محاضرة ٦

"مَنْ رَقَاكُمْ؟"

(غل ٣:‏ ١-‏ ٩)

"أيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوباً! أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هَذَا فَقَطْ:‏ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟ أَهَكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟ أَهَذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثاً؟ إِنْ كَانَ عَبَثاً! فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ، وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ، أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟ كَمَا «آمَنَ إبراهيم بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً». اعْلَمُوا إِذاً أَنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إبراهيم. وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إبراهيم أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ». إِذاً الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إبراهيم الْمُؤْمِنِ".

نأتي الآن إلى القسم العقائدي بامتياز في هذه الرسالة. في الآية ١ من هذا الإصحاح يستخدم بولس لغة غير مألوفة. ما يقصد أن يقوله هو التالي:‏ "كيف حدث أنكم تبدون كمن وقع تحت تأثير نوع من الرُّقية حتى فقدتم فهمكم للحقيقة وأصبحت قلوبكم وأذهانكم مغشاة بالخطأ". إن الغلط يؤثر على الناس على ذلك النحو. من الممكن تماماً للمرء أن يهتدي حقاً وأن يبدأ بمعرفة واضحة محددة لنعمة الرب يسوع التي تخلص، ومن ثم، وبسبب إخفاقه في متابعة دراسة الكلمة والتعبد لها، يصبح تحت تأثير نظام مزيف ما، وفكرة في التعليم غير كتابية. وغالباً عندما يقع الناس تحت هكذا تأثير تجد أنه من غير الممكن تقريباً أن تحررهم. يبدو أنهم تحت تأثير رقية.

بالطبع لا يقول الرسول بولس أن امرئ لديه القوة على أن يرقي آخر، بل إنما يستخدم ذلك كمثال توضيحي. فيقول:‏ "أولئك الرجال الذين انحدروا من أورشليم ويعلّمونكم بأنكم لا يمكن أن تخلصوا ما لم تختتنوا وتحفظوا ناموس موسى، قد أثّروا عليكم حتى أنكم صرتم مثل أناس وقعوا تحت تأثير السحر وتحت تأثير رُقية. إنكم لا تستطيعون أن تعقلوا الأمور، أو أن تتحققوا مما هو صحيح وما هو خاطئ". لم يكن الواقع تماماً هو أنهم قد "استسلموا لوهمٍ قوي". عندما يقدم الله الحقيقة للناس ويتنحون عنها عن عمد، يصبحون بذلك عرضة لتحمل مخاطر وتبعات طاعة التعليم الزائف، ولكن هناك شيء آخر في ذهنه هنا فعلى جميع الأحوال، لم يكن هؤلاء الناس مسيحيين حقيقيين، بل مسيحيين حقيقيين يسلكون كأناس تحت تأثير رُقيةٍ.

"أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوباً؟" عندما يدرك المرء الحقيقة المباركة بأن الرب يسوع قد صُلِبَ من أجلنا، فهذا بحدّ ذاته يجب أن يعني تحريرنا إلى الأبد من هكذا خطأ مثل ذاك الذي وقع فيه هؤلاء الناس. إن كان المسيح قد بذل نفسه عني حقاً فذلك لأنه كان من غير الممكن بالنسبة لي أن أفعل ولو أمراً واحداً لأخلص نفسي. ولأنني لم أستطع أن أهيء نفسي لحضور الله، ولأني لم استطع أن أطهر قلبي من الخطيئة، ولأنه ما من عمل بر لي يمكن أن يؤهلني لأن أكون مع الرب، كان لا بد له أن ينزل من السماء وأن يبذل نفسه عني على الصليب. أنّى لي أن افكر إذاً بأن أتَّكل على أساس الاستحقاق البشري كوسيلة لضمان الخلاص، أو أن أصون نفسي في حالة من الخلاص أمام الله؟ لقد كنتُ أستحق الموت ولكن يسوع المسيح أخذ مكاني وسوّى المسألة لأجلي. لقد حقق كل مطالب البر الإلهي، وبه أخلص إلى الأبد. فهل أعود إلى الناموس لأكمل العمل الذي قام به؟ حاشى، وكلا.

يشير الرسول بولس الآن إلى بداية حياتهم المسيحية ويقول:‏ "أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هَذَا فَقَطْ:‏ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟" في الأصحاح السابق كان قد أظهر كيف يتبرر الإنسان أمام الله بالإيمان وحده، وأعلن أن الناموس قد أخذ أهمية أكبر من خلال الإدراك حقيقة أن عقوبة مخالفته قد تم دفعها بصليب ربنا يسوع المسيح، أكثر من أن تكون بجهود بائسة للإنسان للحفاظ عليه كوسيلة للخلاص. والآن يضيف إلى التبرير بالإيمان حقيقة اقتبال الروح القدس. فيقول:‏ "ارجعوا إلى خبرتكم المسيحية الذاتية. لقد أخذتم الروح القدس عندما آمنتم بالرب يسوع، عندما قبلتم رسالة الإنجيل كما قدمتُها لكم (يشير بذلك إلى خدمته بينهم). لقد أعطاكم الله الروح القدس، ليس على أساس أهلية أو استحقاق من قبلكم، ولا بفضل أي صلاح كان يمكنكم القيام به، وبالتأكيد ليس بسبب حفظ الناموس أو ممارسات طقسية، لأنكم كنتم أمميين غير مختونين. ومع ذلك عندما آمنتم بالرب يسوع، منحكم الله الروح القدس". والآن يقول:‏ تمعنوا في المسألة؛ هل اقتبلتم الروح بأعمال الناموس؟ بالتأكيد لا. كيف إذاً؟ "بخبر الإيمان".

"أَهَكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟" بمعنى آخر، إن جاء الروح القدس ليسكن فيكم في الحالة التي أنتم عليها عندما جئتم إلى المسيح، أتعتقدون أنكم في حاجة لتكملوا الأعمال باستخدام الجهود الشخصية الذاتية تحت القوانين التشريعية والنواميس؟ أنتم الذين تعرفون محبة الرب يسوع المسيح قد اقتبلتم الروح القدس. قد يقول البعض منكم:‏ "أتمنى لو كنت على يقين من ذلك". ولكن الكتاب المقدس يقول بشكل محدد:‏ "إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ" (أفسس ١:‏ ١٣). لقد ولدتم بالروح القدس. قد تتساءلون:‏ "هل تقصد أنني عندما ولدت من جديد، أن ذلك كان اقتبالاً للروح القدس؟" إن الكتاب المقدس يميز بين الولادة الجديدة بالروح واقتبال الروح القدس ولكن ليس من حاجة بالضرورة لوجود أي فاصل زمني بين ولادتنا الجديدة واقتبال الروح القدس. إن الولادة الجديدة هي عمل الروح القدس. وهذا الروح نفسه هو الذي يقوم بالعمل؛ فيأتي ليسكن في الإنسان الذي يولد من جديد. إن الولادة الجديدة هي خلق جديد، والروح القدس هو الخالق. إن الولادة الجديدة هي عمل الله، ولكن الروح القدس هو الله. هناك فرق بين أن تكون مولوداً من الله وأن يكون روح قدس الله ساكناً فيك. في التدابير الماضية كان الناس يُولدون من الله ومع ذلك ما كان يسكن فيهم روح قدسه. ولكن مع مجيء تدبير نعمة الله، عندما يولد الناس من جديد، فإن الروح القدس نفسه يأتي ويسكن فيهم. في حالة هؤلاء الغلاطيين، لو لم يصادق (الروح القدس) على العمل الذي قام به بولس، لو لم يصادق على موقفهم في اقتبال الرب يسوع المسيح، لما كان أبداً ليأتي ويسكن فيهم كما كانت عليه حالهم. لو كان ضرورياً لهم أن يخضعوا للطقوس والشعائر الموسوية، لكان سيوضح لهم المسألة ويقول:‏ "لا يمكنني أن آتي وأسكن فيكم إلى أن تتم تسوية هذه الامور، إلى أن تخضعوا للتشريعات والقوانين"، ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا القبيل. لقد آمنوا، وأخذوا مكانهم أمام الله كخطأة ضالين، وانعطفوا إليه في توبة، وقبلوا المسيح بالإيمان مخلصاً لهم، وأمكن للروح القدس أن يقول:‏ "الآن أستطيع أن أسكن فيهم وقد تطهروا من خطاياهم بدم المسيح الزكي، وسأجعل من أجسادهم هياكل لي". ألا ترون كم أن هذا النقاش واضح خلال لقاءات التعليم عند أولئك الناس؟

"أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟". ذكّرهم بما مروا به في تلك الأيام الاولى. لقد كان يعني كثيراً لأولئك الناس في مثل ظروفهم أن يخرجوا من نير الوثنية ويتخذوا موقفاً يخالف أصدقاءهم وأقرباءهم، وأن يقبلوا الرب يسوع المسيح مخلصاً لهم، وأن يعلنوا أن الأصنام التي كانوا يعبدونها يوماً لم تكن سوى صور بكماء وعاجزة أن تخلصهم. أن يتخلوا عن كل ما كانوا يشاركون به لسنوات كثيرة كان يعني الكثير، وعرّضهم للمعاناة والاضطهاد المرير و سوء الفهم المميت من جانب إخوتهم البشر ومع ذلك فكُرمى ليسوع اتخذوا تلك الخطوة بسرورٍ، ولأجل يسوع تحملوا التوبيخ، وعُذّب الكثيرون منهم، حتى الموت، وأولئك الذين كانوا لا يزالون أحياء كانوا يحسبون أنه لسرور بالغ أن يشاركوا المسيح في الرفض الذي تلقاه. إلا انهم وقعوا تحت سطوة نظام فاسد يعلّم بأنه لم يكن هناك خلاص إلى أن يخضعوا لما فرضه عليهم أولئك المشرعون المتهودون.

"أَهَذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثاً؟"، أكان عبثاً كل ما عانوه من أجل المسيح؟ أكان مجرد اعتراف؟ إن لم يكن كذلك فكيف بدا وكأنهم قد فقدوا يقينهم؟ ومن ثم يضيف "إِنْ كَانَ عَبَثاً!". لا يمكنه أن يصدق أن ذلك كان عبثاً، إذ يعود بنظره إلى الوراء ويتذكر المشقات التي مروا بها، والفرح الذي أتى إليهم عندما اعترفوا باقتبالهم المسيح، والمحبة التي كانت تضطرم بها قلوبهم أحدهم نحو الآخر، ونحوه كخادم لله والمخلص نفسه. إنه يقول:‏ "إني أتذكرٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ العذابات التي كنتم على استعداد لاحتمالها من أجل الإنجيل؛ لا يمكنني أن أصدق أنكم لم تهتدوا، وأن ذلك لم يكن حقيقياً لقد ضُلِّلتم، وغشي الضباب أعينكم، وأود لو أمكنني بنعمة الله أن أحرركم". لم يكن يحمل أية ضغينة نحوهم أو نحو أولئك الرجال الذين انحدروا من أورشليم، ولكنه كان يمقت التعليم العقائدي الذي جلبوه معهم. يجد بعض الناس صعوبة في التمييز بين بُغض التعاليم الخاطئة والمحبة للناس الذين يقعون تحت تأثيرها. عندما نشهد على حقيقة الله ونحذّر الناس من التعليم الخاطئ. فهذا لا يعني ولو للحظة أن يكون لدينا أية مشاعر من البغضاء نحو أولئك المضللين الذين ينشرون تلك التعاليم الخاطئة، إننا نحب هكذا أناس لأن المسيح مات عنهم، ونصلي لكي يعودوا عن غيّهم وأن يأتوا إلى معرفة نور الحق.

ثم يذكّرهم الرسول بولس أنه عندما جاء إلى وسطهم ليكرز بإنجيل نعمة الله كانت هناك علامات مذهلة وتجليات تلت ذلك. هم أنفسهم رأوه وبرنابا يصنعون المعجزات. وبعض من تلك الجموع كانت لديهم مواهب مشابهة. تلك الأدلة العجائبية كانت ترافق الشهادة. "الَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ، وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ، أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ؟" أعتقد أنه كان يريدهم الآن أن يقارنوا بين خدمة هؤلاء المعلمين الكذبة الذين بينهم وبين خدمته وبرنابا عندما نقل إليهم بساطة وامتلاء إنجيل المسيح ويدرك الفرق بينهما. هل كان هناك ثمة براهين عجائبية عند أولئك المعلمين الكذبة؟ هل أُيدت شهادتهم بقوة عجائبية؟ أبداً على الإطلاق. ولكن عندما مضى بولس يكرز بالمسيح وإياه مصلوباً، فإن الله نفسه وضع ختم موافقته على تلك الشهادة بإعطائه لهما القوة على صنع المعجزات. يقول الناس:‏ "لماذا لا نجد نفس الحال اليوم؟" فحتى اليوم نجد آيات عجائبية ترافق الكرازة بالحق، وهذه لا نجدها عندما يظهر خطأ في التعاليم. عندما يُكرز بإنجيل نعمة الله، فإن الرجال والنساء الذين يؤمنون به يتحررون من خطاياهم، ويعمل الروح القدس فيخلق فيهم حياة جديدة، طبيعة جديدة، ويحررهم. السِّكيرُ يصغي إلى الإنجيل ويؤمن به ويرى أنه قد تحرر من عبودية الملذات. والفاسق الخليع الذي يقصف ويعربد في فحشائه كخنزير في الوحل يلمح الرب يسوع، فيتحرك قلبه إذ يتفكر في قداسة ونقاء المخلص، فينحني في توبة أمام الله مشمئزاً من نفسه ومن خطيئته، ويغدو نقياً طاهراً وصالحاً. والكاذب والأفّاك الذي لم يستطع أن يقول الصدق لسنوات يسمع إنجيل نعمة الله ويعشق ذاك الذي هو الحق، ويتعلم مذ ذاك فصاعداً أن يقول الكلمات المحقة الصادقة. وذلك النزق الذي كان يشكل رعباً لعائلته حتى أن زوجته تنكمش من الخوف منه، ويخافه أولاده عندما يدخل إلى المنزل، تخضعه النعمة الإلهية، ويصبح الأسد حملاً. تلك إنما عجائب كانت تجري عبر الأجيال حيث كان يُكرز بإنجيل نعمة الله. أما التعليم الخاطئ فلا يأتي بهكذا ثمار. إنما يعطي الناس مفاهيم فكرية معينة يتفاخرون بها ولكنها لا تجعل النجس نظيفاً ولا تحرر من النجاسة والفجور. بل إن مجد الإنجيل هو الذي يجعل الناس يؤمنون حقاً بأنهم يصبحون خلائق جديدة في المسيح يسوع. لم تكن هناك هكذا علامات وآيات وعجائب ترافق هذه الكرازة الناموسية التشريعية. وهكذا يعود إلى إبراهيم. كان هؤلاء المعلمون الكذبة يقولون:‏ " لقد دعا الله إبراهيم وأخرجه من بين الأمميين وأعطاه عهد الختان، ولذلك فما لم يتبع هؤلاء الغلاطيون هذا الطريق لا يمكنهم أن يخلصوا". "كَمَا «آمَنَ إبراهيم بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً»". لقد كان إبراهيم أممياً كمثل هؤلاء الغلاطيين وكشف الله الحق له. نقرأ في الآية ٨:‏ "سَبَقَ (الله) فَبَشَّرَ إبراهيم أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ»". وآمن إبراهيم بذلك وبرره الله بالإيمان. متى كرز الله له بالإنجيل؟ لقد أخرجه من خيمته في إحدى الليالي  وقال له:‏ "انْظُرْ إلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ" (تكوين ١٥:‏ ٥).

فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع أن أعدها، إنها ذات عدد لا حصر له". ثم أمره أن يعد الرمل والتراب تحت قدميه فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع فعل ذلك". فقال الله:‏ "هكذا يكون نسلك. وبنسلك تتبارك كل أمم الأرض". لقد أعطى الله إبراهيم الوعد بنسل هائل العدد، يكون لا حصر له كنجوم السماء، وكرمل البحر، وتراب الأرض، وأيضاً البذرة (النسل الفرد) ألا وهو الرب يسوع المسيح نفسه، ابن إبراهيم، إذ به كل أمم الارض سوف تتبارك. لقد كان إبراهيم رجلاً عجوزاً لا أولاد له، ولكن، "لاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِياً مَجْداً لِلَّهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضاً" (رومية ٤:‏ ٢٠، ٢١). وعندما رأى الله هذا الإيمان في إبراهيم برّره. لم يكن عهد الختان قد أُعطي له بعد، إلا أنه تبرر بالإيمان. ماذا نستنتج من ذلك؟ إن كان الله يستطيع أن يبرر أممياً بالإيمان، أفلا يستطيع أن يبرر عشرة ملايين بالإيمان؟ إن كان إبراهيم هو أبو كل المؤمنين بمعنى روحي، فلسنا في حاجة نحن الأمميين إذاً أن نخشى اتباع نفس خطواته.

وهكذا يتتابع فحوى النص بالآية:‏ "اعْلَمُوا إِذاً أَنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولَئِكَ هُمْ بَنُو إبراهيم". أترون؟ إبراهيم له نسل روحي وأيضاً نسل طبيعي. فأولئك الذين وُلدوا من نسل إبراهيم بحسب الجسد ليسوا أولاد إبراهيم ما لم يولدوا من جديد؛ يجب أن يكون لديهم إيمان إبراهيم لكي يكونوا أبناء له. لكن في كل أرجاء العالم حيث انطلقت الرسالة، وحيث كان الناس، يهوداً كانوا أم أمميين، يضعون رجاء إيمانهم على نسل ابراهيم ذاك، ألا وهو ربنا يسوع المسيح، ويقتبلونه مخلصاً ورباً، يقول الله:‏ "احسبوه ابناً لإبراهيم". وهكذا فإن لإبراهيم عدداً كبيراً من النسل الروحي. عبر كل القرون، إن ملايين وملايين الناس الذين آمنوا بالله كما فعل ووضعوا رجائهم على المخلص الذي آمنوا به سيشتركون في بركاته، وسيكونون مع إبراهيم إلى الأبد.

"والْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ (ليس بالإيمان والأعمال، وليس بالإيمان والطقوس، وليس بالإيمان والممارسات الأسرارية)، سَبَقَ فَبَشَّرَ إبراهيم أَنْ «فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ»". إن الإنجيل هو بشرى الله الحسنة المتعلقة بابنه. لقد تلقى إبراهيم تلك البشرى الحسنة، وإن تلقيتموها أنتم وأنا وآمنا بها فإننا نرتبط به، ونكون كلنا أبناء إبراهيم.

"إِذاً الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إبراهيم الْمُؤْمِنِ". علام تستندون في خلاصكم؟ لقد تلقيت رسائل من أناس كانوا ساخطين لأني قلت بأن الخلاص هو بالإيمان وحده. إن الأمر يجعل المرئ يبدأ أحياناً باكتشاف أنه بعد كل كرازتنا بالإنجيل فإن كثيراً من الناس الذين أقروا باعتراف مسيحي، لم يتعلموا بعد أن الخلاص هو بشكل مطلق من النعمة بالإيمان. نكاد ننسى أن هناك مئات من الناس الذين لا يؤمنون بهذه الأمور. ومع ذلك فأنّى للمرء أن يعترف بإيمانه بهذا الكتاب، ومع ذلك يصر على أن الخلاص يعتمد على جهود بشرية؟ في رسالة رومية نقرأ:‏ "إِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً وَإِلاَّ فَالْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلا" (رومية ١١:‏ ٦). ألا ترون كيف أن روح قدس الله يحسم الجدل فيما إذا كان الخلاص بالنعمة تماماً أو بالأعمال تماماً؟ لا يمكن أن يكون بمزيج من الاثنين قد يقول أحدهم:‏ "ولكن ألا تتذكر القصة القديمة التي تحكي عن كارزين كانا في قارب ويتجادلان فيما إذا كان الخلاص بالنعمة أو بالأعمال، بالإيمان أو بالأعمال؟ وكان النوتيُّ يستمع إليهما، وعندما عجزا عن الوصول إلى حل للمشكلة، قال له أحدهما:‏ "لقد سمعت حوارنا فما رأيك في المسألة؟"

فقال:‏ "حسناً. لقد كنت أفكر في المسألة على هذا النحو-‏ لدي مجذافان، سأسمي الأول إيمان، وهذا الآخر سأسميه الأعمال. إن استخدمت هذا المجذاف فقط فإن القارب سيدور ويدور ولن أصل إلى أي مكان. وإن استخدمتُ ذاك الآخر لوحده فإنه سيدور ويدور أيضاً ولن أصل إلى أي مكان. ولكن إن استخدمتُ كلا المجذافين أستطيع أن أعبر النهر".

ويقول الناس أن هذا مثال توضيحي جميل عن حقيقة أن الخلاص بالإيمان والأعمال. لكان الأمر صحيحاً لو أننا كنا سنذهب إلى السماء بقارب، ولكن ليس الأمر هكذا. إننا نعبر بنعمة ربنا يسوع المسيح اللا محدودة، وكمثل تلك النعجة الضالة التي شردت ووجدها الراعي يحملنا المخلص إلى ديارنا في المجد، فليست مسألة أعمال نقوم بها أو طريق نشقه إلى هناك. وهكذا نعود إلى ما يقوله الكتاب المقدس:‏ "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس ٢:‏ ٨، ٩). إن كان علي أن أقوم ولو بفعل صغير كمثل أن أرفع إصبعي الصغير لكيما أخلص نفسي لكنت سأتبختر مختالاً في الشوارع الذهبية وأنا أقول:‏ "المجد لله ولي، إذ بجهودنا المشتركة المتحدة خلُصتُ". كلا. الأمر لا يتطلب أعمالاً مني ولا جهوداً مني وهكذا سيكون ليسوع كل المجد.

"لقد دفع يسوع كل الحساب،
وله أدين بكل شيء.
لقد فقدت الخطيئةُ صبغتَها القرمزية،
إذ قد غسلها الرب فصارت ناصعة كبياض الثلج".

أأنتم في ارتباك وحيرة ويعوزكم يقين الخلاص؟ لعلكم قد صليتم وقرأتم كتابكم المقدس، وذهبتم إلى الكنيسة، واعتمدتم وشاركتم في الأسرار، وحاولتم أن تقوموا بواجباتكم الدينية، ولكن ليس لديكم الشعور بالسلام والراحة ولا تعلمون إذا ما كانت نفوسكم قد خلُصت. ابتعدوا عن الذات والانهماك بالذات وثبتوا أعينكم على مسيح الله المبارك وضعوا رجاء قلبكم فيه وكونوا على يقين "أن كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يَهْلِك بَلْ تَكُون لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا ٣:‏ ١٦).