الخطاب ١٨

إطعام الجموع

"بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الْجَلِيلِ وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ. وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي الْمَرْضَى. فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ. وَكَانَ الْفِصْحُ عِيدُ الْيَهُودِ قَرِيباً. فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟» وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ. أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً». قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ: «هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «ﭐجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ». وَكَانَ فِي الْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ. فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ. وَأَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ وَوَزَّعَ عَلَى التّلاَمِيذِ وَالتّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْمُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا. فَلَمَّا شَبِعُوا قَالَ لِتلاَمِيذِهِ: «ﭐجْمَعُوا الْكِسَرَ الْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَيْءٌ». فَجَمَعُوا وَمَلأُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الْكِسَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: «إِنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ!» وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ. وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ نَزَلَ تلاَمِيذُهُ إِلَى الْبَحْرِ فَدَخَلُوا السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَكَانَ الظّلاَمُ قَدْ أَقْبَلَ وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ. وَهَاجَ الْبَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ. فَلَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاَثِينَ غَلْوَةً نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ مُقْتَرِباً مِنَ السَّفِينَةِ فَخَافُوا. فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ لاَ تَخَافُوا». فَرَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ. وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا" (يوحنا ٦: ١- ٢١).

إن أعجوبةَ الأرغفةِ وإطعامِ خمسة الآلاف هي إحدى تلك الآيات المسجلة في كل الأناجيل الأربعة. لا بدّ من وجود سبب خاص جداً لتفسير ذلك، وإلا فإن روح الله ما كان ليهتمَّ لهذه الدرجة حتى يجعلَ كلاً من الإنجيليين يروي القصةَ لهذه المعجزة. هناك بضعة فروقات خفيفة أو فروقات طفيفة بطريقة سرد القصة، كما من المفترض أن نتوقعه من كُتَّابِنا المستقلين الأربعة، والذين كان بعضٌ منهم شهودَ عيان والبعضُ سَمِع بالقصة من خلال الآخرين. هذه الفروقات ما هي إلا دليلٌ آخر على حقيقة أنَّ الكتاب المقدس هو كلمة الله المُوحى بها، فلو كان هؤلاء الرجال الأربعة متى ومرقس ولوقا ويوحنا قد خططوا لكتابةِ قصةٍ عن الإنسان الذي يُدعى يسوع وأرادوا أن يقدّموها بزيفٍ إلى العالم مُدَّعين أنها بوحيٍ إلهي، لكانوا مهتمينَ للغاية بكل تفصيل من القصة ليذكروه بنفس الطريقةِ تماماً. ولكننا بدلاً من ذلك نجدُ فروقات بحسب وجهة نظر كلّ واحدٍ منهم. فمتّى، كما رأينا، يركّزُ على المسيَّا الموعود. ومرقس يشدّدُ على تلك الأشياء التي تُظهر شخصية الخادم في ربنا يسوع، إذ أن ذلك هو الموضوع الذي كان في ذهنه عند الكتابة، ألا وهو أن يُظهر المسيح كخادم لله والإنسان. ويركّزُ لوقا على تلك الأمور التي تُشير إلى إنسانية المسيح المقدّسة. وأما يوحنا فيتعامل بشَكلٍ أكثرَ خصوصيةً مع تلكَ الأشياء التي تُظهر أن المسيح هو ابنُ الله، إذ أنَّ هذا الإنجيل، كما رأينا، هو إنجيلُ ألوهيةِ ربنا يسوع المسيح. لا يُخبِرنا إنجيل يوحنا متى حدثت هذه الأحداث بالضبط. أما الأناجيلُ السينابتية فتُرينا أنها حدثت مباشرةً بعد موت يوحنا المعمدان، إذ أن الربَّ كان يبدأ آنذاك الفترة الأخيرة من خدمته والتي تمتد سنة ونصف سنة.

نقرأ: "بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الْجَلِيلِ وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ". وبحر طبرية يقع على الشاطئ الغربي من هذه البحيرة الجميلة. لقد عَبَرَ يسوعُ من هناك إلى الشاطئ المقابل، حيثُ كان جمعٌ غفير قد تَبِعهُ لأنهم رأوا الأعاجيب التي فعلها. في كلّ مكان كان يذهب إليه كانت هناك حشود تتبعهُ بسبب أعمال قدرته الرائعة التي كان يصنعها. هو لم يقصد أن يعرفوهُ كابن الله، بل كانوا قد استُحثوا وانتابهم الفضول، وكانَ هناكَ في بعض الأحيان اهتمامٌ قلبي. "أيمكن أن يكونَ نبياً قد قام من بين الأموات؟ هل هو إيليا المُزمَع أن يأتي، أم هو المسيَّا الموعود بالفعل؟".

صعِدَ يسوعُ إلى جبلٍ، نجدٍ مرتفعٍ بجوارِ بحر الجليل، وهناكَ علَّم الناس. يُخبرنا يوحنا أنَّ عيد الفصح كان وشيكاً. لقد كان يُدعى "عيد الرب" في العهد القديم، ولكن اصطُلِحَ عليه اسم "عيدُ اليهود". لقد جعلوا منهُ عيدَهم الخاص، لأنَّ من يرمز إليه الفصح كان في وسطهم ولكنهم لم يعرفوه. فما عادَ له أية قيمة من بعد.

نعلم من إنجيل يوحنا أنه في ذلك المساء "رَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟»". لقد كانوا معهم طوال ذلك النهار. لقد استمعوا إلى الأقوال الرائعة التي نطقت بها شفتاه. ونعلم من الأناجيل الأخرى أن التلاميذ هم الذين أخذوا المبادرة وقالوا: "أرسلهم إلى بيوتهم إذ ليس من إمكانية لإطعامهم". ولكن يوحنا علم أن الرب يسوع كان قد فكّر بهذا للتو. فالتفت يسوع إلى فيلبس وقال له: "«مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟»". يُمكننا أن نقول، ببعض التأكيد، أنه ومهما أبدى التلاميذ من اهتمام عظيم نحو حشود الناس، إلا أنَّ اهتمام الرب يسوع كان أعظم منهم بكثير. وهذا يُشجّعنا كثيراً نحن الذين لدينا بعضُ الاهتمام والشغف وحسب نحو الحشود التي تحيطُ بنا، ولكن يا لها من مشاعرَ حنوٍ رائعةٍ لدى المسيح تلك التي يَكنّها نحو البشر في كل مكان! إنه مهتمٌ بخيرهم أكثر بكثير من خدامه (التلاميذ). إن بدونا أحياناً وكأننا سنفشل في الدخول إلى جدية الأمور، ولم تتحرك قلوبُنا كما ينبغي مقابلَ حاجة البشرية الصارخة، فإن القلب الكبير لابن الله المبارك ينبضُ بالشفقةِ والحنوِ. إنه ينظرُ إلى الجموع بمحبةٍ حانيةٍ كما فعلَ على الدوام. لقد نظرَ إليهم وقال: "يجب أن أُطعمهم؛ يجب أن أَسُدَّ حاجتهم" – فهو، خبزُ الله المبارك الذي نزلَ من السموات. ولذلك سأل: "«مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاَءِ؟»". ليس الأمر أنه لم يعرف ما يفعل، "وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ".

يا لها من كلماتٍ معزية! فها هنا كانت حالةٌ طارئة- آلافٌ من الناسِ بدون طعام! لو كانوا سيسعونَ للحصول على الطعام بأنفسهم لكانَ سيُغمى عليهم قبلَ أن يحصلوا عليه. فلقد كانوا بعيداً جداً عن بيوتهم. ولكنَّ الرب يسوع المسيح قد خطّطَ لتوهِ أن يَسدَّ حاجتهم تلك.

هل من بين الحاضرين أمامي من يجد نفسه في ظروفٍ صعبةٍ وشاقةٍ، وهل من بينكم من يتساءل إذا كان اللهُ قد نَسي أو إن كان قد فقدَ كلَّ اهتمامٍ بكم؟ دعوني أُخبركم ما يلي: إن آمنتم به مخلِّصاً لكم، فإن قلبهُ دائماً نحوكم، وهو يعرفُ ما سيعملهُ. هو لن يخذلكم. هو لن يترككم تترنحونَ وتسقطون. قد يبدو وكأنه ليس هناكَ من طريقةٍ ممكنة لسدِّ حاجتكم الحالية، ولكنهُ يعرفُ ما سيفعلهُ. إننا ننظرُ إلى الأشياء التي نستطيع أن نراها، ويمكننا أن نُصبح مثبَّطين جداً فاقدي العزيمة ومضطربين إذا أخذنا الظروف بعين الاعتبار، ولكنَّ ربَّنا يسوع المسيح المبارك لا يتأثرُ أبداً بالظروف.

"إنهُ يعرفُ ويحبُّ ويُعنى،
ما من شيء يمكن أن يُبهتَ هذه الحقيقة:
إنه يُعطي الأفضل لأولئك
الذين يتركون له الخيار".

لنرجع إلى الكتاب المقدس ونرى تلكَ الشخصيات الواردة في العهد القديم الذين تعرضوا لتجارب. فيعقوب كان في محنة. كانت هناكَ مجاعة في كلِّ أرجاءِ الأرضِ. وأحدُ أولادهِ قد وقعَ في الأسر لأنَّ يوسف أرادَ أن يرى أخيه، بنيامين، ولكنَّ يعقوب كان عازماً على أن لا ينزل بنيامين إلى مصر. ولكنه في محنته لا يعرف ما يفعل، ويقول لهُ أبناؤهُ الآخرون: "لا يمكننا أن نذهبَ بدون بنيامين". فيُسقط يعقوب ذراعيه ويقول: "كلُّ هذه الأشياء ضدي". لماذا، يا أصدقائي الأعزاء، وكما تعلمون، كان الله يخططُ من أجلهِ بطريقةٍ رائعة، ولم يطل الوقت حتى جاءَ الأخوة وأخذوه وعائلته إلى مصر، حيثُ نالَ وفرةً. هل تشعر وكأنك تلوي يديك المتشابكتين وتصرخُ في يأسٍ قائلاً: "كلُّ شيءٍ يسيرُ على غيرِ ما يرام. كلُّ هذه الأشياء هي ضدي". إن كان كذلك فإني أقولُ لكَ لا. ليست الأمور هكذا. الله معكَ، وإن كان الله معكَ فمن يمكن أن يكونَ ضدكَ؟ ربنا المبارك معنا: "لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ" (عب ٤: ١٥) و"لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ" (عب ٢: ١٨). وهو يعرفُ ما سيفعل. إنهُ يخططُ لكَ، يا أخي، في هذه اللحظة بالذات. إنَّ لديه تصميماً لكِ، يا أختي. صدقوا ذلك. ثقوا به، وكونوا على يقين بأنه سيعملُ الخيرَ لأجلكم في الوقت الذي يجدهُ مناسباً.

وهكذا كان ربُّنا المبارك هنا يعرف ما سيفعل. لقد كانَ سيسدُّ حاجةَ هؤلاء بطريقته الخاصة العجيبة. ولكن فيلبس لم يفهم، وأجابه قائلاً: "لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً". لقد كان الدينار الذي يتحدث عنه فيلبس أجرة يوم عمل كامل للرجل في ذلك الزمان. بينما كان هذا يعادل شلن إنكليزي أو أقل بقليل، إلا أنه كانت له قوة شرائية أعظم بكثير في تلك البلاد. وهكذا يقول فيلبس: "لماذا سنصرف يا رب ما يعادل أجرة مئتي يوم عمل كامل لإطعام هؤلاء الناس بخبز لا يأخذ كل منهم إلا القليل منه ولا يكفي ليشبع، ومن ثم أنى لنا أن نأتي به؟" لقد بدا وكأنهم أمام معضلة كبيرة لا يمكن حلها. ولكن ليس من معضلة كبيرة لا حل لها عند المسيح. لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً. لن يعطيهم المسيح حفنة صغيرة لأجل العشاء، بل سيقدم لهم وجبة وافرة جداً ستشبعهم جميعاً.

هنا تقدّمَ أندراوس إلى المسيح. يبدو وكأن أندراوس هو دائماً الرجل الملائم للمكان الصعب. لقد كانَ يهرعُ مسارعاً في أرجاء المكان ليرى ما يمكن أن يجد. فيقول: "لقد صادفتُ غلاماً معهُ عشاءٌ ضئيل". نعم، هناكَ دائماً غلامٌ وسطَ الحشود الكبيرة. إنه ينسلُّ وسط الحشد. عندما يربح الرب قلوبَ الفتيان، يمكنك أن تعرف كيف يكونون. هذا الغلام الفتي كان هناكَ ذلك الصباح. لعَلهُ قال: "يا أمي، أريدُ أن أذهب لأسمع ذلكَ الواعظ العظيم". ولذلك فقد أعدَّت لهُ طعامَ غذاءٍ ليأخذهُ معهُ. لقد قال أندراوس: "«هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاَءِ؟»". ورغم ما يقول، إلا أني لا أعتقد أن أندراوس كان فاقد الأمل. لكأنه كان يتساءل: "هل من طريقة تجعل بها هذه كافيةً؟".

ولذلك قال يسوع: "«ﭐجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ»". ويخبرنا يوحنا أنه "كَانَ فِي الْمَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ. فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلاَفٍ". أي حشد يمكن إطعامه بخَمْسَة أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَينِ، فليس هناك ولو نصف سمكة لكل ألف!. أولئك هم الشعب، مها هي الوليمة. "أَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ (بثقة كاملة بأن الله سيسد كل حاجة) وَوَزَّعَ عَلَى التّلاَمِيذِ وَالتّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْمُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا". لقد بدا وكأن تلك الزوادة لا تنضب. استمتع خمسة آلاف من الشعب السعيد بالوليمة التي قدمها يسوع لهم. وبعد ذلك قال: "«ﭐجْمَعُوا الْكِسَرَ الْفَاضِلَةَ لِكَيْ لاَ يَضِيعَ شَيْءٌ»". إنه يعطي مجاناً ولكنه لا يبذّر أبداً. فَجَمَعُوا الْكِسَر وَمَلأُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ. يا للمفارقة، في البداية قالوا "ليس لدينا ما نقيت به هذا الحشد"، بينما فضلت قفة لكل واحد من التلاميذ في نهاية الأمر! لقد كان هناك طعام وافر للجميع. إنه لا يبخل بشيء. فيا أخي وأختي، إن كنتم في محنة، اطلبوا بثقة، لأن ملكاً هو ذاك الذي تطلبون منه. لا تخشوا أن يعجز عن تلبية مطلبكم. فهو قادرٌ أن يسد كل إعوازٍ. "فَيَمْلأُ إِلَهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (فيلبي ٤: ١٩).

لقد مَلأُوا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الْكِسَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ، و"لَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: «إِنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ!»". ما الذي دفعهم لقول ذلك؟ لا بد أن أولئك الناس عرفوا كتابهم المقدس. لقد كانوا يقرأون سفر المزامير في بيوتهم، وكانوا يترنمون بالمزامير في اجتماعاتهم في الهيكل، وكانوا يعلمون أن الآية في المزمور ١٣٢: ١٥ كانت تتحدث عن مسيح إسرائيل، النبي والملك الذي كان سيأتي إلى العالم. إذ تقول الآية: "طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً. مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزاً". وبالتالي قالوا في أنفسهم أن: "لا بد أن هذا هو. فهذا ما فعله بالضبط. انظروا كيف أشبعنا هنا بالخبز. فلا بد أنه هو بالفعل".

أي نبي كانوا يقصدون؟ إنه ذاك الذي قال موسى عنه: "تطيعونه في كل الأمور". ولذلك قالوا: "لا بد أن هذا هو النبي. لا بد أن هذا هو المخلص الآتي". ولكن ما كان قد آن الأوان بعد ليكمل يسوع كل نبوءات العهد القديم تلك ويؤسس الملكوت. لقد كان سيفعل ذلك بحسب توقيت الله، ولكن قبل ذلك سيكون عليه أن يعود إلى السماء ويقوم بخدمة رائعة كرئيس كهنة عظيم لنا، ويتّخذ لنفسه شعباً من الأمميين ليكونوا عروسه في يوم اقتداره.

ولهذا السبب فإنه ترك السفينة وصعد إلى الجبل ليصلي. وهنا لدينا تصور يمكننا من معرفة ما انفك الرب يسوع يقوم به منذ صعوده إلى السماء. لقد أرادت تلك الجموع أن تنصبه ملكاً، ولكنه انْصَرَفَ إِلَى الْجَبَلِ. لقد صعد لكي يتكلم إلى الآب، ليتشفع من أجل تلاميذه، الذين لا يزالون في العالم وسط التجارب والمحن والصعوبات. هذا تصوير لذاك الذي كان نبياً على الأرض، والذي صعد الآن إلى السموات ليكون شفيعاً لنا ومحامياً عنا أمام الآب.

"وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ نَزَلَ تلاَمِيذُهُ إِلَى الْبَحْرِ". تقول لنا الأناجيل الأخرى أن التلاميذ عبروا البحر إلى كَفْرِنَاحُومَ، ولكن يُقال لنا أن الرياح كانت معاندة. أما يوحنا فلا يخبرنا شيئاً عن ذلك، بخلاف الأناجيل الأخرى. يقول يوحنا: "فَدَخَلُوا السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ". هناك نوع من الخليج، وكانوا يعبرون هذا الخليج عندما هبّت عاصفة فجأة. ووصل بهم المطاف إلى بحر الجليل. "وَكَانَ الظّلاَمُ قَدْ أَقْبَلَ وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ". لعلك ترى في هذه صورة عن شعب الله الذين يجتازون الآن في ظلمة بحر الزمان، ويسوع، وإن كان حاضراً بالروح، إلا أنه غائب شخصياً. "وَهَاجَ الْبَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ". كان في مقدورهم أن يعودوا أدراجهم قبل أن تهب الريح، ولكن يسوع كان قد قال لهم أن يمضوا قُدُماً. وهكذا حاولوا جهدهم المضي في طريقهم. ارتفعت الأمواج وبدا وكأن السفينة ستتحطم. هل نسيهم يسوع؟ هل كان غير مبالٍ بهم؟ لا يا أخي وأختي، لم يكن متجاهلاً لهم كما أنه لا يمكن ألا يكون مبالياً بمحنتكم. لقد كان في مقدوره أن يرى. وحتى في الظلام كان يمكنه أن يرى. بل إنه يستطيع أن يعرف أفكارنا. إنه يدرك آلامنا. ويعرف بكل مشقة تعترضنا.

كان هناكَ يناشدُ الله بالصلاة وكانت أمواج البحرِ تتقاذفهم، وكان قلبهُ قلقاً عليهم، ولذلك ففي نهاية المطاف نجدهُ يأتي إليهم. وسيأتي يوماً ما إلينا. حتى الآن في هذا الوقت نجدهُ يأتي بعنايته المُحبّة ليُعطينا العون الذي نحتاج إليه تماماً عندما نكون في ضائقة أو في صعوبات. نقرأ أنهم "لَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاَثِينَ غَلْوَةً نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ مُقْتَرِباً مِنَ السَّفِينَةِ فَخَافُوا". إنَّ الأمرَ يتطلبُ إيماناً حتى نراهُ على هذا النحو اليوم. لقد أمكنهم أن يروه بالعيان. لا نستطيع أن نراه بعيننا الطبيعية، ولكننا نسلكُ بالإيمان وليس بالعيان. مهما كانت عواصفُ الحياة، ومهما كانت الأمواجُ عالية، ومهما كانت العاصفةُ خطيرةً، ثِقوا به، واعتمدوا عليه، وانظروا في إيمان، وسترونه يسيرُ على أمواج المياه.

نقرأ: "ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِماً سَالِماً لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ" (أشعياء ٢٦: ٣). ولكن كما تعلمون من الممكن أن ننشغلَ بأمور الأرض لدرجة أننا نعجز عن تمييز يسوع عندما يأتي ليُساعدنا. إننا منشغلينَ بأمورنا الخاصة، وظروفنا، حتى أننا لا نعرفهُ عندما يأتي ليُعتقنا ويحررنا.

لقد كانوا خائفين لأنهم ظنوا أنهُ كان طيفاً أو شبحاً. مهما يكن من أمر، إن الأمور الآن هي أسوأ مما كانت قبلاً بكثير. والظروف تُعمي العيون جداً لدرجة أننا نُخفق في أن نميز يسوع عندما يأتي فعلياً ليقدم لنا الراحةَ التي طالما نكونُ قد تُقنا إليها.

إلا أن المخلّص دنا إليهم وقال: "«أَنَا هُوَ لاَ تَخَافُوا»". وهذا ما يقوله لكل قلبٍ مضطرب اليوم يطلب العون: "«أَنَا هُوَ لاَ تَخَافُوا»". لا تغتمّوا تحت وطأة ظروفكم. سأل رجلٌ يوماً رجلاً آخر: "كيف تتدبّر أمورك يا أخي؟"، فرفع الآخر بصره نحوه بوجه مكتئب وقال: "لا بأس. أقاوم قدر الإمكان وطأة الظروف". فقال ذاك: "يؤسفني أن أسمع أنك تحت وطأة ظروف. لقد سُرَّ المسيح أن يرفعنا فوق كل الظروف". وهذا هو ما يفعله تماماً. لسنا مضطرين لأن نعاني من الظروف. لقد عانى بولس الرسول من ظروف أعتى وأشد مما يمكن أن نعانيه على الإطلاق، ولكنه قال: "أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضاً أَنْ أَسْتَفْضِلَ" (فيلبي ٤: ١٢). يقول الله أنه لن يتركك ولن ينساك.

وها إن يسوع يقول الآن: "أيتها النفوس البائسة المضطربة، لا تخافوا، فها قد أتيتُ لمساعدتكم". "فَرَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ". قالوا له: "يا رب، إن كان هذا أنت، فادخل إلى السفينة معنا"، وفعل ذلك، "وَلِلْوَقْتِ" تغير كل شيء، و"صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا". انظر، لقد كانوا قريبين من المرفأ، وما كانوا يعرفون. يا صديقي العزيز، سفينتك قريبة من الميناء، فلا تستسلم لليأس. إنه ينتظر أن يريك كيف يهتم بك بطريقة عجيبة. "سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي" (مز ٣٧: ٥). هل تقول في نفسك: "حسن، جميلٌ أن تتكلم إلى أولئك المسيحيين بتلك الطريقة، ولكن انظر إليّ، فأنا لا أعرفه على الإطلاق. ولا أعرف أبداً كيف أكون مسيحياً". حسناً، يا أصدقائي الأعزاء، لدينا رسالة لكم. أصغوا إلى هذه الكلمات: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا ١: ١١، ١٢). هل أنت على استعداد لاقتبال الرب يسوع المسيح مخلصاً لك؟ هل تؤمن به فادياً لك؟ هل تؤمن بكلمته التي تقول لك بأنه قد سُلِّم (إلى الموت) لأجل آثامك، وأنه أُقيمَ (من بين الأموات) لأجل تبريرك؟ وهل ستطيع تلك الكلمة التي تقول: "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ" (رومية ١٠: ٩). في اللحظة التي تفعل فيها ذلك، يقتبلك بالنعمة والرحمة، ويخلّصك. "لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أعمال ١٠: ٤٣). وعندما تؤمن به، ستعرف أنه لم يأتِ فقط لكي يغفر خطاياك، بل ليقود حياتك أيضاً. فلمَ لا تُسلّم ذاتك له اليوم؟ لماذا لا ترفع بصرك إلى الأعلى وتقول: "أيها الرب يسوع، لك أُسَلّمُ حياتي لتمتلكها، جسداً وروحاً ونفساً، فهلا تتولّاني برعايتك وعنايتك من الآن فصاعداً؟" سيفعل ذلك. فهو يعد برعاية كل من يضعون عليه ثقة إيمانهم.