محاضرة ١٤

حرية وليس فجوراً

(غل ٥:‏ ١٦-‏ ٢٦)

"وَإِنَّمَا أَقُولُ:‏ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ. وَلَكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ:‏ الَّتِي هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً:‏ إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ:‏ مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ. وَلَكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضاً بِحَسَبِ الرُّوحِ. لاَ نَكُنْ مُعْجِبِينَ نُغَاضِبُ بَعْضُنَا بَعْضاً، وَنَحْسِدُ بَعْضُنَا بَعْضاً".

الجزء الحالي من هذه الرسالة يضع أمامنا حقيقة، بطريقة مميزة جداً، ألا وهي الطبيعتان في المؤمن. من المهم أن نتذكر أنه عندما يخلصنا الله فإنه لا يهلك الطبيعة الجسدانية التي تلقيناها في ولادتنا الطبيعية. إن الولادة الجديدة لا تقتضي ضمناً إزالة الطبيعة القديمة الجسدانية، أو إحداث تغيير فيها، بل منح طبيعة جديدة بشكل مطلق تولد بروح قدس الله، وهاتان الطبيعتان تبقيان جنباً إلى جنب في المؤمن بالرب يسوع المسيح. هذا يفسر الصراع الذي عرفه كثيرون منّا منذ أن اهتدينا. في الواقع، ليس من داع لأن أقول، "كثيرون منّا"، لأن كل المهتدين يختبرون في وقت أو آخر شيئاً من ذلك الصراع بين الجسد والروح. قال يسوع:‏ "المولود من الجسد هو جسد"-‏ أي، الطبيعة القديمة-‏ "والمولود من الروح هو روح"-‏ أي الطبيعة الجديدة، وهاتان الطبيعتان تقيمان جنباً إلى جنب إلى أن نتلقى افتداء الجسد الذي سيكون في المجيء الثاني لربنا يسوع المسيح، عندما سيحول جسد إذلالنا هذا ويجعله على شبه جسد مجده. وعندها سنتحرر إلى الأبد من كل النزعة الداخلية إلى الخطيئة. والآن وحتى ذلك الوقت علينا أن نتعلم، وأحياناً بخبرات مؤلمة جداً، أن الطبيعة الجسدانية، تلك الطبيعة القديمة، "لَيْسَت خَاضِعةً لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهاُ أَيْضاً لاَ تَسْتَطِيعُ" (رو ٨:‏ ٧).

إن الطبيعة القديمة فاسدة جداً، وضيعة جداً، لدرجة أنها لا تستطيع أبداً أن تتقدس، والطبيعة الجديدة نقية جداً ومقدسة جداً، حتى أنها لا تحتاج لأن تتقدس. لذلك ليس من ذكر في الكتاب المقدس لتقديس الطبيعة القديمة. ما الذي يحتاج إذاً لأن يتقدس؟ إنه الإنسان نفسه. وهو يتقدس إذ يسلك وفق إملاءات الطبيعة الجديدة. إن روح قدس الله يقوده، لأن المؤمن لا يولد بالروح وحسب بل يسكن فيه الروح القدس.

يجب ألا نخلط بين الولادة الجديدة بالروح واقتبال الروح. الولادة الجديدة هي عمل روح الله. فهو الذي يُحدث الولادة الجديدة بالكلمة. ونحن نقتبل الكلمة بالإيمان. ونؤمن بالكلمة، وروح قدس الله من خلال الكلمة يأتينا بالولادة الجديدة. يقول الرسول يعقوب:‏ "شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ" (يعقوب ١:‏ ١٨). ويقول الرسول بطرس:‏ "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ ..... وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا" (١ بطرس ١:‏ ٢٣، ٢٥). وعندما أومن بتلك الكلمة أولد ثانية؛ وذلك تغيير داخلي. إنه منح حياة جديدة؛ إنها حياة أبدية. ولكن هناك شيء أكثر من ذلك. لقد كان صحيحاً وحقيقاً دائماً في كل التدابير من آدم إلى يوم العنصرة، أنه أينما كان الناس يؤمنون بكلمة الله فإنهم كانوا يولدون ثانية، ولكن الروح القدس نفسه كأقنوم إلهي ما كان يأتي عندها ليسكن فيهم. والآن ومنذ العنصرة، وعند الإيمان، فإننا نُختم بروح قدس الله. فهو يخلق الطبيعة الجديدة، ثم يأتي ليسكن في المرء الذي يولد ثانية، وإذ يتعلم المؤمن أن يدرك حقيقة أن روح قدس الله يسكن فيه، وإذ يضع كل شيء تحت سيطرته، فإنه يجد الانعتاق من قوة الخطيئة الطبيعية الفطرية.

لاحظوا كيف يورد الرسول بولس القول هنا:‏ "وَإِنَّمَا أَقُولُ:‏ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ (أو رغبة) الْجَسَدِ". إنه لأمر في غاية السهولة أن نشبع رغبة الجسد. علينا ألا نربط كلمة "شهوة" دائماً في ذهننا بمعنى رديء أو نجس. فالكلمة بحد ذاتها تعني "رغبة" بكل بساطة، وأياً كانت رغبة الجسد فإنها دائماً بغيضة في نظر الله. ها هنا امرئ يرغب بكل أنواع الإنغماس في الشهوات والأهواء الجسدانية، وليس من الصعب علينا أن ندرك خسة ذلك. ولكن هنا لدينا آخر يرغب بالشهرة العالمية والمديح والتملق من رفاقه وأصحابه، وتلك أيضاً شهوة الجسد أو الفكر، وهذه يبغضها الله كما الآخر. إن كل نوع من الشهوات الجسدانية هو رغبة، وإذا أردنا أن نتحرر من السير بحسب هذه الرغبات الجسدية فما علينا سوى أن نسلك في الروح القدس.

أن يسكن الروح القدس فينا شيءٌ، وأن نسلك في الروح شيءٌ آخر تماماً. أن نسلك في الروح أي أن الروح القدس يسيرنا ويمكننا أن نسلك في الروح فقط عندما تكون حياتنا مستسلمة حقاً للمسيح. قد يقول أحدهم:‏ "حسناً إذاً. إنني أفهم ما تقصده في أن كل المؤمنين لديهم الروح القدس، وأن كثيرين منا لم يتلقوا البركة الثانية، وليسوا ممتلئين من الروح". لست أجد التعبير "البركة الثانية". في الكتاب المقدس، رغم أني أقر بأنه توجد في حياة العديد من المسيحيين خبرة تجيب على ما يدعوه الناس "البركة الثانية". فقد عاش كثير من المسيحيين لسنوات في مستوى متدنٍ، وإلى حد ما جسداني، ودنيوي. إنهم يحبون الرب، ويحبون كلمته، ويحبون أن يحضروا الطقوس في بيته، ويستمتعون بصحبة المسيحيين، ويسعون لأن يسلكوا مستقيمين رجالاً ونساءً خلال هذا العالم، ولكنهم لم يسلموا أنفسهم حقاً أبداً ولا قدراتهم كلياً للرب. هناك شيء يبقون عليه، بعض الخلاف مع الله، وطالما استمر هذا فسيكون هناك دائماً صراع وهزيمة، ولكن عندما يأتي المرء إلى حيث ينتبه إلى الكلمة، "أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا (أي تسلموا) أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ" (رومية ١٢:‏ ١). عندما يقوم المرء بذلك التسليم فيكون هناك في الحياة ما هو رد على نوع من البركة الثانية؛ أي أن روح قدس الله يكون الآن حراً لكي يمتلك زمام أمور ذلك المؤمن، ويعمل من خلاله ويستخدمه لمجد الله بطريقة ما كان ليقوم بها ما لم يكن ذلك الرجل أو المرأة مستسلماً كلياً للرب.

إننا نتحدث كثيراً عن "التسليم الكامل"، ومع ذلك، كما أخشى، بعض منا يستخدم التعبير بلا مبالاة كبيرة. لا يفيد الحديث عن أن نكون مستسلمين بالكامل لله إن كنت لا أزال أسعى وراء اهتماماتي الذاتية. إن كنت متمحوراً على ذاتي. إن كنت متألماً لأن الناس لا يمتدحونني، أو كنت أشعر بالسمو والإطراء لأنهم يفعلون ذلك، فعندها لا يكون روح الله قد وجد طريقه إلي. إن لم يكن المسيح نفسه هو هدف روحي الوحيد، إن كنت لا أستطيع أن أقول:‏ "بالنسبة لي الحياة هي المسيح". إن كان اهتمامي الكبير ليس في أن يتعظم المسيح فيّ سواء بحياتي أو بمماتي، فعندها لا أكون مستسلماً كليةً له. إن كنت لا أستطيع أن أقول من قلبي:‏ "لا تكن مشيئتي بل مشيئتك"، فلا ينفع هنا الحديث عن التسليم الكامل للمسيح. المؤمن المستسلم (للمسيح) لا يعود يسعى إلى ما يخصه بل إلى الأشياء التي تخص المسيح يسوع. وذاك هو الإنسان الذي "يسلك في الروح". "اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ".

يتبدى الصراع في الآية ١٧:‏ "لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي (أو يرغب) ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ (أي بخلاف) الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ". لا يقول بالضبط:‏ "لكي لا تستطيعوا أن تفعلوا الأشياء التي تفعلونها، لأن الله قد جعل تدبيراً احتياطياً في أننا قد نفعل الأشياء التي نريد، ولكن يجب ترجمة النص كما يلي:‏ "لئلا تفعلوا الأشياء التي تفعلونها". ها هنا صراع في قلب المؤمن. فالجسد يرغب في شيء والروح ترغب في شيء آخر، وطالما أنه لا يكون هناك استسلام كامل لمشيئة الله فإن هاتين الرغبتين هما في صراع دائم، ولذلك فإن المؤمن قد لا يفعل الأشياء التي يريد. أستيقظ في الصباح وأقول:‏ "اليوم لن أسمح للساني بأن يقول أي شيء غير لطيف أو كلمة لا تتلاءم والمسيح". ولكن تحدث ظروف غير متوقعة، وحتى قبل أن أدرك أجد أني قد قلت شيئاً كنت لأقضم لساني عليه. فالأمر الذي لم أقصد أن أفعله قد فعلت. ومن جهة أخرى، فإن الأشياء التي كنت أقصد أن أفعلها لم أفعلها. ما الذي أفهمه من ذلك؟ هناك صراع. إن روح الله لا تسيّر قلبي وحياتي بشكل كامل، وبسبب هذا الصراع قد لا أفعل الأشياء التي أرغب لها. فأنا معوق، وحياتي ليست حياة استسلام كامل كما كان الله يريدها أن تكون. كم هو كثير على أولئك الذين يختبرون هكذا أمور. يا للمرارة الناجمة عن  الحياة المنهزمة والحياة الخائبة، حتى لأناس ليسوا مسيحيين حقيقيين، الذين يعرفون بركة وغبطة أن تكون مخلصاً بدم الرب يسوع المسيح الثمين والذين يتوقون أن يمجدوا الله، ومع ذلك فهم مهزومون على الدوام. لماذا؟ لأن روح الله ليس لها المكان الأسمى في حياتهم.

"وَلَكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ". علينا أن لا نفكر في أن طريقة الانعتاق أو الاستسلام لله هي في حفظ الناموس. لعلي أقول:‏ "من الآن فصاعداً سأتعمد أن أكون أكثر انتباهاً وحرصاً، وسأطيع ناموس الله في كل شيء. وهذا بالتأكيد سيؤدي إلى قداستي عملياً". ولكن، لا. أجدني خائباً مخيباً من جديد. سأجد أن إرادة صنع الخير موجودة في داخلي، ولكن أن أنجز ذلك أمرٌ آخر، وهكذا على أن أتعلم أن تقديسي لا يعود بالناموس بل بالتبرير. ثم ماذا؟ إنه يخبرنا قائلاً:‏ "إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ". إن استسلمتم لروح الله، وإن كانت له السيادة على حياتكم، وإن انقدتم به، فعندئذ بر الناموس يتحقق فينا نحن الذين نسلك ليس بحسب الجسد بل بحسب الروح. ولئلا نسيء الفهم، فإنه يضع نصب أعيننا شهوات الجسد، لكي نستطيع أن نخرج هذه الأشياء إلى النور، لكيما نراها على قباحتها وبشاعتها، بحيث أنه إذا كان لأي منها مكان في قلوبنا وحياتنا ندينه في حضرة الله. غالباً ما نصادف أناساً اليوم يقولون أنهم لا يؤمنون بفساد الحياة البشرية، ولكن هذه هي الأشياء التي تأتي من الإنسان الطبيعي، وحتى المؤمن إن لم يكن حريصاً منتبهاً، إن لم يسلك مع الله منقاداً بالروح، فإنه قد يسقط في إحداها.

"وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ (أي واضحة):‏ الَّتِي هِيَ زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ". ربما يقول بعضكم أو يفكر أن:‏ "أود لو لم يستخدم هذه الكلمات؛ فأنا لا أحبها؛ إنها كلمات مقرفة بغيضة". يا أصدقائي الأعزاء، دعوني أذكّركم، ليست المسألة مسألة كلمات؛ إن الخطايا التي تعبر عنها هذه الكلمات هي المقرفة والمغثة للغاية. كثير من الناس الذين لا يحبون هذه الكلمات يعيشون في الخطايا، والله يُخرج كل الأشياء إلى النور ويسمي الخطيئة باسمها. هناك أناس يعيشون في خطيئة الزنى. والذين لا يحبون أن يسمعوا تسمية شرهم باسمه. لنأخذ كلمات الرب يسوع "إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي" (متى ٥:‏ ٣٢). هناك أولئك الذين يرتكبون الزنى بحسب ذلك المقطع وآخرون يفكرون به. إن سمحت لنفسك بعلاقة عشق غير مقدسة، سامحاً لنفسك بحرية جنسية غير مقدسة مع من ليس لك حق بأن تدخل معها بعلاقة زواج فإنك تكون مذنباً في عيني الله بالخطيئة المذكورة هنا. "عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ"، أي الأفكار الفاسدة الفاحشة المنغمسين فيها. لا يمكنك أن تمنع الأفكار المنحطة الفاسدة من أن تراود فكرك، ولكن يمكنك أن تتجنب الانغماس فيها. الدَعَارَة هي الانغماس في الأفكار النجسة والوضيعة والآثمة. يأتي إلي الناس أحياناً وهم في حالة كرب شديد ويقولون:‏ "إن أفكار الشر تراودني، حتى عندما أصلي، وأتساءل أحياناً إذا ما كنت قد اهتديت حقاً أم لا". ذاك هو الجسد يدل على نفسه. هذه الأشياء قد تخطر في ذهنك، ولكن هل تنغمس فيها؟ قال رجل ويلزي:‏ "لا أستطيع أن أمنع عصفوراً من أن يحط فوق رأسي، ولكني أستطيع أن أمنعه من أن يبني عشه في شعري". وهكذا فإنك قد لا تكون قادراً على أن تتحاشى الأفكار الشريرة عندما تندفع إلى ذهنك، ولكن يمكنك أن تتجنب الانغماس في تلك الأفكار.

"عِبَادَةُ الأَوْثَانِ"، أي أن تضع أي شيء في منزلة أو مكان الله الحقيقي الحي. "السِحْر". لعلك تقول:‏ "آه، السحر. ولكنه طراز عتيق. فقد اعتادوا أن يحرقوا السحرة". ولكن ما هو السحر أو العرافة؟ إنها كلمة تدل على "التعامل مع الأموات"، وأعتقد أن شيكاغو فيها عدد كبير من السحرة. فغالباً ما أرى، عند اجتيازي للطريق، لافتات تقول:‏ "وسيط روحاني"، أو شيء من هذا القبيل، إذ يدّعي أناسٌ القدرة على التواصل مع الأموات. تلك إنما هي سحرٌ أو عرافةٌ، وهي أمرٌ بغيضٌ عند الله. "عَدَاوَةٌ":‏ تلك خطيئة علينا جميعاً أن نحذر الوقوع فيها. يقول الكتاب:‏ "كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ" (١ يو ٣:‏ ١٥). إن العداوة أو الكراهية تأتي من الطبيعة القديمة. "خِصَامٌ"-‏ أي حب النزاع والخصام. هناك كثيرون منا ينكمشون من تلك الخطايا الأولى، ولكن ليس من السهل أن نتدبر أمرنا معها، فنحن شديدوا الحساسية على نحو مفزع، وهذا دليل واضح على الطبيعة القديمة، مثل "أعمال الجسد" الأخرى تلك. "الغيرة"، هي رغبة مضطردة تجعلنا نستبعد البعض لكي ننال إعجاب آخرين. ها هنا كارز لديه موهبة ضئيلة، وهو مستاء لأن كارزاً آخر لديه تقدير أكبر لدى الناس. ها هنا امرئ يغنّي قليلاً. وآخر يغنّي أيضاً ويثير إعجاباً أكبر، وهناك مشكلة بخصوص ذلك. ها هنا معلمة في مدارس الأحد، وبعض معلمين آخرين يبدون مفضلين عليها، وهي في حالة سخط وعلى استعداد تقريباً لأن تترك عملها. إذا تتبعنا هذه الأشياء إلى مصادرها فنجد أنها تأتي من الجسد، ولذلك فيجب إدانتها أمام الله. ثم يأتي "السخط" وهو الغضب، هناك غضب مقدس ولكن السخط الذي نسمح به أنت وأنا عادةً غير مقدس. الغضب المقدس الوحيد هو غضب من الخطيئة. "اغضبوا ولا تخطأوا" (أفسس ٤:‏ ٢٦). كان البيوريتاني القديم يقول:‏ "إني مزمع على أن أغضب لا أن أخطئ، وهكذا أغضب على الخطيئة فقط". ومن ثم لدينا "التحزب"، الذي ينشأ عن "الشقاق". إن الكلمتين مترابطتان على نحو وثيق. إن كل هذه الأشياء هي خاطئة. "البدعة"، هي مدرسة فكرية تجعلنا ضد حقيقة الله "الجسد"، كما يقول الكتاب:‏ "كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ" (عب ١٣:‏ ٥). لدى أحدهم منزل أفضل من منزلي، ولدى أحدهم سيارة افضل من سيارتي، وأنا أحسده. يقول العرب:‏ "شعرت مرة بالاستياء ورحت أتذمر لأنه ليس لدي حذاء إلى أن التقيت برجل ليس له أقدام". ما من أحد فينا إلا ولديه أكثر مما يستحق. فلماذا سنحسد الآخرين؟ لنفترض أن بعض الناس لديهم قصر فخم وليس لدي سوى كوخ.

"خيمة أو كوخ، ما يهمني؟
فهم يبنون قصراً لي فوق هناك"

"كن مكتفياً"، يقول روح الله، "بالأشياء التي لديك". عندما تصل إلى تلك الحالة، "حالة الاكتفاء"، فستصبح الحياة أكثر سعادة بكثير.

"قتلٌ". ماذا لو وضعنا القتل إلى جانب خطايا الغيرة والحسد؟ إن الكثيرين من جرائم القتل قد نتجت عن هذه الخطايا نفسها. وكما تعرفون فإن القتل ليس مجرد أن تطعن رجلاً بسكين أو أن تنسف دماغه بمسدس. يمكنك أن تقتل إنساناً عن طريق عدم اللطف أو الفظاظة. أعرف كثيراً من الناس الذين ماتوا بقلب محطم بسبب فظاظة أولئك الذين كانوا يتوقعون منهم أمراً مختلفاً. إن الله يعطينا أن نظهر الكثير من محبة المسيح، لكي نصبح بركة للناس بدلاً من أن نكون لعنة لهم. ثم لدينا "السُّكر". بالطبع ليس من حاجة لأن أتحدث عن هذا الأمر للمسيحيين. هذه أيضاً من أعمال الجسد. ثم لدينا "البطر". والعالم يسميه "قضاء وقت ممتع" بطريقة جسدانية. "وَأَمْثَالُ هَذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضاً:‏ إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ".هنا يستخدم صيغة تدل على الزمن الحاضر المستمر (المضارع):‏ "إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ، أو الذين تتميز حياتهم بمثل هذه الأشياء، لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ". إن اتصف الناس بهذه الأمور فإنهم يثبتون أنهم ليسوا مسيحيين على الإطلاق. المسيحيون الحقيقيون قد يقعون فيها، ولكنهم يبقون بؤساء وتعساء فيها ويستمرون فيها إن لم يدينوها. هذه الأشياء تأتي من الجسد.

والآن لدينا العكس-‏ ثمر الروح:‏ "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ:‏ مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ ٢٣وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ". نلاحظ أن الكلمة المستخدمة هنا هي "ثمرة"، إذ لا نقرأ في الكتاب المقدس عن "ثمار" الروح، بل عن "ثمرة". هذه الثمرة ذات الجوانب التسعة من الطبيعة الجديدة هي ثمرة يحركها روح قدس الله. "المحبة"، وهي جوهر الطبيعة الإلهية. "الفرح"، يقول الكتاب المقدس "فَرَحُ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ" (نحميا ٨:‏ ١٠). "السلام"، وذاك أكثر من سعادة، إنه سرور عميق ولا يتكدر ولا ينزعج مهما تعرض للتجارب على الأرض. "طول الأناة"، وهذا يقودك لان تحتمل بدون تذمر، "اللطف"، بعضٌ منا فظ وقاس جداً، ولكن المسيحي يجب أن يصقل ذاته فيصبح كالمسيح وديعاً ولطيفاً. "الإيمان"، بمعنى الشعور بثقة الإيمان بالله. "الوداعة"، إننا لسنا ودعاء بالطبيعة. فالإنسان الطبيعي يجعل نفسه دائماً في المقدمة، أما الإنسان الروحي فيقول:‏ "لا بأس علي، لأميزن الآخرين. إني على استعداد لأن أبقى في الخلف". أينما وجدت هذه الروح المصرة على المضي إلى الواجهة نعرف أن المرء لا يزال يسلك في الجسد. وعندما تجد رغبة بأن تعطي تقديراً ورعاً لآخرين ستجد أن المرء يسلك في الروح. ثم لدينا "التعفف"، وهوضبط النفس تماماً، فالجسد كله يكون متمالكاً لنفسه وفي حالة خضوع لروح الله. "ضِدَّ أَمْثَالِ هَذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ". إنك لستَ في حاجة إلى ناموس لتضبط الإنسان الذي يسلك هكذا في الروح.

"وَلَكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ". إنها لا تقول "أولئك الذين هم للمسيح ينبغي أن يصلبوا الجسد". لقد فعلوا ذلك عندما وضعوا إيمانهم في الرب يسوع المسيح. لقد آمنوا بالذي صُلب من أجلهم عوضاً عنهم. ولذلك يمكن القول:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غل ٢:‏ ٢٠). إنه أمر محسوم. إن صلبت الجسد، إن أدركت أن حقيقة صلب المسيح هي من أجلك، إذاً فلا تعِشْ في تلك الحالة التي مُتَّ لأجلها. "إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضاً بِحَسَبِ الرُّوحِ". إن كانت لدينا هذه الحياة الجديدة. إن كنا مرتبطين الآن بمسيحنا القائم. فلندعه الآن يضبط طرقنا، لنستسلم له، ولنسلك في الروح، ولا نكن راغبين في الشهرة أو المجد، ودعونا ألا نسعى وراء ما يمكن أن يقودنا إلى التفاخر الكاذب، مبغضين أحدنا الآخر، قائلين وفاعلين أشياء تؤلم الآخرين بدون داع، أو نحسد بعضنا البعض.

قد يقول بعض منكم:‏ "هذا معيار رفيع للغاية، وأخشى أني لا أستطيع أبداً أن أبلغه". لا، ولا أنا، لا أستطيع أبداً أن أحرزه بقوتي الذاتية، ولكن إن كنا أنا وأنت مستسلمين لروح قدس الله، وإن سمحنا له أن يصنع هذه الأشياء واقعياً في حياتنا، فعندها سنحقق المعيار المثالي الموضوع أمامنا ها هنا، ولكن لن نكون نحن أنفسنا، بل المسيح سيحيا فينا مظهراً حياته، حياته المقدسة، في ومن خلال أعضاء جسدنا. ليُعطنا الله أن نعرف حقيقة وواقعية هذا الأمر.