الخطاب ٩

قلب الإنجيل

"لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ. وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ. وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ»" (يوحنا ٣: ١٦- ٢١).

دعا مارتن لوثر هذه الآيات الستة عشر بـ "الإنجيل المصغر"، لأن قصة الكتاب المقدس كلها نجدها هنا. "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". هذه الآية تنفي فكرة مغلوطة موجودة في ذهن كثيرين؛ في أن الله يُصوّر في الكتاب المقدس كقاضٍ ديّان متجهم غاضب يريد أن يهلك الناس بسبب خطاياهم، ولكن يسوع المسيح، بشكل أو بآخر، جعل ممكناً أن يخرج الله في محبة إلى الخطاة؛ وبمعنى آخر، إن المسيح أحبنا جداً لدرجة أن يموت عنا، وصار من الممكن الآن، وقد كُفِّرَ عن خطايانا، أن يحبَّنا الله ويرحَمَنَا. في الواقع هذا تحريفٌ كلي للإنجيل. فالمسيح لم يمت ليمكّن الله من أن يحبَّ الخطاة، بل إن الله "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ". هذه الحقيقة الثمينة نفسها نجدها تتضح لنا الأصحاح الرابع من رسالة يوحنا الأولى، حيث نقرأ: "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا" (١ يوحنا ٤: ٩، ١٠). وهكذا فإن مجيء ربنا إلى هذا العالم وذهابه إلى الصليب هناك، حيث سوّى مسألة الخطية وبذلك سدّد كل مطلب للبر الإلهي، هو الدليل على محبة الله اللا متناهية نحو عالَمٍ من البشر الخطاة. لكم ينبغي علينا أن نشكره ونسبّحه لأنه قدّم ابنَه لأجل فدائنا! "وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رومية ٥: ٨). ما كان ليمكن أن يكون غير ذلك، لأنه محبة. ونتعلّم من ١ يوحنا ٤: ٨- ١٦ أن "الله محبة". وهذه هي طبيعته ذاتها. يمكننا أن نقول أن الله كريمٌ سموحٌ، ولكن لا يمكننا أن نقول أن الله نعمة. يمكننا أن نقول أن الله حنون شفوق، ولكن لا يمكننا أن نقول أن الله هو الحنو أو الإشفاق. الله لطيفٌ ولكن الله ليس هو اللطف. ولكن، بأي حال من الأحوال، يمكننا أن نقول أن الله محبة. تلك هي طبيعته، والمحبة كان لا بد أن تظهر ذاتها. ورغم أن البشر خسروا كل ادّعاء أو مطلب لهم تجاه الله، فإنه ظل يحبّهم وأرسل ابنَه الوحيد ليصيرَ ذبيحةً كفّاريةً عن خطايانا- "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ".

لقد تم الحديث عن ربنا يسوع المسيح على أنه "الابن الوحيد" خمس مرات في العهد الجديد: اثنتان منها في الأصحاح الأول من هذا الإنجيل. ففي الآية ١٤ نقرأ: "الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً" (يوحنا ١: ١٤). وفي الآية ١٨ نقرأ: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ". ثم في هذه الآية السادسة عشر من الأصحاح الثالث نقرأ: "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ .... حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ....". ومن جديد في الآية ١٨: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ". المكان الوحيد الذي يُستخدم فيه هذا التعبير، خارج إنجيل يوحنا، هو في رسالة يوحنا الأولى ٤: ٩: "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ". إنها حقيقة لا مثيل لها، وتظهر كم هي رائعة بنية الكتاب المقدس، ليس فقط في أن هذا التعبير يُستخدم لخمس مرات في العهد الجديد، بل إنه يُسمّي يسوع "المولود أولاً" أو "البكر" لخمس مرات في نفس السفر.

إن عبارة "الابن الوحيد" تشير إلى بنوته السرمدية. وتعبير "البكر" تشير إلى ما أصبح عليه، بالنعمة، كإنسان، من أجل فدائنا. عندما جاء إلى العالم اعترف الله بأن هذا الإنسان المبارك هو ابنه الوحيد وقال: "أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ" (أعمال ١٣: ٣٣). التعبير "الابن الوحيد" لا تحمل في ذاتها فكرة التوالد، بل الفردانية- فهو ابن تربطه بالله علاقة خاصة. الكلمة تُستخدم بالترابط مع إسحق. فنقرأ أن إبراهيم "قدَّمَ ابنَه الوحيد". ولكن اسحق لم يكن ابنه الوحيد. فاسماعيل كان ابنه أيضاً وقد وُلِدَ قبل اسحق ببضعة سنوات، ولذلك فمن جهة التوالد لا يمكنك أن تقول أن اسحق هو ابنه الوحيد. إنه يُدعى "الابن الوحيد" لأنه وُلِدَ بطريقة عجائبية عندما بدا مستحيلاً أن ينجب إبراهيم وسارة أولاداً. في الترجمة الأسبانية للكتاب المقدس تأتي الآية على الشكل: "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الفريد (الذي لا مثيل له)"؛ والمغزى أن ربنا يسوع المسيح هو ابن الله بمعنى أنه ما من أحد آخر يمكن أن يكون أبداً ابن الله- ابنه السرمدي- ابنه الذي لا مثيل له. فكم هو عزيز على قلب الآب! وعندما وهبه الله، لم يصبح متجسداً فقط ليتحمّل القسوة والقلق والعطش والجوع، بل سلَّمه الله إلى الموت على الصليب ليكون ذبيحة كفارية عن خطايانا. هل من تجلٍ أعظم من هذا للحب الإلهي؟

أعتقد أنكم تذكرون قصة تلك الفتاة الصغيرة في أيام مارتن لوثر، عندما ظهرت أول طبعة من الكتاب المقدس. لقد كان لديها خوف رهيب من الله. لقد صُوِّرَ الله بطريقة كانت تملأ قلبَها بالرعب كلما كانت تفكر فيه. لقد كانت تشعر بالاكتئاب من هول شخصية الله ومن فكرة مواجهة هذا القاضي الغاضب يوماً ما. ولكن في أحد الأيام، هرعت راكضةً إلى والدتها وهي تمسك قصاصة ورق في يدها. وصاحت قائلة: "أمي! يا أمي، ما عدتُ خائفةً من الله". فقالت أمُّها: "ولِمَ لا؟"، "السبب، انظري، يا أمي" قالت لها ثم أردفت: "هذه قطعة من ورق وجدتُها في المطبعة، وهي منزوعة من الكتاب المقدس". لقد كانت قصاصة ورق ممزقة وبالكاد كان يمكن قراءة سطرين فيها. في السطر الأول كان مكتوباً: "هكذا أحبّ الله العالم"، وفي السطر الثاني كُتِبَ: "حتى بذلَ". فقالت الفتاة: "انظري يا أمي، هذا يجعل الأمر معقولاً ومقبولاً". قرأت أمّها القصاصةَ وقالت: "هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل". وأضافت: "ولكنها لا تقول ما بذله". فقالت الفتاة: "يا أمي، إن كان أحبّنا بما فيه الكفاية ليقدّمَ أي شيء، فهذا أمرٌ جيد". وعندها قالت الأم: "ولكن، دعيني أخبرك بما بذله وما أعطاه". وقرأت: "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". ثم أخبرتها كيف يمكننا أن نحظى بالسلام والحياة الأبدية من خلال إيماننا به.

هل بين المستمعين إليّ اليوم من يخاف من لقاء الله؟ هل تفكرون في خطاياكم وتقولون مع داود العهد القديم: "أَذْكُرُ اللهَ فَأَئِنُّ" (مز ٧٧: ٣)؟ دعوني ألفت انتباهكم إلى هذه المسألة: إن محبة الله قد تجلّت في المسيح. يكفي أن تأتوا كخطاة محتاجين وهو سيغسل خطاياكم ويزيلها. لعلكم تقولون: "أنى لي أن أكون على يقين أن هذا كان من أجلي؟ أستطيع أن أفهم أن الله يمكن أن يحب بعض الناس. أستطيع أن أفهم كيف بمقدوره أن يدعو أناساً معينين ليؤمنوا به. حياتهم أفضل من حياتي بكثير، ولكني لا أومن أن هذا الخلاص لي أنا أيضاً". حسناً، هل من كلمات أوضح من قوله: "كل من"؟ "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". ما من كلمة أكثر دلالة من هذه. إنها تأسر لبّك. إنها تشدّني كثيراً وتلفت انتباهي. تمر هذه العبارة، "كل من"، كثيراً في الكتاب المقدس. فهناك "كل من" تتعلق بالدينونة: "كُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ" (رؤيا ٢٠: ١٥). إن كلمة "كل من" هنا تشتمل على كل الذين لم يأتوا إلى الله بينما كان ينتظرهم ليخلّصهم بنعمته ورحمته. لو أنهم أدركوا أنهم كانوا مشتَمَلين في هذه الـ "كل من" التي يتكلّم عنها يوحنا ٣: ١٦، لما وَجدوا أنفسَهم في تلك التي في رؤيا ٢٠: ١٥.

كتب لي أحدهم يوماً: "لقد جاء رجلٌ إلى جماعتنا وكرز بكفّارة محدودة. إنه يقول أنها لحقيقةٌ رائعة قد انكشفت له مؤخراً فقط". فما كان مني إلا أن كتبتُ إلى ذلك الأخ قائلاً له: إن فكرة "الكفارة المحدودة" غريبةٌ بالنسبة لي. فلا أجد أي شيء من هذا في الكتاب المقدس بل أقرأ أنه "ذاق الموتَ عن كلّ إنسانٍ". وأقرأ أن: "هُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضاً" (١ يوحنا ٢: ٢). وأقرأ أن: "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (أش ٥٣: ٦). وهنا أقرأ: "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". أقول لكم، كما قلتُ لذاك الذي أرسل لي الرسالة، أن هناك قيمة عظيمة في العمل الكفاري لربنا يسوع المسيح تكفي لخلاص كل أعضاء الجنس البشري، إن تابوا وجاءوا إلى الله وحسب؛ وعندها، إن خلصوا جميعاً، ستكون هناك قيمة باقية كافية لأن تخلّص أناساً من ملايين العوالم كهذه، إن كانوا ضالّين وساقطين في الخطيئة، وفي حاجة إلى المخلص. نعم، إن ذبيحة المسيح هي ذبيحة لا متناهية. لا تدعوا عدوَّ نفوسكم يقول لكم أنه ليس لكم رجاء. لا تسمحوا له بأن يقول لكم بأنكم أخطأتم بما يفوق رحمة الله؛ أو أنكم ابتعدتم كثيراً حتى أن الله ما عاد يرحمكم. هناك حياة وافرة لكم، وما عليكم سوى أن ترفعوا أبصاركم فتنظروا إلى وجه ذاك الذي مات على صليب الجلجثة وتؤمنوا به بأنفسكم. دعوني أقول لكم: "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ".

"كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ". ما معنى أن تؤمن؟ إنها تعني أن تضع ثقتك فيه؛ أن تتكّل عليه؛ أن تسلّم إليه نفسَكَ وأمورَكَ. إنه يقول لك، أيها الخاطئ البائس المعوز: "لا يمكنك أن تخلّص نفسَكَ. كل جهودك لفداء نفسك ستبوء بالفشل وحسب، إلا أني قدّمتُ ابني ليموت عنك، فأمن به، ثق به!" "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ".

كانت سيدة تقرأ في العهد الجديد اليوناني في أحد الأيام. كانت تدرس اللغة اليونانية وأحبّت أن تقرأ الكتاب المقدس باليونانية. لم يكن لديها يقين بالخلاص. وبينما هي تتأمّل في الكلمات التي تقول: "كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ"، قالت في نفسها وهي تنظر إلى الكلمة اليونانية التي وردت بمعنى "يؤمن": "لقد رأيتُ هذه الكلمة قبل بضعة آيات". فعادت إلى الأصحاح ورجعت إلى الآية الأخيرة من الاصحاح الثاني وقرأَتْ: "آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ" (يوحنا ٢: ٢٣- ٢٤). وقالت: "آه. هي ذي. يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ"، وتوقفت لبرهة وفكّرت، وأشرق نور من السماء في نفسها. لقد رأت أن الإيمان بيسوع يعني أن تأتمنه على نفسها. هل فعلتَ ذلك؟ هل قلت:

"يا يسوع، سأومن بك، سأومن بك بروحي،
وأنا متعب ممزق يائس، فأنت تشفيني.
ما من أحد في السماء أو في الأرض مثلك،
لقد مُتَّ عن الخطاة؛ وبالتالي عني يا رب".

والآن، "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ". بينما تقلبون صفحات الكتاب المقدس ستتضّح الصورة عن أولئك الذين رفضوا رحمته ونعمته. أن تهلك يعني أن تمضي إلى الظلمة؛ أن تبقى إلى الأبد تحت الدينونة؛ أن تدخل إلى عذاب مريع. إنه يريد أن يخلّصَك من ذلك. "لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ".

كلمة "تكون" هنا تفترض أنه سيملك الحياة الأبدية الآن. إنه لا يقول "يأمل في الْحَيَاة الأَبَدِيَّة". ستنال حياة أبدية هنا والآن عندما تؤمن بيسوع، عندما تثق به. كان أحدهم يتأمّل في هذا يوماً ما ثم رفع بصره إلى العلاء وقال: "أحبّ اللهُ- بذل الله- أومن- ولدي- حياة أبدية". تذكّروا أن الحياة الأبدية هي أبعد من الحياة إلى الأبد. إنها أكثر من الوجود الذي لا نهاية له. إنها الحياة التي يعطيها الله للنفس لكي نتمتع بالشركة معه. "هَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ" (يوحنا ١٧: ٣).

في الأصحاح ٣، الآية ١٧، نجده يشجع أشد الخطاة إثماً على المجيء إليه، فيقول: "لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ".

أتذكّر قبل سنوات ماضية، عجوزاً عزيزاً كان وراء نضد في متجر تنويعي كبير في لوس أنجلوس، حيث كنت أعمل وأنا غلام. لقد كان العجوز لطيفاً جداً معي. لقد كان يرى أني كنتُ غضاً جداً وما كنت أعرف ما يُتوقّع مني. لقد أخذني تحت جناحه واعتنى بي. وسرعان ما صرتُ مهتماً بمحاولة معرفة إذا ما كان قد خلص أم لا. كانت أمي العزيزة، وبعد فترة قصيرة من تعرفها إلى الناس، تسارع إلى سؤال كل شخص السؤال التالي: "هل أنت مُخلّص؟ هل أنت مولود ثانيةً؟" واعتدْتُ على سماعها تطرح هذا السؤال حتى أني صرتُ أفكّر أنه ينبغي علي أن أطرحه على الناس أيضاً. فذهبتُ إلى ذلك الرجل العجوز في أحد الأيام وقلتُ له: "يا سيد والش، هل أنت مُخَلّص؟" فنظر إليّ وقال: "يا بنيّ العزيز، ما من أحد سيعرف أبداً ذلك حتى يأتي يوم الدينونة". فأجبتُه قائلاً: "لا، لا بد أن هناك خطأ؛ فأمي تعرف أنها مخلّصة". فقال: "حسناً، فقد ارتكبت خطأً إذاً. ذلك لأنه ما من أحد يمكنه أن يعرف ذلك". فقلت له: "ولكن الكتاب المقدس يقول: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ... تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". فقال: "حسناً. لا يمكننا أن نكون على يقين من ذلك ونحن هنا على الأرض ما لم نصبح قدّيسين عظماء. ولكن علينا أن نبذل قصارى جهدنا وأن نصلّي إلى الرب والعذراء مريم والقدّيسين ليساعدونا، ونرجو أن نعرف في يوم الدينونة أننا مخلّصون". قلتُ له: "ولكن، لماذا تصلّي للعذراء مريم المباركة؟ لماذا لا تذهب مباشرةً إلى يسوع؟" فقال: "يا بني العزيز، إن الربّ عظيم وقدير وقدّوس جداً فلا يليق بخاطئ بائس مثلي أن يذهب إليه، وليس من أحد آخر له تأثير عليه بمقدار أمه". لم أعرف ما أقول له آنذاك. ولكن بعد أن درسْتُ الكتاب المقدس عبر السنين، أمكنني معرفة الجواب. ألا يمكن الدنو من يسوع؟ هل من الصعب أن نتواصل مع يسوع؟ لماذا نفكر هكذا في حين قيل عنه أنه: "يستقبل خطاة"؟ ورغم أنه سامٍ عالي المقام في المجد السماوي، فإنه لا يزال يقول للخطاة: "تعالوا إليّ أيّها المتعَبُون". نعم، يمكنك أن تذهب مباشرة إليه، وعندما تؤمن به فإنه يعطيك حياة أبدية. لم يأتِ ليدينَ العالم. لقد جاء بقلب مليء بالمحبة كي يربح الخطاة البؤساء إلى نفسه.

وهنا نأتي إلى الآية ١٨ التي هي في غاية الوضوح والبساطة. إن كانت نفسك تواقة وتسعى وراء النور، تذكّرْ أنّ هذه هي كلمات الله الحي: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ". أترون ذلك الآن؟ هناك فئتان من الناس في هذه الآية. كل الناس في العالم، الذين سمعوا الرسالة منقسمون إلى فئتين، ما هما؟ الأولى: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ". فها هنا أولئك الذين يؤمنون بيسوع. إنهم متمايزون ظاهرون بوضوح. وأما الفئة الأخرى، "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ". كل من سمع يسوع هو في أحد هاتين الفئتين. إما أن تكون بين أولئك الذين يؤمنون بيسوع أو بين أولئك الذين لا يؤمنون به. إنها ليست مسألة اعتقاد حول يسوع، أو عن يسوع؛ إنها مسألة إيمان بيسوع. ليس الأمر هو تكوين آراء فكرية عنه، أو مجرد حقائق تاريخية، بل إنه الثقة به وتسليم الذات له. إذاً هناك أولئك الذين يؤمنون بيسوع وأولئك الذين لا يؤمنون به- فبأي المجموعتين تجد نفسَك؟ "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ": أأنت من بينهم؟ "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ" به: أأنت هناك؟ إن كنت كذلك، فعليك أن تسارع لأن تخرج من تلك المجموعة إلى الأخرى، ويمكنك أن تخرج من إحدى الفئتين وأن تدخل إلى الأخرى بمجرد أن تؤمن بيسوع.

هل أنت في المجموعة الأولى؟ "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ". أتؤمن بذلك؟ لقد قال يسوع: "اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ".

كنتُ في كيلمارنوك قبل ثلاث سنوات وألقيتُ خطبةً في إحدى الأمسيات في الغرانت هول، وجاء عدد من الناس إلى غرفة الاستعلامات وذهبتُ إليهم فيما بعد لأرى انطباعهم عن الأمور. واتصل بي قس وقال: "هلا تتحدث قليلاً إلى هذا الفتى؟" فجلستُ إلى جواره وقلت: "ما الأمر؟" فرفع بصره وقال: "لا أستطيع أن أفهم الأمر. لا أستطيع أن أفهم. أنا مثقل جداً بالخطايا، ولا يمكن أن أخلص". قلتُ: "هل نشأتَ في بيت مسيحي؟" فقال لي أنه كان كذلك. وسألتُه: "هل تعرف طريق الخلاص؟" فأجاب: "حسناً، أعرف ذلك، نوعاً ما، ولكني لا أستطيع أن أفهم الأمر". فقلت: "دعني أُريكَ شيئاً". صلَّيْتُ معه أولاً وسألتُ الله، بالروح القدس، أن يفتح قلبه. ثم أشرتُ إلى هذه الآية وقلت له: "أترى هاتين الفئتين من الناس؟ من هم الفئة الأولى. ومن هم الفئة الثانية؟" أجاب بوضوح. فقلتُ له: "والآن، في أية فئة أنت؟" وهنا نظر إليّ وقال: "على ما أعتقد، أنا في الفئة الأولى. فإني أومن به حقاً، ولكن الأمر كله غامض ومعتم بالنسبة لي. لا أستطيع أن أرى شيئاً". فقلتُ له: "والآن انظر ثانيةً. ما الذي يقوله عن الفئة الأولى؟" فنظر إليّ من جديد وأمكنني أن أرى السحابة تنقشع ووجدتُه يلتفت إلي ويقول: "آه، لقد فهمتُ ذلك يا رجل! فأنا لستُ مُداناً". وهنا سألتُه: "أنى لك أن تعرف؟" فأجاب قائلاً: "لقد قال الله ذلك". فقال القس: "حسناً، يا بني، هل أنت مستعد أن تذهب الآن إلى البيت وأن تخبر والديك؟ وغداً عندما تذهب على عملك، هل ستكون على استعداد لأن تخبر أقرانك؟" فقال: "أكاد لا أطيق صبراً لأن أصل إلى هناك".

والآن، لنفترض أنكم في المجموعة الأخرى. أصغوا إليّ، "الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ". لستم في حاجة لأن تنتظروا يوم الدينونة لتعرفوا ذلك. مدانون؟ لماذا؟ لأنكم لم تكونوا صادقين؟ لأنكم كذبتم؟ لأنكم كنتم دنسين غير أنقياء؟ أهو كذلك؟ ليس هذا ما تقوله الآية هنا. ما الذي تقوله؟ اَلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ". تلك هي الدينونة. كل تلك الخطايا التي كنتَ مذنباً بها، دفع المسيح حسابها عندما مات. "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أشعياء ٥٣: ٥). ولذلك، فإن كنتم مدانين، فذلك ببساطة، ليس بسبب الخطايا الكثيرة التي ارتكبتموها طوال حياتكم. بل إن ذلك بسبب رفضكم وبازدراء للإعلان الذي كشفه المخلّص الذي أرسله الله. إن أشحتم عن الله واستمريتم في رفضكم ليسوع، فإنكم ترتكبون أسوأ خطيئة. لقد جاء، نوراً، إلى العالم لينير الظلمة. فإن أشحتم بوجهكم عنه، فإنكم مسؤولون عن الظلمة التي ستعيشون وتموتون فيها.

"وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً" (يوحنا ٣: ١٩). لا غرابة في أن الناس يفضلون الاستمرار في الظلمة بدل أن يتحولوا إليه، وهو نور الحياة، ويجدوا انعتاقاً. "لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ. وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ". هل ستدير ظهرك إلى النور اليوم أم أنك ستأتي إليه؟ هلا تثق بذاك المبارك الذي هو نور العالم، وهكذا تبتهج بالخلاص الذي يقدمه لك مجاناً؟