محاضرة ٥

ارتداد بطرس في أنطاكية

 (غل ٢:‏ ١١-‏ ٢١)

"وَلَكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً. لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفاً مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ. وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضاً، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ! لَكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ:‏ «إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيّاً لاَ يَهُودِيّاً، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟» نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً، إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا. فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً خُطَاةً، أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا!   فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضاً هَذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّياً. لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلَّهِ. مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذاً مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ".

هذا المقطع يوحي بعدد من الاعتبارات الشيّقة. فبادىء ذي بدء، ننذهل إذ نجد بولس وبطرس وكلاهما رجلان موحى لهما من الله، وكلاهما مفوضان من الرب يسوع المسيح ليذهبوا إلى العالم ويعلنوا إنجيله، وكلاهما رسلٌ، ننذهل إذ نجدهما الآن يختلفان بحدة أحدهما عن الآخر. وهذا سيفترض بالتأكيد أن الرسول بطرس الذي هو على ضلال، ليس الصخرة التي تُبنى عليها الكنيسة. فيا لها من صخرة متزعزعة إن كان كذلك، فها هنا نفس الرجل الذي أعطاه الآب ذلك الإعلان الرائع بأن المسيح هو ابن الله الحي، فالمفارقة هي أنه يسلك في أنطاكية بطريقة تثير الشك بإنجيل نعمة الله. إن كان بطرس هو أول بابا فهو بابا غير معصوم وعرضة للخطأ. إلا أننا نجده نفسه يقول أنه لم يكن يتمتع بهكذا مكانة، إذ يخبرنا في الإصحاح الخامس من رسالته الأولى بأنه كان مثله مثل بقية رفاقه الشيوخ في كنيسة الله وليس في موضع سلطة أو ترأس على سلطة الكنيسة المشيخية والشيوخ في كنيسة الله. إضافة إلى ذلك فإن قراءة الكتاب المقدس تظهر لنا الأهمية الكبرى لأن نكون منتبهين إلى ألا نساوم بأي شكل على حقيقة الله الثمينة.

وقد رأينا لتوِّنا كم كانت تلك الحقيقة هامة في عيني الرسول بولس عندما أمكنه أن يدعو بدينونة ملائمة مستحقة على الرجل، أو حتى على الملاك، الذي يبشر بأي إنجيل آخر يختلف عن الإعلان الإلهي الذي نُقل إليه. ونعلم أن ذلك الموقف لم يكن بسبب تعكر مزاجه الذي جعله يكتب على هذا النحو، بل لأنه أدرك كم هو مهمٌ أن يحفظ "الإيمان الذي سُلِّم (لمرةٍ) للقديسين" (يهوذا ٣). هذا ما يشرح موقفه هنا بالنسبة لبطرس، أخيه الرسول. لقد تم الاتفاق، كما رأينا، في المجمع الكبير في أورشليم أن يذهب بطرس إلى اليهود وأن ينطلق بولس إلى الأمميين، وإذ أجريت مقارنة بين رسالتيهما وجد المجتمعون أنهما تتناقضان مع بعضهما، وأن كلتاهما تُعلِّم وتقول بأن الخلاص كان بالإيمان وحده بالرب يسوع المسيح، وأنهما كلتاهما كانتا تدركان عبث أو لا جدوى أعمال الناموس كوسيلة لتحقيق البر عند الإنسان الخاطئ.

كان بولس وبرنابا قد توجها إلى أنطاكية وعملا فيها قبل وقت طويل في حين أن بطرس كان قد جاء من أجل الزيارة، وأنطاكية هذه مدينة أممية كان فيها كنيسة كبيرة قوامها بشكل أساسي مؤمنون أمميون. أعتقد أن بطرس قد لاقى ترحاباً كبيراً بذراعين مفتوحتين، ولا بد أنه كان أمراً مفرحاً لبولس الرسول أن يرحّب ببطرس وأن يكون شريكاً له في الكرازة بكلمة الله لأولئك الناس في أنطاكية. في البداية أمضيا وقتاً سعيداً تماماً. فكانا يذهبان معاً ويجولان معاً على بيوت المؤمنين ويجالسونهم على نفس الموائد مع المسيحيين الأمميين. كان بطرس فيما مضى صارماً جداً كيهودي حتى أنه ما كان ليفكر أبداً بأن يدخل بيت أي أممي أو يخالطه أو يقيم معه أي رفقة أو صحبة. وكم كان أمراً ساراً أن ترى هؤلاء المؤمنين المختلفين، الذين كان بعضهم يهودي الأصل والآخر أممي، أعضاء الآن في الجسد الواحد، ألا وهو جسد المسيح، ويتمتعون بالرفقة معاً ليس فقط إلى طاولة الرب، بل أيضاً في منازلهم. فعندما يتحدث بولس عن تناول الطعام مع الأمميين أفترض أنه يشير إلى جلوسه إلى موائدهم حيث كانوا يستمتعون بالرفقة المسيحية الجميلة ويتبادلان أطراف الحديث في أمور الله في حين يتمتعون بالأمور الحسنة التي قدمها الرب لهم. ولكن لسوء الحظ حدث شيء أعاق وأعطب تلك الشركة المقدسة.

فقد انحدر بعض الأخوة من أورشليم، الذين كانوا من الفريسيين المتزمتين ورغم أنهم دعوا أنفسهم مسيحيين (ولعلهم كانوا كذلك) إلا أنهم ما كانوا قد تحرروا أبداً من الشرائع أو الناموسية وأدرك بطرس أن سمعته كانت على المحك. فإن وجدوه يأكل مع مؤمنين أمميين وعادوا إلى أورشليم وأخبروا عن ذلك، فهذا قد يؤثر على موقفه وموقعه هناك، ولذلك، وبدافع الحرص والحصافة، حسبما ظنَّ، انسحب من بينهم وما عاد يشاركهم الطعام، فلو اختار أن لا يأكل مع أمميين، فهل كان من الممكن أن يقول أحد أن موقفه هذا خطأ؟ وإذا أخذ بالاعتبار آراء هؤلاء الأخوة المجحفة أفلا يكون بذلك قد أبدى قدراً من الكياسة المسيحية؟ لقد كان يشعر بحرية القيام بهذه الأعمال ما لم تزعج هؤلاء الآخرين. أما بولس فقد كان يرى ما هو أعمق من ذلك. لقد رأى أن حريتنا في المسيح متوقفة فعلياً على السؤال فيما إذا كان على المرء أن يجلس إلى مائدة الطعام مع هؤلاء الذين خرجوا من أمميتهم إلى اسم ربنا يسوع المسيح، وهنا يكمن الجدال أو نقطة الخلاف.

يقول بولس:‏ "لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُوماً". ليس هناك خنوع أو تبعية في موقف بولس هنا وليس هناك تمييز لبطرس كرئيس للكنيسة. لقد كان بولس يدرك أن سلطة إلهية قد عُهدت إليه وأنه كانت له الحرية في أن يشك في تصرف بطرس نفسه رغم أنه كان أحد الاثني عشر الأساسيين. "لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ (الذي كان متزعماً في أورشليم) كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفاً مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ". نقرأ في العهد القديم:‏ "خَشْيَةُ الإِنْسَانِ تَضَعُ شَرَكاً". وهنا نتعجب بانذهال إذ نجد الرسول بولس، وبعد سنوات من العنصرة خائفاً من وجه الإنسان. لطالما قيل أن بطرس كان قبل العنصرة جباناً، ولكن عندما تلقى معمودية العنصرة تغير كل شيء. لقد وقف أمام الناس في أورشليم وجاهر بالحقيقة بجرأة قائلاً:‏ "لقد قتلتم أمير الحياة"، فذاك الذي كان قد أنكر الرب بسبب خوفه من الناس نجده الآن يقول بجرأة وصراحة أن:‏ "وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ" (أع ٣:‏ ١٤). لقد وصل البعض إلى الاستنتاج بأنه إذا تلقى إنسان معمودية العنصرة فإنه لن يكون جباناً أبداً، وأيضاً أن كل الخطيئة الفطرية تحترق عندئذ بنار الله المنقية المطهرة. ولكننا لا نجد مثل هذه في كلمة الله. صحيح أنه تحت تأثير معمودية العنصرة لم يَخشَ بطرس من وجه إنسان، ولكنه الآن بدأ بالزلل. إن حقيقة حصول المرء على بركة روحية كبيرة في أي وقت لا تشكل أبداً ضمانة بأنه سوف لن يخاف من جديد.

والآن نجد بطرس منزعجاً بنفس التهجم الذي جعله يعاني مشقة من قبل، خائفاً مما سيقوله الآخرون عنه، وعندما رأى هؤلاء المشرعين نسي كل شيء عن العنصرة وكل ما يتعلق بالبركة التي أتت وكل الإعلان الرائع الذي كُشف له عندما نزلت الملاءة من السماء وسمع الرب يقول:‏ "«مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!»" (أع ١٠:‏ ١٥). لقد نسيَ كيف أنه هو نفسه قد وقف في بيت كورنيليوس وقال:‏ "أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ كَيْفَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى رَجُلٍ يَهُودِيٍّ أَنْ يَلْتَصِقَ بِأَحَدٍ أَجْنَبِيٍّ أَوْ يَأْتِيَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَرَانِي اللهُ أَنْ لاَ أَقُولَ عَنْ إِنْسَانٍ مَا إِنَّهُ دَنِسٌ أَوْ نَجِسٌ" (أع ١٠:‏ ٢٨). ونسيَ أنه هو من وقف في مجمع أورشليم أمام الجميع، وبعد سرده لما حدث خلال زيارة كورنيليوس، هتف قائلاً:‏ "لَكِنْ بِنِعْمَةِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ نُؤْمِنُ (نحن اليهود بالطبيعة) أَنْ نَخْلُصَ كَمَا أُولَئِكَ أَيْضاً" (أع ١٥:‏ ١١). لقد كان هذا إعلاناً رائعاً. لعلنا كنا نتوقعه أن يقول:‏ "إننا نؤمن أنه بنعمة الرب يسوع المسيح سيخلصون، مثلنا تماماً"، أي "هؤلاء الأمميون قد يخلصون بالنعمة كما أننا نحن اليهود نخلص بالنعمة". ولكن لا. لقد كان لديه إعلان رائع عن المعنى الحقيقي للعنصرة وهذا التدبير المجيد لنعمة الله. ما الذي جعله ينسى كل هذا؟ إنها النظرات العابسة المقطبة التي تبدت عن أولئك الرجال الذين من أورشليم. لقد كانوا قد سمعوا أنه كان يمارس حرية ما كانوا يؤمنون بها، وجاؤوا ليراقبوه. ففكر أنه لا ينبغي عليه أن يدخل إلى بيت الأمميين ليأكل معهم في الفترة التي يكون فيها أولئك الرجال في الجوار. وهكذا وبدون أن يفكر في أن هذا سيزعج أولئك المسيحيين الأمميين البسطاء الذين كانوا قد عرفوا الرب منذ برهة قصيرة وحسب، ولكي يُرضي هؤلاء المشرعين الذين من أورشليم انسحب من مجالس الأمميين ومن تلك الرفقة الحميمة التي كان يعيشها معهم. لم يكن وحده من اتخذ هذا الموقف بل تبعه آخرون أيضاً متأثرون به. "رَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضاً". لقد بدا وكأنه ستكون هناك كنيستان في أنطاكية عما قريب، إحداهما لليهود والأخرى للأمميين، وكأن حجاب الحائط المتوسط لم يتمزق.

"رَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضاً" ما أثار سخط بولس هو رفيقه الحميم، وشريكه في العمل الرسولي، والرجل الذي فهم جيداً من البداية العمل الذي ينبغي عليه أن يقوم به، أعني به برنابا:‏ "حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضاً انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ". كم من معانٍ مؤثرة تحمل هذه الكلمات! فبرنابا الذي كان يعرفه حق المعرفة، برنابا الذي كان قد رأى كم أن الله القدير قد عمل من خلاله وسط الأمميين والذي عرف أن كل ذلك النظام التشريعي الناموسي القديم قد سقط إلى غير رجعة، برنابا هذا قد انقاد إلى ريائهم.

"الرياء" كلمة مناسبة نوعاً ما. إني أتساءل عن السبب الذي لم يترجم فيه المترجمون الكلمة اليونانية الأصلية كما هي كما اعتادوا أن يفعلوا في أماكن أخرى في الكتاب المقدس. لعلهم لم يفضلوا استخدام الكلمة الأخرى المرتبطة بشخص مثل برنابا. إن الكلمة هي "النفاق":‏ "لقد صار اليهود الآخرون منافقين مثله، وذلك على قدر ما كان برنابا يسايرهم في نفاقهم. أعتقد ان بطرس كان ليقول:‏ "إننا نقوم بذلك لمجد الله"، ولكن لم يكن الحال هكذا أبدا ً، لقد كان نفاقاً صريحاً وبكل معنى الكلمة في نظر الله. لقد كان بولس يدرك ماهية الأمر، فقال:‏ "لَكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ...". لم يكن ذلك لقاءً سرياً، ولم يكن هناك اغتياب. فما كان ينبغي عليه ان يقوله كان يقوله بصراحة وعلانية، ولم يبدُ أنه كان يراعي مشاعر بطرس. علينا أن نتذكر دائماً القول:‏ "إنْذَاراً تُنْذِرُ صَاحِبَكَ وَلا تَحْمِلْ لأجْلِهِ خَطِيَّةً" (لاويين ١٩:‏ ١٧). وبعد بضعة سنوات من ذلك كتب (بولس) إلى تلميذه تيموثاوس:‏ "اَلَّذِينَ يُخْطِئُونَ وَبِّخْهُمْ أَمَامَ الْجَمِيعِ لِكَيْ يَكُونَ عِنْدَ الْبَاقِينَ خَوْفٌ" (١ تيموثاوس ٥:‏ ٢٠). هناك أشياء كثيرة ما كان يمكن الاستهانة بها. ما كان من الممكن أن يجلس بولس مع بطرس في ركن ناءٍ وأن يسويا المسألة بهدوء، إذا كانت فضيحة عامة علنية، واستدعت طرح مسألة حرية الأمميين في المسيح ولذلك كان يجب تسوية المسألة علانية. قد يتخيل المرء مشاعر بطرس، وهو رجل الله النبيل، ومع ذلك فقد وقع في هذا الشرك. في البداية أجفل وهوينظر إلى بولس، وأتخيل بعد ذلك أنه أدرك، وبرأس مطأطأ وقد احمر وجهه خجلاً، كم كان مذنباً ومخطئاً عندما سعى إلى إرضاء هؤلاء التشريعيين الذين كانوا ليَسلبون الكنيسة من إنجيل النعمة الرائع. "«إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيّاً لاَ يَهُودِيّاً، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟»" لقد تحدث بشكل واضح مباشر وصريح. وأعتقد أن أولئك اليهود قد رفعوا أبصارهم وقالوا:‏ "ما هذا؟ لقد كان يعيش وفق أسلوب الأمميين أليس كذلك؟" نعم، لا بد وأنهم عرفوا ذلك، إذ كان له الحق في أن يفعل ذلك. لقد أعطى الله كل الناس هذه الحرية وكان بطرس يمارسها، لكنه الآن كان يجر نفسه إلى العبودية. كان بطرس قد قال:‏ " إننا نعلم نحن اليهود أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، ولكن علينا أن نخلص بالنعمة كما الأمميين، فلماذا نصر إذاً على أن نضع هؤلاء الأمميين تحت نير الشكلية والشعائر اليهودية؟"

ويتابع بولس كلامه قائلاً:‏ "نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً، إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا". لقد تخلينا عن كل ثقتنا وحرصنا على حفظ الناموس كوسيلة للخلاص عندما اهتدينا إلى المسيح، والآن، يا بطرس هل تريد أن تقول بتصرفك للأخوة الأمميين:‏ "عليكم أن تخضعوا لعبودية حفظ الناموس، التي منها أُعتقنا لكي تتبرروا حقاً؟" لقد كانت مناسبة جليلة، إذ كان هناك سؤال هام على المحك، وعالجه بولس بطريقته الجريئة التي اعتدنا عليها.

أتراك تحاول، مثل آخرين كثيرين جداً، أن تفعل كل ما بوسعك لكي تنال خلاص الله؟ أصغِ إذاً إلى ما يقوله (بولس):‏ "بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا"

"إن سال دمعي إلى الأبد،
و لم تعرف حماستي الكلل،
فهذه لا تكفّر عن الخطيئة،
بل أنت من يخلّص، أنت وحدك".

منذ بضعة سنوات، بعد أن أصغى إلي رجل وأنا أكرز عند ناصية شارعٍ قال لي:‏ "إني أكره هذه الفكرة بأنه بموتِ وبِرِّ شخص آخر أخلص أنا. لا أريد أن أكون مديناً لأي كان من أجل خلاصي. فلست أجيء إلى الله مستجدياً متسولاً، بل إني أومن أنه إن كان الإنسان يحيا وفق العظة على الجبل ويحفظ الوصايا العشر فإن الله يكتفي منه بهذا القدر ولا يطلب منه المزيد".

فسألته:‏ "يا صديقي، هل عشت حسب الموعظة على الجبل وهل حفظت الوصايا العشر؟".

"ليس تماماً. إلا أني أسعى ما بوسعي".

فأجبته:‏ "ولكنّ "مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب ٢:‏ ١٠). و"مَكْتُوبٌ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»" (غل ٣:‏ ١٠). ولأنك لم تثابر أو تثبت فإنك تحت اللعنة".

هذا كل ما يستطيع الناموس أن يفعله من أجل أي خاطئ بائس. يستطيع فقط أن يدين، لأنه يتطلب براً كاملاً من بشر خاطئين، براً لا يستطيع أي إنسان خاطئ أن يقدمه على الإطلاق. ولذلك فعندما أرانا الله من خلال كلمته أن البشر مجردون من البر، نجده يقول:‏ "لدي برٌّ للخطاة الآثمين، ولكن عليهم أن يتقبلوه بالإيمان"، ويخبرنا الحكاية العجيبة عن موت وقيامة ربنا يسوع المسيح-‏ "الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا" (رومية ٤:‏ ٢٥). وإن كنا قد آمنا به فهل سنعود إلى أعمال الناموس؟

يقول بولس:‏ "فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً خُطَاةً، أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا!". لقد كان موسى وسيط الناموس وكان ليستخدمه الله لتصبح الخطيئة تبدو خاطئة بشكل مفرط. هل هذا هو ما يفعله المسيح كلياً؟ الأمر ببساطة هو أن مثاله المجيد كان ليُظهر لي كم هي عميقة خطيئتي، ومدى خطورة حالتي الضالة، فهل أستطيع أن أخلص نفسي بجهودي الذاتية؟ بالتأكيد لا. كان ذلك ليجعل المسيح خادماً للخطيئة، ولكن المسيح هو خادم للبر لكل الذين يؤمنون. أعتقد أن الآية ١٧، وربما الآية ١٨ أيضاً توصلنا إلى الاستنتاج بأن ما يقوله بولس لبطرس هو التالي:‏ "إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضاً هَذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّياً". ليس لدينا علامات اقتباس في النص اليوناني الأصلي القديم، ولذلك لا نعرف بالضبط أي كلمات قالها بولس لبطرس، ولكننا نرجح أنه ختم حديثه بإلقاء اللوم على بطرس باستخدام هذه الجملة.

"لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلَّهِ". ماالذي يقصده بذلك؟ إنه يقصد أن يقول أن الناموس كان يحكم علي بالموت، إلا أن المسيح أخذ مكاني وصار بديلاً عني. فمتُّ فيه. "لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلَّهِ". والآن أنتمي إلى خليقة جديدة كلياً. ويالروعة تلك الخليقة الجديدة! لقد سقطت الخليقة القديمة في رئيس نسلها، آدم، والخليقة الجديدة تثبت إلى الأبد في رئيسها الرب يسوع المسيح. إننا لا نحاول أن نعمل لأجل خلاصنا، إننا نخلص بالعمل الذي أنجزه هو نفسه. يمكننا أن ننظر إلى ذلك الصليب الذي عُلق عليه، الضحية النازفة بدلاً منّا، ويمكننا أن نقول بإيمان:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ". لكأن حياتي قد أُخذت، لقد أخذ مكاني:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا". بما أني توحدت به في موته على الصليب أرتبط به الآن في حياة القيامة، إذ أعطاني أن أكون مشاركاً في حياته الأبدية المجيدة الخاصة. "فَأَحْيَا لاَ أَنَا". ليس الأمر أني أنا العتيق أعود إلى الحياة من جديد، "بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ". فهو، الممجد، هو حياتي الحقيقية، وتلك "الحياة التي أحياها الآن بالجسد، خبرتي هنا على الأرض كمسيحي في الجسد، "أحياها"-‏ ليس بأن أضع نفسي تحت قوانين ونظم وأن أحاول أن أحفظ ناموس الوصايا العشر بل-‏ "بإِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". بما أنني ممتلئ به، فستكون حياتي على الشكل الذي يستحسنه.

"ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". أود لو أن كل واحد منّا يستطيع أن يقول هذه الكلمات في قلبه. أتستطيعون أن تقولوها في قلوبكم؟ إنها ليست "ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّ العالم، وبذل نفسَه لأجل العالم"، بل "ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". وحدهم أولئك الذين يضعون عليه رجاء إيمانهم يستطيعون أن يتكلموا على هذا النحو. أتستطيع أن تقولها من قلبك؟ إن لم تكن قد قلتها من قبل، يمكننك اليوم أن ترفع بصرك إلى وجهه وأن تقولها لأول مرةٍ وهكذا يختم بولس هذا القسم بقوله:‏ "لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ (أو سوف لن أُبْطِلَ نِعْمَةَ اللهِ). لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذاً مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ". ولكن بما أن البر لا يمكن إيجاده بالناموسية، أو المحاولات الذاتية، فإن المسيح قد بذلَ ذاته بالنعمة من أجل الخطأة المحتاجين، وهو نفسه برّ كل من يضعون عليه إيمانهم.