محاضرة ١

مدخل

(غل ١:‏ ١-‏ ٥)

"بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاللهِ الآبِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَجَمِيعُ الإِخْوَةِ الَّذِينَ مَعِي، إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ. نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ الآبِ، وَمِنْ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا، لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ حَسَبَ إِرَادَةِ اللهِ وَأَبِينَا، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ."

إن الرسالةَ إلى أهل غلاطية ترتبطُ بشكلٍ صميميّ وثيقٍ بالرسالةِ إلى أهلِ رومية. هناكَ أسبابٌ معقولةٌ، على ما يبدو، تجعلنا نعتقدُ أنّ كلتا الرسالتين قد كُتبتَا في نفسِ الوقتِ تقريباً، وعلى الأرجحِ، من كورنثوس خلال الفترةِ التي كان بولس يخدمُ فيها مبشراً بالمسيحِ في تلك المدينةِ العظيمة. لدينا في رومية (رسالة رومية) الكشف الأكثر كمالاً وشموليّةً لإنجيلِ نعمةِ الله التي نجدها في كلِّ مكانٍ في العهدِ الجديد. في الرسالةِ إلى أهل غلاطية نرى تلك الرسالة الإنجيلية المجيدة وقد دافعَ عنها بولس ضدَّ أولئكَ الذينَ كانوا يسعونَ للاستعاضةِ عن النعمةِ بالناموسيّة (التشريعات والالتزامات القانونية). هناك تعابيرُ كثيرةٌ في الرسالتين نجدها متشابهةً للغاية. فكِلتا الرسالتين، كما هو الحال أيضاً في الرسالةِ إلى العبرانيين، تستندُ إلى نصٍ معينٍ من العهدِ القديم نجدهُ في الإصحاحِ الثاني من سفر حَبقوق:‏ "إنَّ البارَ بالإيمانِ يحيا". اسمحوا لي أن أُكررَ القولَ بأنَّ كل ما أذكرهُ في محاضراتي عن رسالةِ رومية ينطبقُ أيضاً على الرسالةِ إلى العبرانيين. في الرسالةِ إلى رومية نجدُ التركيزَ على موضوعِ "البرِّ" أو "البار". كيفَ يمكنُ للناسِ أن يكونوا أبراراً أمامَ الله؟ الجوابُ هو:‏ "إنَّ البارَ بالإيمانِ يحيا". ولكن إِن تبرَّرَ أحدٌ بالإيمانِ فكيفَ لهُ أَن يحافظَ على مكانتهِ تلكَ أمامَ الله؟ جوابُ ذلكَ نجدهُ في الرسالةِ إلى غلاطية وهنا يكونُ التركيزُ على كلمة "الحياةُ بالإيمان". ولكن ما هي تلكَ القوةُ التي بها يصيرُ الناسُ أبراراً وبها يَحيَونَ؟ تجيبُ الرسالةُ إلى العبرانيين على هذا بأن نجعلَ التركيزَ ينصبُّ على آخرِ كلمتين من نفس النص:‏ "بالإيمان يحيا". ومنْ هنا نرى أنّ هذهِ الرسائل الثلاث تؤسسُ ثلاثيةً لافتةً للانتباهِ فعلاً، وأنَّهُ على الرغمِ من أنَّ كثير منَ الدارسين قد كتبوا خلافاً لذلكَ، إلا أنني مقتنعٌ شخصياً وعلى نحو تام أنَّ الرسائل الثلاث قد كُتِبَتْ بنفسِ اليدِ البشرية، أعني بها بولس الرسول. لقد ذَكرتُ عدةَ أسبابٍ لاعتقادي هذا في كتابي عن الرسالة إلى العبرانيين، فلا داعٍ لإعادةِ ذِكرها هنا.

والآن أذكرُ بعضَ الأسبابِ التي دعتْ بولس إلى كتابةِ هذهِ الرسالةِ (رسالة غلاطية). لقد كانَ بولس قد عملَ جاهداً في غلاطية في مناسبتينِ مميزتين. إلا أنَّهُ في المرةِ الثالثة مُنِعَ من الذهابِ إلى هناكَ وبيّنَ لهُ روحُ قدسِ اللهِ أنّ هذهِ لم تكنْ مشيئتهُ فقادهُ إلى مكانٍ آخرَ جعلَهُ في النهايةِ يطوفُ أوروبا. في الإصحاحات (١٣-‏١٤) من أعمال الرسل نقرأُ عن خدمةِ بولس التبشيرية في أنطاكيّةَ بيسيديّةَ، وإيقونيَّةَ، ولِسْترَةَ، ودَربَةَ. في حين يقالُ أن أنطاكيةَ هي في بيسيديّة وأنَّ هذهِ المدنَ الثلاثَ الأخرى تقعُ في لِيكأونيّةَ، بحسب أفضلِ السجلاتِ التي لدينا، فإن كلتا المقاطعتين في بيسيديّة وليكأونيّة مرتبطان بغلاطية في هذا الوقت، لذلكَ فقد كانت هاتان المدينتان تابعتين لغلاطية حيثُ عملَ بولس جاهداً وحيثُ فلحَ اللهُ باقتدارٍ. إن سكان غلاطية من نفس عرق الشعب الذي انحدر منه سكانُ إيرلندة القدماء، وويلز، ونجود اسكوتلندة، وأيضاً فرنسا وشمال إسبانيا، وبلاد الغال. إن غلاطية هي فعلاً بلدُ الغال، وهذه العواطف العميقة القوية التي تميِّزُ هذه العروق التي ذكرتها، والاسكوتلنديين الصوفيين الأسراريّين، والويلزيّين الودودين، والفرنسيين السريعي التأثر، والإيرلنديين الممتلئين بالطاقة والنشاط، كل هذه المواصفات تجلت في شعب الغال القدماء. لقد انتشروا من غلاطية إلى أوروبا الغريبة واستقروا في فرنسا وشمال إسبانيا ثم جاؤوا إلى الجزرِ البريطانية. وبما أنَّ كثيرينَ منّا مرتبطون إلى حدٍ ما بإحدى هذهِ الجماعات المختلفة التي ذكرتها، فإننا سنهتمُ من كل بدٍ اهتماماً خاصاً بالرسالةِ إلى غلاطية والتي هي بالمناسبة الضربة القاضية لما يسمى تهويدُ البريطانيين. لقد كان أهل الغال أمميين وليسوا يهوداً.

عندما دخلَ بولسَ بينهم واختلط بهم كانوا كلهم عبدة أوثان، ولكن بكِرازَتِه بالكلمةِ اعتاد على أن يأتي بكثيرينَ منهم إلى المعرفةِ الخلاصيّة للرب يسوع المسيح، وصاروا مخلصينَ أوفياءَ بشدة للرجلِ الذي قادهم إلى المعرفة الرب يسوع المسيح مخلصاً لهم. لقد كانَ أمراً عظيماً ورائعاً بالنسبة لهم، أن أُخرجوا من عتمة الوثنية إلى حرية ونور الإنجيل المجيد. ولكن عندما يقبل الناس أحياناً رسالة الإنجيل بسرور بالغ وحماسة، ينبغي عليهم أن يمروا باختبارات قاسية فيما بعد، كما ثبت البرهان في حالة أهل غلاطية. بعد أن تركهم بولس هناك انحدر من اليهودية رجال معينون يدّعون أن يعقوب وجماعة الرسل في أورشليم قد أرسلتهم، فقالوا للغلاطين أنهم ما لم يحفظوا ناموس موسى، ويحفظوا عهد الختان، وأيام العطلات والأعياد في النظام الديني اليهودي والمناسبات والمواسم المعينة، فإنه لا يمكنهم أن يخلصوا. وهذا ما أثار اهتياج الرسول بولس عندما علم به، حتى أنه اعتزم القيام بزيارة ثانية ليحرر أولئك الناس من تلك الالتزامات التشريعية. ولكن بطريقة أو بأخرى هناك دائماً خطر أن تستحوذ الفكرة الخاطئة على عقول الناس وتجعلهم يفترضون أن ما في فكرهم هو حقيقة هامة بينما هي ليست كذلك. هذا أمر. ومن ناحية أخرى قد يسير الإنسان في حياته الروحية مع الله الحق بطريقة هادئة سلِسة ثم يعترضُه أمر فيه التباس، فلا يُلقي إليه بالاً. وغالباً ما رأينا هذا الأمر يسبب مشكلة بشكل واضح.

أشير هنا فقط إلى التعاليم المزيفة. لا أعرف أسماء الرجال الذين جاؤوا إلى غلاطية لكي يحيدوا الغلاطيين عن حقيقة الإنجيل كما بيّن الرسول بولس، ولكني أعرف التعاليم التي كانوا ينادون بها. لقد كانوا يستبدلون النعمة بالناموس، وكانوا يحيدون قلوب وعقول هؤلاء المسيحيين المخلصين بعيداً عن الحرية المجيدة في المسيح، ويدخلونهم إلى عبودية الشعائر والطقوس التشريعية. ولكي يفعلوا ذلك كان لا بد لهم من يحاولوا أن يزعزعوا ثقة الناس بمعلمهم العظيم الذي قادهم إلى المسيح، والذي هو الرسول بولس نفسه، ولذلك جعلوا رسوليّته (سلطته الرسوليّة) في موضع الشك. لقد كان هجومهم موجهاً ضد رسوليّته، بل حتى لم يتورعوا عن أن يطعنوا باستقامته.

لقد تسلّلوا في محاولة منهم للنيل من ثقة المؤمنين، وحاولوا إضعاف إيمانهم بالشخص الذي قادهم إلى المسيح، آملين بذلك أن ينسفوا ثقتهم بإنجيل نعمة الله ويستبدلوه بأحكام تشريعية بدلاً من ذلك. عندما سمع بولس ذلك كان حزيناً للغاية. بالنسبة له لم تكن العقيدة مسألة قابلة للنقاش والجدال. ولم تكن قضية حفاظه على مكانته مهما كلف الأمر. لقد كان يدرك أن الناس يتقدّسون بحقيقة الله، ومن جهة أخرى يرتبكون بوجود غلط، ولذلك كانت المسألة مهمة جداً بالنسبة له أن يتمسك المهتدون على يده بتلك الحقيقة التي تُنَّوِر وتُهذِّب وتقود إلى السبل التي في المسيح. عندما وردته أخبار ارتداد هؤلاء جلس وكتب هذه الرسالة. لم يفعل ما كان يفعله بالعادة فلا نعرف أبداً في العهد الجديد أي مثال ، على حدِّ علمنا، أنّ بولس يكتب الرسالة بيده ذاته. كان في العادة يُمْلي رسائلَه على كاتب ما يكتب له. وكانت رسائله تشبه إلى حد بعيد أسلوب الاختزال، في تلك الأيام، وقد وصلتْنا نسخٌ منها، وهذه جعلتنا نعرف كيف كانت تسير الأمور. وبعد ذلك كانت هذه الرسائل تُعد على نحو سليم مناسب وتُرسل على يد نُسّاخِه المختلفين. إلا أنّه في هذه المناسبة كان منزعجاً جداً، ومتأثراً بعمق، حتى أنه لم يطق صبراً على انتظار حضور ناسخ. بل إنه طلب قرطاساً، وقلماً، وحبراً، وجلس وكتب هذه الرسالة بأكملها بيدٍ مرتجفةٍ متوترة. ويقول في خاتمتها:‏ "اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي!" (غل ٦:‏ ١١). هذه هي الترجمة الصحيحة لتلك الكلمات. من الواضح أن بولس كان يعاني من شيء في عينيه ولذلك لم يستطِعْ أن يرى بشكل واضح فأخذ قلمَه، وكمثل شخص كفيف البصر جزئياً كتب الرسالة على القرطاس بأحرف كبيرة مضطربة فبدت كرسالة طويلة. ثم هرع إلى إرسالها إلى غلاطية على أمل أن يستخدمها الله لإنقاذ أولئك الناس من الأغلاط التي كانوا قد وقعوا بها. في بعض الجوانب نرى أن هذه الرسالة من أمتع الرسائل لأن فيها الكثير من الكشف عن الذات. فكأنّه بها يفتح نافذة إلى أعماق قلبه فنرى نفس الإنسان ذاتها ونرى الدوافع التي تحركه وتسيطر عليه دافعة إياه إلى الكتابة. إن الرسالة بحد ذاتها بسيطة في بنيتها. وبدلاً من تقسيمها إلى عدد كبير جداً من المقاطع الصغيرة أرى أن فيها الأقسام الرئيسة الثلاثة التالية:‏

-‏ الإصحاحات ١-‏٢:‏ شخصية.

-‏ الإصحاحات ٣-‏٤:‏ عقائدية.

-‏ الإصحاحات ٥-‏٦:‏ عملية.

إذا وضعنا هذه التقسيمات بذهننا بانتباه فإننا لن ننساها أبداً، إن موضوع الرسالة هو "الناموس والنعمة" والطريقة التي يطرح الرسول بولس موضوعه فيها هي على الشكل التالي:‏ الإصحاحات ١-‏٢ شخصية. في هذه الإصحاحات ينقل لنا خبرته الشخصية بشكل كبير. فيُرينا كيف أنّه كان في السابق يهودياً صارماً متزمتاً ملتزماً بالناموس، وكيف أنَّه قد أتى إلى معرفة نعمة الله، وكيف اضطر إلى الدفاع عن مكانته ضد من يفرضون الشرائع والالتزامات. الإصحاحات ٣-‏٤ عقائدية ففي هذه الإصحاحات والتي هي لُب الرسالة، يبيّن لنا، كما في رسالة رومية، حقيقة الخلاص العظيمة بالنعمة وحدها. أما الإصحاحات ٥-‏٦ عملية، وهي ترينا الاعتبارات الأخلاقية والأدبية التي تتأتّى عن معرفة حقيقة الخلاص بالنعمة المجانية. وهذه التقسيمات هي في غاية السهولة.

ننتقل الآن إلى التأمل في مقدمة الرسالة في القسم الشخصي. تشكل الآيات الثلاث الأولى التحية الرسولية:‏ "بولس، رسول". ألقوا نظرة إلى الرسائل الأخرى، وستجدون أنه لا يشير إلى نفسه أبداً بكلمة رسول ما لم تكن الرسالة التي يكتبها ما لم تكن الرسالة التي يكتبها من موجهة إلى أناس لديهم شك في رسوليّته، أو أن لديه عقيدة مهمة ما عليه أن يكشف عنها لأولئك الناس الذين لن يقبلوها على الأرجح ما لم يدركوا أن لديه تفويض رسولي معين. إنه يفضل على نحو واضح أن يتحدث عن نفسه كـ "عبد يسوع المسيح"، وتلك الكلمة "عبد (خادم)" تعني رقيق، أي:‏ شخص يُشرى ويُدفع ثمنه. لقد كان بولس يحب أن يفكر على هذا النحو. لقد اُشترِي ودُفع ثمنه بدم المسيح الثمين، ولذلك فقد كان عبداً للمسيح، ولكنه في هذه المناسبة رأى أنه من الضروري أن يؤكد على رسوليّته، لأن حقائق عظيمة هامة كانت على المحك، إذ كانت مرتبطة على نحو وثيق الصلة بتفويضه الشخصي من قبل الله، حتى أنه كان ضرورياً أن يؤكد على حقيقة كونه رسولاً معيناً من الله على نحو محدد مطلق. إن كلمة "رسول"، على جميع الأحوال تعني "مرسل"، أو "سفير مفوض"، إلا أنها تستخدم بمعنى احترافي مرتبط بالتلاميذ الاثني عشر الذين كانوا هم الرسل خاصة بالنسبة لليهود، كما بالنسبة للأممييّن أيضاً، وكذلك الأمر بالنسبة لبولس نفسه الذي، ورغم أنه كان قبل كل شيء رسول الأمم، كان دائماً ينطلق أولاً إلى اليهود في كل مكان عمل فيه. كان بولس رسولاً، "لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ". أعتقد أن لديه سبباً خاصاً ليكتب على هذا الشكل. لقد كان مناوئوه الذين يقللون من شأنه يقولون:‏ "من أين أتى برسوليتّه؟ من أين أتى بتفويضه؟ فليس ذلك من بطرس ولا من يوحنا. من أين حصل على سلطته إذاً؟" فيقول:‏ أفتخر بحقيقة أني لم أحصل على شيء من إنسان، فما تلقيته إنما استلمته مباشرةً من السماء. فلستُ رسولاً من الناس ولا بوسائل بشرية. وليس الناس هم من أعطوني السلطة بالأصل ولم يكن ذلك من مدرسة، أو أسقف، أو مجلس أساقفة، في أورشليم. كانت سلطتي "لا من الناس ولا بإنسان". ورغم أن الله هو من عيّنني، فإن سلطتي لم أتلقّاها من بَشَرٍ. يقول القديس جيروم:‏ "هناك في الواقع أربع فئات للخدمة الرسوليّة في الكنيسة المسيحية المعترفة. فأولاً هناك أولئك الذين لم يُرسلهم بشر ولا من خلال بشر بل مباشرةً من الله". ثم يبين أنّ هذا الأمر كان حقيقياً في ما يتعلق بأنبياء زمن العصور القديم فلم يكن الناس هم من فوضّه ولا أخذوا سلطتهم من بشر بل إنّهم فُوضّوا مباشرة من الله، وبالطبع فإن هذا ينطبق على الرسول بولس. ويتابع جيروم قائلاً:‏ "وثانياً هناك من يأخذون تفويضهم من الله ومن خلال البشر كما الحال مع شخص يشعر بأنه مدعو بشكل واضح من الله للكرازة فيمتحنه إخوته ويشعرون بالرضا والقناعة أنه مدعوٌ للتبشير، فيعهدون إليه العمل الرسوليّ، وربما يكون ذلك بوضع الأيدي، وهكذا يكون خادماً لله ورسولاً لله، من الله ومن خلال البشر. وثالثاً هناك أولئك الذين يأخذون تفويضهم من البشر ولكن ليس من الله. أولئك هم الرجال الذين اختاروا خدمة الكرازة المسيحية مهنة يحترفونها؛ لعلهم لم يولدوا أبداً من جديد،  لكنهم باختيارهم التبشير كحرفة يطلبون من الأسقف أو مجلس الكنيسة المسيحية أو الكنيسة أن يُصار إلى سيامتهم ". ولكن على حد قول سبرجيون:‏ "إن السيامة لا تقدم ولا تؤخر شيئاً بالنسبة لإنسان لم يتلقَّ دعوته من الله. فالأمر يصبح مجرد وضع أيدي فارغة على رأس فارغ". ينطلق الإنسان وقد أُعلن خادماً للكرازة، ولكنه ليس خادماً لله. ثم يقول جيروم:‏ "هناك فئة رابعة. وهم رجال يكلفون بخدمة المسيح، وقد تلّقوا سلطتهم ليس من الله ولا من البشر، بل إنّهم يعملون بشكل حر أو مستقل وحسب. فيمكنك أن تأخذ بكلامهم من منطلق أنهم موظفون معينون. ما من أحد آخر يستطيع أن يميز أي دليل أو علامة فيها". لقد كان بولس من الفئة والدرجة الأولى. فتلقى تفويضه مباشرة من الله، وليس لأحد أن يثبت ذلك من بعيد أو قريب. ولكن ماذا عن القديسين في أنطاكيّة الذين وضعوا أيديهم عليه عندما كان على وشك أن ينطلق هو وبرنابا للكرازة إلى الأمميين؟ لعلك تتساءل هكذا. لم يكن في هذا توكيد بشري على رسوليته لأنّه ذهب إلى هناك أصلاً كرسول للرب يسوع.

من أين حصل بولس على تفويضه؟ يخبرنا هو بنفسه عن ذلك في الإصحاح ٢٦ من سفر أعمال الرسل فعندما وقع أرضاً على طريق دمشق، تراءى له المسيح الناهض من الأموات وقال له:‏ "أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. وَلَكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهَذَا ظَهَرْتُ لَكَ لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إِلَى اللهِ حَتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ الْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ الْمُقَدَّسِينَ" (أع ٢٦:‏ ١٥-‏ ١٨). يقول بولس أنه من هناك حصل على تفويضه. "مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ لَمْ أَكُنْ مُعَانِداً لِلرُّؤْيَا السَّمَاوِيَّةِ" (أع ٢٦:‏ ١٩)، بل على توافق مع الأمر الإلهي في أن أخبر "الذين فِي دِمَشْقَ وَفِي أُورُشَلِيمَ حَتَّى جَمِيعِ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ ثُمَّ الأُمَمَ أَنْ يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى اللهِ عَامِلِينَ أَعْمَالاً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ" (أع ٢٦:‏ ١٩، ٢٠). ومن هنا فإن بولس كان رسولاً "لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاللهِ الآبِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ".

أعتقدُ أنّه كان لديه سبب خاص لتأكيده على القيامة. كان هناك من يقول:‏ "لا يستطيع بولس أن يكون رسولاً أبداً، لأنّه لم يَرَ الرب يسوع. فلم يكن أحد الاثني عشر، ولم يتتلمذ على يد المسيح. فكيف له الحق بأن ينسب لنفسه اسم رسول؟" فيقول:‏ "ألم أَرَ يسوع المسيح؟ لقد رأيته كما لم يره أحد آخر من البقية. رأيتُه          في المجد وهو قائم من بين الأموات، وسمعت صوته من السماء، وتلقيت تفويضه لي من شفتيه". ولذلك فإنه يدعو رسالته في مكان معين "الإنجيل المجيد لله المبارك". وهذا يمكن ترجمته بكلمات أخرى على أنّه "إنجيل مجد الله السعيد". فالله في غاية السعادة والسرور الآن إذ أنّ مسألة الخطيئة قد حُلَّت وفي مقدوره أن يرسل رسالة نعمته إلى كل أرجاء الأرض، وهي "إنجيل مجد الله السعيد" لأنها من المجد.

بعد ذلك يبين بولس علاقته بالآخرين. فهو لم يكن يعمل لوحده بل كان على تواصل مع زملائه في العمل البشاري، ومن هنا نجده يقول:‏ ".... وَجَمِيعُ الإِخْوَةِ الَّذِينَ مَعِي، إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ. نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ الآبِ، وَمِنْ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". "النعمة" هي الكلمة اليونانية التي كانت تُستخدم لإلقاء التحية، في حين تُستخدم كلمة "سلام" في العبرية للتحية. ويفتخر بولس بأن الحائط المتوسط الفاصل بين اليهود والأمميين قد تهدم في الخليقة الجديدة، لذا فإنه يجمع هنا بين كلتا التحيتين. وكم تتناسب هاتان (النعمة والسلام) على نحو جميل في الإعلان المسيحي. فهذه ليست النعمة التي تخلص، بل النعمة التي تحفظ. وليس ذلك سلام مع الله، الذي صنعه دم صليبه والذي كان أصلاً لهم، بل سلام الله الذي كانوا معرضين تماماً لفقدانه إن خرجوا عن الشركة معه.

وفي الآيات ٤و٥ يستأنف بولس حديثه فيركز على عمل ربنا يسوع. دعونا نفكر في هذه الكلمات بتمعن وبدقة وعناية وبفكر تأملّي. "رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا". أفننسى ما عاناه المسيح من أجلنا؟ ذاك الذي "بذل نفسه". لمن يشير ضمير الغائب هنا؟ إنه الابن الأبدي السرمدي الذي للآب، الذي كان مع الآب منذ قبل خلق العالم، ومع ذلك تنازل بنعمة لا متناهية ليصير إنساناً. ورغم كونه إنساناً لم يكفّ عن كونه إلهاً. لقد كان إنساناً وإلهاً في أقنوم واحد ممجّد وفيه من الأهلية والميزات الكثيرة ما أهله ليستطيع أن يفي الدين الكبير الذي كنا ندين به لله. لقد سوّى مسألة الخطيئة لأجلنا كما لم يفعل أحد آخر. ونجد مطلع الترنيمة يقول:‏

"ما من ملاك أمكنه أن يأخذ مكاننا،
ولكن انحدر ذلك العلي من السماء؛
المحبوب، المتروك على الصليب،
كان أحد الثالوث القدوس"

من بين كل الناس كُتب:‏ "الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ فَغَلِقَتْ إِلَى الدَّهْرِ" (مز ٤٩:‏ ٧، ٨). ولكن هوذا من صارَ إنساناً ليفتدي نفوسنا:‏ "ابْنُ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى ٢٠:‏ ٢٨).

"الذي بَذَل نَفْسَهُ". فكروا في ذلك. عندما نتذكر آثامنا، والفساد والتعفن في قلوبنا، والشر الذي على شفاهنا، وعندما نفكر بما نستحق عقاباً على خطايانا وكم كنا عاجزين عن تحرير ذواتنا من الدينونة العادلة التي نستحقها، فعندئذ نفكر به، ذلك القدوس، البار، ونرنم:‏

"القدير في عرش السماء،
الذي تنازل ليصير إنساناً وتراباً
لأجل أن يُقيمَ ذلك الأثيم الساقط".

من هذا المنطلق كم ينبغي أن تتوجه إليه قلوبنا بحب وتعبد. أعتقد أنه كان صعباً على بولس أن يتمالك نفسه عن ذرف الدموع وهو يكتب قائلاً:‏ "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا". إننا نميل لتناسي تلك الخطايا، إلا أنه يجدر بنا أحياناً أن نتذكر حفرة الهاوية التي اِنتُشلنا منها، لأن خطايانا هي الخلفية القاتمة التي ستُظهر جوهرة النعمة الإلهية المجيدة إلى أبد الآبدين. هو، ليس فقط سيخلصنا من الدينونة الأبدية، وليس فقط سيحمينا من الضلال في تلك العتمة، تلك الحفرة المظلمة من الويل والوباء التي يتحدث عنها الكتاب المقدس بمهابة وجدية، بل إنّنا سنكون له هنا كلياً، "لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ". لقد جعله الإنسان شريراً من جرَّاء خطيئته وآثامه ونكرانه لله وخيانته له، أما نحن المخلَّصون فعلينا أن نتحرر منه، لكي نتكرس لله.

"حَسَبَ إِرَادَةِ اللهِ وَأَبِينَا". بهذه الكلمات يوجز بولس هدف مجيء الرب إلى العالم. فلقد مات عن خطايانا لكي نتخلص من سلطان الخطيئة ونكون له كلياً. "الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ."