الخطاب ١٠

نهاية شهادة يوحنا المعمدان

"وَبَعْدَ هَذَا جَاءَ يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ الْيَهُودِيَّةِ وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ وَكَانَ يُعَمِّدُ. وَكَانَ يُوحَنَّا أَيْضاً يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ لأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ وَكَانُوا يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُونَ - لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي السِّجْنِ. وَحَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ تلاَمِيذِ يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ جِهَةِ التَّطْهِيرِ. فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هُوَذَا الَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ الَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ هُوَ يُعَمِّدُ وَالْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ» أَجَابَ يُوحَنَّا وَقَالَ: «لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ السَّمَاءِ. أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ. مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هَذَا قَدْ كَمَلَ. يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا. وَمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكلاَمِ اللَّهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ. اَلآبُ يُحِبُّ الاِبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ»" (يوحنا ٣: ٢٢- ٣٦).

"وَبَعْدَ هَذَا"- أي بعد خدمة ربنا في مدينة أورشليم ولقائه بنيقوديموس، التي تأمّلنا فيها لتونا- "جَاءَ يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ الْيَهُودِيَّةِ". لقد خرج من مدينة أورشليم إلى الريف المحيط بها وهو يكرز ويعلّم. "ومَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ وَكَانَ يُعَمِّدُ". في الواقع، إننا نعلم من الأصحاح الرابع، أنه ليس الرب هو من كان يقوم بشعائر المعمودية؛ بل بينما كان يكرز والناس تؤمن برسالته، كان تلاميذه يعمّدونهم بناء على أوامره.

والآن، من المذهل جداً أن السابق للرب يسوع المسيح لم يكن بعيداً كثيراً عنه، بل كان لا يزال يستمر في خدمته. نقرأ أن "كَانَ يُوحَنَّا أَيْضاً يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ لأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ وَكَانُوا يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُونَ". عَيْن نُون هي في وادي الأردن حوالي عشرين شمال المنطقة التي كان فيها الرب يسوع في تلك الآونة، وتجمع أناسٌ كثيرون هناك ليسمعوا يوحنا وهو يعظ برسالة التوبة تجاه مغفرة الخطايا. لقد كان قد أشار لتوه إلى الرب يسوع على أنه "حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ". لقد كان المخلّص قد ذهب خارجاً إلى البرية لأربعين يوماً من الصيام وهناك تجرّب (من الشيطان). كان قد عاد إلى أورشليم وبدأ شهادته العلنية هناك، وكان معظم الناس قد رفضوها، أما نيقوديموس فكان نفساً صادقة مهتمة حقاً برسالته. والآن ها هي خدمة الرب الشخصية تتسع، وتمتدّ أكثر. ولكن يوحنا كان يتابع الكرازة في نفس الوقت، "لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي السِّجْنِ".

بعد ذلك بوقت قصير جرى اعتقالُه. وتذكرون مناسبة ذلك. فهيرودس كان مهتماً كثيراً جداً بيوحنا (المعمدان)، وكان قد أرسل في طلبه في عدة مناسبات، وكان يُسَرُّ بسماعه يكرز، ولكن هيرودس كان آثماً بخطيئة مميتة، تشكل مخالفة لنواميس الله والإنسان: فقد كان يعيش في علاقة زنى مع زوجة أخيه فيلبس، هيروديا. بسبب سلطة مكانته، كان قليلون فقط يجرؤون على انتقاده، ولكن يوحنا المعمدان وقف أمامه وأعلن قائلاً له بدون خوف: "لا يحلُّ لك أن تحظى بها". طالما كان يوحنا يكرز بالتوبة، وطالما كان يكرز بمغفرة الخطايا، بطريقة تنطبق على الجميع، كان هيرودس يصغي إليه؛ ولكن يوحنا تكلّم إليه بشكل شخصي مباشر في هذه المسألة وأشار إلى خطيئته الذاتية، وعبّر عن الاستنكار الإلهي على تعدّيه هذا، فهكذا تحرّكت الضغينة في نفس هيرودس فوضَعَ المعمدانَ في السجن. وتعلمون أنه فيما بعد، ولإرضاء  كراهية هيروديا، وهي امرأة تعرضت للاحتقار والازدراء، قُتِلَ يوحنا المعمدان. ولكن هذا لم يكن قد حدث بعد، وكان يوحنا لا يزال يكرز إلى الجموع ويعمّد أولئك الذين كانوا يظهرون دليلاً على التوبة. لقد كانت الخدمتان تسيران معاً جنباً إلى جنب، ومن الواضح أن اليهود كانوا مستغربين من ذلك، لأنه "حَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ تلاَمِيذِ يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ جِهَةِ التَّطْهِيرِ". لقد رأوا في المعمودية رمزاً للتطهير. المعمودية لا تطهّر النفس فعلياً، ولكنها ترمز إلى إزالة الخطيئة بالغسل. "فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هُوَذَا الَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ الَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ هُوَ يُعَمِّدُ وَالْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ»". لكأنهم كانوا يقولون له: "يا يوحنا، لقد بدأ نجمك بالأفول، ونجمه في صعود الآن. فما هي إلا برهة ويذهب الجميع إليه ولن يتجمهر أحدٌ حولك ليسمعك".

كم كان جميلاً رد يوحنا (المعمدان)! ليس من ذرة تكبّر لدى هذا الإنسان، وليس من ذرة من توكيد الذات. ما كان مهتماً أبداً بجمع تلاميذ حوله. "أَجَابَ يُوحَنَّا وَقَالَ: «لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ السَّمَاءِ. أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ". يمكننا إعادة صياغة هذه الكلمات على الشكل: "لم آتِ لألفتَ انتباهَكم إليَّ. لقد جئتُ فقط كسابق لذاك الممسوح الموعود. عندما سألتموني: "هل أنت ذاك النبي الآتي إلى العالم، الذي تحدث عنه موسى؟" قلتُ لكم أني لستُ هو. وعندما سألتم: "من تكون إذاً ولماذا تعمّد؟" قلتُ لكم بوضوح: "أنا مجرد صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب واجعلوا سبله قويمة". إنه لشرفٌ لي أن أعلن عن مجيء المخلص الذي يرسله الله، من سيأتي بالفداء لإسرائيل والعالم".

ثم يستخدم صورة تشبيهية جميلة للغاية في الآية ٢٩. فيقول: "مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هَذَا قَدْ كَمَلَ". بمعنى آخر، يشير يوحنا إلى أمرٍ كان مألوفاً بالنسبة لهم جميعاً. ففي العرس، تكون العروس هي المهتمة بعريسها والعريس يجد فرحته في عروسه، ولكن كان لديهم آنذاك، كما الحال الآن، ما يسمى "إشبين"، ألا وهو صديق العريس. وصديق العريس كان يجد مسرّته في فرحة العريس. ولذلك يقول يوحنا: "أنا مثل ذاك. أنا صديق العريس. الرب يسوع نفسه هو العريس. والعروس تخصه ولا تخصني أنا. إني أبتهج بمسرته. ولستُ أشعر بأني مهملٌ ولا أشعر أني محيّد أو مهمّش لأني لا أستطيع أن أدّعي المحبة والولاء والخلاص للعروس.

بالطبع تكلّم يوحنا هنا من وجهة نظر يهودية. فبحسب العهد القديم، إسرائيل كان العروس، والرب كان العريس. والله تجسّد في شخص ربنا يسوع المسيح. فقال يوحنا المعمدان: "أنا هنا فقط لأعلن مجيئه، والعروس هي له". ولكن الله كانت لديه أفكار أخرى في ذهنه لم تكن قد توضّحت بعد عندئذ. ففيما بعد أظهر أنه بسبب موقف إسرائيل نحو ابنه المبارك فإنهم سينحّون جانباً لفترة طويلة، ستُعرف بـ "زمن الأمميين"؛ وخلال هذه الفترة فإن الله، بالروح القدس، سيتّخذ شعباً باسمه لأجل اسم الرب يسوع، وهذا الشعب يسمّيه "عروس الحمل".

لدينا حديث عن عروس سماوية في الأصحاح الخامس من رسالة بولس إلى أهل أفسس، حيث يوضح الرسول مسؤوليات الزوج والزوجة في علاقة الزواج. إنه يلفت انتباهنا إلى ما حدث في البدء، عندما أعطى الله جدينا الأولين كلاً منهما للآخر، فيقول: "الذي خلقهما من البداية قال: "منْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الِاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً"." (أفسس ٥: ٣١). وفي الحال يضيف (الرسول بولس) قائلاً: "هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ" (أفسس ٥: ٣١). إنه يظهر لنا أن علاقة الزواج قد أراد الله بها أن تصوِّرَ الاتحاد الأسراري بين المسيح والكنيسة. ولذلك فإن الكنيسة هي "العروس، عروس الحمل". وإننا نراها في الأصحاح ١٩ من سفر الرؤيا في وليمة عرس الحمل، فهناك نقرأ: "وَامْرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَهَا".

تذكرون في ذلك الأصحاح أن لدينا فئتين مختلفتين في وليمة العرس. لدينا أصدقاء العروس، ومن ثم لدينا أصدقاء العريس، الذين اعتبر يوحنا نفسه منهم هنا: "طُوبَى لِلْمَدْعُوِّينَ إِلَى عَشَاءِ عُرْسِ الْحَمَلِ" (رؤيا ١٩: ٩). العروس لا تُدعى إلى وليمة عرس الحمل. غالباً ما يكون لدينا عرس ويحدث بعد العرس حفل استقبال من أجل لمباركة للعروسين. إن الأصدقاء الذين يحضرون حفل الاستقبال مدعوون هناك. إنهم يتلقّون دعوات ليكونوا حاضرين؛ إنهم أصدقاءٌ مقرّبون للعريس والعروس. ولكن العروس لا تتلقى دعوة؛ إنها هناك لأنها العروس. إنه عرسها وإنه حفل استقبالها. فهي ليست في حاجة لأن تُدعى إلى وليمة العرس. وإذ ننظر إلى هذه الصورة الرائعة الموجودة في سفر الرؤيا، فإننا نرى العروس نفسها (أي كنيسة البواكير) مقترنةً في ذلك اليوم بالعريس، ربنا يسوع المسيح. ومن ثم نرى جميع قدّيسي العهد القديم للضيقة العظيمة، الذين قتلهم الوحش وضد المسيح وقد أُقيموا عند ختام زمن الاضطراب ذاك، ويكونون جميعاً هناك، ضيوفاً إلى العرس ليبتهجوا بالعريس والعروس. ومن هنا قال ربنا يسوع عن الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أنه "لَمْ يَقُمْ بَيْنَهم أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ وَلَكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ" (متى ١١: ١١). لقد كان يوحنا (المعمدان) البوّاب عند باب الملكوت، ولكنه لم يحيا ليدخل بنفسه. لم يصبح عضواً في كنيسة الله الحي، رغم أنه بشّر بمجيء ذاك الذي هو الآن رئيس تلك الكنيسة. لعلكم تقولون: "هل تقصد القول أن يوحنا لم يكن مسيحياً؟" لنكُنْ حذرين في فهمنا لمعنى كلمة "مسيحي". الكلمة ليس مرادفة لـ "ابن الله". قدّيسوا العهد القديم خلصوا جميعاً، وكانوا جميعاً "أولاد الله"، ولكنهم لم يكونوا "مسيحيين". التلاميذ دُعيوا مسيحيين أولاً في الدهر التدبيري الجديد. المسيحي هو من يتّحد الآن بالمسيح في المجد، وهؤلاء هم الذين يشكّلون عروس الحمل.

وهكذا أخذ يوحنا مكانةً ثانوية وكان مبتهجاً بفضل فرحة العريس، ومن جديد أعلن قائلاً، كما في مناسبة سابقة: "يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ". لقد عبّر الرسول بولس عن الأمر نفسه تقريباً عندما قال، في الأصحاح الأول من رسالة فيلبي، أنه كان سيفرح كثيراً إنْ "يَتَعَظَّمُ الْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ. لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ" (فيلبي ١: ٢٠- ٢١). أتساءل إذا ما كنا، كأولاد الله اليوم، يمكن أن ندخل إلى هذا؟ هل نرضى أن نخدم بدون أن نظهر شخصياً، أم أن لدينا طموح أن نُحسَبَ أشخاصاً عظماء أو شيئاً عظيماً في عالم رفض ربنا يسوع المسيح؟ هل نسعى وراء مناصب السيادة والسلطة أو التميز حتى في كنيسة الله نفسها؟ إن هذا يعني التنكر للروح التي شُوهِدَتْ في يوحنا المعمدان وفي الرسول بولس. لقد كانت رغبتهما الجدية الوحيدة هي أن تتقدّم كنيسة المسيح، وكانا بأنفسهما مستعدّين لأن يتراجعا إلى الخفاء بعيداً عن الأنظار. هذا يتّضح بشكل جميل في الأصحاح الثاني من الرسالة إلى أهل فيلبي، حيث يكتب الرسول بولس إلى أولئك القديسين في تلك الكنيسة قائلاً: "لَكِنَّنِي وَإِنْ كُنْتُ أُقَدّم أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ" (فيلبي ٢: ١٧).  الكلمة المترجمة "أُقَدّم" هنا هي في الأصل اليوناني بمعنى "أَنْسَكِبُ". "لَكِنَّنِي وَإِنْ كُنْتُ أَنْسَكِبُ أَيْضاً عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ وَخِدْمَتِهِ، أُسَرُّ وَأَفْرَحُ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ". إنه يشير إلى ذبيحة المحرقة. في زمن العهد القديم، كلما كانوا يقدّمون محرقةً أمام الرب، كانت كلّ أجزاء الأضحية تُغسل ثم تُوضع على النار، وكانت كلها تُحرق كذبيحة وتُصعّد أمام الله، وبذلك ترمز إلى تقديم ابنه المبارك. ولكن قبل أن يُكمل الكاهن دوره في الخدمة، كان يأخذ إبريق الخمر (الذي كان يُدعى "السكيب") وكان يسكب الخمر على كل التقدمة. إن السكيب كانت تصوّر الرب يسوع المسيح في سكبه لنفسه إلى الموت من أجلنا. ولكن، كما ترون، إن كان العابدون يجتمعون، كان في مقدورهم أن يروا المحرقة على المذبح، ولكن إن كان الخمر قد سُكِبَ عليها فما كانوا يستطيعون رؤية السكيب. لقد كان الخمر يختفي عن النظر في الحال وما كانت تبقى سوى ذبيحة التقدمة. وقال بولس، وهو يكتب إلى أهل فيلبي هؤلاء: "إني أودّ أن تأخُذَ ذبيحتُكم وخدمتُكم مكانةَ المُحرقة وأن أكون مِثلَ السكيبةِ، فأُسكَبَ على التقدمةِ التي تصنعونها". بمعنى آخر: إني لمستعدٌ لأن لأقوم بعملي لأخدم الرب يسوع المسيح في يومي في جيلي وألا أظهر أو أبرز أمام الناس. إني على استعداد لأن ينال الآخرون المجد، إن كان هناك من مجد، لأجل العمل الذي يُصنع". يا لها من روح رائعة هي تلك التي كان يتمتع بها بولس! وكم نحن في حاجة لأن نصلي لكي نتعلّم أكثر عن حلم المسيح ولطفه، تلك الروح التي تقول: "لا بأس عليّ. إن كان المسيح يتمجّد، فهذا كل ما يهمّني. لا أريدهم أن يفكّروا بي. لا أريدهم أن يقدّروني".

عندما كان وليم كاري يحتضر، التفت إلى صديق له وقال: "عندما أكون قد مضيت، لا تتحدّث عن وليم كاري؛ تكلّم عن مخلّص وليم كاري. إني لأرغب أن يتعظّم المسيح وحده". وهكذا الحال مع يوحنا هنا: "يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ".

ويا لها من شهادة يقدّمها لنا! أقول أني أخشى أن كثيرين منا يخفقون في إدراك أن يوحنا المعمدان قد دخل بشكل كامل إلى الحق المبارك الذي جاء بيسوع المسيح. إننا نتخيل أحياناً أنه كان لديه نور ضئيل جداً وفهم قليل جداً لشخص الرب وكامل حقيقة الفداء. ولكن، دعونا لا ننسَ، أنه هو الذي كان قد هتف قائلاً: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ. وهو الذي قال "أَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ". وهنا في الآية ٣١ (يوحنا ٣: ٣١) نجد تقديراً رائعاً يُقدّمه يوحنا (المعمدان) لربنا المبارك. فيقول: "اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ". لقد كان يوحنا يعرف أنه جاء من فوق؛ لقد كان يوحنا يعرف أنه لم يبدأ الحياة عندما وُلِدَ من العذراء مريم المباركة؛ ويوحنا كان يعرف بوجوده السابق مع الآب قبل أن يكون العالم. يقول: "اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ". عندما يتكلّم الناس بروح تكبّر وخيلاء وتنافس فإنهم يتكلّمون كما أهل الأرض. ذلك النوع من الأشياء يخصّ الأرض وليس السماء.

"اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ، وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا". هذا يعني أن الإنسان الطبيعي، الذي لا تعينه النعمة الإلهية، لا يقبل أبداً شهادة الله. ولذلك يُقال لنا في الأصحاح الثالث من الرسالة إلى رومية: "الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ" (رومية ٣: ١١- ١٢). إن كنتم تجدون أبداً نفساً تسعى وراء الله فاعلموا أن روح الله في قلب تلك النفس. الإنسان الطبيعي يسلك طرقه الخاصة. إنه لا يهتم بالأمور الإلهية. وهذه، بالمناسبة، قد تساعد بعض المضطربين والقلقين.

لطالما التقيتُ بأناس يأتون إليّ ويقولون: "إني أتوق إلى يقين خلاصي. لقد أقبلْتُ إلى المسيح، وطلبتُ من الله أن يخلّصني. إني أومن أن يسوع مات من أجلي. ولكني بائس جداً بخصوص خطاياي. وليس لدي يقين، ولا أشعر بالسلام، وليس لي ثقة بأن الله قبلني". أقول لمثل هؤلاء الناس: "لا تخافوا، يا أصدقائي الأعزّاء؛ ما من إنسان طبيعي يطلب الله. إن حقيقة مروركم بكل هذه الخبرات هي دليل على تجددكم". خذ جثةً موضوعةً هنا، وضع خمسة هَنْدْرِدْوَيْتات ١ من الرصاص على صدر هذه الجثة. لن تبدي الجثة أية علامة لألم أو انزعاج. لماذا؟ لأن الرجل ميت. ولكن إن وضعت خمسة الهَنْدْرِدْوَيْتات هذه ووضعتها على إنسان حي، فماذا سيحصل عندئذ؟ زعيق ألم وصرخات تطلب التخلص من هذا الثقل. لماذا؟ لأن ثمة حياة هنا. هذا هو السبب في أن الناس مضطربون وقلقون جداً إزاء خطاياهم. ذلك لأن هناك حياة إلهية، فالله قد بدأ العمل لتوه ولذلك، إن كانت تلك هي حالتك، فالحمد لله أن روحه قد بدأت تعمل في نفسك. وكن مقتنعاً "أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (فيلبي ١: ٦). والآن ثقوا بكلمة الله، آمنوا بما قاله عن ابنه المبارك، واقبلوا السلام الذي هو حق لكم. ما من إنسان طبيعي يقبل شهادة الله، ولكن "مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ". ذلك هو الإيمان- إنه مجرد الإيمان بأن الله يعني ما يقول- لا أكثر ولا أقل.

إننا كثيراً ما نضع الكتاب المقدس أمام النفوس القلقة المضطربة ونقول لهم: "والآن، ألا تؤمنون بهذا؟" فينظرون ويقولون: "حسناً، إني أحاول أن أومن". لنأخذ مقطعاً مثل هذا: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا ١: ١١، ١٢). "ألا تريدون أن تعرفوا يسوع؟ هل تطلبون المسيح؟ هل أنتم مستعدون لقبوله؟ حسناً، ماذا يقول الكتاب؟ "كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ". هل تقبلونه؟" ويأتي الجواب: "نعم، أنا أومن. نعم حقاً". "حسناً، إذاً أنت ابن الله؟" "لا أدري، لا أعتقد أني كذلك. لا أشعر بذلك. أخشى أن أقول هذا". ألا ترون أين المشكلة؟ إنهم لا يصدّقون كلمة الله. نقول لهم أحياناً: "حسناً. ألا ترى يا صديقي العزيز؟ يجب أن يكون لديك إيمان، يجب أن تؤمن بما يقوله الله". فينظرون إليك بانذهال قد يثير غضبك ويقولون: "حسناً، أنا أحاول أن أومن". يا لها من إهانة لله! بمَ تحاول أن تؤمن؟ إن الله هو الذي تكلّم، وأنت تقول: أنا أحاول أن أومن؟ إني سهل الانقياد نحو الإثم، لأني إنسانٌ فانٍ، ولكن إن أخبرتك شيئاً يتعلق بما لم تراه أبداً، وإن نظرت إليه وقلت: "هذا مثير للاهتمام، وإني أحاول أن أصدّق وأن أومن"، فإني سأقول: "يا سيدي، إنك تهينني. أتظن أني أكذب عليك؟ ما الذي تقصده بقولك أنك تحاول أن تؤمن أو تصدّق؟ إني أخبرك الحقيقة وأتوقّع منك أن تؤمن وتصدّق شهادتي". لقد تكلّم الله في كلمته ويتوقّع أن يقبل الإنسانُ شهادتَه. هذا هو معنى الإيمان. إنه الإيمان بما قاله الله. "إِنْ كُنَّا نَقْبَلُ شَهَادَةَ النَّاسِ (ونحن نقبلها حقاً) فَشَهَادَةُ اللهِ أَعْظَمُ، لأَنَّ هَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ اللهِ الَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا عَنِ ابْنِهِ" (١ يوحنا ٥: ٩). نحن نصدّقها، وبتصديقنا لها، فإننا نخَتم أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ. "لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكلاَمِ اللَّهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ" (يوحنا ٣: ٣٤). الروح بكل ملئه يقيم في المسيح، والكلمات التي نطق بها كانت كلمات اللـه. "اَلآبُ يُحِبُّ الاِبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ". قضى الله أن يملك الرب يسوع كرئيس على هذا الكون لأنه هو خالقُه. فالكلمة نفسه هو الذي جاء بكل الأشياء إلى الوجود إذ أنها خُلِقت به ولأجله.

والآن نأتي إلى الشهادة الأعظم في هذا القسم. ويا لها من شهادة رائعة! لستُ متأكداً تماماً إن كان يوحنا المعمدان قد قال هذه الكلمات أم أن بعضاً منها، وربما ابتداءً من الآية ٣٤، قد دوّنها يوحنا الإنجيلي بيده بوحي إلهي. لا يمكننا أن نعرف أين تنتهي شهادة يوحنا المعمدان وأين تبدأ شهادة يوحنا الإنجيلي كاتب الإنجيل. ولكن إذا اعتبرنا أن المعمدان قد قال ما جاء في الآية ٣٦، فإنها شهادة رائعة عجيبة، وإن اعتبرنا أن يوحنا الرسول هو الذي سطرها بوحي إلهي، فإنها تبقى كلمة واردة إلينا من الله الحي نفسه.

لقد لاحظنا أن الآية ١٨ تقسم البشرَ جميعاً، الذين سمعوا الإنجيل، إلى فئتين. وهذا لا يأخذ بالاعتبار الوثنيين الذين لم يسمعوا الإنجيل. سوف يتم التعامل معهم بحسب النور الذي لديهم، وسيُدانون بسبب خطاياهم الذاتية. هنا من جديد لدينا فئتين. الجزء الأول من الآية يقول: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". هذه هي أول مجموعة. "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ". وهذه هي المجموعة الأخرى.

لننظر إلى العبارة الأولى لبضعة دقائق. هل يمكن أن نجد وضوحاً أكثر من ذلك؟ أتريدون أن تتأكدوا من أن لكم حياة أبدية؟ في هذه الحالة، أسألكم هكذا: "أتؤمنون بابن الله؟ هل تضعون ثقتكم في الرب يسوع المسيح؟ هل تسلّمون نفوسكم له وتستندون إلى عمله الذي أكمله، ذلك العمل الذي صنعه على صليب الجلجثة من أجل فدائنا؟ إذاً اسمعوا ما يقول الله نفسه: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". والآن لا تقولوا: "حسناً، ولكني لا أشعر بأي فرق". إنها لا تقول: "ذلك الذي يشعر"، بل تقول: "الذي يؤمن بالابن له الحياة الأبدية".

قبل سنين طويلة، وعظ صديقٌ لي حول هذا النص، وفي نهاية اللقاء، كما يفعل بعض الكارزين في بعض الأماكن الصغيرة، مضى نحو الباب ليحيي الأصدقاء. وجاءت إليه امرأة مضطربة في نفسها، وسلّمتْ عليه، فقال لها: "حسناً، كيف الحال معك اليوم؟ هل خلصْتِ؟" فقالت: "لا أدري يا سيدي؛ آمل ذلك". فقال: "حسناً، دعيني أريك هذه الآية، "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". أتؤمنين بالابن؟" "نعم يا سيدي، أنا أومن به من كل قلبي". "حسناً، إذاً، ألديك حياة أبدية؟" "آمل ذلك؛ آمل أن تكون لي الحياة الأبدية". "اقرأي الآية مرة أخرى". فتقرأها: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". "أتؤمنين بالابن؟" "نعم أومن". "إذاً، ألديك حياة أبدية؟" "إني أرجو ذلك بالتأكيد. إني فعلاً آمل ذلك". "اقرأيها ثانيةً، لو سمحت". وتقرأ من جديد: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ". "أتؤمنين بالابن؟" "نعم أؤمن". "ألديك حياة أبدية؟" "آمل ذلك". فقال لها: "حسناً. لقد عرفْتُ المشكلة". فقالت له: "ما المشكلة؟" "عندما كنتِ صغيرةً، كنتِ تهجّئين الكلمات بشكل مختلف عني عندما كنتُ صغيراً". فقالت: "ماذا تقصد؟ لستُ أكبر منك بكثير". "عندما كنتِ صغيرة كنت تهجّئين كلمة "لهم" بـ "يرجون"؛ وعندما كنتُ صغيراً كنا نهجّيء كلمة "لهم" بـ "لهم"." فقالت: "من يؤمن بالابن له حياة أبدية- هكذا أقرأها- نعم، أنا أؤمن بابن الله، وأومن بأن الله يقول أن لي حياة أبدية". وهكذا دخلتْ في سلام.

ومن جديد أعود إلى النص: "مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ". قال غلام صغير للمعلّم الذي في مدرسته: "الإيمان هو أن تؤمن بالله وعدم طرح أسئلة". إنه يعني الثقة بكلمة الله.

انظروا إلى الجانب الآخر من هذه الآية. إنه جانبٌ للحق جليلٌ مهيب جداً بالفعل. "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ". الكلمة اليونانية المترجمة "يؤمن" هنا توحي بمعنى الطاعة في الأصل. وبالتالي فالمعنى هو "الَّذِي لاَ يُطيعُ الاِبْنَ". إن الابن يأمر بأن يؤمنوا. فجاؤوا إلى يسوع وقالوا: "مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟" (يوحنا ٦: ٢٨). ويجيبهم يسوع: "هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ" (يوحنا ٦: ٢٩). "وَالَّذِي لاَ يُطيع ِالاِبْنَ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ" (يوحنا ٣: ٣٦). آهٍ، يا للعجز واليأس في تلك الحالة! يا للرعب! ويا للشفقة! ذلك أن الناس سيسمعون الإنجيل مراراً وتكراراً وسيشيحون بوجههم عنه ويعيشون معاندين ويموتون رافضين الإيمان بالمسيح ويذهبون إلى اليأس الأبدي! يا لفظاعة الموت بدون المسيح! انظروا كيف أن هذه الآية الواحدة تتضاد مع جذور الخطأين الشائعين القائلين بإبادة الأشرار والخلاص العالمي الكوني لكل البشر في وقت ما في مكان ما. دعونا ننظر أولاً إلى مسألة الخلاصية ٢. انظروا ما تقول الآية: "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ". ليس هناك من فكرة عن أي أمل أو رجاء آخر إن مات الإنسان رافضاً المسيح. إن لم يقبل الإنسانُ المسيحَ في هذا العالم، فهو لن يَرَ حياةً أبداً. قال يسوع: "إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ" (يوحنا ٨: ٢٤). ويضيف قائلاً: "حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا". "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً".

ولكن، من جهة أخرى، هناك أولئك الذين يفكرون قائلين: "حتى لو عشتُ أو متُّ رافضاً المسيح، فإن الموت سيكون نهاية كل شيء. وسأُبادُ كلياً. ولن يكون لي أي شيء في المستقبل فوق ذلك، ولذلك فإني سأمضي من الوجود وكأني لم أكن أبداً". ولكن الكتاب المقدس يقول: "الَّذِي لاَ يُطيعُ الاِبْنَ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ". لاحظ الفعل "يمكث". لا يمكنك أن تُقرن منطقياً فكرةَ الغضب الماكث مع انقراض الوجود. وهكذا فإن هذه الآية تحذرنا بمهابة بأنه إن لم نضع ثقتنا بالمسيح في هذه الحياة، فإن غضب الله لا بد وأن يمكث علينا وإلى الأبد.

ولكن لئلا يحصل هذا، مات يسوع. لقد قام بتسوية مسألة الخطية من أجل كلِّ الذين يؤمنون. ودوّن اللهُ قصةَ الفداء في كلمته. والروحُ القدس نزل من السماء ليشهدَ على ذلك. وإن كُنا أنت وأنا نؤمن، فإننا نعرف أن لنا حياة أبدية.


١. الهَنْدْرِدْوَيْت: ( hundredweight ) : وحدة وزن تساوي مئة باوند (في الولايات المتحدة الأميركية) أو ١١٢ باونداً (في إنكلترا) [فريق الترجمة].

٢. الخلاصية: ( Universalism ): عقيدة تؤمن بها بعض الكنائس المسيحية تقول بأن جميع الناس سينْعمون آخر الأمر بالخلاص. [فريق الترجمة].