الخطاب ٤٥

منزل الآب وعودة الرب

"«لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي. فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ». قَالَ لَهُ تُومَا: «يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي»" (يوحنا ١٤: ١- ٦).

في هذه الآيات، هناك حقيقتان بارزتان يتم التركيز عليهما: الأولى، تتعلق ببيت الآب، والثانية هي عودة ربنا شخصياً لأجل خاصته.

لقد اعتدنا على هذه الحقيقة، على ما أفترض، أن الكتاب المقدس لم يكتب مقسماً إلى أصحاحات وآيات. هذه التقطيعات في النص وضعها المحررون، وبعضها يعود إلى السنوات الأخيرة نسبياً، إلى الفترة قبيل الإصلاح البروتستانتي. وأحياناً تبدو الانقطاعات بين الأصحاحات وكأنها تأتي في أماكن غير مناسبة، وأعتقد أن الحال هو هكذا هنا. على سبيل المثال، من يبدأ بقراءة الآية الأولى من الأصحاح ١٤، ويربطها في ذهنه بكلمات ربنا إلى الرسول بطرس في ختام الأصحاح ١٣؟ ومع ذلك فإن هناك رابط حقيقي قوي، كما رأينا. كان الرب يسوع يقدم رسالته الأخيرة إلى تلاميذه. أعلن أنه سرعان ما سيتركونه ويهربون. كان قد أخبرهم أنه سيمضي وأنهم سوف لن يروه من بعد حيث سيذهب. لقد كان ذاهباً إلى ديار الله عن طريق الصليب والقيامة، وأخبر بطرس الذي كان يسأله بأنه لن يستطيع أن يتبعه مباشرة. ولكن الرب يقول: "ستتبعني فيما بعد". لم يفهم بطرس ذلك، وقال: "يَا سَيِّدُ لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ». أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ»". ثم يضيف الرب مباشرةً ويقول: "لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي".

أترون، الرب يسوع يوجه هذه الكلمات بالطبع، إلى كل تلاميذه، ولكن بشكل مباشر إلى التلميذ الذي كان سينكره بعد هنيهة. وبالتأكيد هذا أمر معز جداً لقلوبنا. كان بطرس سيخيب الرب- وكان يسوع يعرف أنه سيخيبه- ولكن في أعماق قلب بطرس كان هناك حب متقد نحو الرب يسوع. وعندما قال: "سأضع نفسي عنك"، فقد عنى كل كلمة يقولها. ولكنه لم يدرك مدى ضعف الثقة في قلبه. إنها حالة الروح المستعدة النشطة ولكن ذات الجسد الضعيف. وقد عرف يسوع بالخيبة المخيفة التي ستغمر نفس بطرس عندما  يستيقظ مدركاً حقيقة أنه كان غير مخلص في الساعة التي احتاجه فيها معلمه. في نفس الوقت الذي كان يسوع بحاجة فيه إلى أحد يقف إلى جانبه ويقول بجرأة: "نعم، أنا أحد أتباعه، وأستطيع أن أشهد بنقاوة حياته وصلاح طرقه"، في ذلك الوقت الذي أنكر فيه بطرس، بدافع خوفه من الجنود المجتمعين حول، كل معرفة بمخلصه. ويا للأيام والليالي التي ستلي ذلك عندما سيشعر بأنه ولابد مقصيٌ، على افتراض أن الرب لن يضع ثقته فيه من جديد أبداً! ولكن لو تذكر كلمات هذا النص، فكم من عزاء كان سينال في قلبه المتفجع البائس! إذ أن يسوع يقول عملياً: "أعرف كل شيء عن ذلك يا بطرس. أعرف كيف ستخفق، ولكنني أريدك أن تعرف أنه في بيت أبي منازل كثيرة، وسوف تشاطرني إحداها يوماً ما. لن أسمح لك يا بطرس بأن تفشل بالكلية. لن أسمح لك بأن تدخل في نكران للإيمان. أنت ستسقط، ولكنك ستُرفع ثانية، وسوف تشاركني مكاناً في ذلك البيت ذي المنازل الكثيرة".

عندما يقول: "لا يضطرب قلبك"، فإنه لا يقصد أن يقول: "لا تقلق بخصوص مستقبلك"، لأن هو نفسه كان قد سعى يدرب قلب بطرس، وبطريقة عجيبة استرجعه في بحر الجليل فيما بعد. ولكنه يقصد القول: "لا تكن مهزوماً. لا تسمح لعدو نفسك بأن يجعلك تشعر بأنه ليس هناك من أمل بعد، أو أنه ليس هناك من فرصة لك".

أتساءل إذا ما كان أحد ممن قرأ هذا قد أخفق، كما أخفق بطرس. تحت وطأة ضغط الظروف أنتم أيضاً أنكرتم ربكم، أنكرتموه بالفعل إن لم يكن بالكلام وعدو أنفسكم يقول لكم الآن: "لقد انتهى الأمر بكم؛ حالتكم ميئوس منها. أنتم عرفتم المسيح مرة، ولكنكم فشلتم بشكل بائس، وهو لن يعترف بكم مرة أخرى أبداً". آهٍ، دعوني أطمئنكم إلى أن اهتمامه بكم هو بذات العمق كما كان دائماً وأبداً. إن آمنتم به حقاً مخلصاً لكم، فإن حقيقة إخفاقكم المحزنة الموجعة، وحقيقة ندبكم عليها، إنما تؤكد على حقيقة أنكم تنتمون إليه. إنه لا يزال يقول: "ارجعوا أيها البنون العصاة يقول الرب لأني سدت عليكم"- وليس: "لقد انفصلت عنكم". وبذلك فإنه ينتظركم لأن ترجعوا وتعترفوا بفشلكم وخطيئتكم، وقد وعد بتجديد كامل لكم لأنه "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم". ويوماً ما سيكون هناك مكانٌ لكم أيضاً في بيت الآب.

"لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي". في الأيام التي سبقت مجيء يسوع إليهم، لم يؤمن شعب اسرائيل بذلك الإله الحقيقي الحي. والآن ما عادوا يرونه، ويقول يسوع لتلاميذه: "لقد آمنتم بالله عندما كنتم عاجزين عن أن تروه، والآن سأمضي بعد برهة وسوف لن تتمكنوا من رؤيتي، إلا أنني أريدكم ان تؤمنوا بي بنفس الطريقة كما عندما كنت هنا. وتماماً كما آمنتم بالله غير المنظور عبر السنين، أريدكم أن تضعوا إيمانكم فيا، أنا المسيح غير المنظور، بعد أن أكون قد مضيت إلى الآب". هل لديكم هذه الثقة المطلقة به، مدركين أنه مهتم بعمق بكل تفاصيل حياتكم؟ تقول الكلمة: "ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم". ما من شيء يقلق شعبه إلا وفكر به الله نفسه. ولذلك فإنه يريدنا أن نلقي عنا كل قلق وكل هم. إنه يقول: "لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتعلم طلباتكم لدى الله". "أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي".

ثم يضيف قائلاً: "فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ". "بَيْتِ أَبِي"، وبذلك فإنه بالطبع يعني السماء، ويتحدث عن مكان سيذهب إليه، مكان سيأخذ إليه في يوم ما كل خاصته. غالباً ما أسمع الناس يقولون: "السماء حالة أكثر منها مكان". السماء حالة ومكان بآن معاً. صحيح أننا لا نقرأ كثيراً عن السماء في الكتاب المقدس. قال أحدهم: "السماء هي أرض ما ليس بعد". الكتاب المقدس يتحدث عما ليس في السماء أكثر منه عما يوجد في السماء. تذكروا في سفر الرؤيا أننا نقرأ بأنه لن تكون هناك خطايا من بعد، ولن يكون هناك المزيد من الدموع، ولن يكون هناك ألم، ولن يكون هناك تفجع، ولن تكون هناك لعنة، ولن تكون هناك ظلمة، ولن يكون هناك أي نوع من الكآبة في بيت الآب. بيت الآب هو المكان الذي يوجد فيه المسيح، وذلك هو المكان الذي يذهب إليه المفتدون.

لعل البعض فكر أن التعبير الوارد هنا "في بيت أبي منازل كثيرة" يشير إلى مكان محدد. بشكل أو بآخر، تشير كلمة "منزل" إلى أمر مألوف بالنسبة لمعظمنا ولكن لم تكن هكذا الحال أصلاً. عندما نرى مبنى كبير فإننا نسميه "بيت". ولكن الكلمة أصلاً كانت تستخدم بمعنى "شقة"، كما نستخدم هذه الكلمة اليوم، ألا وهي شقة مستقلة. ولذا فإن المبنى قد يكون فيه عدة منازل (شقق). ويخبرنا يسوع قائلاً: "في بيت أبي شقق كثيرة، وأماكن استراحة كثيرة". هناك مكان، مكان منفرد، لكل فرد من خاصته، كل ذلك في بيت ذاك الآب.

"وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ". كان اليهود يؤمنون بسماء عبارة عن نعيم بعد الموت، وقال يسوع: "لو كنتم مخطئين في ذلك، لكنت سأصوب فكركم". ولكنه لم يُصحح فكرهم بل ثبته، ونعلم أن هذا حقيقي، أن هناك بيت مجيد وراء السماوات للمفتدين سنتشاركه مع الرب يسوع بعد برهة.

يضيف قائلاً: "أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً". كما تلاحظون، إن المنازل مختلفة عما كان لديهم في ذلك الوقت. قبل أن يعود إلى بيت الآب، لم تُسوَّى مسألة الخطيئة. قبل أن يعود إلى بيت الآب، لم يُشَّق حجاب الهيكل، ولم يُرش الدم على كرسي الرحبة. بعد أن دفع عنهم التكلفة، أمكن القديسين أن يذهبوا إلى الفردوس. لم يكن لديهم نفس المدخل المبارك إلى حضرة الله مباشرة كما حال القديسين اليوم. ونقرأ في الرسالة إلى العبرانيين أننا نأتي الآن "إلى أرواح أبرار مكملين". لقد كانت تلك أرواح أناس أبرار من كل العصور قبل الصليب؛ كان الله قد خلصهم وأخذهم إلى الفردوس، وما كانوا قد كملوا بعد. ما كان يمكن لذلك أن يحصل إلى أن أُريق دم يسوع على الصليب. والآن، وإذ تمت تسوية مسألة الخطيئة، فإن الرب دخل إلى قدس الأقداس بدمه نفسه بشكله المرموز إليه، ورش دمه ذاته على كرسي الرحمة في الأعالي، وها قد أُعد مكان في قدس الأقداس الآن لأجل جميع خاصته، وأرواح الأبرار في الماضي قد كمُلت، ونحن الذين نؤمن الآن نكمل إلى الأبد. وهكذا فإننا كلنا نُلاءَم لذاك المكان الذي سنذهب إليه: "أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً".

ومن ثم يقول: "وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً". يظن كثير من الناس أن هذا المقطع له علاقة بالموت، وبالطبع، عندما يموت المؤمن، فإن ذلك المؤمن يمضي ليكون مع المسيح. ولكن الكتاب المقدس لا يخبرنا في أي مكان أبداً على أن المسيح يأتي في ساعة الموت لأجل شعبه. إن أجرينا تناظراً نسبة إلى ما قاله الرب يسوع وهو هنا على الأرض، فإننا نصل إلى الاستنتاج بأن هذا الفكر غير صحيح. يخبرنا الكتاب المقدس عن أحد أبناء الله الأعزاء على قلبه الذي كان يحتضر- كان متسولاً، هذا صحيح. كان متشرداً، ينام على باب رجل غني، ولكنه كان ابناً حقيقياً لابراهيم. كان لديه إيمان بإله كل نعمة ورحمة. ومات المتسول، كما يُقال لنا، وحملته الملائكة إلى حضن ابراهيم. حملت الملائكة المتسول الفقير- الذي ما عاد فقيراً- إلى الفردوس. ما نستنتجه من ذلك هو أن الخدمة الأخيرة التي يقدمها الملائكة، الذين لا يبرحون يحرسون شعب الله، سيعودون ليقودوهم إلى حضرة الله. إنه هناك في بيت الآب، وملائكته تقود قديسيه إلى حضرته.

إلا أنه يتحدث عن أمر مختلف هنا. الموت هو ذهاب المؤمن ليكون مع المسيح. هذا ما يخبرنا به الكتاب المقدس- "غائبين عن الجسد، حاضرين مع الرب"، "نغادر لنكون مع المسيح الذي هو أفضل بكثير". ولكن ذهاب المؤمن إلى ديار الرب ليكون مع المسيح يُشار إليه بالقول أنه كان عارياً، وقد رقد جسده جانباً. إنه هناك في حضرة الرب كروح ممجدة، ولكنه هناك ينتظر جسده المفتدى. عندما يحقق الرب يسوع ما يتكلم عنه هنا في الأصحاح ١٤ من يوحنا، فعندها سيقتبل المؤمنون اجسادهم الممجدة ويكونون بالكلية مثله. هذا الأمر الآتي، الذي يشار إليه هنا، يتم إيضاحه بشكل مسهب أكثر في الأصحاح الرابع من رسالة بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي. هناك نقرأ في الآية ١٣: "لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين"- أي القديسين الذين ترقد أجسامهم في القبور بينما أرواحهم هي مع المسيح-

"لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين، لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم. لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضا معه. فإننا نقول لكم هذا بكلمة الرب: إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين. لأن الرب نفسه سوف ينزل من السماء بهتاف، بصوت رئيس ملائكة وبوق الله، والأموات في المسيح سيقومون أولا. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب".

هذا هو المجيء الذي يشير إليه مخلصنا عندما يقول: "وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ". في ذلك المجيء سيتحقق ترقبنا للفداء الكامل. في رومية ٨ يقول الرسول بولس: "لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله. إذ أخضعت الخليقة للبطل - ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها - على الرجاء. لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن. وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا". ما الذي يعنيه بذلك؟

إن أرواحنا قد افتديت لتوها، وقد اقتبلنا لتونا خلاص نفوسنا، ولكننا ننتظر الخلاص الكامل للجسد، وافتداء الجسد لدى مجيء ربنا يسوع المسيح.

"لأننا بالرجاء خلصنا. ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء" (رومية ٨: ٢٤).

عن أي رجاء يتحدث إذاً؟ إنه الرجاء بمجيء ربنا. ولهذا يشير من جديد في الأصحاح الثالث من الرسالة إلى أهل فيلبي، حيث نقرأ في الآية ٢٠:

"فإن سيرتنا (مواطنيتنا) نحن هي في السماوات، التي منها أيضا ننتظر مخلصا هو الرب يسوع المسيح، الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء".

هذا هو الحدث المجيد الذي سيحدث عندما يعود الرب ثانية، عندما يرجع لأجلنا.

هناك فارق كبير هائل، كما ترون، بين هذا والوقت الذي سيعتلن فيه كابن الإنسان ليُنزل الدينونة بالعالم الأثيم وليؤسس ملكوته في نهاية الأمر. كان هذا سراً يكشفه الرب لهؤلاء الرسل في تلك الليلة في العلية. في الأناجيل الإزائية السينابتية الثلاثة لم يذكر ذلك. الرسول بولس كان الأداة المختارة ليوضح ذلك، ولكن يبدو أن الرب يسوع، قبل ذهابه، كان لديه سر في قلبه يرغب كثيراً بألا يؤجل الإفصاح عنه أكثر، ولا بد إذاً أنه قد أخبرهم ولو قليلاً عنه، ولذلك يقول: "أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَاناً. وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ"- ولا يقول: "سأرسل ملاك الموت إليكم"، أو أي ملاك آخر، بل "آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً".

أترون، سوف لن يرضى إلى أن يصير كل شعبه المفتدى معه في المجد في بيت الآب. قلبه يتوق إلى ذلك.

والآن لنتكلم قليلاً عن بيت الآب. لاحظوا أنه بيت الآب، وبيت الآب هو من أجل كل أولاد الآب. إننا نخشى أشياء كثيرة غريبة هذه الأيام. بعض الناس يحاولون أن يقولوا لنا أن شعب الله الروحانيين العميقين جداً هم فقط الذين سيختطفون مع الرب يسوع لدى مجيئه. كم يكون الناس قليلي الفهم والمعرفة بما في قلب الله عندما يتكلمون على هذا النحو! فكروا بأب عادي وأم عادية على هذه الأرض. ولنفترض أن لديهم ثمانية أو عشرة أولاد، فهم عائلة؛ أليسوا كذلك؟ بيت الأب مفتوح لكل الأولاد. إني أشفق على البيت، وأشفق على الأولاد، حيث يميز الأب أو الأم بين أولادهم. أعتقد أنه أمر محزن عندما يحتل أحد الأولاد من بين عدة أولاد مكانة خاصة في قلب الأب بينما يبقى الآخرون بعيدين عنه. لعلكم تقولون: "ولكن لعل ولداً أو اثنين سيئي السلوك. وبالتالي فإن الأب لن يطيق أن يحب الأولاد السيئين على نفس القدر كما يحب الأولاد الصالحين". هل هذا صحيح؟ الحقيقة أنه حتى الأولاد السيئين هم أعزاء على قلب والدهم لدرجة أنهم يسببون له قضاء ليال عديدة بلا نوم وهو يفكر في أحوالهم السيئة. إنه يحبهم ويتوق لأن يراهم على خير ما يرام. وهناك دائماً ترحيب بهم في بيت الأب.

علينا أن نتذكر، أيضاً، أنه في بيت الآب في الأعالي، ليس من تفريق. يقول لي الناس غالباً: "ليتني أستطيع أن أصل إلى السماء وأن أجلس على كرسي خلف الباب، لكان هذا يرضيني. ولكني لا أستحق أي شيء أفضل من ذلك".

يا صديقي العزيز، إنك لا تستحق أن تكون هناك على الإطلاق. أنا لا أستحق أن أذهب إلى هناك أبداً. ولكني لست ذاهباً إلى هناك لأني أستحق الذهاب، بل سأمضي إلى السماء لأني وُلدت ثانية ولأن الرب يسوع يعد لي مكاناً هناك، ولأن بيت الآب هو لجميع أولاد الآب.

ثمة أمر آخر: ليس هناك مقاعد خلف الباب هناك في الأعالي. آمل أن يدرك الجميع ذلك. ليس من تمييز بين الأشخاص في الترحيب الذي سيتلقاه المؤمنون في بيت الآب. أكرر، بيت الآب يقدم نفس الترحيب لجميع أولاد الآب.

لعلكم تقولون: "حسناً، ولكن ألا يشير الكتاب المقدس إلى أن البعض ستكون لهم مكافآت أكبر من الأخرين؟" بلى. ولكن ليس هناك علاقة بين المكافآت والترحيب في بيت الآب. المكافآت لها علاقة بشكل خاص بالملكوت المجيد الآتي، وبالطبع المعطى في السماء، المعطى عند كرسي دينونة المسيح، ولكن الفروقات هي في الملكوت. فعلى سبيل المثال، انظروا إلى رسالة بطرس الثانية: "لأنه هكذا يقدم لكم بسعة دخول إلى-" إلى ماذا؟ إلى السماء؟ لا، ليس صحيحاً أن بعض الناس سيدخلون بسعة إلى السماء بينما جماعة أخرى لن يتلقوا مثل هكذا استقبال حميم وودي. ما معنى ذلك؟ إنه يقول أن بعض الناس لديهم مدخل واسع أكثر من غيرهم. نعم، ولكن إلى أين؟ "إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي". لا تتشوشوا، ولا ترتبكوا في تفكيركم، ولا تخلطوا بين بيت الآب والملكوت الأبدي. بيت الآب هو بيت القديسين؛ الملكوت الأبدي هو دنيا الخدمة والمكافآت، إلى الأبد، أولاً خلال الألفية ومن ثم في العصور التي ستليها، حيث سنخدم ربنا المبارك الذي أعد مكاناً لنا في بيت الآب.

هل تسمحون لي باستخدام صورة توضيحية قديمة؟ لنفترض أن لدينا هنا عائلة صالحة من الطراز العتيق، لديهم ١٠ أو ١٢ طفلة. ولنفترض أن الأولاد مبعثرون الآن في كل الأرجاء. وها قد جاء عيد الميلاد، وسيكون هناك اجتماع للعائلة في المنزل. فتوجه الدعوات إلى كل الأولاد ليجيئوا إلى البيت لقضاء عيد الميلاد واجتماع العائلة. حسناً. سيأتون جميعاً. البعض سيأتي بالسيارة، والبعض بالأوتوبيس، والبعض بالطائرة، والبعض بالحافلة، وقد يضطر أحدهم للمجيء سيراً على الأقدام. ولكنهم يأتون من كل حدب وصوب، إلى المنزل، إلى بيت الأب لقضاء عيد الميلاد.

أتخيل المائدة كبيرة مترعة بكل أطباق الطعام اللذيذة التي أعدتها الأيدي اللطيفة. أتخيل الأب والأم يدخلان ليلقيا نظرة أخيرة إلى المائدة وليتأكدا من ان كل شيء على ما يرام. هناك مكان الأم وهناك مكان للأب. هنا سيكون الطبق الكبير الضخم الذي سيحوي زوجاً من الحبش الكبير الذي يزن ١٥ رطلاً، وكل الأشياء الأخرى الطيبة أعدت ووضعت على المائدة. يدخل الأب والأم، وتقول الأم: "والآن، أيها الأب لقد ارتأيت أن أضع بوب إلى جانبك".

بوب مشهور في العالم، وهو سيناتور، وقد حقق مكانة كبيرة لنفسه، ولكنه في البيت بوب وحسب.

"وها هنا مكان ماري".

أعتقد أن ماري هي رئيسة اتحاد نسائي أو شيء من هذا القبيل. هي امرأة محترمة معظمة عندما ترتدي قلنسوتها وعباءتها، ولكنها في البيت هي ماري وحسب؛ لا أكثر ولا أقل.

"وهنا مكان توم".

لنرَ من يكون توم. أعتقد أن توم هو ضابط في الجيش، ولكنه توم وحسب في البيت.

"وهنا مكان آنا".

آنا؟ من هي آنا؟ لعلها طبيبة، وبارعة جداً في مهنتها، وفي الخارج يقولون لها الدكتورة آنا، أما في البيت فهي آنا فقط.

وهكذا تكمل وضع الأشخاص في الصف. وتقول الأم: "وقد خصصت هذا المكان إلى يميني لجيم".

من هو جيم؟ حسن، جيم هو الولد المختلف صاحب المشاكل في العائلة. يا للمسكين جيم! لقد جرب أشياء كثيرة.

أعتقد أن جيم كان مخترعاً. لقد اخترع أشياء كثيرة، ولكن دائماً كان هناك أشياء لا تعمل لصالحه. لو صارت الأمور على ما يرام معه لربما كسِب ملايين، إلا أنه استهلك كل ما كان لديه واقترض كل ما أمكنه ومع ذلك فقد بقي يراوح في مكانه. يا للمسكين جيم!

ما كان ليمكن أن يكون في البيت على الإطلاق لو لم تدس له والدته قطعة من عشرين دولار في جيبه ليحصل على ثياب مناسبة فيكون حسن المظهر بما يكفي لأن يأتي. وأستطيع أن أتخيل أن أحد الأخوة يقول: "تعرفين يا أمي، بخصوص جيم- لا أعرف إذا كان يجب السماح لجيم بالجلوس معنا إلى الطاولة. لقد أفلحت عائلتنا جميعاً، بينما أخفق جيم بشكل كبير. أليس من الأفضل لو يبقى جيم في المطبخ؟ يمكنه أن يأكل مع الخدم هناك في المطبخ".

فتنفجر الأم غضباً وتقول: "ماذا؟ لا بل إن جيم يستحق الأفضل. أريده أن يعرف أنه إن كان هناك مكان على الأرض يرحب به على الإطلاق فهذا المكان هو بيت أبيه وأمه".

أترون، في بيت الأب، الجميع موضع ترحيب والجميع يتلقون نفس المعاملة الحسنة من الأب والأم.

بعد برهة سينقضي ذلك اليوم العظيم وسيتفرقون، فتذهب ماري إلى الاتحاد النسائي، ويعود بوب إلى مجلس الشيوخ في واشنطن. وترجع آنا إلى ممارسة مهنتها في المدينة الكبيرة، ويعود توم إلى الجيش، وهكذا دواليك. وبعد زمن سيرجع جيم المسكين إلى غرفته الصغيرة هناك في المدينة. ولكني أرى الأم تعطيه قبلة وداع أخيرة، وما هو ذاك الذي تدسه في يده؟ إنها قطعة نقدية من فئة الخمسين دولاراً. ويغادر، وقد حمل في قلبه تلك الذكريات السعيدة من بيت الأب.

هذا مثل توضيحي بشري جداً وحسب، ولكن لعله يظهر ما أعنيه عندما أقول أن بيت الآب أمر والملكوت أمر آخر. بيت الآب هو بيت جميع أولاد الآب. ولكننا نحجز أمكنتنا الخاصة في الملكوت بتكرسنا وخدمتنا المخلصة للرب يسوع المسيح. هل فهمتم الفرق؟ وإذاً هناك مكان للجميع في بيت الآب. ولكن ماذا عن الطريق إلى هناك؟ هل سيذهب الجميع إلى بيت الاب؟ أرغب بهذا. ولكن للأسف الشديد، كثيرون يصرون على تمردهم ضد الله ولذلك فإن الصلوات لا تُستجاب على الإطلاق. هناك طريق واحد فقط إلى بيت الآب. وما هو ذاك الطريق؟ أسمع الناس يقولون لي مراراً وتكراراً: "إننا نسير في طرق مختلفة، ولكننا سنصل جميعاً إلى السماء في نهاية المطاف". لا، أبداً. لا أجد هذا الفكر في الكتاب المقدس. يقول الكتاب المقدس: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت" (أمثال ١٤: ١٢)، وهي تحذرني من سلوك الطريق الواسعة التي تؤدي إلى الدمار والهلاك، وتحثني على اتباع الطريق الضيقة التي تؤدي إلى الحياة.

ومن هنا فإن يسوع يقول: "وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ. قَالَ لَهُ تُومَا- ". لقد كان توما صادقاً ولم يَخشَ من أن يفشي كامل الحقيقة. لقد قال: "يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟".

فقال له يسوع، وآهٍ يا أصدقائي لو تفهمون ما قاله، إذ أن كلامه موجهٌ لكم كما لتوما: "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي".

فلا تتحدثوا عن طرق كثيرة عديدة. هناك طريق واحد فقط- يسوع هو الطريق الوحيد. ما من اسم تحت السماء أُعطي بين البشر لنخلص به سوى اسم يسوع. هل أتيتم إليه؟ هل تؤمنون به؟ إن كان كذلك، فأنتم على الطريق الصحيح نحو بيت الآب، ويمكنكم إذاً الانتظار بترقب سار لساعة عودته، لأنه قال: "وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَاناً آتِي أَيْضاً وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ". متى سيأتي؟ لا يمكننا أن نعرف ذلك، إلا أننا نترقبه يوماً فيوماً.

"لا أعرف متى يأتي الرب
أو في أي ساعة سيظهر،
سواء في الليل أم في النهار،
أو في أي فصل من السنة.
أعلم فقط أنه قريب،
و صوته سأسمع عما قريب.
أعلم فقط أنه قريب،
و صوته سأسمع عما قريب".