محاضرة ٨

النَّامُوسُ مُؤَدِّبُنَا إِلَى الْمَسِيحِ

(غل ٣:‏ ١٩-‏ ٢٩)

"فَلِمَاذَا النَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّباً بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ. وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلَكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ. فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدَّ مَوَاعِيدِ اللهِ؟ حَاشَا! لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ. لَكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. وَلَكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ. إِذاً قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ. وَلَكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ. لأَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إبراهيم، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ".

لقد كنا نتأمل في دراستنا بالجزء الأول من هذا الإصحاح بعلاقة الناموس، الناموس الذي أعُطي على جبل سيناء، وصولاً إلى وعد النعمة غير المشروط الذي قطعه الله لإبراهيم قبل ٤٣٠ سنة، ورأينا أن الناموس الذي جاء فيما بعد لم يكن ليزيد أو يُنقص من العهد الذي كان قد أُقيم. وهذا يقودنا بشكل طبيعي إلى السؤال الوارد في الآية ١٩:‏ "فلماذا الناموس؟" إن كان الناموس لم يُزد أي شيء إلى ما أعطاه الله بالوعد لإبراهيم وبالتأكيد ما كان ليمكن أن يأخذ شيئاً منه فماذا كان هدفه؟ ولماذا أعطاه الله أصلاً؟ يجيب الرسول بولس قائلاً:‏ "قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّباً بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ". أعتقد أننا قد نفهم أفضل إن قرأنا:‏ "قد زيد نظراً للتعديات"، لكي يحمل الناس على رؤية صفة التعدي المعينة، وهكذا يعمق في كل نفس إحساساً بالإثم وبالعوز. إننا على أهبة الاستعداد جميعاً لأن نبرر لأنفسنا، وأن نقول أننا ما كنا لنرتكب خطأ لو أننا نعرف بشكل أفضل. لطالما نسمع الناس يقولون:‏ "إني أبذل اقصى ما أعرف، وأسعى لأن أقوم بأفضل ما بوسعي". ولكن هل وُجد أي رجل أو امرأة يمكن لهم بصدق أن ينطقوا بهكذا كلمات؟ هل حاولتم دائماً أن تفعلوا كل ما بوسعكم حسب معرفتكم؟ هل فعلتم دائماً أفضل ما أمكنكم؟ إن كنتم صادقين أمام الله، فإنكم تعلمون أنكم لستم كذلك. وأيضاً وأيضاً نجد أننا جميعاً قد أخطأنا بحق نور الحق والمعرفة، وكنا نعرف أكثر بكثير مما فعلنا. وهكذا فشلنا في تمجيد الله، وإذ نذهب بعكس إرادته المعلنة فإننا نثبت بالتجربة أننا لسنا خطأة وحسب بل متعدِّين أيضاً.

في كلا اللغتين الأصليتين للعهد القديم والعهد الجديد هناك كلمة تستخدم من أجل خطيئة والتي تعني حرفياً "يَضِّلُ المَعْلَم". أتذكّر هذا التعبير مرّ معي عندما كنت أعمل وسط هنود لاغونا في نيو مكسيكو. في أحد الأيام قال لي مترجمي، وهو هندي لامع متقد الذكاء:‏ "سأمضي النهار في الصيد. هل ترغب في مرافقتي؟"

لست صياداً، ولكنني ذهبت معه بغاية التمرين. كانت لديه بندقية جديدة دقيقة، وكان يتوق لأن يستخدمها. لقد أبدى دليلاً على براعته الفائقة بذلك السلاح. إذ وقف على أحد جانبي وادٍ، قال لي:‏ "أترى ذلك المخلوق الذي يتحرك بعيداً هناك؟"

لم أستطع أن أراه في البداية، ولكن إذ أشار نحوه، رأيتُ شيئاً كمثل كتلة متحركة على الجدار المقابل لنا.

فقال:‏ "انتظر لحظة". وسدد بندقيته، وما هي إلا برهة حتى رأيت ذلك المخلوق الذي بدا مثل كتلة صغيرة يثب في الهواء ويسقط أرضاً ميتاً. لقد كان رامياً بارعاً بالبندقية، ولكن عندما وصلنا إلى المنزل قال لي:‏ "أريد أن أريك ما أستطيع أن أفعله بأسلحتنا القديمة، إذ أني قد احتفظت بالقوس والسهم. فهذا له معنى رمزي جداً لشعبنا ولذلك أردت أن أحتفظ به".

وهكذا مضينا إلى الحقل، ونصب الصياد الهندي غصناً صغيراً جداً من شجرة صفصاف، ومثّل مشهداً يشبه نوعاً ما تلك المشاهد الموصوفة في رواية "إيفانهو" للسير سكوت. وضع السهم إلى القوس وشده إلى النهاية وقال:‏ "الآن سأفلع الغصن إلى شطرين". وأطلق العنان لسهمه فمرَّ السهم إلى يمين الغصن ولكن لم يمسه. فقال:‏ "آه، لقد خطئت".

وقتها لم أسأله لماذا استخدم ذلك التعبير.

ثم قال:‏ "لم آخذ الريح بعين الاعتبار، كما كان يجب أن أفعل". وأعد سهماً آخر إلى وتر القوس، وأطلقه، فشق ذلك الغصنَ إلى قسمين. ما كنت لأصدق أن شخصاً يمكن أن يفعل ذلك الأمر.

قال:‏ "هه. لم أخطئ هذه المرة".

فقلت له:‏ "لماذا استخدمت هذا التعبير "خطيئة"؟ لم تكن تفعل أي شيء خطأ عندما لم تصب الغصن. فلماذا قلت:‏ "لقد خطئت" ثم عندما لم تصبه قلت:‏ "لم أخطئ هذه المرة؟".

فقال:‏ "آه. لقد كنت أفكر بالغُوَيْك (ألا وهي لغة هنود لاغونا) وأتحدث بالإنكليزية. ففي لغتنا إن كلمة "أخطئ" تعني "أن أخطئ المرمى"." هذا ما يعنيه التعبير الوارد في الكتاب المقدس أن:‏"الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ الله" (رومية ٣:‏ ٢٣). ولكن في الناموس لدينا شيء أكثر من ذلك. فالله قد وضع معياراً للبر. والناموس بأوامره العشر المحددة، "لاتشتَهْ" يعرِّف الناس بما يطلبه الله منهم. والآن إن أخطأ إنسان، وهو يعرف إرادة الله المعلنة، إن أخفق في طاعة ذلك الناموس، فمن الواضح أنه ليس خاطئ وحسب بل متعدٍّ أيضاً. لقد انتهك أمراً إلهياً محدداً بالتأكيد، لقد تجاوز الحد، و"تصِير الْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدّاً بِالْوَصِيَّة" (رومية ٧:‏ ١٣). كان هذا أحد الأسباب التي جعلت الله يعطي الناموس-‏ ألا وهو أن يصير لدى الناس إحساس أعمق بخطورة اتباع إرادتهم الذاتية التي هي جوهر الخطيئة، والتمرد على الله. عندما أعطى الله الناموس، أعطاه بيد وسيط، ونضح موسى كتابَ العهد وأيضاً الشعبَ بدم العهد، شاهداً بذلك على حقيقة أنه إذا أخفق الإنسان بحفظ البنود المتعلقة به من العهد لا بد أن يموت، ولكنه يرمز أيضاً إلى أن الله سوف يؤمّن مخلصاً، فادياً.

"أَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلَكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ". وجود فريقين متضادين يوحي بفكرة الحاجة إلى وسيط ولكن عندما أعطى الله وعده لإبراهيم فقد كان هناك واحد فقط. لقد أعطى الله الكلمة، ولم يكن هناك شيء ليفعله إبراهيم من طرفه إلا أن يتلقاها. هو لم يعاهد الله بأنه سيفعل كذا وكذا من أجل أن يتحقق وعد الله، بل الله تحدث مباشرة إليه وتعاهد معه عندما قال:‏ "«فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ»" (غل ٣:‏ ٨). وهنا يُطرح السؤال:‏ هل الناموس ضد وعود الله بإدخال شروط معينة لم تكن في الوعد الأصلي؟ هل يجعل الناموس الوعود من طرف واحد فقط؟ حاشى لله. لكن مبدأ معيناً وُضع في الناموس أوضح أن "«الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»" (الآية ١٢). وإن وجد أي إنسان يفعل تلك الأشياء على نحو كامل لأمكنه أن يحظَ بالحياة على أساس الناموس. ولكن الناموس قال للإنسان:‏ "النفس التي تخطئ تموت" (حزقيال ١٨:‏ ١٤) ولم يوجد إنسان على الإطلاق أمكنه أن يحفظه. "لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ".

قال لي رجلٌ جنتلمان في إحدى الليالي في كاليفورنيا:‏ لا تروق لي فكرة أن أخلص عن طريق شخص آخر. لم أرد طوال حياتي أبداً أن أشعر بأني مدين لأي أحد على أي شيء. لا أريد إحساناً أو محبة من أحد، وعندما نأتي إلى الأمور الروحية فإني لا أريد أن أخلص بفضل حسنات شخص آخر بحسب ما قلت الليلة، إن حفظت الناموس على نحو كامل سأحيا ولن أكون مديناً لأحد. أهذا صحيح؟"

قلت:‏ "حسناً نعم. هذا صحيح".

فقال:‏ "سأبدأ إذاً معولاً على ذلك".

قلت:‏ "كم عمرك؟"

أجاب:‏ "حوالي الأربعين".

قلت:‏ "لنفترض أنك جئت إلى سن الوعي والقدرة على الفهم والإدراك وأنت في حوالي الثانية عشرة من عمرك. هذا يعني أنك متأخر حوالي ثلاثين سنة على البدء، والكتاب المقدس يقول:‏ "«مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»" (الآية ١٠). ولذلك، ولأن الناموس لا يمكن أن يعطي الحياة، فإنك لن تستطيع أن تكسب أي شيء على هذا الأساس". فمضى وكان مستاءً.

"لَكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ". إن كان الله قد قرر أن يعتبر الجميع تحت الخطيئة، فهل يجب على جميع الناس أن يعتبروا ضالين؟ لا. لَكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، "لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ". إن الله يريد من كل الناس أن يدركوا إثمهم وخطيئتهم لكي يدرك الجميع عوزهم وحاجتهم ويأتوا إليه فينهلون من نعمته، إنه يضع جميع البشر على مستو واحد. تقول رسالة رومية:‏ "لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رومية ٣:‏ ٢٢، ٢٣). يتخيل الناس أن هناك فروقاً كثيرة جداً. ويقول أحدهم:‏ "هل تقصد أن تقول أنه ما من فرق بين رجل خلوق وفاسد شرير بائس في الحمأة؟" بالطبع هناك فروق كثيرة، ليس فقط من ناحية المعيار الذي يأخذه المجتمع بالاعتبار بل أيضاً بالنسبة إلى سعادتهم الذاتية وتقديرهم لاقربائهم. ولكن عندما نأتي إلى موضوع البر نجد القول:‏ "لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا". لعل الجميع لم يخطئوا بنفس الطريقة، ولعلهم لم يرتكبوا نفس التعديات والانتهاكات بالضبط، ولكن "الجميع أخطأوا"، والجميع انتهكوا ناموس الله.

قال شاب مرةً لابنة عمه:‏ "لا أحب تلك الفكرة في أنه ليس هناك من فرق، إنها فكرة بغيضة بالنسبة لي. هل تريدين أن تقولي لي بأن محاولتي طوال عمري أن أحيا حياة مهذبة لائقة ومحترمة، لا تجعل الله يرى أن هناك فارقاً بيني وبين أناس يعيشون حياة الخطيئة والإثم؟"

فقالت له:‏ "لنفترض أني كنت أنا وأنت نسير في الشارع معاً، ومررنا على مكان مهم، متحف مثلاً، كنّا نتشوق لرؤيته. وذهبنا إلى الكوة واستعلمنا عن أجرة الدخول، وقيل لنا أنها بدولار. فنظرت إلى جزداني وقلت:‏ "آه. لقد تركت نقودي في المنزل. وليس لدي الآن سوى ٢٥ سنتاً". ونظرت أنت إلى نقودك ووجدت أن معك ٧٠ سنتاً فقط. فأي منّا سيدخل أولاً؟"

فقال:‏ "حسناً. في مثل هكذا ظروف لن يدخل أي منّا إلى المتحف".

-‏ "سوف لن يكون هناك فرق، ومع ذلك سيكون لديك نقود أكثر مني بكثير، ولكن بما انه ليس لدينا ما يكفي للدخول، فلن يكون هناك فرق".

إن الله يطلب براً مطلقاً من الخطأة قبل أن يدخلوا إلى السماء. "لَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً" (رؤيا ٢١:‏ ٢٧). لعل لديك ما يعادل ٩٥ سنتاً من البر بينما ليس لدي ٥ سنتات منه، ولكن لا يستطيع أي منا أن يدخل ما لم يكن لديه مئة سنت، وليس هناك من فرق. "لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ" (رومية ٣:‏ ١٠). تذكروا أن الله قال ذلك، وليس كارز أو مبشِّر غيور أو جديّ، بل (إنما الله نفسه بالروح القدس). وقد أُعطي الناموس ليُظهر تلك الحقيقة بوضوح. ولكن إن اتخذ الناس موقف الفجور أمام الله، إن اتخذوا موقف الخطأة الضالين، المثقلين بخطاياهم وذنوبهم، فماذا يكون عليه الأمر عندئذٍ؟ "لَكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ". بمعنى آخر، عندما يأتي الناس إلى إدراك حقيقة أنه لا يمكنهم أن يحصلوا على الحياة الأبدية اعتماداً على أية جهود ذاتية ويكونون على استعداد أن يتلقوها كهبة مجانية (من الله)، ففي تلك اللحظة تكون لهم. "الَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ" (يوحنا ٣:‏ ٣٦). "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:‏ إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥:‏ ٢٤).

أما الآن فالرسول بولس يرينا استخداماً آخر للناموس. يقول بولس في الآية ٢٣:‏ "وَلَكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ"، أي "قبل الإيمان"، لأنه قد عُرِفَ بشكل واضح ومحدد أن الله كان يبرر الناس بمجرد الإيمان بابنه المبارك، "كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ"-‏ إنه يتحدث الآن عن نفسه كيهودي (سابقاً)-‏ مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ". لم يكن لدى الأمميين في ذلك الوقت ناموس، بل اليهود هم الذين كان لديهم الناموس. فقد أعطى الله ذلك الناموس لليهود، وكان ينظر إليهم كأطفال قاصرين تحت القوانين والتشريعات. "إِذاً قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ". هذه الكلمة المترجمة هنا بـ "مُؤَدِّب" قد ترجمها الإنكليز إلى لغتهم بـ "مدرِّس" أو "معلم مدرسة". ولكن الكلمة الأصلية لا تحمل هذا المعنى. بل إنها تعني "مرشد للأطفال" أو "موجّه للأطفال"، وكانت الأسر اليونانية العريقة تُطلقُ هذا الاسم على العبد الذي كانت تُوكل إليه مهمة العناية بطفل قاصر. فكان عليه الانتباه إلى أخلاق الطفل، وحمايته من الاحتكاك بمن ليس أهلاً لرفقته، وأن يأخذه يوماً فيوماً من المنزل إلى حجرة الدرس. وهناك يتركه في عهدة المعلم أو الناظر، وفي نهاية النهار يعود فيأخذه إلى البيت من جديد. يقول بولس هنا، وعلى نحو جميل، على ما أعتقد:‏ "كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ". أي أن الله لم يترك شعبَه بلا دستور أخلاقي إلى أن جاء المسيح فنرى فيه أروع دستور أخلاقي قد عرفه العالم على الإطلاق، وكان الناموس قد قدم خدمة في أنه حمى الشعب وحفظه من الكثير من الفجور والخلاعة والإثم والفحشاء والفساد التي كانت متفشية في حياة الوثنيين حولهم. فطالما عاش الناس في طاعة، بأي مقياس، لذلك الناموس، فبذلك كانوا يحفظون أنفسهم من الكثير من الإثم والشر.

"كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا"، ربما ليس لأجل أن يأتي بنا إلى المسيح، بل "كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إلى مجيء المسيح". "النَّامُوسُ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يوحنا ١:‏ ١٧). أما الآن وقد جاء المسيح فقد أتينا إلى باب حجرة الدرس للنعمة وتعلَّمْنا الحقيقة المباركة التي تقول بالتبرير بالإيمان فقط فيه، ذاك الذي أقامه الله كفَّارةً عن خطايانا. لم نعدْ تحت مؤدبٍ.

نعلم هنا أننا لسنا محررين فقط من الناموس كوسيلة لمحاولة ضمان التبرير، بل أيضاً محررين من ذلك الناموس كوسيلة للتقديس، لأن لنا مقاماً أرفع بكثير في المسيح القائم من بين الأموات، ولنا أن نمتلئ به. وإذ نحن منشغلون به، يعلّمنا الله بالنعمة أن "نُنْكِرَ الْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْعَالَمِ الْحَاضِرِ" (تيطس ٢:‏ ١٢). لنفترض مثلاً أنني كمسيحي ولحظ عاثر لم أسمع أبداً بالوصايا العشر، ولنفترض أني لم أعرف بها أبداً، ولكن من ناحية أخرى عرفت قصة الإنجيل الرائعة وعُهِدَ إلي ببعض الأسفار من العهد الجديد تُظهر كيف ينبغي على المسيحي أن يحيا. إن سرت في طاعتي لهذا الإعلان، أعيش على مستوى أعلى وأكثر قداسة من ذاك الذي كانت لديه الوصايا العشر فقط. إن كل من لديه التعليم الرائع الذي أتى من شفاه الرب يسوع المسيح، والكشف العجيب في الرسائل التي تُظهر ما ينبغي على المسيحي أن يكونه، لديه هذا المعيار الجديد للقداسة، والذي ليس هو الناموس المُعطى على جبل سيناء بل المسيح القائم الجالس عن يمين الله، وإذ أسلك في الطاعة له ستكون حياتي بارةً، وهكذا، "بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ". ثم يضيف (بولس) قائلاً:‏ "إَنَّكُمْ جَمِيعاً أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ"، الذي منه نتلقى الحياة. لمن يهب الله الحياة الأبدية؟ لجميع الذين يتكلون على ابنه المبارك. "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ" (١ يوحنا ٥:‏ ١٢). ومن هنا نفهم تأكيد ربنا يسوع بقوله:‏ "«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ:‏ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ»" (يوحنا ٣:‏ ٣). لا بد أن يكون هناك منح للحياة الإلهية. وهذا يجعلنا أعضاء في عائلة الله-‏ علاقة جديدة ورائعة.

"لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ". على الأرجح أنه كانت لديه فكرتان في فكره هنا. فظاهرياً نحن نلبس المسيح باعتمادنا. هذا الطقس يشير إلى أننا باعتراف قد اقتبلنا الرب يسوع المسيح. لكني أعتقد أيضاً أنه كان يرى أيضاً معمودية الروح القدس، وبتلك نصبح فعلياً أعضاء في المسيح، وبمعنى أعمق وأكمل، نلبس المسيح. والآن كأعضاء في هذه الخليقة الجديدة، "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ". فما عاد للفروقات القومية أي وجود (في المسيح). وفي هذا الترابط (بين المؤمنين) "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". إنه لا يتجاهل التمايزات الطبيعية. بالطبع نبقى محتفظين بمكاننا الطبيعي في المجتمع، ونبقى خداماً أو سادة، نبقى ذكوراً أو إناثاً، أما بالنسبة لمكاننا في الخليقة الجديدة، فإن الله لا يأخذ أي من هذه الفروقات بالاعتبار. فكل من يؤمن بالرب يسوع المسيح يصير واحداً فيه، "لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ" (أفسس ٥:‏ ٣٠). كم نحتاج إلى تذكر ذلك!

"فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إبراهيم، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ". أن تكونوا "في المسيح" وأن تكونوا "للمسيح"، تأتي بنفس المعنى تماماً "لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". "فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ (أي تنتمون إليه أو تخصّونه) فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إبراهيم، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ" لأنكم أنتم أيضاً قد آمنتم بالله مثل إبراهيم (إذ أن إبراهيم "آمَنَ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً"-‏ رومية ٤:‏ ٣)، وبالتالي إيمانُكم يُحسَبُ بِرّاً لكم. وهكذا يُعتبَرُ كُلُّ مؤمن من نسل إبراهيم الروحي. فهناك النسل الطبيعي والنسل الروحي لإبراهيم. "إِذاً الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إبراهيم الْمُؤْمِنِ" (غل ٣:‏ ٩). آملُ أن يكون واضحاً لنا الفرق بين الناموس والنعمة.

قبل بضعة سنوات خلت أخذت معي إلى أوكلاند، في كاليفورنيا، هندياً من قبيلة نافاهو. وفي أمسية يوم أحد مضى إلى اجتماع شبيبتنا. كانوا يتحدثون عن هذه الرسالة إلى غلاطية، وعن الناموس والنعمة، ولكن لم تكن الأمور واضحة جداً بالنسبة لهم، وفي خاتمة المطاف التفت أحدهم إلى الهندي وقال:‏ "أتساءل إذا ما كان صديقنا الهندي لديه شيء ليقوله بخصوص ذلك".

هبّ صاحبنا واقفاً على قدميه وقال:‏ "حسناً يا أصدقائي. لقد كنت أصغي بانتباه شديد، لأني هنا لكي أتعلم كل ما في وسعي لأستفيد مما أتعلمه عندما أعود إلى أُناسي. لست أفهم عما تتحدثون عنه، ولا أعتقد أنكم أنتم أيضاً تفهمون. ولكن فيما يتعلق بالناموس والنعمة الوارد ذكرهما، فدعوني أرى إذا ما كنت أستطيع أن أوضحها لكم. أعتقد أن الأمر هو كما يلي. عندما أحضرني السيد آيرونسايد من موطني انطلقنا في أطول رحلة قمت بها بالسكة الحديدية. ترجّلنا في بارستاو، ورأيت هناك أجمل محطة قطار على الإطلاق وفوقها فندق. تجولتُ في المكان ورأيت في ركن لافتة تقول:‏ "لا تبصق هنا". نظرت إلى تلك اللافتة ثم نظرت إلى الأرض في الأسفل ورأيت أن كثيرين كانوا قد بصقوا هناك، وقبل أن أفكّر بما أفعل وجدتُني أبصق. أليس هذا الأمر غريباً عندما أرى هذه اللافتة التي تقول "لا تبصق هنا"؟ وأتيت إلى أوكلاند وذهبت إلى منزل السيدة التي دعتني إلى العشاء اليوم، ووجدْتُني في أجمل منزل قد رأيتُه في حياتي على الإطلاق. ذاك الأثاث الجميل والسجاد الذي وجدتني كارهاً لأن أطأ عليه. غصتُ في كرسي مريح، وقالت السيدة:‏ "هلا جلسْتَ هنا الآن يا جون ريثما أخرج وأرى إذا ما كانت الخادمة قد أعدَّت العشاء". نظرتُ حولي إلى اللوحات الجميلة وإلى البيانو الكبير، وتجولتُ  في كل تلك الغرف. لقد كنتُ أبحثُ عن لافتة. اللافتة التي كنت أبحث عنها كان يجب أن تقول:‏ "لا تبصق هنا". جلتُ بنظري على تينك قاعتي الاستقبال الجميلتين، ولم أجد مثل هكذا لافتة. أعتقد أنه من المغث جداً أن يأتي إلى هذا المنزل الجميل أناسٌ يبصقون في أرجائه-‏ وللأسف بأنهم لم يلصقوا لافتة فيه. فنظرتُ إلى ذلك السجاد ولكني لم أجد أن أحداً قد بصق هناك. حيث كانت اللافتة تقول "لا تبصق هنا" بصق أناسٌ كثيرون، وأما هنا وحيث لا توجد أية لافتة فلم يبصق أحد. لقد فهمت الآن.تلك اللافتة هي الناموس، أما في ذلك البيت فهناك النعمة. إنهم يحبون منزلهم الجميل ويريدون أن يحافظوا عليه نظيفاً. أعتقد أن ذلك يوضح موضوع الناموس والنعمة". قال صاحبنا ذلك ثم عاود الجلوس.