الخطاب ٣٧

تقدير القلب للمسيح

"ثُمَّ قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ. فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تلاَمِيذِهِ وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ: «لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هَذَا الطِّيبُ بِثلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟» قَالَ هَذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقاً وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: «ﭐتْرُكُوهَا. إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ». فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً لأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا بِسَبَبِهِ يَذْهَبُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ" (يوحنا ١٢: ١- ١١).

نأتي الآن إلى مقاربة في دراستنا للساعات الأخيرة من خدمة ربنا هنا على الأرض. كان قد جاء إلى أورشليم لآخر مرة ليقدّم شهادته الأخيرة، عالماً وبدرايةٍ كاملةٍ بأن الرفض والصلب كانا في انتظاره، إذ ما من شيء من تلك الأشياء التي جرت كان مفاجئاً له. لقد كان قد جاء من السماء لهدفٍ واضحٍ محدد ألا هو أن يموت عن الضالين. ونقرأ عن ذلك بشكل واضح ومحدد. لقد قال: "ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى ٢٠: ٢٨). وكان قد أعلن ذلك منذ البدء. فيتم تقديمه في المزمور ٤٠ الذي يقول: "هَئَنَذَا جِئْتُ. بِدَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلَهِي سُرِرْتُ. وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي" (مز ٤٠: ٧، ٨). عمل تلك الإرادة كان يعني ذهابه إلى الصليب. ولكن بينما كان يقترب أكثر فأكثر من الصليب، وبسبب أنه كان إنساناً كاملاً كما إلهاً حقاً، تصاعد الخوف في نفسه إلى أن رأيناه في نهاية الأمر (كما تدون لنا بقية الأناجيل، وليس في إنجيل يوحنا بنفس الطريقة تماماً) انحنى في كربٍ وحزنٍ شديد في بستان جثسيماني، فصلى قائلاً: "إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ" (متى ٢٦: ٣٩). ومع ذلك يقول: "إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ" (متى ٢٦: ٤٢). وبعد هنيهة نجده يقول لبطرس، الذي قطع أذن عبد رئيس الكهنة: "اجْعَلْ سَيْفَكَ فِي الْغِمْدِ. الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألاَ أَشْرَبُهَا؟" (يوحنا ١٨: ١١). ذلك الكأس كان كأس الغضب، كأس الدينونة الإلهية التي كانت تستوجبها خطايانا، الكأس التي كانت تفيض بسخطِ ونقمة الله القدوس ضد الخطيئة والإثم. ما كان ليسوع أن يكون إنساناً كاملاً وقدوساً لو لم ينكمش مرتعداً إزاء شُرب ذلك الكأس. أن يُجعَل خطيئةً كان يعني أن يتعامل مع الله وكأنه هو الخاطئ العظيم على مر كل الأجيال. كل تعدياتنا ومعاصينا قد وُضعت عليه. وهذا كان يعني رُعباً وظُلمةً في النفس لا يمكن لعقولنا المحدودة البائسة أن تتصورها أو تفهمها. لقد كانت تعني أن نتحمل هناك على الصليب، في أعماق روحه التي لا عيب فيها، ما استوجبه رفض الناس للمسيح من جهنم العذاب إلى الأبد. لقد كان يدرك فظاعة الخطيئة؛ والرِعدة من معالجة الله القدوس لها. في مز ٦٩: ٢٠ مكتوب: "انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ". لقد كان إنساناً بكل معنى الكلمة حتى كان يتوق لأن يدخلَ أولئك معه في أحزانه. إننا نشعر على هذا النحو. إننا ننظر إلى أعزّاءنا من أجل الراحة والعزاء، وننتظر أن يعبّروا عن محبتهم لنا. كان يسوع يتوق إلى رفقةٍ بشريةٍ وكان ليسرَّ إن وجدها. ولدينا صورة جميلة عن ذلك في هذا الأصحاح الثاني عشر.

لقد جاء إلى اليهودية، وكان مع رفقائه القليلين الآن في بيت عنيا، مدينة مريم ومرثا ولعازر. وقد تأملنا لتونا في إقامته للعازر من بيت الأموات. نقرأ هنا: "ثمَّ قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً". في إنجيل مرقس نقرأ أنه مضى يومان عليه هناك قبل أن يُصنع له عشاء الفصح هذا. لقد جاء إلى بيت عنيا قبل ستة أيام من الفصح. ومضت أربعة أيام، وبعدها صنعوا له هذا العشاء. لقد كان شهادة من جهة أصدقائه المحبين، دليلاً على محبته له.

نعلم من متى (٢٦:٦) أن هذا الأمر قد حدث في بيت سمعان الأبرص. بالتأكيد ما عاد أبرصاً، إذ كان من المستحيل آنذاك أن يقطن هناك. "فالأبرص كان يجب أن يسكن لوحده"، كما يقول الكتاب المقدس. كان عليه أن يضع غطاءً على شفتيه، وكان عليه أن يصرخ دائماً قائلاً: "نجس، نجس" إذا ما اقترب أي إنسانٍ منه. لا بد أن هذه كانت حالة سمعان الأبرص السابقة- ولا ندري كم دامت. ولكننا نستنج من هذا النص الكتابي أنه حدث في أحد الأيام حدثٌ رائعٌ عجيبٌ في حياة سمعان. لقد التقى بيسوع وصار كل شيءٍ مختلفاً. هل كان لك مثل هكذا لقاء؟ هل كنت تعيش حالة برص الخطيئة، ضالاً بشكلٍ كاملٍ ومدمراً وهالكاً؟ هل كان لك لقاء مع يسوع؟ هذا يغير كل شيء. أن تسمعه يقول: "فلتطهُر"، أن تجعله يتكلم بالسلام إلى القلب المضطرب، أن تعرف أنه طهّر النفس الآثمة- يا لها من خبرةٍ! لا بد أن سمعان قد مر بخبرةٍ كهذه، وإلا لما كان موجوداً هناك في بيت عنيا.

من بين أولئك الذين كانوا يشاركون في تلك الأمسية إضافة إلى ربنا المبارك وتلاميذه، كان هناك أيضاً ثلاثةُ أشخاص بارزين. وهؤلاء هم الثلاثة الذين طالما استضافوا يسوع في بيتهم. نقرأ: "كَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ، فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ" (يوحنا ١٢: ٢). هذا يمثل الجوانب الثلاث في الحياة المسيحية. فنرى في مرثا الخدمة، وفي مريم الشركة، وفي لعازر العبادة. الخدمة والشركة والعبادة- إلى أي درجة نعرف عن هذه الجوانب الثلاثة في الحياة المسيحية؟ الخدمة هنا تأتي أولاً- "كانت مرثا تخدم". عندما نخلص لا نعود ملك ذواتنا. كم هو أمر طبيعي أن نسلّم أنفسنا له (للرب) كمثل أولئك الأحياء بين الموتى، لكيما نخدم السيد الذي فعل الكثير من أجلنا. لا أفهم أولئك الذين يقرّون بأنهم خلصوا ولا يقدمون دليلاً على رغبةٍ في خدمة الرب يسوع المسيح. فهذا يجب أن يكون الدليل الأول على الولادة الجديدة: "لقد خلّصني؛ والآن ما الذي أستطيع أن أفعله لأُظهر محبتي له؟" إننا لا نخلص بخدمتنا. الخلاص ليس بأعمالنا، لئلا يفتخر الإنسان. ما من جهد نبذله بأنفسنا يمكن أن يطهّر أرواحنا الآثمة.

"ما من عملٍ تقوم به يداي،
يمكن أن يحقق مطالب ناموسك؛
وما من حماسةٍ أو راحةٍ أعرفها،
وحتى دموعي لو ذرفتها إلى الأبد،
كلها لا يمكن أن تكفر عن خطيئتي:
أنت وحدك تخلّص، وأنت وحدك فحسب".

ولكن هل هذا يعني أن نستخف أو أن نقلّل من شأن الخدمة أو أن نكون غير مكترثين بالأعمال الصالحة؟ لا، أبداً على الإطلاق. إننا ندرك أنه عندما يتجدد المرء، عندما يتبرر من كل الأشياء، عندما يصبح ابناً لله، فإنه يصبح مسؤولاً عن القيام بأعمالٍ، والاجتهاد من أجل ذلك الذي فعل الكثير لأجله.

وإننا نخدمه بينما نخدم أولئك الذين مات من أجلهم. خدمة المسيح ليست أمراً غامضاً أسرارياً أو غير عملي. إن كنتُ أقدم كأس ماء بارد باسم يسوع، فإني إنما أخدمه. وإن رفضت أن أعطي كأس ماء بارد لأحد، فعندها أنكفئ عن خدمته. إن كان الناس في محنةٍ وخدمتُهم، مقدماً ثياباً للعريان، وطعاماً للجياع، ومشاركاً الآخرين في الآلام والمشاكل والأحزان، فإني إنما أخدمه. عندما سيجلس على عرش مجده إثر عودته إلى هذه الأرض، فإن مقياس الدينونة سيكون هذا: "لقد جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي". فيقول البعض: "يَا رَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ، وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟" فيقول: "بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ". ويقول الآخرون: "يَا رَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟" فيقول لهم: "بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا" ١ . دعونا لا نغفل عن أهمية ذلك النص الكتابي برؤية جانب التدبير الدهري فقط. إنه درسٌ عمليٌ لكل الأجيال. إنه يضع أمامنا المعيار أو المقياس الذي سيُدان عليه كل واحدٍ عندما يقف أمام كرسي دينونة المسيح. سوف يضع في رصيدنا كل خدمة قد عملناها لأحدٍ من خاصته وكأننا قد قمنا بتلك الخدمة له ذاته. هذا أمرٌ جديٌ في غاية الأهمية. هل تعاملون المسيحيين بلطف؟ هل تدعون الفقراء، والمحتاجين الذين هم في محنة فتخففوا من معاناتهم؟ أم أنكم تمرون بهم بلا مبالاة وبدون اكتراث؟ هل تُقسّون قلوبكم في وجه المحتاجين؟ إذاً اسمعوا! إنه يقول: "بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا". ولكنكم عندما تشاركون ما تملكون مع الآخرين الذين هم في محنةٍ، عندما تخدمون أولئك المبتلين، عندما تحاولن أن تظهروا رحمة المسيح لأولئك الذين يعانون ويتألمون، فإنه يعتبر كل ذلك وكأنكم فعلتموه له شخصياً.

دعونا لا نستخف بالخدمة. إنها أمر في غاية الأهمية. إنها تأتي أولاً هنا. "كانت مرثا تخدم". لم تكن خدمةً متذمرة. حدث مرةً أن مرثا كانت قد أُرهقت من الخدمة، ولكن لم تكن هذه المرة. لقد كانت مرثا تخدم، ومن الواضح أنها كانت تفعل ذلك بسرور. فقط قبل بضعة أيام رقد أخوها في الموت وعندها مضت مع يسوع إلى القبر القائم هناك وسمعته يقول: "لعازر، هلمَ خارجاً". وذاك الذي كان ميتاً خرج من الأكفان ويداه ورجلاه مقيدتان. كانت مرثا قد رأت كل ذلك وبقلبٍ مفعمٍ بالامتنان للرب، وكانت في غاية السرور لاستطاعتها أن تخدم. إني أتخيل أنه لو كان أحدٌ قال: "دعني أخدم"، لكانت سترفض وتقول: "لقد فعل (يسوع) الكثير لأجلي ولذلك أريد أن أفعل كل شيء أستطيعه من أجله".

سمعت مرةً عن أخ عزيز جداً علي كان ينتمي إلى مجموعةٍ تدير مبنىً إرسالي. لقد كان يريد أن يكرز، لكن لم تكن لديه الموهبة لفعل ذلك. فساعد في فتح هذا المبنى للإرسالية. اعتاد هذا الرجل أن ينزل هناك بعد أن يُغلق مكتبه ظهر يوم السبت. فكان يشمر بنطاله من الأسفل، ويأخذ دلواً من الماء وينظف بالفرشاة، وينظف الكراسي ويفرك الأرضية وينظفها. ما من أحدٍ من بقية الأخوة في الشركة كان يعرف عن خدمته. أنتم تعلمون كم أن الناس غير مبالين. لم يكن يفكر بأن يطلب من أحد أن يقوم بالتنظيف. ولكن حدث مرةً أن اثنين من الشبان ذهبوا إلى هناك بعد الظهر ليأخذوا كتب التراتيل. وإذ فتحوا الباب رأوا ذلك العجوز ينظف الأرضية. لقد فوجئوا به، وقالوا: "لم نكن نعلم أنك تقوم بذلك! ينبغي ألا تفعل ذلك. سوف ننظف هذه الأرضية". فقال: "لا لا، أرجوكم دعوني أقوم بذلك من أجل المسيح". لقد توسل إليهم ألا يحرموه من فضل القيام بهذا العمل من أجل مجد المسيح. ولذلك تركوه على راحته ليقوم بهذا الأمر.

والآن لننظر إلى الشخص الثاني: "أَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ". هذا يعني الشركة. لعازر، القائم من الأموات يجلس إلى المأدبة مع يسوع ويتمتع بالشركة المقدسة معه. إن التواصل مع الناس الذين لديهم نفس الفكر والتمتع بوليمة عظيمة معهم، هو أمرٌ جميلٌ- ليس فقط بسبب الطعام الذي يتناولونه، ولكن لأنهم يُسَرّون بتبادل الأفكار فيما يتعلق بالأمور المهمة بالنسبة لهم جميعاً. إننا نتحدث أحياناً عن عشاء الرب باعتباره التناول. ونتأمل معاً في لطف الرب ومحبته. ومن هنا فإنهم كانوا هنا مشغولين مع الذي أحبوه. إني على يقين بأنه حيث كان يجلس المسيح كان يعتبر رأس المائدة. لقد كانت الوليمة في بيت سمعان ولكن الرب هو المُضيف الحقيقي للجماعة.

وهكذا جلس لعازر إلى المائدة مع يسوع، لعازر الذي كان ميتاً فعاش ثانيةً. أنت وأنا، المخلصون، رجالُ ونساءُ القيامةِ، وإنه لامتيازٌ مباركٌ نتمتع به ألا وهو الشركة والتناول مع الرب يسوع المسيح لكونه رئيسنا الممجد. إن الشركة تتطلب شخصين على الأقل. أحدهما يتكلم والآخر يُصغي. إن لدينا شركةً مع الرب عندما نجلس أمامه ونصغي إلى كلمته وهو يتحدث إلينا، وعندما نقترب منه بالصلاة ونسكب أمامه قلوبنا.

العبادة هي الشيء الثاني: "فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ". أتساءل إذا ما كانت تفكر في تلك الآية الواردة في نشيد سليمان، "مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ" (نشيد الأناشيد ١: ١٢). لقد نظرت إلى يسوع وقالت: "هذا هو ملكي، وعليَّ أن أريه كم أني أحبّه وأعبده"ز وتذكّرت أنه كان لديها رطل من طِيبِ نَارِدِينٍ باهظ الثمن. وكان ثمنه يعادل أجرة عمل عامٍ كامل. لعلها كانت تحتفظ به منذ وقت طويل، وربما استخدمت مقداراً ضئيلاً منه في بعض المناسبات. ولكنها تعرف الآن أن يسوع سيخرج إلى الموت. فبعد هنيهة يخبرنا بذلك. فتقول في نفسها: "عليّ أن أقدّم له أفضل ما عندي". وهكذا كسرت صندوق المرمر وسكبت ما فيه على قدمي يسوع. في متى ومرقس نقرأ أنه كان "على رأسه". ليس من تناقض هناك. لقد فعلت كلا الأمرين. لقد كان ذلك تعبيراً عن العبادة التي في قلبها، إذ أن تلك هي العبادة. عندما نعبد فإننا نُعيد للرب ما كان قد أعطانا إياه. في العهد القديم كان يُعبَد الله على أنه الخالق. وهذا أمرٌ في غاية الأهمية والقيمة، ولكن عندما نأتي إلى العهد الجديد سنجد أن الرب يسوع هو موضوع العبادة لدى شعبه الحبيب وهم يصرخون قائلين: "مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ ..... لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ" (رؤيا ٥: ٩). كم استحق يسوع ذلك! كم يحب أن ترتفع قلوب الناس إليه في العبادة!

إلا أن غير المخلّصين لا يستطيعون أن يفهموا ذلك. ذاك الذي كان يزمع أن يسلمه قال: "لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هَذَا الطِّيبُ بِثلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟" هل كان يسوع أبداً غير مكترث بحاجات الناس الفقراء؟ أم كانت مريم كذلك؟ أبداً على الإطلاق. أعطِ المسيحَ المكانة الأولى، وكل شيء سيكون على ما يُرام. من يتعبد للرب يسوع المسيح ويعبده لأنه المتقدّم في الكرامة، سوف لن ينسَ الفقراء والمحتاجين.

لكن يهوذا لا يمكنه أن يفهم. "قَالَ هَذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقاً وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ". كان يسوع وتلاميذه قد عيّنوا يهوذا ليحمل كيس النقود ونقرأ أنه "كَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ". أي حرفياً: "كان يأخذ ما يُلْقَى فِيهِ". لقد كان رجلاً طمّاعاً. لقد كان يشعر أن مريم كانت تهدر ثروتها على يسوع.

ولكن المخلّص كان يدرك ويعرف ما كان يدور في قلب يهوذا. فقال: "اتْرُكُوهَا. إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ". يجب ألا ننسَ كلماته تلك. في مرقس يقول: "لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْراً. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ" (مرقس ١٤: ٧).

وفي الآيات الختامية نقرأ: "فَعَلِمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْيَهُودِ أَنَّهُ هُنَاكَ فَجَاءُوا لَيْسَ لأَجْلِ يَسُوعَ فَقَطْ بَلْ لِيَنْظُرُوا أَيْضاً لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَتَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ لِيَقْتُلُوا لِعَازَرَ أَيْضاً". كانوا قد قالوا: "خيرٌ لنا لو يموت مرةً أخرى، لئلا يؤمن ذلك الشعب، بسببه، بيسوع"، وذلك "لأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا بِسَبَبِهِ يَذْهَبُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِيَسُوعَ".

يا للفساد والشر في قلب البشر! اسمعوني، يا أعزائي، إن كنتم لن تؤمنوا بيسوع المسيح إحساساً منكم بالحاجة إلى مخلّص، وإن كنتم لن تأتوا إليه بالروح القدس، فإنكم لن تأتوا إليه مهما كانت المعجزات التي يصنعها.


١. (متى ٢٥: ٣٥- ٤٥).