محاضرة ١١

رمزٌ إلهي

(غل ٤:‏ ٢١-‏ ٣١)

"قُولُوا لِي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ، أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ؟ فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإبراهيم ابْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ. لَكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ، وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ. وَكُلُّ ذَلِكَ رَمْزٌ، لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا الْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، الَّذِي هُوَ هَاجَرُ. لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلَكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا. وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا، الَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعاً، فَهِيَ حُرَّةٌ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «افْرَحِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. اهْتِفِي وَاصْرُخِي أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ، فَإِنَّ أَوْلاَدَ الْمُوحِشَةِ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ». وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ. وَلَكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ، هَكَذَا الآنَ أَيْضاً. لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ». إِذاً أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ".

"قُولُوا لِي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ، أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ؟"

لقد لاحظنا للتو أنه بينما كان الغلاطيون شعب أممي خلصوا بالنعمة، فإنه قد وقعوا تحت تأثير معلمين متهودين معينين كانوا يحاولون أن يضعوهم تحت الناموس. لقد قالوا:‏ "«إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا»" (أع ١٥:‏ ١). وهكذا في هذه الرسالة تناول بولس مسألة الناموس والنعمة الهامة جداً وراح يبسطها، موضحاً إياها، ومبيناً أن الخلاص ليس بأعمال الناموس بل كلياً بسماع الإيمان.

لا شك أن هؤلاء المعلمين المتهودين الذين انسلوا إلى داخل الجماعة المسيحية كانوا يستشهدون بالعهد القديم خلال حديثهم إلى المؤمنين، وكان يمكنهم أن يقدموا نصاً كتابياً تلو الآخر يبدو فيه دليل على أن الناموس كان الامتحان الأهم والأعظم وأن الله كان قد قال:‏ "«إِنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»" (رومية ١٠:‏ ٥) و"«مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»" (غل ٣:‏ ١٠). وهكذا كانوا يسعون للتأثير على هؤلاء المؤمنين من ناحية إعطاء أهمية لمحاولة استرضاء الله، ونيل حظوة في عينيه عن طريق المساعي البشرية.

والآن يقول:‏ "إنكم ترغبون أن تكونوا تحت الناموس؛ أليس كذلك؟ أتريدون أن تضعوا أنفسكم تحت ناموس موسى؟ لماذا لا تسمعون الناموس؟ لماذا لا تقرأون بعناية كتب الناموس وترون ما قاله الله تماماً؟" إنه يستخدم الكلمة "الناموس" هنا بشكلين مختلفين. ففي المثال الأول يشير إلى ناموس موسى، وهو الناموس الذي أُعطي على جبل سيناء مع ما رافقه من قوانين وتشريعات وتنظيمات ومحاكمات كانت مرتبطة به، أما في المثال الثاني فيشير إلى كتب الناموس. "قُولُوا لِي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ (أي العهد القانوني)، أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ (أي كتب الناموس التي يخبرنا فيها الله عن العهود)؟" ثم ينتقل بهم إلى سفر التكوين ويقول:‏ "فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإبراهيم ابْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ". نحن نعرف هذه القصة. فزوجة إبراهيم كانت ساره، وكان الله قد وعد بأن يكون إبراهيموساره والذين لابنه سيكون بشيراً بالنسل الآتي الذي ستتبارك به كل الأمم، ولكن السنون انقضت وبدا وكأنه لن يكون هناك تحقيق لذلك الوعد. وأخيراً، وإذا فقد الأمل، اقترحت ساره نفسها أن ينزلا إلى العادة المتدنية عند الناس في الأمم المحيطة بهم، وأن يتخذ إبراهيم لنفسه زوجة أخرى، ليس لكي تشغل تماماً مكانة زوجة، بل كإمرأة يأتي بها إلى المنزل كمحظية. ووافق إبراهيم بحماقة على ذلك وأخذ هاجر. ونتيجة ذلك الاقتران وُلد ابن و دُعي اسماعيل، وكان إبراهيم يرجو بشدة أن يصير هذا الولد الموعود الذي منه سيأتي المسيا إلى العالم. ولكن الله قال:‏ "لا. ليس هذا هو الموعود. قلت لك ينبغي أن يأتيك طفل من ساره، وليس هذا هو النسل الموعود". فالتمس إبراهيم من الله أن:‏ "«لَيْتَ اسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أمَامَكَ!»" (تك ١٧:‏ ١٨). إلا أن الله قال له:‏ "يمكن أن يكون له ميراث معين، ولكن لا يمكن أن يكون طفل الوعد. وفي الوقت المناسب فإن ساره نفسها ستنجب طفلاً وفي ذلك الطفل سيكون عهدي راسخاً محكماً".

ويرينا بولس الآن أن هذه الأحداث كان لها معنى رمزي. إنه لا يقصد القول أن تلك الأحداث لم تجرِ فعلياً كما هو مكتوب. بل حدثت بالفعل. يقول الكتاب المقدس في ١ كورنثوس ١٠:‏ ١١، مشيراً إلى مدونات العهد القديم:‏ "فَهَذِهِ الأُمُورُ جَمِيعُهَا أَصَابَتْهُمْ مِثَالاً وَكُتِبَتْ لِإِنْذَارِنَا نَحْنُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ". لاحظ القول:‏ "هَذِهِ الأُمُورُ جَمِيعُهَا أَصَابَتْهُمْ". بعض الناس يقولون أنها لم تحدث، وأنها كانت مجرد أساطير، أو فلوكلور شعبي. أو شيء من هذا القبيل. ولكن الروح القدس يقول:‏ "كل هذه الأمور قد حدثت". وهكذا فما تقرأه بالكلمة فيما يتعلق بشخصيات العهد القديم المختلفة، والشعوب، والمدن، وهلم جر، كل هذه نقتبلها كحقائق تاريخية خلال المئة سنة الأخيرة، عندما صرخ صوت علم الآثار بشكل واضح وعالي، لم يكتشف ولو شيء واحد يدحض أي شيء مكتوب في الكتاب المقدس، في حين أن آلاف المكتشفات قد ساعدت على الشهادة على صحة مدونات الكتاب المقدس. ليس من داع إلى المصادقة، بالطبع، فيما يخص الإيمان، لأننا نؤمن بما قاله الله. ولكن هذه المكتشفات الهامة قد ساعدت كثيراً على إسكات أفواه الشكوكين الذين ما كانوا يصدقون أقوال الكتاب المقدس. فإبراهيم عاش وساره عاشت، وهاجر كانت شخصية حقيقية وكذلك الأمر الابنان. من اسماعيل جاء العرب، ومن اسحق جاء العبرانيون. منذ البدء لم يتعايش البلدان، ولم يكن هذان الشعبان على علاقة ودية. ولعل هذا ما يفسر المشكلة في فلسطين اليوم. لم ييستطيعوا أن يتعايشوا منذ البداية، ولا يمكنهم ذلك الآن. إلا أن الرسول بولس يشرع بتبيان أن هاتين الوالدتين وابنيهما كان لهم مغزى رمزي.

"لَكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ (وبهذا يتحدث عن كل المولودين حسب الجسد)، وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ (فاسحق كان ابن الموعد)". لقد كان من غير الممكن تماماً من وجهة نظر طبيعية أن يصبح إبراهيم وساره أبوين في الوقت الذي وُلد فيه اسحق. لقد كان تجلياً إلهياً، معجزةً، كان اسحق ابن الموعد، وبالتالي ابن النعمة. يخبرنا الرسول بولس أن هذه الأمور هي رمز. لقد استخدم الجميع الرموز بكلمة الله لكي نتلقى دروساً أخلاقيةً روحيةً ورمزيةً هامة من هذه الأحداث، وهنا نجد روح الله نفسه يكشف إحداها لنا.

"وَكُلُّ ذَلِكَ رَمْزٌ، لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا الْعَهْدَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ، الَّذِي هُوَ هَاجَرُ. لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلَكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ، فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا. وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا، الَّتِي هِيَ أُمُّنَا جَمِيعاً، فَهِيَ حُرَّةٌ". هاتان المرأتان تمثلان العهدين، فسار تمثل العهد الإبراهيمي، وهاجر تمثل العهد الموسوي. ما الفرق الذي كان بين هذين العهدين؟ إن العهد الإبراهيمي كان عهد النعمة المطلقة فعندما قال الله لإبراهيم:‏ "بك وبنسلك تتبارك جميع أمم الأرض". لم يضع عليه اي شروط من أي نوع. لقد كان وعداً إلهياً.قال الله:‏ "سوف أفعل ذلك. أنا لا أطلب شيئاً منك يا إبراهيم. بل فقط أخبرك بما سأفعل" هذه النعمة. فالنعمة لا تجعل شروطاً أو بنوداً مع الناس. فالنعمة لا تطلب أن نفعل أي شيء لكي نستحق الأهلية أو الجدارة. كثير من الناس يتحدثون عن الخلاص بالنعمة ولايبدو أن لديهم ادنى إدراك لمفهوم النعمة. إنهم يعتقدون أن الله يعطيهم النعمة التي تجعلهم يفعلون اشياء بها يستحقون الخلاص. ولكن هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. إذ نقرأ:‏ "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ" (رو ٣:‏ ٢٤)، وتلك الكلمة "مجاناً" تعني حرفياً "بدون مقابل". إن نفس الكلمة تترجم ب "بدون سبب" في مكان آخر من الكتاب المقدس.فقيلت مع الرب يسوع المسيح في أن الكتاب المقدس قد أُكمل فيما يتعلق به:‏ "إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ" (يوحنا ١٥:‏ ٢٥). لم يفعل يسوع أي شيء يستحق تلك المعاملة السيئة التي عامله بها الناس وأنت وأنا لا نستطيع أن نفعل أي شيء لنستحق المعاملة الجيدة التي يقدمها الله لنا. لقد عالم الناس يسوع بشكل شيء بدون سبب. ونحن الذين نخلص يعاملنا الله بشكل جيد مجاناً. وبلا سبب. آمل أن تفهموا هذه الحقيقة الرائعة، وأن تهتز روحكم طرباً من جراء ذلك. ما أروع أن نخلص بالنعمة! إن أحد الأسباب التي يخلص لأجلها الإنسان بالنعمة هو أن "العطاء أعظم غبطة من الأخذ"، وبالتأكيد فإنه يحظى بأكبر مقدار من الغبطة.

قبل سنوات، بنت سيدة مترفة كنيسة جميلة في نيويورك. وفي يوم التكريس جاء وكيلها من بين الجمهور وصعد إلى المنصة وسلم صك الملكية للأسقف البروتستانتي في نيويورك. وبموجب الصك قدم الأسقف مبلغ دولار للوكيل، وبفضل هذا الدولار الذي كان تعبيراً عن الشكر انتقلت الملكية إلى الكنيسة الأسقفية البروتستانتية. لعلك تقول يالها من تقدمة رائعة! "نعم. إنها كذلك بمعنى من المعاني، لأن دفع مبلغ الدولار كان مجرد التزام أو عرف قانوني. ولكن في نهاية الأمر، وبالمعنى الكتابي الكامل لم تكن تلك تقدمة، لأنها كلفت دولاراً.ولذلك فإن الصك قدكتب ليس كصك تقدمة بل كصك بيع فقد بيع المبنى إلى الكنيسة الأسقفية البروتستانتية لقاء دولار.إن كان عليك أن تفعل ولو أمراًً واحداً لكي تخلص ولو أن ترفع يدك، أو تقف على قدميك، أو قول كلمة واحدة، فلن يكون الامر تقدمة. يمكنك أن تقول في هذه الحالة:‏ "لقد فعلت كذا وكذا، وبهذه الطريقة نلت خلاصي". ولكن هذه الغبطة التي لا تقدر بثمن هي مجانية تماماً. "فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً وَإِلاَّ فَالْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلاً" (رو ١١:‏ ٦). هذا ما يقوله روح الله لنا بالكلمة.

وهكذا نرى عهد النعمة متمثلاً في ساره.فقد قال الله لساره:‏ "ستلدين ابناً، وذلك الولد سيكون وسيلة بركة للعالم بأسره". لقد كان يبدو أن ذلك الأمر من غير الممكن أن يتحقق، ولكن في زمن الله الخيِّر تحققت كلمته، فأخيراً ومن خلال اسحق جاء ربنا يسوع المسيح الذي أتى بالبركة إلى كل البشر. من جهة أخرى كانت هاجر جارية، وهي تمثل عهد الناموس، العهد الموسوي، الذي أُقيم على جبل سيناء، إذ قال الله هناك:‏ "الإنسان الذي يفعل هذه يحيا بها"، ولكن لم يوجد إنسان قط أمكنه أن يحفظ ذلك بشكل كامل، ولذلك وعلى أساس الناموس ما كان أحد ابداً لينال الحياة. وأصبحت ساره، التي ترمز إلى النعمة أماً لطفل الموعد. في حين أن هاجر التي كانت ترمز إلى الناموس قد أصبحت أماً لطفل الجسد.إن الناموس يخص الجسد وحسب،في حين أن المؤمن هو ابن الموعد وقد وُلد بقوة إليهة. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ" (يوحنا ٣:‏ ٣). فما السر في أن الناس على استعداد كبير ليتبنوا الناموسية التشريعية ويخشون النعمة؟ إن السبب هو أن الناموسية التشريعية تروق للفكر الطبيعي.

أذكر أني مررت على مجموعة ترجمات ماكس مولر للأدب الشرقي المقدس، الموضوعة في ٣٨ مجلد ضخم. لقد اطلعت عليها لأحصل على بعض الفهم حول أنظمة الأديان المختلفة في المشرق، وجدت أنه رغم اختلافها في عشرة آلاف أمرٍ، إلا أنها كلها كانت تتفق على أمر واحد، ألا وهي أن الخلاص يمكن أن يُنال بالسعي الذاتي، والفرق الوحيد كان في ماهية هذه المساعي. جميعها كانت تُعلِّم أن الخلاص بالأعمال، وكل دين ما عدا ذلك الموحى به من السماء يفرض على الناس أن يفعلوا أشياء أو يدفعوا أشياء لكي يكسبوا رضى الله. وهذا يروق للإنسان الطبيعي. إنه يشعر بشكل بديهي أن الله يساعد أولئك الذين يساعدون أنفسهم، وأنه إذا ما قام بأفضل ما بوسعه، فلا بد أن الله عندئذ سيكون مهتماً لأن يفعل شيئاً من أجله ولكن أفضل ما يمكن أن نقدمه هو عديم القيمة تماماً:‏ "وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا" (أشعياء ٦٤:‏ ٦). وكلما أسرعنا في معرفة انه ليس لنا صلاح في ذاتنا، وأنه ليس لدينا أي شيء نقدمه لله به نكسب خلاصنا، وكلما كان ذلك أفضل بالنسبة لنا.وعندما نتعلم ذلك، نكون على استعداد لأن نخلص بالنعمة وحدها. إننا نأتي إلى الله كخطاة بؤساء معزين عاجزين، ومن خلال العمل الذي أنجزه الرب يسوع المسيح من أجل خلاصنا فإننا نحن المؤمنين به نصبح أولاد الموعد.

لقد كانت هاجر تمثل أورشليم التي كانت على الارض لأن أورشليم في ذلك الوقت كانت مركز الدين الشريعي الناموسي. أما ساره فتمثل أورشليم العلوية، "االتي هي أمنا جميعاً"، أو حرفياً "أمنا". إن الناموس هوالنظام الأرضي، وهو يخص أناساً أرضيين، وضع لأجل أناس بحسب الجسد، في حين أن النعمة هي نظام سماوي يفيد  أولاد الموعد. واورشليم العلوية هي أمنا لماذا؟ لأن المسيح هو في العلاء فوق. لقد صعد المسيح إلى هناك، وإذ صنع بنفسه تطهيراً للخطايا، فقد اتخذ مجلسه على يمين جلال الله في السماوات وهو يجلس ممجداً هناك، أميراً ومخلصاً، ومن ذلك العرش تتدفق النعمة نازلة على الخطأة.

"تتدفق النعمة كنهر،
ملايين هناك قد تزودوا من ماءه؛
ولايزال ينبع نقياً كما دائماً،
من جنب المخلص المجروح:‏
لن يهلك أحدٌ، بل الكل مسيحياً لأن
المسيح مات عنهم".

هل آمنت بهذا المخلص؟هل اقتبلت تلك النعمة؟ أيمكنك أن تقول:‏ "نعم، أنا مواطن في السماء؛ أورشليم العلوية هي أمي"؟ حتى إبراهيم كان يبحث عن تلك المدينة السماوية. لقد وعده الله بميراث على الأرض، ويوماً ما سيمتلك أولاده ذاك الإرث. إنهم يحاولون أن يحصلوا عليه الآن بحسب الجسد، ويمرون بأوقات عصيبة جداً. يوماً ما وبحسب الموعد، سيمتلكونه، وعندها يكون بركة للجميع. سيكون ذلك بعد أن تنفتح أعينهم لرؤية الرب يسوع المسيح كمسيا الذي ينتظرونه. أناس كثيرون مهتمون ومنزعجون بشأن فلسطين أنا مهتم جداً بما يجري هناك. وارى ان ما يحدث هو ماتحدثت عنه الكلمة. أما السبب في سبي اليهود من تلك الارض قبل ١٩٠٠ سنة كان هو أنهم "لم يعرفوا وقت افتقادهم"، وعندما جاء مخلصهم رفضوه. قالوا:‏ "«لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرُ»". وعندما سألهم بيلاطس:‏ "ماذا أفعل بيسوع الذي يُدعى المسيح؟"، قالوا:‏ "«خُذْهُ! خُذْهُ اصْلِبْهُ!»" (يوحنا ١٩:‏ ١٥)، "«دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا»" (متى ٢٧:‏ ٢٥). يالفظاعة تلك اللعنة التي دفعوا ثمنها عبر قرون. فذلك لم يمنع أذى الاضطهاد عن اليهود بل كان دليلاً على الدينونة الإلهية. سوف لن يكون لهم المخلص، وسيقبعون تحت كعب حذاء قيصر الحديدي منذ ذلك الحين. وهاهم الآن يحاولون العودة إلى فلسطين. هل غيروا موقفهم او افكارهم؟ هل عادوا إلى الله واعترفوا بخطيئة صلب رب المجد؟ لا. إذاً أنىّ لهم أن يتوقعوا بركة إذ يرجعون إلى تلك الأرض؟ لا عجب ان هناك مشكلة إذاً. مشكلة ستستمر وتزداد إلى أن تأتي أيام الضيقة العظيمة المظلمة والمخيفة. ليسوا إلا أولاد هاجر، ولكن يوماً ما وعندما تختطف الكنيسة لتكون مع الرب، يلتفت الله من جديد إلى شعب اسرائيل، فإن بقية منهم ستخلص. "فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ" (زكريا ١٢:‏ ١٠). وعندما يعترفون به كمخلص ورب، هو الذي كانوا قد رفضوه مرة، سيطهرهم من خطاياهم سيعيدهم إلى دياره. سوف يأتي بهم إلى البركة والغبطة. ويدمر من يعاديهم، وسيكونون هم أنفسهم وسيلة بركة للأرض كلها. ذاك هو البرنامج الإلهي الذي وضعه كلمة الله.

إني لأود أن أحث أي صديق يهودي على أن يبحث ويسبر أغوار كتابه المقدس. أفلا تعودون إلى كتابكم المقدس وتقرأون الإصحاح ٥٣ من سفر اشعياء، والمزمور ٢٢، والمزمور ٦٩ والإصحاحات الثلاثة الأخيرة من سفر زكريا، ثم إن كان لديكم عهد جديد، اقرأوا الرسالة على العبرانيين وإنجيل متى، وانظروا إذا كان روح الله لن يريكم السبب الأساسي لما يعانيه الشعب اليهودي اليوم؟ إن كل ما عانوه من مشاكل كان بسبب سعيهم وراء البركة ليس بحسب الروح فحسب بل بحسب الجسد، وهكذا رفضوا النسل الموعود عندما جاء. وأنتم أيها الأمميون إن كنتم تبحثون عن الخلاص من خلال عضوية الكنيسة، أو التقيد بالطقوس، أو الإحسان والمحبة، أو صالح الأعمال، أو الصلوات، أو أعمال العقاب الذاتي، أفلا تستطيعون أن تروا أنكم أنتم أيضاً تسعون وراء البركة بحسب الجسد في حين أن الله ليمنحكم إياها على أساس النعمة وحسب؟ ألا ليتكم تستطيعون أن تصبحوا أولاد ساره، أولاد عهد النعمة، الذين يمكنهم أن يقولوا:‏ "الحمد لله، فإن أورشليم العلوية هي أمنا". "فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ"، على حد قول الرسول بولس، "هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (فيلمون ٣:‏ ٢٠). ونعلم أن إبراهيم" كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ" (عب ١١:‏ ١٠). إن إبراهيم في السماء وكل أولاده الروحيين الذين ماتوا في الماضي هم معه هناك. يخبرنا الرب يسوع عن الفقير المتسول، ابن إبراهيم، الذي مات وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. إن كل المفتدين الذين توفوا هم في نفس الفردوس المجيد حيث إبراهيم، وفي المستقبل وعندما يأتي يسوع، سننضم كلنا إلى ذلك الحشد السعيد.

وعندئذ، ليس الآن وحسب بل خلال الألفية، كم سيكون عدد أولاد الله! ولذلك فإن الرسول بولس يقتبس من أشعياء ٥٤:‏ ١ ويقول:‏ "تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَمْخَضْ لأَنَّ بَنِي الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي ذَاتِ الْبَعْلِ قَالَ الرَّبُّ". يا له من نص كتابي عجيب! لاحظوا أولاً الشخصية التي يتحدث عنها. إن الإصحاح الذي يسبق ذلك هو أشعياء ٥٣. وهناك نجد النبوءة الكاملة والتامة عن مجيء الرب يسوع إلى العالم، ومعاناته وموته وقيامته، التي نجدها في كل مكان في الكتاب المقدس. إن أشعياء يبدو كأنه يراه يتألم وينزف ويموت على الصليب. ويقول:‏ "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (أشعياء ٥٣:‏ ٥، ٦). وينهي النبي ذلك الأصحاح بالكلمات الرائعة:‏ "وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (الآية ١٢). ثم تأتي الكلمة التالية مباشرة، في الأصحاح ٥٤، وهي "ترنمي". هناك الكثير مما يجعلك تترنّم:‏ "فَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ. فترنّمي...". بماذا سنترنم؟ بالنعمة التي لا نظير لها والتي أظهرها الله في المسيح. لقد ترجم بولس تلك الكلمة "ابتهجي" بالكلمة "ترنمي". لماذا؟ لأن يسوع قد مات، وسُوِّيَتْ مسألةُ الخطية، والآن بمقدور الله أن يترك النعمة المجانية تتدفق إلى الخطأة البائسين. لقد كانت النعمة في الماضي كمثل امرأة مهجورة متروكة ولوحدها وكانت تتوق لأن تصبح أمَّ أولاد، لكنها كانت تبكي وتنتحب وحيدةً. ومن جهة أخرى هناك الناموسية التشريعية التي ترمز إليها امرأة أخرى وهذه لها آلاف الأولاد، أناس يعترفون بأنهم مخلّصون بمساعي بشرية، مخلصون بحسناتهم وفضائلهم الذاتية. نعم إن الناموسية هي أمّ رائعة، لها عائلة كبيرة، والنعمة البائسة لا يبدو أن لها أولاد على الإطلاق. أما الآن فها هو الإنجيل ينتشر، وماذا يحدث؟ إن النعمة المرأة المتروكة، المهملة، تصبح أم أولاد أكثر من الناموسية. "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «افْرَحِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. اهْتِفِي وَاصْرُخِي أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ، فَإِنَّ أَوْلاَدَ الْمُوحِشَةِ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ»". وهكذا فالنعمة لها ملايين لا تحصى من الأولاد الآن، وسيكون هناك ملايين أُخر في الدهر المجيد العتيد.

"ملايين قد وصلوا إلى ذاك الشاطئ السعيد،
انتهت محاولاتهم وكدحهم،
ولايزال هناك متسع لملايين آخرين.
فهلا ذهبت إلى هناك؟"

"وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ". هل أنت متأكد أن هذا ينطبق عليك؟ هل آمنت بوعد الله؟ لقد وعد بخلاص كامل مجاني أبدي لكل من يؤمن بابنه. ونحن الذين آمنا قد صرنا أولاد الموعد. أما أولاد الناموسية فلا يمكنهم أن يفهموا ذلك. ما من أحد يبغض النعمة بقدر الإنسان الذي يحاول أن يخلّص نفسه بجهوده الذاتية.

"وَلَكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ، هَكَذَا الآنَ أَيْضاً". خلال الدهور المظلمة، ولأكثر من ألف سنة، كانت عقائد النعمة ضائعة وغير مقبولة في الكنيسة، وكثيرون كانوا يحاولون أن يخلّصوا أنفسهم من خلال أعمال كفّارة عن الخطيئة، ورحلات مرهقة، وبآلاف وآلاف الصلوات التي يرددونها مراراً وتكراراً، وبتقديم الأموال من ثرواتهم يهبونها للكنائس ويبنون أديرةً. لقد كان عدد أولاد الناموسية كبيراً جداً، وفتح الله أعين مارتن لوثر، وجون كنوكس، وجون كالفن، ووليم فاريل، وجمهرة من أناس آخرين، واكتشفوا أنه بينما كان يحاول الناس أن يخلصوا أنفسهم بمساعي بشرية، كانت إرادة الله أن يخلص الخطأة البائسين بالنعمة. تمسك لوثر بالنص الذي يقول:‏ "البار بالإيمان يحيا"، وبدأت الحقيقة تنتشر بكل أرجاء ألمانيا وأوروبا ثم انتشرت في بريطانيا، وسرعان ما اندلع اضطهاد قاسٍ وراح الناس يصرخون:‏ "اقتلوهم، أولئك الناس الذين يؤمنون أن الخلاص بالنعمة، فمن لا يؤمنون بأنه يمكنهم الخلاص بأعمال التكفير والفضائل البشرية، احرقوهم، أميتوهم جوعاً، اقتلوهم بالرصاص، افصلوا رؤوسهم، افعلوا كل ما يمكنكم لتخلِّصوا العالم منهم". إنهم لا يتخلصون منهم بتلك الطرق اليوم، إلا أن العالم لا يزال يبغض ويمقت الناس الذين يخلصون بالنعمة. إذا أتيتم إلى مجتمع حيث الناس لا يزالون يستمرون في موقف الاعتداد بالنفس بفضل برّهم الذاتي، ويتخيلون أنهم سيذهبون إلى السماء من خلال حضور الكنيسة، لأنهم اعتمدوا وهم أطفال صغار، ونالوا التثبيت وهم في الثانية عشر من العمر، وقدموا بعضاً من أموالهم، والتزموا بواجباتهم الدينية، وسألتموهم:‏ "هل نلتم الخلاص؟" فسيكون جوابهم أن:‏ "لا يمكن لأحد أبداً أن يعرف إلى أن نأتي إلى كرسي الدينونة، ولكني أحاول أن أكون كذلك". فتقولون:‏ "حسناً. يمكنكم أن تكونوا متأكدين". وتخبرونهم أن الخلاص بالنعمة، فيهتفون صارخين:‏ "ماذا تقصد؟ ماهذا التعصب البغيض!" وحالاً سيبدأون باضطهادكم. إن أولاد الجسد لا يمكنهم أن يحتملوا أو يطيقوا أولاد الروح.

"لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ»"، يقول الله:‏ "إن أولادي هم أولاد الموعد. أولادي هم أولئك الذين يخلصون بالنعمة" هل عرفتم غبطة وسعادة واقعية هذه الحقيقة في أنفسهم؟

ويختم الرسول بولس الحديث قائلاً:‏ "إِذاً أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ". بمعنى آخر، ليس لنا علاقة بالعهد الناموسي التشريعي بل إننا أولاد عهد النعمة.

"النعمة هي أعذب صوت،
قد بلغت أسماعنا أبداً.
عندما ثقل ضميرنا وعبست العدالة،
النعمة هي من أزال مخاوفنا".