الخطاب ٢٥

«لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ»

"فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكلاَمَ قَالُوا: «هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ». آخَرُونَ قَالُوا: «هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟ أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي الْمَسِيحُ؟» فَحَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَمْعِ لِسَبَبِهِ. ٤٤وَكَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَكِنْ لَمْ يُلْقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ. فَجَاءَ الْخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هَؤُلاَءِ لَهُمْ: «لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟» أَجَابَ الْخُدَّامُ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ». فَأَجَابَهُمُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلْتُمْ؟ أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟ وَلَكِنَّ هَذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ». قَالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟» أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ: «أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ». فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ" (يوحنا ٧: ٤٠- ٥٣).

في الخطاب السابق تمعَّنّا في إعلان ربنا الرائع المتعلق بمجيء الروح القدس عندما صرخ قائلاً في اليوم الأخير من عيد المظال: "إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ". ثم يضيف قائلاً: "مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ". وشرح الإنجيلي معنى الماء الحي حين قال: "قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ". الناس الذين سمعوا ربنا يسوع يتكلم على هذا الشكل عن الماء الحي، كان من الطبيعي أن يربطوا ما جاء في المقاطع التي وردت في العهد القديم التي تتكلم عن الماء الحي بالمسيا، لأنهم كانوا يعرفون من نبوءات إرميا وأشعياء أنه في يومه سوف يتم تقديم عطية الماء الحي. ولذلك فسرعان ما وصلوا إلى الاستنتاج بأن ربنا كان يعلن مسيانيتَه، وبالفعل كان هكذا، ومع ذلك فقد كان يعرف أن ساعته لم تأْتِ بعد، تلك الساعة التي تحلّ فيها هذه البركة على كل شعب إسرائيل، ولكن البركة التي رفضوها كانت لتذهب إلى الأمميين وسيتمتع بها البقية التقية من بني إسرائيل الذين سيؤمنون بيسوع.

أولئك الذين كانوا يصغون إلى الرب التفوا الواحد نحو الآخر وقالوا: "هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ". ما الذي عَنَوه بقولهم "النبي"؟ لقد كانوا يفكرون في كلمات موسى في تثنية ١٨. فهناك، وابتداء من الآية ١٥، نسمع موسى يتحدث إلى شعب إسرائيل وهم مجتمعون حوله في سهول موآب قبل أن يدخلوا إلى أرض كنعان. فقد قال: "يُقِيمُ لكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لهُ تَسْمَعُونَ. حَسَبَ كُلِّ مَا طَلبْتَ مِنَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ الاِجْتِمَاعِ قَائِلاً: لا أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِي وَلا أَرَى هَذِهِ النَّارَ العَظِيمَةَ أَيْضاً لِئَلا أَمُوتَ قَال لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلمُوا. أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الذِي لا يَسْمَعُ لِكَلامِي الذِي يَتَكَلمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ" (تثنية ١٨: ١٥- ١٩).

هذه الكلمات كانت تشير إلى ربنا يسوع المسيح. في (أعمال الرسل ٣: ٢٢، ٢٣) يخاطب الرسول بطرس الناس فيقول: "إِنَّ مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيّاً مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لاَ تَسْمَعُ لِذَلِكَ النَّبِيِّ تُبَادُ مِنَ الشَّعْبِ". وهكذا فإن هؤلاء اليهود الذين كانوا يصغون إلى تعليم ربنا يسوع، بجمعهم معاً عدة أمور مختلفة سمعوها،  وبتفكيرهم بالآيات العجيبة التي قام بها بينهم، قالوا: "لا بد أن هذا هو الذي كنا ننتظره". كما ترون كان من المزمع أن يأتي هذا من بينهم؛ "سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ". لقد كانوا مرتعدين عندما كان الله يكلمهم بنار ملتهبة في جبل سيناء وقالوا: " «تَكَلَّمْ أنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلا يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلا نَمُوتَ" (خروج ٢٠: ١٩). فقال الله: "حسناً. سأقِيمُ نبياً مثل موسى. يكون رسولي إليهم، ولكن من لا يَسْمَع من ذاك النبي أَنَا أُطَالِبُهُ" أو "يُُبَادُ".

لم يكونوا على يقين كامل، ولكنهم فكروا أن هذا هو المنتظر بلا شك. وقال آخرون: "«هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ»"- أي : "هذا هو الممسوح". لقد كانوا يعرفون من كتبهم المقدسة أنه سيأتي يوم يظهر فيه لهم مسيح الله. ولذلك دعاه اليهود "المسيا"، إذ أن "المسيا" تعني "الممسوح". في المزمور ٢ نقرأ: "لِمَاذَا ارْتَجَّتِ الأُمَمُ وَتَفَكَّرَ الشُّعُوبُ فِي الْبَاطِلِ؟ قَامَ مُلُوكُ الأَرْضِ وَتَآمَرَ الرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ قَائِلِينَ:[لِنَقْطَعْ قُيُودَهُمَا وَلْنَطْرَحْ عَنَّا رُبُطَهُمَا]". وفي نفس المزمور وبعد قليل، في الآية ٦، نقرأ: "أمَّا أَنَا فَقَدْ أقمتُ مَلِكِي عَلَى جَبَلِي المقدس صِهْيَوْنَ". "أمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي". الرب يسوع المسيح هو مسيح الله الذي مسحه الله نفسه بالروح القدس وأرسله إلى العالم ليفدي الجنس البشري الساقط الهالك.

ولكن البعض ذمَّ شفتيه وسأل متهكماً: "أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟" هؤلاء الناس الذين من اليهودية كانوا يحتقرون ويزدرون بأولئك القوم من الجليل الأقل منهم معرفة تديناً، وما كان يُعقل بالنسبة لهم أن يأتي مسيح الله من هناك حقاً. وفيما بعد، في الآية ٥٢، نجدهم يقولون شيئاً غير صحيح عن الجليل.

"أَلَمْ يَقُلِ الْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي الْمَسِيحُ؟" نعم. هذا ما قاله الكتاب المقدس. فالنبي ميخا أعلن ذلك بوضوح، وتم الاستشهاد بنبوءته لدى ميلاد الرب: "وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ" (متى ٢: ٦). لقد كانوا يعرفون ذلك؛ فقد كان في كتبهم المقدسة. لقد كانوا يعرفون أن المسيح سيُولدُ في بيت لحم. ولكنهم راحوا يتخبطون لأنهم لم يسمعوا أنه قد وُلد في بيت لحم، وأنه من نسل داود عبر مريم العذراء، التي كانت من نسل داود. لقد كان ميلاد الرب تحقيقاً للنبوءة بشكل كامل. لقد وُلِدَ من عذراء، و وُلِدَ في بيت لحم، و وُلِدَ من نسل داود، ولكنهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء التحقق من صحة هذه الأشياء. عندما يعطي الله كلمتَه، فإن الجهل بتلك الكلمة لا يبرّر أحداً. كثيرون اليوم يجهلون هذا الكتاب بشكل كبير، وربما يتخيلون أنه يمكنهم في يوم الدينونة أن يتخذوا من الجهل ملاذاً كعذر لهم على عدم فهمهم لإرادته. ولكن، تذكّروا، إن كنتم جاهلين لكلمة الله، فإنكم جاهلون عن عمد. إذ أن لديكم الكتاب المقدس في منازلكم. إن كنتم لا تدرسون كتبكم المقدسة، فإنكم تكونون مسؤولين إنْ لم تعرفوا فكرَ الله. يقول يسوع: "فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً" (يوحنا ٥: ٣٩). هل يحرّضنا هذا ويوقظ فينا الإحساس بالمسؤولية؟ ليتَ هذا! أخشى أن يكون هناك آلاف من الناس الذين نادراً ما يفتحون كتبهم المقدسة، بالكاد من عطلة نهاية الأسبوع إلى الأخرى. إنهم يعتمدون على مقاطع تُستخدم عند الضرورة من وعظ المنبر أو من مدارس الأحد، والله يعرف أنهم نادراً ما يذهبون إلى هناك. ولكن لا مبرر لهم (ولكم)، إذ أن لديكم الكتاب المقدس، ويمكنكم أن تقرأوا فيه بأنفسكم ولأجل أنفسكم. لستُ متأكداً من الأمر، ولكن إن كان هناك إحساس بالمسؤولية تجاه ذلك وإن كان المسيحيون يبدأون بقراءة هذا الكتاب، فسرعان ما سنرى انتعاشاً كبيراً وسط شعب الله ويقظة عظيمة عند أولئك الذين لم يعرفوا المسيح.

قبل فترةٍ، أخبرنا مُرسَلٌ عزيز في إنكلترا أنه كان قد ترك موقعه في الهند بسبب اعتلال صحته. وقرأ علينا رسالةً وصلتْه من أحد الشيوخ الأصليين في كنيسته في الهند. لقد كان يخبر كم أنه مشتاق إليه، وكيف أنهم خلال غيابه كانوا يصلّون كثيراً ويقرأون كلمة الله. وفي الواقع كان يتعايشون مع الكتاب المقدس. وكما قال ذلك المُرسَل، فإنه عندما يُعاشُ الكتاب المقدس تحدث نهضة أو انتعاش. إذ "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ" (متى ٤: ٤). ولكن إن تجاهل الناس الإطلاع على كلمة الله، فعليهم تقع مسؤولية جهلهم بها.

ونقرأ أنه "حَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الْجَمْعِ لِسَبَبِهِ". ولا يزال هناك انشقاق بسببه. قال بعضهم: "أليس هذا هو المسيح؟" وقال آخرون: "أَلَعَلَّ الْمَسِيحَ مِنَ الْجَلِيلِ يَأْتِي؟ لا. لا يمكننا قبوله في هذه الحالة". ولا يزال هناك هذان الفريقان المنشقان في الرأي حتى اليوم. هناك من ينظرون بإيمان ويقولون: "لقد عرفنا فيه مخلصنا وفادينا". وهناك من يرفضونه ويزدرون به. ولكن الله أخبرنا أنه ليس باسم أي أحد آخر سواه من بني البشر نخلص، وإن كنا سنرفض شهادة الله عنه، وإن كنا سنأبى قبوله مخلصاً ورباً لنا، فعندها سيتحقق إنذاره الجليل: "حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا، وما لم تؤمنوا بأني أنا هو فإنكم تَمُوتُونَ فِي خَطِايكُمْ".

نعم، هناك انقسام بسببه اليوم، ولعلني أسألكم بلطف الآن: إلى جانب من تقفون الآن؟ هل أنتم من أولئك الذين آمنوا به وقبلوه؛ أم أنكم تُعتَبرون من أولئك الذين رفضوه وازدروا بنعمته ورحمته؟ على كل حال، إن كنتم من المجموعة الأخيرة هذه، فقريباً ستأتون إليه تائبين وستتخذونه مخلصاً. كان هناك انقسامٌ بين الشعب بسبب يسوع. البعض كان ليود أن يقبض عليه ويعتقله. ولكن ما من إنسان وضع يده عليه. لم تكن ساعته قد أتت عندما سيُرفع على الصليب. كان الفريسيون قد أرسلوا إليه خداماً معينين ليقبضوا عليه ويأتوا به أمام رؤساء الكهنة في المجمع، ولكننا نعلم من الآية ٤٥ أنهم عادوا خاليي الوفاض. فقال هؤلاء: "لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟" "لماذا لم تمسكوا به؟" وأعطى الخدام هذا الجواب الرائع: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". نعم، كان هناك شيء يتعلق بيسوع، أحياناً يختص برسالته نفسها، وطريقة كلامه، ومدى تأثير تعليمه على قلوب هؤلاء الخدام القساة المتحجري الفؤاد، حتى أنهم وجدوا أنفسَهم عاجزين تماماً ومشلولين وما تجرأوا على أن يقبضوا عليه. لقد مضوا مرتبكين ومحتارين ومنذهلين. فمن هو ذاك الذي يتحدث بمثل هكذا سلطان؟ "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". وإذ أجاب الخدام رؤساء الكهنة والفريسيين بهذا القول، فقد ظن هؤلاء أن الخدامَ قد اقتنعوا بمسيانية يسوع. فقالوا: "«أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلْتُمْ؟" وقصدوا بذلك: "هل انخدعتم أيضاً حتى عجزتم عن محاكمة الأمور بشكل سليم وعقلاني؟" ثم سألوا: "أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟" ما كان يُسمح للعظماء أو الكبار، كقاعدة، أن يؤمنوا به. ولكن الله كان قد اختار الفقراء في هذا العالم، الناس المحتقرين. إنه يستخدم الأشياء ولكنه لا يخفق فيها مهما يكن الأمر. العظماء قلّما يندمجون ويؤمنون، ولكن مع ذلك، ومن جهة أخرى، كان هناك دائماً أناسٌ في الطبقة العليا من الشعب كانوا يدركون جمال وبركة ربنا يسوع، وهكذا فمن بين القديسين البارزين المؤمنين بالله كان هناك رجال ونساء حتى في العائلات الملكية أو الهامة. الله له قديسين حتى بين الأثرياء، وذلك أمرٌ عظيم كما تعلمون.

لقد سألوا: "أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟" لقد أعلنوا أن هؤلاء الناس الذين لا يعرفون الناموس قد تخلوا عن إدانتهم ليسوع لأنهم لا يفهمون. كانت هذه فرصة لنيقوديموس ليُظهرَ موقفَه. لقد كان أحد الفريسيين، أحد الضليعين بالناموس، والمتمكّنين في معرفتهم للكتابات المقدسة. قالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ (الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ): "«أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟»". لكأنه يقول لهم: "هل استمعتم إليه؟ هل رأيتم أعمال الاقتدار التي صنعها؟ إن كنتم لم تفعلوا ذلك فلماذا تدينونه؟ ولماذا تقولون أنه مخادعٌ مُضِلٌ؟" لكأن نيقوديموس كان يقول لهم: "تحرّوا عن الأمر قبل أن تحكموا". ومن هنا فإننا اليوم نقول لكل أولئك الذين يحاولون أن يرفضوا كلام الرب يسوع المسيح: "تحقّقوا قبل أن تقرروا أو تحكموا. إن كنتم لا أدريين أو شكوكيين وتقولون: لا أستطيع أن أومن بقصة يسوع المسيح، ولا أستطيع أن أومن بأنه كان ابن الله، المولود من عذراء"، فدعوني أسألكم: هل تحرّيتم في هذه السجلات التي دُوِّنَتْ في الأناجيل وتحققتم منها؟

أعتقد أن جميع الخدام المثقفين العارفين بالإنجيل قد سمعوا بعدد لا حصر له من الكتب الذين وضعها أناسٌ يرفضون الكتاب المقدس ويرفضون الشهادة التي قدّمها الرب يسوع المسيح. يمكنني أن أقول أني قرأتُ شخصياً مئات الكتب من هذا النوع التي كتبها أناسٌ غير مؤمنين. لعلكم تسألونني: ألم تهزّ (هذه الكتب) إيمانَك بالكتاب المقدس؟ لا في الواقع، بل إنها تظهر لي فقط حماقة عدم الإيمان. أما وقد قلتُ ذلك، فدعوني أقول أيضاً أني لم ألْتَقِ أبداً بأي شخص غير مؤمن قد قرأ كتاباً جدياً عن أدلة الإيمان المسيحي. لعل هناك البعض ولكن لم ألتقِ بمثل هؤلاء. الناس يقرأون الجدل والنقاش الذي يقدّمه الطرف الآخر. ولكن المعترضين العاديين لا يكلّفون أنفسَهم عناء قراءة الكتب التي كُتِبَتْ دفاعاً عن حق الله. أعرف محامياً كان غير مؤمن، باعترافه، لسنين. وفي النهاية قال له أحدهم: "ولكنك لم تقرأ الجانب الآخر". فكان جوابُه: "لقد أخذتُ قراري وحدّدْتُ موقفي". "نعم، ولكنك لم تقرأ وجهة نظر الجانب الآخر. هناك كتاب قديم- "نلسون حول الإلحاد"- لنفترض أنك قرأته!". فقال: "أفترض أن عليَّ ذلك". وقرأه بالفعل. وقبل أن يكمل قراءته صار مسيحياً. هناك كتب كثيرة على هذه الشاكلة، مثل كتاب الدكتور إي. تي. بييرسون: "أدلة إلحادية كثيرة"، وكتب أخرى يمكن أن نتكلم عنها. المشكلة هي مع أعداء صليب المسيح. فهم ليسوع على استعداد لأن يتحرّوا ويستقصوا الحقائق لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن خطيئة ما يدينها الكتاب المقدس. إنهم يعلمون أنهم إذا صاروا مسيحيين فإن هذا يعني تحولهم عن الخطيئة وإخضاع إرادتهم للمسيح.

واجه نيقوديموس هذا التحدي وقال: "«أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟»" فهل يجيبونه على سؤاله؟ لا أبداً. لقد ردوا عليه، نعم. ولكن ردهم كان نوعاً من المراوغة. فقد سألوه: "«أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ»". وأظهروا من جديد جهلهم. لقد كان هؤلاء المعلمون المبجّلون يظنون أنهم يعرفون كل شيء. كانوا يعتقدون أن "كل المعلّمين متفقين في الرأي" معهم، وعندما كان أحدهم يقول شيئاً مختلفاً عما يفكرون، كانوا يقولون له: "أَلَعَلَّكَ مِنَ الْجَلِيلِ؟ هل ستنضم إلى ذلك الحشد؟ ما من نبي خرج من الجليل". ما كانوا يقرأون كتبهم المقدسة بانتباه. لقد نسيوا أن يونان كان من جَتَّ حَافَرَ، هذه البلدة في الجليل (انظر ٢ ملوك ١٤: ٢٥). ومن جهة أخرى، كان هناك اعتقاد بأن ناحوم كان جليلياً. وإذاً نبي واحدٌ على الأقل خرج من الجليل، وربما اثنان، ولم يكن مستحيلاً أن يخرج منه آخر. لكنهم قالوا: "فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ". هذه هي الطريقة التي يتعامل بها الناس مع حق الله اليوم. يا أعزائي، لا تكونوا غير منصفين لنفوسكم. إن كنتم لم تتحروا وتتحققوا من كلام الرب يسوع المسيح، فإنني أرجوكم أن تفعلوا ذلك. إن منتهى الحماقة هو افتراض أن مزاعم الرب يسوع غير صحيحة في حين أنكم لم تفكّروا ملياً في الدليل.

ولكن دعونا نعود إلى تلك الكلمات التي قالها الخدام: فقد قالوا: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ"، وأريدكم أن تفكروا في هذه الكلمات التي تشير إلى شخص ربنا يسوع المسيح العظيم الرائع. إن كلماته كانت كلماتٍ ذات سلطان. لم تكن التشابيه اللطيفة والصور التوضيحية الجميلة والمحببة هي فقط التي قادتْهم إلى أن يتحدثوا على هذا النحو. فقد قالوا: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". لنفكّرْ في بعض أقواله. إنه يقول: "والآن مكتوب في الناموس هكذا وهكذا، ولكني أقول لكم كذا وكذا". بالتأكيد ما من إنسان تكلّم مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ! وفكروا في قوة كلماته، عندما كان الناس يأتون إليه في محنة- كما فعل الأعمى عندما قال: "«يَا سَيِّدِي أَنْ أُبْصِرَ»" (مرقس ١٠: ٥١)، ووضع الرب يديه على عيني ذلك الأعمى قائلاً له: "فلتنفتحا"، وصار الرجل الأعمى مبصراً. انظروا إلى ذلك الرجل المجذوم البائس، الذي كان نجساً ودنساً وملوثاً بشكل كبير. "يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي»" (متى ٨: ٢). هذا ما قاله ليسوع. فمد يسوع يده ولمسه قائلاً: "«أُرِيدُ فَاطْهُرْ»". وإذ نظر المجذوم إلى جسده النظيف بتعجب، كان قلبه يقول: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". ومن ثم، عندما وقف يسوع عند القبر، كما فعل عندما دخل إلى البيت حيث كانت ابنة يايرس الصغيرة، وأنهضها بيدها قائلاً: "يا صبية قومي"، وقامت. لا بد أن والديها قد فكّرا أن: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". وعند قبر لعازر، عندما دحرجوا الحجر، صرخ يسوع: "«لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً»" (يوحنا ١١: ٤٣)، "فخرج الميت". أتخيل أن ذلك الحشد قد قالوا في قلوبهم: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". ويا أصدقائي الأعزاء، عندما عُلِّقَ على الصليب وصلّى من أجل الخطاة والآثمين والفجّار وصرخ قائلاً: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعرفون ما يفعلون"، وبعد ذلك هتف منتصراً قائلاً: "«قَدْ أُكْمِلَ»" (يوحنا ١٩: ٣٠)- بالتأكيد "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". عندما نهض قائماً والتقى بتلاميذه وقال لهم: "«سَلاَمٌ لَكُم»"، وظهر فيما بعد وسط تلاميذه وقال: "كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا" (يوحنا ٢٠: ٢١)- بالتأكيد مضوا وكلب واحد يقول في نفسه: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". والآن قد صعد إلى مجد الله، وها هو يجلس على يمين الجلال في السماء، ولكن ما هي إلا برهة حتى يعود وسيدعو الأموات من القبور ويغير الأحياء- عندما يهتف قائلاً: "انهضوا، يا أحبائي، يا أعزائي، وقوموا"، فإننا سنقوم وننهض مرنمين في طريقنا عبر الفضاء قائلين: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". وفي نهاية الأدهار الزمانية، عند العرش الأبيض العظيم، وعندما يُنادى الأمواتُ من قبورهم فيقفون أمامه للدينونة وينظرون إلى وجه ذلك الذي سار على شواطئ الجليل، ذلك الذي تكلّم بحنو لا مثيل له إلى أولئك المحزونين القلقين المضطربين، عندما يرون ذاك على العرش ويقفون أمامه ليقدموا حساباً عن خطاياهم، وفوق كل شيء آخر، عن خطيئتهم في رفضهم لنعمته، ويسمعونه يقول (وإني لآمل ألا تسمعونه أبداً يقول هذه الكلمات): "اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ" (متى ٢٥: ٤١)، فإنهم سيشبكون أيديهم توجعاً ويقولون: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". "لو كنا قد قبلنا شهادتَه عندما دعانا في النعمة وقال: تعالوا إلي أيها المتعبون وثقيلوا الأحمال"، لما كنا سنسمعه يقول: «اذْهَبُوا عَنِّي»".

ها هو يتكلم اليوم ويقول: "تعالوا إليَّ ..... وأنا أريحكم". "الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ، فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي الإِسْخَاطِ، يَوْمَ التَّجْرِبَةِ فِي الْقَفْرِ" (عبرانيين ٣: ٨). إنه يتحدث إليك أنت الغارق في خطاياك ويعدك بأن يحررك بمجرد أن تضع ثقتك فيه. فليصرخ قلبك إليه قائلاً: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ". وقل: "سأتخذه الآن مخلصاً لي".