الخطاب ١١

المسيح والمرأة السامرية

"لَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا - مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تلاَمِيذُهُ - تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى الْجَلِيلِ. وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ. فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ بِقُرْبِ الضَّيْعَةِ الَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ابْنِهِ. وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ جَلَسَ هَكَذَا عَلَى الْبِئْرِ وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» - لأَنَّ تلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً. فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ. أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هَذَا الْمَاءَ لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ﭐذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هَهُنَا» أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالَتْ: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هَذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هَذَا الْجَبَلِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ صَدِّقِينِي إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ لاَ فِي هَذَا الْجَبَلِ وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ. لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللَّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ»" (يوحنا ٤: ١- ٢٦).

في تتبّعنا لحياة ربنا المبارك يسوع المسيح، نجد أمراً يلفت انتباهنا ويجب الوقوف عنده، يميز طريقة تعامله مع مختلف النفوس التي كان يلتقي بها. كتبٌ كثيرة عظيمة كُتِبَتْ حول عمل المسيح الشخصي، ولكن ما من كتاب في العالم مفيد في هذا الخصوص بقدر إنجيل يوحنا هذا. هناك قصص كثيرة مختلفة عن أولئك الذين تحادث معهم الرب يسوع المسيح، حتى أننا نجد  كشفاً رائعاً لحكمته العجيبة في إعلانه كلمة الله للنفوس المحتاجة. أحد هذه المشاهد المحببة أكثر هي في هذه المقابلة مع المرأة السامرية.

نعلم من هذا النص أن الفريسيين كانوا يضجّون كثيراً من حقيقة أن يسوع كان يعمّد ويتلمذ الناس، وقد تمّ تناقل خبر أن أتباعه صاروا يفوقون تلاميذ يوحنا عدداً. عندما سمع بذلك، وبسبب أنه لم يُرِدْ أن يبدو كمنافس، فقد ترك اليهودية في الحال وذهب إلى الجليل. في الواقع، نقرأ أن يسوع نفسه لم يكن هو الذي يعمّد، بل ترك تلك المسألة لتلاميذه.

كان اليهودي ليعبر الأردن قرب أريحا ويشق طريقه عبر بيرية، ثم يعود راجعاً قاطعاً المنطقة قرب بحر الجليل في الشمال. أما الرب يسوع المسيح فلم يتّخذ ذلك المسار. ما كان الناموسي المتشدد ليجتاز السامرة؛ ولكن الرب يسوع المسيح سلك الطريق في ذلك الاتجاه لسببٍ واضح هو أنه كان توّاقاً للقاء أولئك السامريين البؤساء عسى يكشف لهم الحقيقة. "وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ". قبل زمن طويل كان قد تقرر في المشورات الأزلية أنه سيلتقي بامرأة سامرية خاطئة بائسة في ذلك اليوم. ما كان الرب ليفوّت تلك الفرصة. ولذلك فقد سار إلى أن اقترب من مدينة سوخار. وهناك قرب بئر يعقوب توقّف، ونقرأ: "فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ جَلَسَ هَكَذَا عَلَى الْبِئْرِ وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ". الوقت هنا مختلف عما يرد في الأناجيل الإزائية ١. فالساعة السادسة كانت في الظهيرة الحادة. ولم يكن الناس ليذهبوا عند الظهيرة الحارة إلى البئر ليسحبوا ماءً منه. إلا أن الرب يسوع كان جاساً هناك منتظراً النفس الظامئة. ويقول الإنجيل أنه: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً". أستطيع أن أتصور ذلك المشهد. ها أنا وزوجتي وابنتي نجلس على ذلك الحاجز الحجري عند ذلك البئر في سوخار، وكم يسهل أن نتخيل امرأة قادمةً على ذلك الطريق وتحمل قِدْرَ ماء فوق رأسها، بينما يسوع جالس في انتظارها. لقد جلس عند ذلك البئر وقد تعب من السفر. لقد تعب في سعيه نحو الخطاة. يا لها من نعمة رائعة، فالله السرمدي ارتبط مع بشريتنا لدرجة عرف معها معنى الألم والتعب والكدح.

لقد كانت تعلم أنه يهودي وذلك من الشريط الأزرق اللون الذي كان على هدب ردائه. وفي الحال استشاطت غضباً. فما الذي يفعله هذا اليهودي جالساً عند بئرهم. على الأرجح أنها فكرتْ في نفسها أن: "إن تجرّأ على قول ما يهينني، فسأردّ له الصاع صاعين". ولكن، كم استغربت عندما رفع بصره إليها بلطف شديد وقال لها: "أَعْطِينِي لأَشْرَبَ". لقد كانت تعرف أن اليهودي العادي كان سيرمي الكوب أرضاً محطماً إياه لو عرضت عليه أن يشرب أو قدّمت له الماء ليشرب. ولكن هنا يهودي يطلب هو منها أن تعطيه ليشرب. ولكنها قالت: "كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟" وهنا يضع يوحنا (الإنجيلي) كلمة تفسير. لا أعتقد أنها قالت هذه الكلمات بالضبطـ ولكن روح الله وضع هذه الكلمات بقلم يوحنا لكي نفهم. "لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ".

لاحظوا جواب ربنا المبارك: "لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً". يا له من إعلان رائع يتعلّق بعطية الله! أتعرفون عطية الله؟ أتعرفون أن الخلاص هو عطية الله؟ أتعرفون أن الحياة الأبدية هي عطية؟ أتعرفون أن الله ليس تاجراً يسعى لعقد صفقات ومقايضات مع الناس، بل هو مانحٌ معطاءٌ، ويقدّم كل شيء مجاناً؟ يصعب على الناس كثيراً أن يفهموا ذلك، ولذلك فقد اخترعوا كل أنواع الطرق والوسائل التي بها يرجون أن ينالوا الخلاص وهكذا يربحون، في نهاية الأمر، مكاناً في سماء الله. يا صديقي العزيز، إن إله الكتاب المقدس هذا أغنى من يبيع خلاصَه لأي أحد، وإن وضعَ سعراً له أياً كان فإن هذا السعر سيكون غالياً جداً لدرجة أنه ما من أحد يستطيع أن يشتريه. ولكن، الحمد لله، إنه عطية. "لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ". كيف نقبل الهدية أو العطية؟ لنفترض أنك أردْتَ كتاباً مقدّساً وأتيتَ إلي، وقلتُ لك: "دعني أعطيك هذا". فإن وضعْتَ يدَك في جيبك وقلت: "لدي خمسة وعشرين سنتاً فقط"، فسأقول لك: "يا صديقي العزيز، لا أريد نقودَك. إني أقدّم لك هذا الكتاب هديةً". ما الذي ستفعله والحالة هذه؟ ستأخذه، على ما أعتقد، وتمضي قائلاً: "هذا الكتاب قُدٍّمَ لي عطيةً مجانيةً". وهكذا هو الحال مع خلاص الله؛ فلا يمكنك أن تفعل أي شيء لتكسبه. "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس ٢: ٨، ٩). هل أتيتَ إليه وقبلْتَ عطيتَه؟ "لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ". ولكن لاحظ أيضاً التتمة: "وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ". كم قليلٌ هو إدراكنا لذاك الذي ينطق بهذه الكلمات! من هو؟ إنه ابن الله. ونقرأ: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً". ها هو ذا هناك، إلهٌ وإنسانٌ في شخص واحد مبارك مجيد، ولكن المرأة لم تفهم ذلك. لم تكن لديها فكرة عمّن يكون هذا الإنسان. ومن جهته لم يحاول أن يذهِلَها أو يصعقَها، بل فتح أمامها بكل بساطة طريقاً إلى خزائن نعمته. نظرت إليه مرتابةً وقالت: "يَا سَيِّدُ لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟". يبلغ عمق البئر ٧٨ قدماً. وقالت المرأة: "البئر عميقةٌ وليس لديك ما تسحب به الماء". "فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟" لقد كانت تفكّر فقط في ذلك الماء الطبيعي. أما هو فكان يفكّر في الماء الروحي. الماء أعمق بكثير من ذلك البئر في السامرة. إنه عميق بمقدار عمق محبة الله اللا متناهية وعطفه اللا محدود، الذي يفيض به قلبُه. الماء الذي سيعطينا إياه كنا لنسحبه من أعماق محبة الله نفسها. ولكنها سألَتْه متعجبة: "أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟" لعلّ يسوع قال لها: "أعظم من يعقوب! يا أيتها المرأة البائسة، هل قرأتِ عن قصة أبيك يعقوب، كما تدْعينه، كيف أنه في إحدى الليالي أرسل عائلته وقطيعه عبر المخاض، وانحنى في الصلاة لوحده عندما جاء إليه شخص غامضٌ، ذاك الذي صارعه يعقوب طوال الليل. ثم قال ذلك الشخص المجهول: "أطْلِقْنِي لأنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ" (تك ٣٢: ٢٦). وقال يعقوب: "لا أطْلِقُكَ إنْ لَمْ تُبَارِكْنِي". لعلَّ يسوع قال للمرأة: "أتذكرين تلك القصة؟ حسناً. أنا هو ذاك الذي قابل يعقوب هناك في الظلمة وتغلّب على إرادته العنيدة". ولكنني أخشى أنه لو قال لها ذلك لكانت ستجفل منه معتقدةً أنه كان مخبولاً. وبدلاً من إخافتها، سعى ليصل إلى قلبها وضميرها. وبدون أن يجيبها مباشرةً على سؤالها، ردّ يسوع وقال: "كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً". لقد كانت تعرف ذلك تماماً! ألم تحاول أن تأتي مرة تلو الأخرى لكي تطفئ ظمأها بالشرب من ذلك البئر، فلا تلبث أن تعطش ثانيةً؟ وهذا يمكن أن يُقال عن كل ما يمكن أن يقدّمه هذا العالم كمسكّن لأشواق القلب البشري. ربما تجرّبون كل ما يمكن أن يقدّمه العالم، ولكنكم ستبقون بدون إشباع. ليتني استطعتُ إقناع كل نفس محتاجة لأن تأخذ هذه الكلمات على محمل الجد وتضعها في القلب، "كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً". ما من أحدٍ أبداً وجد رضىً في أمور العالم. إنها لا تستطيع أن تُرضي قلباً قد خُلِقَ توّاقاً إلى الأبدية.

"«كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ بِئرَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ»"، أو حرفياً: "يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ". ما الذي قصده بذلك؟ أولئك الذين يقبلون رسالة نعمته، الذين يؤمنون بالإعلان الذي أعطاه الله عن المسيح في هذه الكلمة، سيولدون من جديد، وهذا النبع من الماء الحي سيتدفّق في داخلهم وسيجدون رضىً في القلب ما كان لأي شيء من أشياء الأرض ليمنحهم إياه.  

وإذ راحت المرأة تصغي، صار قلبها يتّجه صوب المسيح، وكانت تشعر بأن يسوع كان يعني ما يقوله، ولذلك تسأله باستغراب: "يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هَذَا الْمَاءَ لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ". لم تفهم شيئاً بعد إلا الماء الطبيعي. الأمور الروحية كانت لا تزال خفية عليها. ولكن الرب يسوع يسوع المسيح نال ثقتها. وهذا أمرٌ عظيم، فعندما يحظى الرب يسوع بثقة الناس لا تعود هناك حاجة إلى أي شيء آخر ليصل إلى الضمير. وهكذا فإن الرب، وقد ضَمِنَ أنه ربح قلبَها، شرع يعالج وجدانَها. إنه يتجاوز ملاحظتها ويقول: "ﭐذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هَهُنَا". أستطيع أن أتخيل أنها طأطأت رأسها وقد احمرَّ وجهها ارتباكاً وخجلاً وهي تقول: "لَيْسَ لِي زَوْجٌ". "فقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ، لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ". إنه يلفت انتباهها إلى ماضيها الآثم وحاضرها الخاطئ. فتقف هناك، وقد تأثّرت للغاية، ولا تعرف لوهلة ما تقول. من هو هذا الذي أمكنه أن يضع إصبعه على الجرح في حياتها؟ إنه يبدو في غاية اللطف ومراعٍ للمشاعر، ومع ذلك فقد حرّك وجدانَها حتى العمق. فتقول بصدق وبدون تفكير: "يَا سَيِّدُ أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!". النبي هو الذي يتكلّم باسم الله. إنها تدرك أن هذا الإنسان، الذي لم يلتَقِ بها أبداً، ومع ذلك يعرف كل شيء عن خطيئتها ويعرف عن كل شيء في حياتها، لا بد أن يكون نبيّاً مُرسَلاًَ من الله. لكأنها كانت تقول: "أنا أدرك أنني خاطئة". "أبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هَذَا الْجَبَلِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ". لا أعتقد أنها أنهت هذه الجملة. أعتقد أنها كانت على استعداد لأن تمضي في جدال طويل، ولكن أعتقد أن سؤالاً طرأ في ذهنها. أين ستذهب للقاء الله بذبيحة خطية؟ كان السامريون يقولون: "على جبل جريزيم". ولكن اليهود كانوا يقولون: "لا، بل إن ذلك لن يفيد. فهيكل الله ذاك غير مُعترفٍ به. إن كنتَ تريد أن تلتقي بالله، فاذهب إلى أورشليم وأعدّ تقدمتَك في الهيكل. فهناك ستكون مقبولة. وهناك ستستطيع أن تعبد الرب الإله". لا أفترض أن هذا الخلاف الطويل الأمد كان ليعني لها الكثير، بأي شكل من الأشكال. ولكنها الآن ترى أنها امرأة خاطئة، وتريد أن تتصالح مع الله،  فإلى أين يجب أن تذهب؟ إنها تريد أن تعرف الله لكي تعبده وتقتبل الغفران منه. فقال لها يسوع: "يَا امْرَأَةُ صَدِّقِينِي إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ لاَ فِي هَذَا الْجَبَلِ وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ. لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ". ما الذي عناه بذلك؟ لقد كان يعلن أن الساعة لم تأتِِ بعد عندما سيضع الله جانباً كل المقادس الأرضية. إنها ليست مسألة أين تذهب. ليس هناك مشكلة الآن في أين تذهب. يمكنك أن تلتقي بالرب في أي مكان وفي كل مكان إن كنتَ على استعداد لتأخذ مكانتك عنده، وتعترف بخطيئتك، وتقرّ بذنبك. عندها تستطيع أن ترفع قلبك إليه في عبادة، معترفاً به أباً، ففي اللحظة التي تعترف فيها بخطاياك يغفر لك. وهكذا يمكنك أن تكون عابداً لأن الآب يطلب هكذا عبادة. ليس الأمر متروكاً لك لتسعى إليه أو تطلبه أولاً، بل إنه هو الذي يسعى إليك ويطلبك، ويمكنك أن تجده في كل مكان إن كان قلبك صادقاً. "الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا".

بينما كان يسوع يتحدث راحت المرأة تفكر، وتتساءل: أيمكن أن يكون هذا الإنسان الغريب، الذي لم أره من قبل، هو حقاً المسيّا الموعود؟ إنه يتحدث كما لم يتكلّم أي إنسان من قبل. إني أتساءل إذا ما كان من الممكن أن يكون هو المُرسَل الموعود به؟" وتهتف بصوتٍ مسموع قائلةً: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ". لقد كانت هناك أسئلة كثيرة، وتقول: أتساءل، أمن الممكن أن يكون هو؟ سيأتي يوماً ما، وعندما يأتي سيوضح كل الأمور ويقوّم كلَّ الطرق المعوجّة. عندما يأتي سيخبرنا بكل شيء. فيقول لَهَا يَسُوعُ: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ". ما الذي حدث بعد ذلك؟ هل شرعت تطرح أسئلة؟ هل عبّرتْ عن كل الأشياء التي تربكها؟ لا، بل لم يعد هناك لديها ما تسأل عنه. لقد نظرت نظرةً واحدة إلى تينك العينين العجيبتين وحصلت على جواب على كل سؤال! فقالت في قلبها: لا بدّ أن هذا هو!" لقد جدت نفسُها اللهَ في المسيح. وآثار ذلك تخبرنا عنها الآيات التي تلي ذلك. هل بين مستمعيّ من لم يجدْه بعد؟ دعوني أقول لكم: لستُم في حاجة لأن تطلبوه في أي مكان آخر. إنه ينتظر أن يكشف نفسَه لكم إن أتيتُم إليه كخُطاة معترفين ووثقتم بنعمته.


١. الأناجيل الإزائية (وأحياناً الأناجيل السينابتية): ( Synoptic Gospels ): هي الأناجيل الثلاثة الأولى في العهد الجديد: متى، ومرقس، ولوقا. وتُسمى هكذا لتشابه الأحداث الواردة فيها حتى أن دارسي الكتاب المقدس يضعون نصوصها إزاء بعضها لأجل دراستها والتعمق فيها والانتباه إلى التفاصيل بينها [فريق الترجمة].