محاضرة ٢

ما من إنجيل آخر

(غل ١:‏ ٦-‏ ٩)

"إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ. لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ. وَلَكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا». كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضاً:‏ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»".

هذه الكلمات قوية جداً، وأستطيع أن أتفهم أن بعض الناس قد يجدون صعوبة في أن يوفقوا بينها وبين حقيقة النعمة التي في المسيح يسوع. يلقي بولس الرسول بلعنة مرتين على أولئك الذين يكرزون بأي إنجيل آخر مخالف لما أعلنه هو نفسه لأولئك الغلاطيين حين كانوا خطأة تعساء، والذي استخدمه الله ليقودهم إلى الرب يسوع المسيح. قد يتساءل البعض:‏ هل هذا هو موقف الخادم المسيحي أن يلعن الناس الذين لا يوافقونه الرأي؟ لا. وبالتأكيد ليس هذا أيضاً موقف بولس. فلماذا يستخدم إذاً هكذا لغة قوية؟ ليس الأمر هو أنه نفسه يلعن أحداً، بل إنه يعلن، بالوحي الذي أعطي له بالروح القدس، أن الدينونة الإلهية ستقع على كل من يسعى لتحريف إنجيل المسيح أو لإبعاد الناس عن ذلك الإنجيل. بمعنى آخر، يدرك الرسول بولس حقيقة أن الإنجيل هو رسالة الله الوحيدة للضالين، وأن تحريف ذلك الإنجيل، بتقديم بديل آخر مخالف للناس، يدسه إنسان ٌ لهم إنجيلاً مزيفاً، إنما يشكل خطراً يهدد نفوس أولئك الذين يستمعون إليه. لقد أكد ربنا يسوع المسيح على ذلك عندما أشار إلى أن أولئك الذين كانوا يعلمون الناس أن يضعوا ثقتهم في جهودهم الخاصة سعياً وراء الخلاص ما هم إلا قادة عميان يقودون أناساً عميان وأنه سيسقط الجميع في الحفرة في نهاية الأمر. إنه لأمر خطير أن تضلل الناس في الأمور الروحية. ومن المريع أن تعطي الاتجاه الخاطئ عندما تسألك النفوس عن الطريق إلى السماء.

أذكر قصة قرأتها عن امرأة كانت مع طفلها الرضيع الصغير في قطار يعبر إحدى الولايات الشرقية. لقد كان ذلك في يوم شتوي عاصف. وفي الخارج كانت عاصفة هوجاء تهب، وكان الثلج ينهمر، وكان القطقط يغطي كل شيءٍ. كان القطار يشق طريقه ببطء بسبب الجليد على خطوط السكة الحديدية وكانت جرافات الثلج تسير في الأمام لتفتح الطريق. بدت المرأة متوترة مضطربة جداً. كان عليها أن تترجا في محطة صغيرة حيث كان من المفترض أن يلتقيها هناك بعض أصدقائها، وقالت لقاطع التذاكر:‏ "أرجو أن تتأكد وأن تخبرني عندما نصل إلى المحطة المنشودة. هلا فعلت؟"

فقال لها:‏ " بالتأكيد. ابقي هنا إلى أن أُنبِئك بوصولنا إلى المحطة المطلوبة".

وهنا جلست وقد هدأ توترها وأكدت على قاطع التذاكر:‏ "لا أعتقد أنك ستنساني".

وكان تاجرٌ مسافر يجلس قبالة الممشى، فانحنى إلى الأمام نحوها وقال:‏ "عذراً ولكنني أرى أنك لا زلت متوترة بشأن نزولك في المحطة. إني أعرف هذه الطريق جيداً. إن محطتك هي أول محطة توقف بعد مدينة (كذا). قاطعوا التذاكر هؤلاء كثيري النسيان، فلديهم أشياء كثيرة تشغل بالهم، وقد يغفل عن طلبك، ولكني سأحرص على أن أساعدك للنزول في المكان الصحيح. وسوف أساعدك في حمل حقائبك".

فقالت:‏ "شكراً لك". واستندت إلى الوراء وقد شعرت بارتياح شديد.

بعد حين نُودِي باسم المدينة التي ذكرتها، فعاد وانحنى إلى الأمام وقال لها:‏ "إن محطتك هي التالية".

وبينما هم يقتربون من المحطة نظرت حولها بقلق باحثة عن قاطع التذاكر ولكنه لم يأتِ. فقال الرجل:‏ "أرأيت، لقد نسيك. سأنزلك هنا". وساعدها في حمل حقائبها، وبما أن قاطع التذاكر لم يأت ليفتح الباب فقد فتحه بنفسه، وسرعان ما أنزل حقائبها وساعدها على أن تترجل من القطار حالما وقف. وما لبث القطار أن عاود تحركه من جديد.

بعد بضعة دقائق جاء قاطع التذاكر، وقال وهو ينظر حوله:‏ "ما هذا؟ يا للأمر الغريب! لقد كانت هنا امرأة تريد أن تنزل في هذه المحطة. عجباً أين هي؟".

فرفع التاجر صوته وقال:‏ "بلى. لقد نسيتَها، إلا أنني ساعدتها على أن تنزل في المكان المنشود".

فسأل قاطع التذاكر:‏ "أين نزلت؟"

أجاب الرجل:‏ "عندما توقف القطار".

فقال:‏ "ولكن لم تكن تلك محطةً. لقد كانت نقطةَ توقّفٍ اضطرارية. لقد كنت أبحث عن تلك المرأة. فلماذا أنزلتها في ذلك المكان القفر الموحش وسط هذه العاصفة الهوجاء حيث لن تجد أحداً".

فلم يكن من أمر يفعلونه إذ ذاك، ورغم خطورة الموقف، سوى أن يعكسوا اتجاه سيرهم وأن يعودوا أدراجهم إلى الوراء لبضعة أميال، وعندها خرجوا ليبحثوا عن المرأة. وبعد بحث طويل، تعثر أحدهم بها، فوجدوها وقد تجمدت على الأرض مع ابنها الرضيع الصغير المتوفي بين ذراعيها. لقد كانت ضحية الهداية أو التوجيه الخاطئ.

إنه لأمر بالغ الخطورة أن تدل الناس إلى جهة خاطئة فيما يتعلق بأمور وقتية زائلة، فما بالك بالإنسان الذي يُضل الرجال والنساء في مسألة خلاص نفوسهم الخالدة؟! إن آمن الناس بإنجيل مزيف، وإن وثقوا بشيء يتناقض مع كلمة الله، فإن ضلالهم وضياعهم لن يكون مؤقتاً بل إلى الأبد. ولهذا السبب فإن الرسول بولس، وإذ يتحدث بوحي من الروح القدس، يستخدم هكذا لغة قوية فيما يخص الإثم الخطير وفظاعة تضليل النفوس في الأمور الأبدية. لقد كان هؤلاء الغلاطيون يعيشون في خطاياهم، وفي الوثنية وفي ظلمة المعتقدات الخرافية الوثنية، عندما جاء بولس إليهم وكرز بالإنجيل المجيد الذي يخبر كيف "أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا ..... وَأَنَّهُ دُفِنَ وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ" (١ كو ١٥:‏ ٣، ٤). لقد خلصوا بفضل فعل إنجيل نعمة الله. كم هو عجيب ورائع أن ترى رجلاً كان يعيش في كل أنواع الخطيئة فيأتي به الله بالروح القدس إلى التوبة ويقوده إلى الإيمان بالإنجيل. كل شيء يتغير، والعادات القديمة تسقط كالأوراق الزابلة، فحياته الآن جديدةٌ. لديه القوة للتغلب على الخطيئة، ولديه الرجاء بالسماء، ولديه يقين الخلاص. هذا ما يقدمه إنجيل الله.

هؤلاء الغلاطيون، بعد أن أتى بهم بولس إلى حرية النعمة، كانوا يضللون على يد معلمين كذبة، وهؤلاء رجال انحدروا من اليهودية وكانوا يدّعون أنهم مسيحيون، ولكنهم لم يتحرروا أبداً من الناموسية. لقد كانوا يقولون لأولئك المسيحيين الحديثي العهد:‏ "«إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا»" (أعمال ١٥:‏ ١). وهكذا أعادوهم إلى محاولات الاجتهادات الشخصية وجعلوهم يحيدون بنظرهم عن المسيح ويركزون على أنفسهم وعلى قدرتهم على حفظ الناموس. يقول بولس:‏ "هذا الأمر سيهلك الناس الذين يعتمدون على محاولاتهم الشخصية الذاتية للوصول إلى السماء. بذلك سيضلون الطريق إلى اللؤلؤة (بوابة السماء)". لا ينفعهم مدى جديتهم، فإن كانوا يعتمدون على أعمالهم الذاتية فسوف لن يكونوا مشاركين في ميراث القديسين في النور. حتى الآن ونظراً إلى الغلاطيين كانوا قد ولدوا من جديد فإن هذه العقيدة المغلوطة، إن لم تصبح وسيلة لهلاكهم الأبدي، فإنها على الأقل ستسرق منهم الفرحة والغبطة التي ينبغي أن يتمتع بها المسيحيون. أنّى لإنسان أن يشعر بالسلام إن آمن بأن الخلاص يعتمد على جهوده الذاتية؟ كيف للمرء أن يكون متأكداً بأنه حقق على نحو مرضٍ مطالب الناموس أو الطقوس؟ إن إنجيل نعمة الله التي بها آمنوا تعطي الناس يقيناً كاملاً بالخلاص. من هنا كان بولس ساخطاً جداً إذ وجد أناساً قد أتوا ببديل مغاير عن إنجيل نعمة الله، وتعجب بأن أولئك الغلاطيين الذين كانوا فرحين بالانعتاق الذي في المسيح كانوا على استعداد للعودة إلى عبودية الناموس.

يقول (بولس):‏ "إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ". إنه منذهل لأنهم سرعان ما أداروا ظهرهم إلى رسالة النعمة. ما هي النعمة؟ إنها المنّة المجانية التي ننالها من الله دون استحقاق في حين أننا نستأهل العكس. هؤلاء الغلاطيون، على مثالنا، قد استحقوا دينونة أبدية، وكانوا يستحقون أن يغلق عليهم بعيداً عن حضور الله إلى الأبد، ولكن عن طريق الكرازة بالنعمة وصلنا إلى الإدراك بأن الله لديه برٌّ يقدمه مجاناً إلى الخطأة الفجّار الذين آمنوا بابنه المبارك. ولكن الآن، وإذ هم منشغلون بالشعائر القانونية، والنواميس، والدساتير، والتشريعات القانونية، فقدوا فرح النعمة وأخذوا إلى الجهد الذاتي. فيقول بولس:‏ "لا أستطيع أن أفهم ما يجري". ومع ذلك فإن هذا أمر طبيعي ينتاب قلوباً بائسة كقلوبنا. لطالما نرى أناساً يبدون مهتدين على نحو رائع، ومن ثم يفقدون كل شيء إذ ينشغلون بكل أنواع الأسئلة والشكوك والقوانين والشعائر والطقوس. إن الله يود إن ينشغل كل قلب بابنه المبارك، "الذي فيه تقبع كل كنوز الحكمة والمعرفة".

"إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ آخَرَ". نقرأ في الكتاب المقدس "إنجيل آخر"، وفي الآية ٧ نجد القول "لَيْسَ هُوَ آخَرَ" ويبدو في ظاهر الأمر أن هناك تناقضاً ما، إلا أن الكتاب المقدس، كما ورد في اليونانية، يستخدم كلمتين مختلفتين هنا، الأولى هي (herteron) وتعني أمراً مناقضاً للتعليم القويم، أي شيئاً مختلفاً عنه. فالرسول بولس يقول:‏ "إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هَكَذَا سَرِيعاً عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيلٍ مختلفَ". هذا المزج بين الناموس النعمة هو ليس إنجيل الله وليس شيئاً يضاف إلى ما قد تلقيتموه للتو، وليس أمراً يكمل رسالة الإنجيل. إنه بعكس ذلك، وهو رسالة تعليم هرطقي يخالف التعليم القويم. هناك إنجيل وحيد أوحد فقط.

قم بمراجعة الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، فتجد أن هناك إنجيلاً واحداً فقط-‏ وذلك هو الإنجيل الذي كُرز به أولاً في جنة عدن عندما أعلن الله رسالةً بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية (الشيطان). فحوى ذلك الإنجيل كان:‏ الخلاص هو في المسيح الآتي، ابن الله المولود من امرأة. وهو نفس الإنجيل الذي بُشر به إبراهيم. فنقرأ في هذا السفر أن الإنجيل قد بُشر به قبلاً إلى إبراهيم. فقد أخرجه الله في إحدى الليالي وقال له:‏ "انْظُرْ إلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ ".

فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع أن أعدّها".

وقال الله:‏ "انظر إلى تراب الأرض، وعُدَّ ذراته".

فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع أن أعدّها".

وقال الله:‏ "حسناً، فكّرْ إذاً برمل البحر، وعُدَّ حبات الرمالَ".

فقال إبراهيم:‏ "لا أستطيع أن أعدّها".

فأجاب الله:‏ "يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أمَمِ الأرْضِ" (تك ٢٢:‏ ١٨). "وَأجْعَلُ نَسْلَكَ كَتُرَابِ الأرْضِ" (تك ١٣:‏ ١٦). لعل إبراهيم قال:‏ "من غير الممكن! نسلي! ليس لي أولاد، وأنا رجلٌ طاعنٌ في السن، وزوجتي امرأة كهلة. هذا محال". إلا أن الله أعطاه وعداً:‏ "يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ (أي في المسيح) جَمِيعُ أمَمِ الأرْضِ". تلك كانت بشارة الإنجيل-‏ أن جميع الأمم ستتبارك بالمسيح، نسل إبراهيم. "«فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً»" (رومية ٤:‏ ٣). لقد تبرر بالإيمان لأنه آمن بالإنجيل وهو نفس الإنجيل الذي نجده يتكرر في المزامير. فداود، الملطخ بالخطيئة-‏ الخطايا المزدوجة المتمثلة بالزنى والقتل-‏ يصرخ إلى الله قائلاً:‏ "لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى. ذَبَائِحُ اللهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ" (مز ٥١:‏ ١٦، ١٧). "طَهِّرْنِي بِالزُوّفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ" (مز ٥١:‏ ٧). وهناك طريقة واحدة فقط يمكن بها للخاطئ البائس أن يتطهر، ألا وهي بدم الرب يسوع المسيح الثمين. كان لدى داود الرجاء بالإيمان بالمسيح، وكان أمله في هذا الإنجيل الوحيد الأوحد.

إنه الإنجيل الذي أعلنه أشعياء عندما نظر عبر الأجيال وقال:‏ "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (أشعياء ٥٣:‏ ٥). لقد كان أيضاً ذاك الإنجيل الذي بشر به إرميا عندما قال:‏ "وَهَذَا هُوَ اسْمُهُ الَّذِي يَدْعُونَهُ بِهِ:‏ الرَّبُّ بِرُّنَا" (إرميا ٢٣:‏ ٦). لقد كان نفسه الإنجيل الذي بشّر به زكريا حين قال:‏ "اِسْتَيْقِظْ يَا سَيْفُ عَلَى رَاعِيَّ وَعَلَى رَجُلِ رِفْقَتِي يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. اضْرِبِ الرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ الْغَنَمُ" (زكريا ١٣:‏ ٧).

كان هذا نفسه أيضاً الإنجيل الذي كرز به يوحنا المعمدان. فقد جاء منادياً بإنجيل الملكوت، وكما قال حين أشار إلى يسوع:‏ "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يوحنا ١:‏ ٢٩). وهو ذاتُ الإنجيل الذي أعلنه يسوع نفسه عندما قال:‏ "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا ٣:‏ ١٦). هذا هو أيضاً الإنجيل الذي بشّر به بطرس عندما قال:‏ "لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أعمال ١٠:‏ ٤٣). وهذا هو إنجيل الرسول يوحنا الذي قال:‏ "إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يو ١:‏ ١٧). وكان هذا إنجيل الرسول يعقوب الذي قال:‏ "شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ" (رسالة يعقوب ١:‏ ١٨). وهذا هو الإنجيل الذي سيحتفي به ملايين المفتدين على مر الأجيال مترنمين بنشيد التسبيح قائلين:‏ "يَسُوعَ الْمَسِيحِ.... الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِه" (رؤيا ١:‏ ٥). وهذا هو الإنجيل الذي كان بولس يكرز به عندما أعلن قائلاً:‏ "بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ الْخَطَايَا. وَبِهَذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ... " (أعمال ١٣:‏ ٣٨، ٣٩). إذاً هناك إنجيل واحدٌ وحيد. وما من إنجيلٍ آخر.

لطالما شعرت بالأسف عندما سمعت أحداً من إخوتي الذي تعلمت منه أن أحب في الحق والذي كنت أشاطره الكثير من الأشياء، يحاول أن يشرح بعض الفوارق الظاهرة خلال عصور الإنجيل ويتحدث وكأن هناك عدداً من الأناجيل المختلفة. إذ يقول البعض أن المسيح عندما كان على الأرض وفي الجزء الأول من سفر أعمال الرسل كانوا يكرزون بإنجيل الملكوت ولكنهم لم يعرفوا نعمة الله. وإني أتساءل إذا ما كانوا يتذكرون الكلمات في (يوحنا ٣:‏ ١٦) و(يوحنا ١:‏ ٢٩) ، ويتذكرون أن الرب هو الذي قال:‏ "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:‏ إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يو ٥:‏ ٢٤). كم هي ضعيفةٌ ذاكرتنا أحياناً، إذا ما قلنا أن يسوع لم يكرز بالنعمة عندما كان على الأرض حيث يقول الكتاب المقدس:‏ "إنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يو ١:‏ ١٧). أفيمكننا القول أن بطرس ورفاقه الرسل في الجزء الأول من الأعمال ما كانوا يبشرون بإنجيل النعمة عندما نرى بطرس يعلن قائلاً:‏ "لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أع ١٠:‏ ٤٣). هناك إنجيل أوحدٌ وحسب.

يقولون أن هناك إنجيل الملكوت، وآخر هو إنجيل نعمة الله، ثم لدينا إنجيل المجد، وسيكون هناك إنجيل رابع هو الإنجيل الأبدي. ويعتقدون أن هذه الأناجيل مختلفة عن بعضها. إن كانت هذه الأقوال صحيحة فإن كلمات بولس التالية ستكون خاطئة ولا معنى لها:‏ "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»". كتبت إحداهن تقول لي أنها كانت تتعجب كيف أن رجلاً كان يجب أن يعرف بشكل أفضل لا يتورع عن القول بأن هناك إنجيل واحد فقط. وتساءلت:‏ "لماذا يفكر هكذا؟ فحتى الدكتور سي آي سكوفيلد كان ليعلم على نحو أفضل لأنه يظهر أربع أناجيل في كتابه المقدس". أود أن أقرأ لكم ما يقوله الدكتور سكوفيلد في تفسيره لسفر الرؤيا ١٤:‏ ٦ :‏

"هذه الفكرة الهامة يمكن إيجازها على النحو التالي:‏

١-‏ كلمة إنجيل بحد ذاتها تعني البشرى الحسنة.

٢-‏ هناك أربعة أشكال من الإنجيل يجب التمييز بينها:‏

أولاً:‏ هناك إنجيل الملكوت. هذا هو البشرى الحسنة التي أراد الله نشرها على الأرض وفيها تحقيق للعهد الداودي، بملكوت روحي شامل لشعب إسرائيل يملك فيه ابن الله، الذي هو من نسل داود، لألف سنة في تجلٍ لبر الله في قضايا البشر.

هناك ذكر لكرازتين حول هذا الإنجيل، الأولى في الماضي ابتداءً بخدمة يوحنا المعمدان، والتي أكملها ربنا وتلاميذه وصولاً إلى رفض اليهود لهذا الملك. والثانية هي في المستقبل، وستكون خلال الضيقة العظيمة، والتي ستسبق مباشرة مجيء هذا الملك في مجده.

ثانياً:‏ إنجيل نعمة الله. هذا هو البشرى الحسنة بأن يسوع المسيح الملك المنبوذ، قد مات على الصليب عن خطايا العالم، وأنه قام من بين الأموات لتبريرنا، وأن به كل من يؤمن يتبرر من كل شيء. هذا الإنجيل موصوف بعدة طرق. إنه إنجيل "الله" لأنه ينشأ عن محبته؛ وإنجيل "المسيح" لأنه ينبع من ذبيحة نفسه القربانية، ولأنه وحده موضوع وهدف إيمان الإنجيل؛ وإنجيل "نعمة الله" لأنه يخلص أولئك الذين هم تحت لعنة الناموس؛ وإنجيل "المجد" لأنه يهم أولئك الذين هم في المجد، والذين يأتون بأبناء كثيرين إلى المجد؛ وإنجيل "خلاصنا" لأنه "قوة الله للخلاص لكل من يؤمن"؛ وإنجيل "الغُرلة" لأنه يخلص كلياً بمعزل عن الشكليات والشعائر والطقوس؛ وإنجيل "السلام" إذ بالمسيح يصنع السلام بين الخاطئ والله، كما ويمنحنا السلام الداخلي.

ثالثاً:‏ الإنجيل الأبدي. هذا يجب أن يكرز به إلى كل سكان الأرض في نهاية الضيقة العظيمة تماماً ويسبق مباشرة دينونة الأمم. وهذا ليس بإنجيل الملكوت ولا بإنجيل النعمة. ورغم أنه يركز على الدينونة، وليس الخلاص، إلا أنه البشرى الحسنة لبني إسرائيل وأولئك الذين يخلصون خلال فترة الضيقة.

رابعاً:‏ الإنجيل الذي يدعوه بولس "إنجيلي". وهذا هو إنجيل نعمة الله بملئه إلا أنه يشتمل على كشفٍ لنتيجة ذلك الإنجيل في افتقاد الكنيسة، وعلاقاتها ومكانتها وامتيازاتها ومسؤوليتها. إنه الحقيقة الواضحة التي تتبدّى بشكل مميز في رسالة أفسس وكولوسي، ولكن تتخلل كل كتابات بولس.

هذه الكلمات واضحةٌ جداً. هناك إنجيلٌ واحدٌ وحسب، ألا وهو بشرى الله الحسنة التي تتعلق بابنه؛ إلا أنها تأخذ مفاهيمَ مختلفةً في أوقاتٍ مختلفة بحسب الظروف والشروط التي يتواجدُ فيها الناس. في عصر العهد القديم كانت تدل على مجيء المخلص، إلا أنّها كانت تُعلِنُ الخلاصَ بموته التعويضي الكفاري. في أيام يوحنا المعمدان كان التركيز ملقىً على الملكوت الآتي، وعلى الملك الذي سيبذل حياته. وفي أيام خدمة الرب على الأرض قدم نفسه كملك، إلا أنّه رُفض، ومضى إلى الصليب لأنّه كان هو نفسه قد أعلن أنّه "لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى ٢٠:‏ ٢٨). خلال الإصحاحات الأولى من سفر أعمال الرسل نجد هذا الإنجيل يُعلَن لليهود والأمميين على حد سواء، مقدماً الخلاص المجاني لكل الذين يعودون إلى الله بتوبة، ولكن عندما أنهض الله الرسول بولس وهداه، أعطاه رؤية أوضح للإنجيل أكثر من أي شخص آخر. لقد أظهر له أن البشر، ليس فقط تُغفر خطاياهم بالإيمان بربنا يسوع المسيح، بل إنهم أيضاً يتبررون من كل الأشياء، ويقفون بالمسيح أمام الله لكونهم جزءٌ من خليقة جديدة. هذا كشف كامل للأنباء السارة، إلا أنه نفس الإنجيل.

في المستقبل وخلال أيام الضيقة العظيمة، سيُعلن الإنجيل الأبدي فيعرف الناس الذي كان قد رُفض سيأتي ثانية ليؤسس ملكوته المجيد، ولكن، حتى في ذلك اليوم سيعلم الناس أن الخلاص هو بدمه الثمين، إذ بنتيجة الكرازة تلك عدد هائلٌ سيأتي من كل الشعوب واللغات الذين يكونون "قَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوهَا فِي دَمِ الْحَمَلِ" (رؤيا ٧:‏ ١٤).

نعم. هناك إنجيل واحد وحسب وإن أتى أي شخص ليكرز بأي إنجيل آخر فيقول لكم أن هناك طريقة آخرى للخلاص عدا عمل الرب يسوع التعويضي الكفاري فإن هذا الإنجيل سيكون مزيفاً هرطقياً. إذاً فقد جاء البعض على هذا النحو إلى غلاطية وحرّفوا إنجيل المسيح وهذا ما جعل بولس يقول في غمرة حماسته وغيرته على الإنجيل، مقوداً بالروح القدس الذي كان يوحي له:‏"إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»" (أي فليقع تحت الدينونة)، إن كان يستبدل إنجيل نعمة الله بأي شيءٍ آخر. لاحظوا، إن كان ملاك يعلن الإنجيل الأبدي في أيام الضيقة العظيمة كارزاً بأي إنجيل سوى إنجيل الخلاص بالإيمان بالمسيح وحده، فإن ذلك الملاك نفسه تقع عليه اللعنة، إذ يقول بولس:‏ "إِنْ بَشَّركُمْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»".

لقد التقيت في الغرب كثيراً بتلاميذ لجوزيف سميث، وعندما كنت أحشرهم في الجدال بكلمة الله ويعجزون عن التهرب، كانوا يلجأون إلى القول:‏ "حسناً. إن لدينا ما ليس لديك. فقد جاء ملاك إلى جوزيف سميث وأعطاه كتاب المورمون". إذاً هكذا كانوا يرون أن الكتاب المقدس لم يكن كافياً لأن ملاكاً كان قد أعلن شيئاً آخر مختلفاً. انا لا أؤمن بنبوة جوزيف سميث، ولا أعتقد أبداً أن ملاكاً قد ظهر له، ما لم يكن ذلك في كابوس. وحتى إن فعل فعندئذٍ يكون ذلك الملاك من جهنم وهو تحت اللعنة، لأنه "إِنْ بَشَّركُمْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»". قد يقول الناس:‏ "ولكن يا بولس، إنك مُغالٍ في مشاعرك، وإنك تفقد رباطة جأشك". كما تعلمون، إن أصبحتم متحمسين جداً للحقيقة سيقول الناس أنكم تفقدون رباطة جأشكم. إن دافعتم بقوة عن الحقيقة فسيقولون أنكم لستم بلطفاء. أما الناس فيستخدمون لغة متقدة جداً في حديثهم عن السياسة والأشياء الأخرى، ومع ذلك فلا أحد يعترض على فقدانهم لرباطة جأشهم، بل يعتقدون أنه ينبغي علينا أن نكون هادئين جداً عندما يمزق الناس الكتاب المقدس إلى أشلاء. إذا اقتضى الأمر مشاعر متقدة أو قوية فإن ذلك يكون دفاعاً عن الإنجيل ضد التعاليم المزيفة.

لئلا يقول أحدٌ:‏ "يا بولس، ما كنت لتكتب هكذا لو أنك كنت أكثر هدوءً وما كنت لتستخدم هكذا لغة قوية"، نجد بولس يكرر ما سبق فقاله، في الآية ٩، فيؤكد أن:‏ "كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضاً:‏ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»". هذا الكلام فيه هدوءٌ ورباطة جأش بما فيه الكفاية. فهو لا يتحدث إذاً كشخص ساخط. فلقد فكر ملياً ولوقت كافٍ بالأمر، وزان كلماته بعناية. نعم، لقد فكر ملياً وبهدوء ورزانة بالأمر وقال مؤكداً من جديد مصراً على ما كان قد أعلنه من قبل بأن الدينونة الإلهية تقع على كل من يسعى لتضليل البشرية بإخبارهم عن أي طريق أخرى للخلاص سوى بدم الرب يسوع المسيح الكفاري الثمين.

في الختام أترك لكم هذا السؤال:‏ علامَ تضعون رجاءكم بالحياة الأبدية؟ أتضعونه على الرب يسوع المسيح؟ هل تؤمنون بإنجيل نعمة الله؟ " لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ" (أفسس ٢:‏ ٨).