الثلاث. تلك الأعمال الرائعة والمعجزات، أعمال الاقتدار تلك التي قام بها، كُلّها تحملُ شهادةً على حقيقة أنه كان بالفعل المُرسَل من قِبل الآب. انظر إلى ذلك المجذوم البائس. إنه يأتي إليه مغطى بالقروح. ويصرخُ إليه في ألمٍ وكرب قائلاً: "يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي" (متى ٨: ٢). فينظرُ يسوع إليه وهو، القدوس، لا يخاف أن يتدنس بنجاسةِ ذاك المسكين، ولذلك يضع يدهُ عليهِ ويقول: "أُريد فاطهر". هل تعتقد أنَّ ذلك الإنسان شكَّ في أن يسوع كان المُرسَل من قِبَلِ الآب؟ هل تُشكّك في لاهوت ابن الله؟

انظروا إلى ذلك الأب المفجوع في كفرناحوم. إنه يأتي إلى يسوع ويلتمس منه أن: "ابْنَتِي الصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا" (مرقس ٥: ٢٣). وذهب يسوع إلى ذلك المنزل وخرج الناس إليه قائلين: "لا فائدة. عبثاً تفعل شيئاً. فلقد ماتت". أما الرب فيقول "لا تَخَفْ. آمِنْ فقطْ". ويدخل إلى تلك الغرفة ويمسك بيد تلك الصبية الفتية الميتة ويقول لها في حنو باللغة الآرامية: "«طَلِيثَا قُومِي». (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ لَكِ أَقُولُ قُومِي)"، ففتحت عينيها ونهضت جالسة. أتعتقدون أن يَايِرُسُ وزوجته كان لديهما صعوبة في الإيمان بأنه كان المُرسَل من الآب؟ وتلك الأرملة البائسة خارج مدينة نايين، تُشاهد مراسم دفن ابنِها الوحيد، إلى أن جاء يسوع وأوقف كل شيء. قال السيد مودي: "لا يمكنكم معرفة الطريقة التي كانت تُجرى بها خدمة الدفن في الكتاب المقدس. فيسوع أبطل كل جنازةٍ قد حضرها". ولذلك فقد تدخّل هنا، وقال للشاب: "«لَكَ أَقُولُ قُمْ»" (لوقا ٧: ١٤)، ودفع الفتى إلى والدته. أتعتقدون أنها شكّت في أنه كان المُرسَل من الآب؟

"هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي". لنذهب إلى بيت عنيا إلى جوار ذلك القبر على سفح التلة ولنسمع يسوع يصرخ بصوت عظيم: "«لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً»" (يوحنا ١١: ٤٣). ولننظر إلى لعازر يتعثر خارجاً من القبر، وجسده ملفوف بثياب القبر، وأختاه تندفعان لملاقاة أخيهم الحبيب وقد أُعِيْدَ من الموت إلى الحياة. هل كان لديهم أي شك في أن يسوع ذاك ليس هو المُرسَل من الآب؟ تلكمُ هي الأعمال التي كانت تشهد له.

وبعدها يأتي الأمر الأروع على الإطلاق، عندما ماتَ هو نفسه في نهاية الأمر وأسلمَ روحه للآب، ووضِع جسده في قبرٍ، وفي اليوم الثالث قامَ وأُعِلنَ أنه ابن الله بقوة. نعم، إن أعمال يسوع تحملُ الشهادة على حقيقة أنه ابن الله. 

ها قد رأينا ثلاثة شهود. والآن ثمة شاهد آخر، في الآية ٣٧: "وَﭐلآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ". كيف كان الله شاهداً على حقيقة أن يسوع هو ابنهُ السرمدي، المُرسل إلى العالم لأجل خلاصنا؟ عندما قَدّمَ المُخلص نفسه عند نهر الأردن ليكونَ البديل عن خطايانا، وعَمّدهُ يوحنا المعمدان هناك. عندما صَعِد من القبر المائي، انفتحت السماء والروح القدس حلَّ على هيئة حمامةٍ، وصوت الآب سُمِع يقول: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى ٣: ١٧)، (أو "الذي به وجدتُ مسرّتي"). كانت هذه شهادة الآب. ليس في تلك المناسبة فقط، بل وعلى جبل التجلي أيضاً، قال الآب مرة أخرى: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا" (مرقس ٩: ٧). ولاحقاً، وفي إحدى المناسبات، عندما رفع صوته قائلاً: " أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ" (يوحنا ١٢: ٢٨)، سُمِعَ صوتٌ من السماء يقول: "مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً".

لثلاث مرات سُمِع صوت الآب من السماء يُصادق ويؤيد شخص ورسالة ابنه المبارك بينما كان هنا على الأرض، ومع ذلك فهؤلاء الناس الذين اعترفوا بأنهم يؤمنون بالله أباً لهم لم يسمعوا صوته. لقد سَمِعه التلاميذ، ولكنَّ هؤلاء الرجال الناموسيين القساة المنتقدين لم يسمعوا أبداً صوت الآب. هل سَمِعتَه؟ هل سمعتَ صوت الآب يتكلّمُ في قلبك؟ هل سَمِعته يقول لك: "هذا هو ابني الحبيب، أُريدكَ أن تُسرَّ فيه"؟ آهٍ، إن الآب لا يَزالُ يُسرُّ بأن يُصادقَ على شخصِ وعملِ الرب يسوع المسيح.

ثم نجد الشاهد الخامس. تقول الآية ٣٩: "فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي". معظم الدارسين، على ما أعتقد، يفهمون أن هذا التعبير الافتتاحي هو تصريح محدد أكثر منه طلب أو أمر، وكأنهم يقرأونها على النحو التالي: "أنتم تبحثون في الكتب". مهما كان الأمر، أعتقد أن الصياغتين تخاطبان قلبنا، وبالتأكيد فإن روح الله مراراً وتكراراً يأمرنا أن نفتش في هذه الكلمة المباركة. ولكن إذا اعتبرناها قولاً أكثر منها أمراً، تبقى نفسها في المبدأ. لقد كان يتوجه بالحديث إلى قادة إسرائيل. لقد كانوا يقرأون كتبهم المقدسة ويدرسونها، ولذلك قال لهم: "أنتم تفَتِّشُون الْكُتُبَ إذ أَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً". أي أنكم تسلّمون أنكم ستنالون الحياة باطلاعكم على الكتاب المقدس وإطاعتكم له، ولكن ما لم تؤمنوا بالذي يتكلم عنه الكتاب المقدس، سوف لن تكون لكم حياة أبدية. في ٢ تيموثاوس ٣، عند الحديث عن إنسان تربّى على كلمة الله (تيموثاوس)، يقول الرسول بولس: "أَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (٢ تي ٣: ١٥). لاحظوا: ليس الإطلاع على الكتب المقدسة وحده يمنحكم حياة أبدية، بل التعرف على الابن المبارك، الذي هو موضوع القصة. ولذلك يقول يسوع: "لديكم الكتاب المقدس. فارجعوا إلى العهد القديم، وإذ أنتم تقرأون العهد القديم، ستجدون أنهم كانوا يتكلمون عني هناك". لقد كان موضوع حديث العهد القديم بأكمله. وكل الرموز اللاوية كانت ترمز إليه. وكل الأنبياء شهدوا له. لقد كان هو من وبّخ الخصوم في أيام زكريا النبي. وفي كل أرجاء العهد القديم نجد الحديث يدور عن يسوع من خلال الرموز والنبوءات. "هِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي". الكتب المقدسة تتكلم عن يسوع والمسيح يصادق على الكتب المقدسة. وتحققت فيه النبوءات الواحدة تلو الأخرى.

إنه يُظهر أن العهد القديم برمّته هو كلمة الله الحي. والآن يقول: "أنتم تقرأون كتابكم المقدس، ومع ذلك تأبون أن تأتوا إليّ لتنالوا الحياة الأبدية". أصدقائي الأعزاء، هل تعرفون المسيح؟ إنكم على إطلاع على الكتاب المقدس، وأعرف أن بعضاً منكم يستند إلى معرفته تلك بالكتاب من أجل الخلاص. هل اقتبلتم المسيح الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس؟ هل وضعتم ثقتكم في المخلص الذي كتب عنه الأنبياء؟ هل آمنتم بذاك الذي جاء بدافع رحمته ونعمته ليموت عن الخطاة؟ هذا هو الموضوع الرئيسي في كل الكتاب المقدس. إنه لمما يثير الشفقة أن ندّعي تكريم الكتاب المقدس بينما نرفض مسيح الكتاب المقدس.

إن كلماتهُ تَدلُّ ضمناً على أنَّ كلّ الناس يمكن أن يأتوا إليه إذا شاءوا. هناك بعضٌ من الناس يتخيلون أنَّ البعض غيرُ مرحّبٍ بهم، ولكنَّ يسوع لم يستخدمَ لغةً كهذه إن كانت لن تشملَ الجميع. "كل مَن يأتي". إن بقيت ضالاً حتى النهاية، فسيكون ذلك لأنك لم تأتِ: "لاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ".

والآن يقول المُخلِّص: "لا أُريدُ تكريماً من الناس". لم يُرِدْ يسوع رعايتهم لأنه يعتبرهم مناصرين له، بل رَغِبَ في أن يقبل الناس الخلاص الذي جاءَ ليقدمه. "ولكني أعرفكم (وهو الوحيد الذي كان يستطيع أن يقول ذلك)، وأعرف أنه ليس فيكم محبة الله". لقد كان هنا ليعملَ مشيئة الآب ومع ذلك لم يقبلوه. إنه يحذّرهم من ضد المسيح الآتي، المسيح الدّجال. فيقول: "إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ". من هو هذا الآخر؟ إنه ذلك الملك العنيد المتصلب الوارد ذكره في دانيال ١١، ذلك الراعي المعبود عند زكريا، النبي الكذاب الذي يذكره سفر الرؤيا، وذلك المتمرد على القانون الذي يتحدث عنه ٢ تسا ٢، الشخص الشرير الفاسد الذي سيظهر في هذا العالم. والناس الذين لن يقتبلوا المسيح سيخضعون لذاك الذي يحذّر يسوع منه.

إنه أمرٌ خطيرٌ جداً أن ترفضَ المسيح، أن تزدري بالخلاص الذي قدّمهُ الله. كم من شاب يُمضي وقتاً طويلاً في اجتماعاتِ الكتاب المقدس، ويكونُ متمتعاً بقناعةٍ عميقة، ولكن عندما يفكر بما يقوله أو يفكر به هـذا أو ذاك من أصدقاءه إن اعترف بالمسيح! وكم من صبية عرفت أنها ستَخلُص، ولكنَّ أحدهم ممن تقدرهُ عالياً يُبقيها بعيدةً إذ تقول: "ما الذي سيفكر بهِ من ناحيتي إذا ما فعلتُ ذلك؟" ما لم تضع الله أولاً، فإنك لن تكونَ قادراً على أن تؤمن. عندما تأتي إلى المكان حيث تستطيع أن تقول: "لا أستطيع أن أسمح لنفسي بأن أحيدَ عما هو صواب وحقيقي بسبب أيّ اهتمامٍ آخر، حتى رأي أقرب المقربين والأعزاء إلي؛ عليَّ أن أسعى أولاً لملكوت الله وبره، ومن ثم، يقولُ الربُّ يسوع "الأمور الأخرى ستُزداد لي". هل أعاقكَ خوفٌ من الناس عن الاعتراف بالمسيح؟ تذَكَّرْ أنَّ أولئك الذين يعيقونك هم بشرٌ بؤساء تعساء مثلك وسرعانَ ما سيقدمونَ حساباً أمام الله.

لعلكم تقولون: "إذاً فهل سيشكونا؟" لا. إنه يقول: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ" ويضيف قائلاً- وخاصةً لأولئك اليهود: "يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى". هل يشكو موسى؟ كيف يشكو ومن يشكو؟ سيشكو موسى كلَّ الذين يرفضون شهادته، ويتنبأ لهم بدينونة رهيبة. ويضيف يسوع قائلاً: "لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي". هذا هو الجواب لأولئك الذين يقولون: "لا نعتقد أن موسى هو كاتب الأسفار الأولى في الكتاب المقدس". لكن يسوع يقول: "لأَنَّهُ (موسى) هُوَ كَتَبَ عَنِّي"، وبذلك يضع توقيعه على هذه الأسفار، معلناً أن موسى كتبها- "لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي". تلك النبوءات التي كتبها موسى كانت تشير إلى المسيح. تلك الرموز كانت تدل على المسيح. عندما كتب موسى قائلاً: "يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لهُ تَسْمَعُونَ" (تثنية ١٨: ١٥)، فإنه كان يكيتب ويتكلم عن الرب يسوع المسيح. ومن هنا يقول المخلص: "إِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلاَمِي؟". إن رفض الناس قبول شهادة العهد القديم فإنهم لن يقبلوا شهادة المسيح. كلاهما مرتبطان لدرجة لا يمكن معها فصلهما عن بعضهما.

وهكذا لدينا إذاً الشهادات الخمس. فهناك شهادته نفسه أولاً، وشهادة يوحنا المعمدان، وشهادة المعجزات التي اجترحها، وشهادة صوت أبيه، وهناك شهادة كلمة الله أي الكتاب المقدس؛ كلها تتفق في القول على أن يسوع هو ابن الله، الذي سيأتي إلى العالم. فهل اقتبلْتَه؟


١. لوسيفر: ( Lucifer ): يُترجم اسمُه إلى " زُهَرَةُ بِنْتَ الصُّبْحِ" في ترجمة سميث/فاندايك-البستاني (البروتستانتية) ؛ (انظر أشعياء ١٤: ١٢). ولكننا آثرنا استخدام الاسم "لوسيفر" أو"لوسيفوروس" لأنه أقرب إلى النص الأصلي ومعروفٌ أكثر بهذا الاسم في ثقافة الناس العامة. وجدير بالذكر أن الأصل اليوناني لاسم "لوسيفورس" يعني "حامل النور" لشدة لمعان جماله كما جاء في الكتاب والتقليد.[فريق الترجمة].