الخطاب ٣

امتلاء النعمة

"يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى قَائِلاً: «هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي». وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا. اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يوحنا ١: ١٥- ١٨).

هذه الآيات الأربع ستكون كافية وافية، على ما أعتقد، في تأملنا هنا؛ إنها آيات غنية وحافلة للغاية. نلاحظ أولاً شهادة يوحنا المعمدان، في اللحظة التي كنا ننظر فيها إلى صباح "يوم الرب" الأخير. فنسمع السابق العظيم للمسيا يصرّح قائلاً: "«هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي»". لقد جاء يوحنا كي يعمّد بماء، ولكنه قال: "فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ" (الآيات ٢٦، ٢٧). وفي موضع آخر نقرأ أنه سيعمّد بالروح القدس والنار.

تذكروا أن يوحنا كان يتحدث إلى مجموعة مختلفة متنوعة من الناس في ذلك الوقت، وكان من بين ذلك الحشد الكبير أناسٌ كان عليهم أن يعتمدوا بالروح القدس، وأما أولئك الذين رفضوا الرسالة فسوف يستحقون معمودية النار. الأولى هي بالنعمة بكل امتلائها- والثانية هي الدينونة. "الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ" (متى ٣: ١٢). إن حسمية الدينونة في بحيرة النار تُعلنُ عند العرش الأبيض العظيم، ولكن من سيجلس على العرش الأبيض العظيم هو نفسه ذاك الشخص الرائع العجيب الذي عُلّقَ على صليب الجلجثة ومات عن خطايانا. ولا ننسَ أنه أوصى: "لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ" (يوحنا ٥: ٢٣).

لعله يمكنني أن أقول لكل من يقرأ هذه الكلمات أنه إن كنتم خارج المسيح الآن، إن كنتم تحيون وتموتون خارج المسيح، فإن المسيح سيقيمكم إلى قيامة الأشرار، كنفوس ليس فيها إيمان بالمسيح أمام العرش الأبيض العظيم، وهناك ستواجهون ذاك الذي مات يوماً ليخلصكم، والذي كان ليخلصكم لو كنتم قد آمنتم به، والذي يتوق لكي يخلصكم، والذي أرسلَ الروحَ القدسَ ليناشدَكم ويحثّكم على أن تسلّموا له حياتكم وأن تعرفوا نعمته؛ ولكن في ذلك اليوم سيكون قد فات الأوان لتعرفوه كمخلص. ومعموديتكم ستكون معمودية النار الرهيبة. الحمد لله، فليس هناك من داعٍ إلى ذلك. لقد جاء بالنعمة لكي يخلّصكم، وهو يريد أن يخلّصكم.

يشير يوحنا بوضوح إلى يسوع ويقول: "«هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي»". يُسرُّ يوحنا بتقديم الإكرام، كمثل أي خادم حقيقي للمسيح، للرب يسوع نفسه. إنه يتراجع من الصورة إلى الخلف لكي يظهر يسوع بوضوح وعظمة أمام الناس، لكي يصير (يسوع) هو من يشد التفات كل نفس. "إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي"، يقول يوحنا.

هذا قولٌ ذو مغزى مهم للغاية. إنه يتضمن بحد ذاته الوجود المسبق لربنا يسوع المسيح. إن أخذتم هذه الكلمات حرفياً وأشرتم بها فقط إلى حياة المسيح هنا على الأرض، فعندها لن تكون حقيقية أو صحيحة، فهو لم يكن سابقاً ليوحنا المعمدان بهذا المعنى. لقد كان يوحنا قد قبل بضعة أشهر من ولادة الرب يسوع المسيح من العذراء مريم المباركة.

ولكن يوحنا يقول: "ولكنه كان قبلي". فما قصده بذلك؟ إنه يعني ما يلي: لقد بدأ يوحنا بالكينونة عندما وُلِدَ على الأرض، ولكن المسيح يسوع لك يبدأ بالكون عندما وُلِدَ على الأرض. إنه الشخص الذي تم التنبّؤ عنه في ميخا ٥: ٢، ٤: ".... فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ .... وَيَقِفُ وَيَرْعَى بِقُدْرَةِ الرَّبِّ بِعَظَمَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَيَثْبُتُونَ. لأَنَّهُ الآنَ يَتَعَظَّمُ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ". ومن هنا كان يوحنا مصيباً عندما قال: "كَانَ قَبْلِي".

وهنا ستتذكرون ما قاله الرب نفسه في إحدى المناسبات عندما تحدث بحميمية عن إبراهيم. فقد قال: "إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي" (يوحنا ٨: ٥٦). وعندها نظر اليهود إليه باندهاش وسخط وقالوا له: "«لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟" (يوحنا ٨: ٥٧). لقد ظنوا أنه يقول أنه رأى إبراهيم، ولكن ليس هذا ما قاله. لقد قال أن إبراهيم قد رآه، وكان فرِحاً.

لقد قالوا: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ". وهناك مغزى هام في العمر الذي ذكروه. لقد كانوا يخاطبون شخصاً كان يبلغ الثلاثينيات، بحسب المنظار الدنيوي للعمر. فلماذا يقولون: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ"؟ أفما كنا نتوقع أن يقولوا خمسة وثلاثين سنة أو أربعين سنة، كحد أقصى؟ فلماذا يقولون له، إذاً: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ"؟ ألا يدل ذلك بحد ذاته إلى علائم الحزن والكرب العميقة التي تغضّن بها وجهه؟ لقد "كَانَ مَنْظَرُهُ كَذَا مُفْسَداً أَكْثَرَ مِنَ الرَّجُلِ وَصُورَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ بَنِي آدَمَ" (أش ٥٢: ١٤). لعل منظره كان هكذا وهو يجتاز عبر هذا العالم عندما كان على الأرض، فبسبب الكرب المرير والألم والمعاناة التي سبّبتها له خطايا البشر تغضّن وجهه فبدا لهم أكبر من سنه الحقيقي فقالوا: "لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟" فأجاب يسوع وقال: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ" (يوحنا ٨: ٥٨). قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ؟ هذا يعود إلى ألفي سنة وأكثر إلى الوراء. "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ". بمعنى آخر، إنه يريد القول: أنا قبل إبراهيم". فهو لم يعِشْ فقط قبل يوحنا المعمدان بل قبل إبراهيم أيضاً.

في الأصحاح الأول من رسالة بولس إلى أهل كولوسي يقول الروح القدس عن يسوع: "فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أمْ سِيَادَاتٍ أمْ رِيَاسَاتٍ أمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلّ" (كولوسي ١: ١٦، ١٧).

والآن دعونا ننظر إلى القول": "كَانَ قَبْلِي". يقول يسوع: "أنا قبل إبراهيم". ويقول الروح القدس: "هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ"، إنه الأزلي.

ويستأنف القديس يوحنا (الإنجيلي) الحديث فيخبرنا أنْ "مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ" (يوحنا ١: ١٦). وفي موضع آخر من الكتاب المقدس نقرأ: "فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً" (كولوسي ٢: ٩). كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ يَحِلُّ فِيهِ، وبدافع تلك الطبيعة الإلهية حياته نفسه انسكبت فينا.

لقد كتب يوحنا (إنجيله) بعد صعود المسيح إلى السماء بسنوات عديدة كثيرة، ومنذ ذلك الحين وعبر العصور، كل خاطئ يأتي إليه نادماً تائباً كان (يسوع) يسكب كل ملء اللاهوت في نفسه. "مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ". الكلمة المترجمة هنا "فوق" تعني "في مكان"، والمعنى "نعمة محل نعمة ونعمة تلو نعمة". لسنا مدعوين لنعيش خبرات ماضية. كثيرون منا نتذكر، عندما خلصنا بدايةً، النعمةَ التي حلّت في نفوسنا عندما حدث ذلك، ونسترجع في ذاكرتنا تلك الأيام ونرنّم:

"ما أبهجَ ذلك اليوم الذي ثَبَّتْتُ فيه
اختياري لك، يا مخلصي، يا إلهي".

ولكن هذه ليست خبرتنا. لقد كانت نعمةً بالفعل ويا لها من نعمة رائعة! ما لدينا اليوم يجب أن يكون نعمة فوق نعمة، نعمة تلو الأخرى، وهذه كلها على مدى كل السنين. يسألُني الناس أحياناً إن كنتُ قد قبلْتُ "البركة الثانية". لماذا هذا القول، يا أصدقائي الأعزاء، فقد كانت نعمة فوق نعمة، حتى الآن وعلى مدى خمسين سنة، لا أزال فيها أتعلّم أكثر فأكثر عن كمال المسيح الرائع. ولذلك، فإن كنتم لم تؤمنوا به بعد، فإنكم لا تعرفون ما يفوتكم. إنكم تذكرون تلك المرأة الاسكتلندية العجوز التي طُلِبَ إليها أن تخبر عما كان يسوع يعنيه لها، فقالت: "ماذا أقول لكم؛ إنه من الأفضل أن نشعر بذلك أكثر من أن نخبر عنه". إن كنتم تسلكون في شركة معه فإنكم تقتبلون نعمته بامتلائها لأنكم تقتبلون نعمةً ممتلئة فوق نعمة، وبركة فوق بركة، طوال الأيام والسنين.

"لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا". لدينا هنا دهران تدبيريان. الناموس أُعطيَ بموسى، والناموس ساد حتى مجيء المسيح. والآن النعمة والحق قد اتيا بيسوع المسيح. الناموس كان حقاً، ولكنه كان حقاً بدون نعمة. في الأناجيل لدينا الناموس وقد حُفِظَ، ومع ذلك يُكرزُ بالنعمة لكل الناس في كل مكان، لأولئك الذين سيضعون إيمانهم بهذا المخلص.

والآن لدينا في الآية ١٨ تصريح لافت للانتباه جداً: "لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا". لعله يمكننا قراءة هذه الآية كما وردت في ترجمة أخرى بشكل آخر على النحو التالي: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يوحنا ١: ١٨). بمعنى آخر، بقد أعطانا لقد أعطانا الرب يسوع أن نعرف الله بكل ملء لاهوته.

هل قلتم لأنفسكم يوماً: "ليتني عرفتُ الله بشكل أفضل؛ ليتني فهمتُ فكرَ الله على نحو أمثل وأكمل؛ كيف ينظر الله إلى الأشياء؛ وكيف يفكّر في بعض المسائل التي تُحيّرني وتقلقني وتزعجني؟" دعوني أقول لكم يا أصدقائي الأعزاء أنه لو كنتم عرفتم الله أفضل لكنتم على علاقة أفضل مع يسوع المسيح، لأن الرب يسوع المسيح قد أخبرنا بشكل كامل عن الله وأظهره تماماً لنا. فالله- ودعوني أقول بكل ثقة وبكل معنى الكلمة- الله هو تماماً مثل يسوع. ليس من إله آخر سوى الله الذي كشف نفسه في المسيح. إن قداسة الله هي القداسة المنظورة في يسوع. وبر الله هو البر الذي حفظه يسوع. ونقاء الله هو النقاء المتجلي في يسوع. وحنو الله هو الحنو الذي تبدى من خلال يسوع. ومحبة الله هي محبة يسوع، وكراهية الله هي الكراهية المترائية في يسوع. لعلكم تقولون: هل يكره الله شيئاً؟ هل أبغض يسوع شيئاً على الإطلاق؟ نعم؛ إن الله يبغض الخطيئة بغضاً كاملاً. إنه يقول: "لاَ تَفْعَلُوا أَمْرَ هَذَا الرِّجْسِ الَّذِي أَبْغَضْتُهُ" (إرميا ٤٤: ٤). إنه يكره كل الرياء، وكل النجاسة، وكل الدنس، ولقد كره يسوع كل هذه الأشياء بشكل كبير. وأنت وأنا نكرهها أيضاً.

وإذاً، غضب الله يظهر سخط يسوع. هل كان الله يوماً غاضباً؟ "اللهُ يَسْخَطُ على الشّرير فِي كُلِّ يَوْمٍ" (مز ٧: ١١). قد تقولون: "كنتُ أطن أن الله يحب كلَّ الناس". إنه يحب كل الناس حقاً، ولكن هذا لا يتعارض مع حقيقة أنه يسخط. أنتم تحبون أولادكم، ومع ذلك تغضبون من الأشياء الخطأ التي يرتكبونها، وهكذا الله، فبينما أظهر محبته بإرسال ابنه الوحيد إلى العالم ليموت عن الخطاة، فإنه يغضب ويسخط على الشرير كل يوم. عندما يتعامل الله مع الخطاة غير التائبين، سيعرف الناس أنه لأمرٌ رهيب مخيف أن تقع في يدي الله الحي.

هل غضب يسوع أبداً؟ نعم، لقد غضب. لقد كان يغضب من المنافقين، وكان يغضب عندما يرى مُدَّعي التديّن الذين كانت قلوبهم قاسية ومتصلبة في تعاملهم مع الفقراء والمحتاجين. فكِّروا في الكلمات التي استخدمها لوصف الكتَبة والفريسيّين الذين كانوا يلتهمون بيوت الأرامل، وفكروا في سخطه عندما رأى الناس مهتمين جداً بالشعائر والطقوس لدرجة لم يستطيعوا معها الاهتمام بأمور الله. فكروا في ذلك الوقت عندما كان في المجمع حيث كانت هناك امرأة بائسة فقيرة منحنية الظهر وتحت وطأة تلك العبودية المريعة لثمانية عشر سنة. لقد رآها يسوع هناك، وتحرك قلبه الحاني نحوها، فالتفت نحو أولئك الناس وقال: "هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السَّبْتِ؟" (لوقا ١٤: ٣)، ولم يجيبوا عليه بكلمة. لقد كانوا غيورين على السبت وغير مكترثين بحاجات البشر، ولذلك التفت يسوع إلى المرأة وسألهم: "هَذِهِ ابْنَةُ إِبْرَهِيمَ قَدْ رَبَطَهَا الشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هَذَا الرِّبَاطِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟" (لوقا ١٣: ١٦). لقد نطق بكلمة فشُفِيَتْ، ونظر إليهم بغضب. إن غضب يسوع هو غضب الله.

"اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يوحنا ١: ١٨). لقد أظهر كلياً شخصية الله.

ولكن لننظر الآن إلى القسم الأول من الآية: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ". ما معنى ذلك؟ ألا نقرأ مراراً وتكراراً في العهد القديم عن أناس رأوا الله؟ أوليس أمراً مسلّماً به أيضاً أن آدم وحواء عندما كانا يعيشان في الجنة بكل نقائهما وسمعا صوت الله وهما يسيران في الفردوس مع نسيم الصباح، عندما نادى الله آدم، أنهما رأيا الله بمعنى من المعاني، فاختبأا بين الأشجار في الفردوس، وقد أنّبهما ضميرهما؟

وإبراهيم رأى ذلك الشخص الغامض الأسراري، أحد الثلاثة الذين جاؤوا إليه وهو جالس في باب خيمته، وتحدث إليه كالسيد الرب. قال موسى: "أرِنِي مَجْدَكَ". فقال الرب: "لا تَقْدِرُ انْ تَرَى وَجْهِي لأنَّ الْإنْسَانَ لا يَرَانِي وَيَعِيشُ. هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ فَتَقِفُ عَلَى الصَّخْرَةِ. وَيَكُونُ مَتَى اجْتَازَ مَجْدِي أنِّي أضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ وَأسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أجْتَازَ" (خروج ٣٠: ٢٠- ٢٢). ونقرأ أن موسى رأى الله.

وحزقيال كانت له رؤى عن الله. ومن جديد نرى في العهد القديم هذه النصوص الكتابية عن رجال يعاينون الله، ومع ذلك نجد الكتاب يقول هنا: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ". ما معنى ذلك؟ المعنى هو ما يلي: إن كل هذه الأمثلة التي أشرتُ إليهم ما هي إلا تجليات لله. لم يَرَ الناس الله فعلياً في جوهره، ولكنه أظهر نفسَه لهم- على هيئة إنسان لإبراهيم، وكملاك لدانيال، وكظهور عجيب لحزقيال. اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. "اَللَّهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا" (يوحنا ٤: ٢٤)، والروح لا يمكن أن تراها عيون الفانين.

ولكن ما معنى هذه الكلمات إذاً: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ"؟ لو كان هذا هو المقطع الوحيد الذي ترد فيه هذه الكلمات لكنا سلَّمْنا أن المعنى هو أنه حتى مجيء يسوع المسيح إلى هذا العالم لم يَرَ أحدٌ الله، وأن هؤلاء عندما رأوه كانوا قد رأوا الله، لأنه كان "اَلاِبْن الْوَحِيد الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ". ولكن عندما نفتح الكتاب على رسالة يوحنا الأولى (١ يو ٤: ١٢)، نجد نفس الكلمات من جديد، وهذه الكلمات كُتِبَتْ بعد سنوات كثيرة من عودة الرب يسوع المسيح إلى السماء. فهنا نقرأ: "اَللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ". لاحظوا هذه الكلمات التي كتبها يوحنا وهو طاعن في السن، ومن جديد يقول: "اَللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ". ما الذي نستنتجه من ذلك إذاً؟ فقط أن الله غير منظور.

عندما كان يسوع هنا، لم يرَ الناس الألوهية (الله) في رؤيتهم له. ما رأوه هو إنسان مثلهم، على ما يرون؛ ولكنه لم يكن خاطئاً مثلهم؛ لقد كان قدوس الله. ولكن الألوهية حُفِظَتْ في ذلك الإنسان، إذ "إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (٢ كورنثوس ٥: ١٩). أما الناس فأمكنهم فقط أن يروا ناسوته. والآن عاد إلى السماء وتأتينا الكلمة من جديد أن "اَللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ". لا زال الله يُعرّفُ الإنسان على نفسه، ولكنه يفعل ذلك من خلال أولئك الذين يحيون في شركة معه. إن كنتَ تحيا في المحبة فإنك تُظهرُ الله.     

إنه لأمرٌ جليلٌ أن ندرك أننا هنا مؤمنين في هذا العالم لنجعل الله معروفاً، من خلال حياتنا وشهادتنا. لقد فعل يسوع ذلك بشكل كامل وتام. وكلما سرتُ معه كلما تراءى الله فيَّ.