محاضرة ٣

اهتداء بولس ورسوليته

(غل ١:‏ ١٠-‏ ٢٤)

"أَفَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ أَمِ اللهَ؟ أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ النَّاسَ؟ فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ. وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ.  أَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا. وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ. ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً. وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ. وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ. وَلَكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ. غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلاً، يُبَشِّرُ الآنَ بِالإِيمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلاً يُتْلِفُهُ. فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ فِيَّ".

نجد بولس الرسول في هذا القسم مضطراً للدفاع عن رسوليته. هناك أمر يرثى له في هذا الخصوص. لقد كان قد جاء إلى هؤلاء الغلاطيين عندما كانوا وثنيين وعبدة أصنام فكان رسول الله لهم. وبه أتوا إلى الإيمان بالرب يسوع المسيح. إلاّ أنهم وقعوا في ضلال معلمين كذبة، وهاهم الآن يقلّلون من شأن ذلك الرجل الذي قادهم إلى المسيح، فاذدروا بخدمته وشعروا أنهم يعرفون أكثر منه وهذه لم تكن المرة الوحيدة في تاريخ الكنيسة التي تحدث فيها هكذا أشياء. فغالبا مانرى مهتدين جدد سعداء ومتوقدين لمعرفتهم بأن خطاياهم قد غفرت إلى أن يقعوا تحت تأثير معلمين كذبة فينظرون بازدراء إلى أولئك الذين قدّموا الإنجيل لهم.

بالدرجة الأولى، يشرع بولس بإظهار كيف صار رسولاً للأمميين. في الآية ١٠ يقول (بولس):‏ "أَفَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ أَمِ اللهَ؟" ما الذي يقصده بذلك؟ هل أسعى للحصول على تأييد وموافقة البشر أم الله؟ من الواضح أنه من الله. لم يكن بولس الرسول انتهازياً مسايراً ولم يكن يسعى ببساطة لإرضاء الناس الذين سيقفون أمام الله في لحظة أو أخرى في دينونة، إذا ما ماتوا في خطاياهم. إن هدفه الواضح هو أن يعمل إرادة ذاك الذي خلصّه وأرسله ليكرز بإنجيل نعمته. لذلك فإنه يقول:‏ "إني لا أحاول السعي لإرضاء الناس، بل الله. ولا أسعى لإرضاء الناس". بمعنى آخر:‏ أنا لا أحاول أن أحصل على الاستحسان والتصديق من الناس على رسالتي. صحيحٌ أنه يقول في مكان آخر في الكتاب المقدس:‏ "فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ لأَجْلِ الْبُنْيَانِ. (رومية ١٥:‏ ٢)، ولكن ليس هناك تناقض بين تينك العبارتين اللتين ينطق بهما هنا وهناك. إنّه أمر صحيح وسليم أن أسعى بكل طريقة ممكنة لأرضي وأساعد صديقي وقريبي وأخي، ولكن من جهة أخرى، عندما أحاول أن أكرز بكلمة الله، عليَّ أن أفعل ذلك. "لاَ كَأَنَّنَا نُرْضِي النَّاسَ بَلِ اللهَ الَّذِي يَخْتَبِرُ قُلُوبَنَا" (١ تسالونيكي ٢:‏ ٤). إن الكارز أو المبشر الذي يتحدث وهدفه إرضاء الناس لا يكون صادقاً ومخلصاً للتفويض المعطى له. "فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْداً لِلْمَسِيحِ". إنّه يجعل من نفسه هكذا خادماً للناس وحسب. "وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ.  لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ". إن الإنجيل يختلف عن أي نظام ديني بشري. في بعض جامعاتنا، يدرسون ما يسمّى "علم مقارنة الأديان". ودراسة الأديان المقارنة ممتعة ومفيدة على حد سواء، إن كنت تدرس مثلاً، الأديان الكبرى التي في العالم الحالي كالبوذيّة والبرهمانية، والإسلام. هناك أشياء كثيرة مشتركة بينها وأشياء أخرى تتعارض فيها عن بعضها. ولكن عندما تأخذ المسيحية وتضعها على قدم المساواة مع الأديان الأخرى فإنك ترتكب خطأً:‏ فالمسيحية ليست ديانة وحسب، بل إنها إعلان إلهي. يقول بولس:‏  "أنا لَمْ أَقْبَلْ إنجيلي مِنْ الناس، وما مِن إِنْسَانٍ نقلَهُ إليَّ. فلقد تلقّيتُه مباشرةً من السماء". بالطبع لسنا كلنا نتلقى المسيحية على هذا الشكل، كإعلان مباشر، كما حدث مع بولس،ومع ذلك وفي كل لحظة، إذا ماوصل الإنسان إلى فهم حقيقة الإنجيل، فذلك لأنّ الروح القدس، الذي هو روح الحكمة والوصي في معرفة المسيح، هو الذي يفتح قلب وذهن ذلك الإنسان ويجعلهُ يفهم الحقيقة. وإلاّ فإنّه لن يقتبلها. "وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً" (١ كو ٢:‏ ١٤). وبالطبع فإنّ الإنسان الطبيعي لا يُسّر بهذا الإعلان الإلهي. إنّ الناس يُسّرون عندما يموّه الكارز خطاياهم، وعندما يضع تبريرات لأفعالهم الخاطئة، وعندما يعذر ضعفهم أو يطري عليهم إذ يحاولون أن يصنعوا برّهم بذاتهم. ولكن عندما يكرز إنسان بإنجيل نعمة الله ويصّرُ على حقيقة ضلال الإنسان الكامل وحالته الساقطة، ويعلن أنّه غير قادر أن يصنع أي شيء ينقذ به نفسه، بل إنّه لابدّ أن يخلص بموت الرب يسوع المسيح الكفاري، فليس في هذا مايُسّر الإنسان الطبيعي. إنّ النعمة الإلهية هي التي تفتح القلب وتتلقى ذلك الإعلان. وذلك هو الإعلان الذي كان قد جاء إلى بولس. كان هناك وقتٌ أبغض فيه الرسول بولس المسيحية وذلك عندما عمل كل مافي وسعه ليُهلك الكنيسة الفتيّة الناشئة، وهاهو الآن يقول لهؤلاء الغلاطيين:‏  "فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا". يستخدم بولس مرتين هذا التعبير، "الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ"، (في الآية ١٣ و ١٤). إنّ الكلمة الأصلية تعني "اليهودية" بكل بساطة، وليس هناك مجال للخلط بينها وبين قول يعقوب الرسول:‏ "الدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ:‏ افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ" (يعقوب ١:‏ ٢٧). ففي قول يعقوب تُستخدم كلمة "دين" بالمعنى الصحيح، ونحن الذين خلصنا يجب أن تنطبق علينا هذه الصفات. ولكن الرسول بولس يستخدم هذه الكلمة هنا بمعنى مختلف. لقد تعمّد بولس استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى نقلاً عن اللغة اليونانية. وكان يهدف من وراء ذلك إلى أن يخلص نفسه وينال حظوةً عند الله، إلى أن يكشف الله له الأمور بشكل آخر من خلال الوحي الإلهي. فعندما كان يؤمن باليهودية كان "يضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ ويُتْلِفُهَا". ومما يُرثى له أنه منذ ذلك الحين انبرى أعضاء من الكنيسة المعترفة لاضطهاد اليهودية. وهذا يتناقض مع قول يسوع أن "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (متى ٥:‏ ٤٤).

لقد كان بولس يكره المسيحية. واضطهد المسيحيين وحاول أن يقتلع المسيحية من الجذور، ويقول:‏ "كُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي". لقد أمكن له أن بقول:‏ "عالِمِينَ بِي مِنَ الأَوَّلِ... أَنِّي حَسَبَ مَذْهَبِ عِبَادَتِنَا الأَضْيَقِ عِشْتُ فَرِّيسِيّاً" (أعمال ٢٦:‏ ٥). لقد كانت اليهودية أعزُّ عليه من الحياة نفسها. لقد كان يعتقد أن تلك هي الحقيقة الوحيدة، وذلك أنّ كلّ الناس، وإن عرفوا الله، يجب أن يجدوه من خلال اليهودية. لقد كان في حماسة وغيرة زائدة على تقاليد الآباء، ليس فقط فيما كُتب في الكتاب المقدّس، وفي ناموس موسى وما كان الأنبياء قد أعلنوه، بل أضاف إلى ذلك كمية كبيرة من التقاليد التي وصلت إلى اليهود في يومنا الحاضر في التلمود. لقد كان على استعداد أن يعيش ويموت كمناصر لليهودية لولا أعجوبة النعمة. كيف حدث أنّ هذا اليهودي الذي لم يكن يرى شيئاً صالحاً في المسيحية قد اهتدى وصار أحد أعظم مناصريها؟ ليس من سبيل لتفسير ذلك إلاّ من خلال نعمة الله المطلقة التي لا نظير لها. لقد حدث شيءٌ في قلب وحياة ذلك الرجل، فتبدّلت وجهة نظره كليةً، وهذا ما جعلهُ نصيراً للمسيحية كرّس أكثر من ثلاثين عاماً من حياته لإعلان المسيح لليهود والأمميين. يخبرنا عم أحدث التغيير:‏ "وَلَكِنْ لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً" (الآيتان ١٥، ١٦). عندما جاء الوقت المحدد، عندما قال الله بنعمته الجليلة أن:‏ "اقبضوا على هذا الرجل"، فأوقفه على طريق دمشق، وعندما ظهر له المسيح في المجد، جاء شاول الطرسوسي إلى معرفة أنه كان يحارب مسيّا الموعود لشعب اسرائيل وابن الله المبارك. وعندها لم يكتفِ المسيح بأن يعلن نفسه له، بل أن المسيح أُعلن فيه.

لدينا كلا الجانبين الموضوعي والذاتي للحقيقة. عندما رأيت أنا الخاطئ المسكين المسيح يسوع يتألم وينزف ويموت من أجلي، وعندما رأيتُ أنه كان "مَجْرُوحاً لأَجْلِ مَعَاصِيَّ مَسْحُوقاً لأَجْلِ آثَامِي"، وعندما أدركت أنه كان قد "أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايايَ وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِي"، وعندما  وضعت إيماني القلبيّ فيه، وعندما بتلك الحقيقة الموضوعية، حدث شيء ما داخل ذاتي. لقد جاء المسيح ليسكن في قلبي ذاته. "المسيح فيك"، يقول الرسول، "رجاء المجد". لقد سُرَّ الله أن يعلن ابنه، ليس لي وحسب بل فيَّا ايضاً. وأتيت إلى معرفته بطريقة أكمل وأكثر غنىً مما كان ليمكنني أن أعرف أعز صديق أرضي. لم تعد المسألة بالنسبة لبولس مجرد دين مقابل دين. لقد صار لديه الآن تفويض إلهي بأن يمضي وأن يعلن للآخرين أن المسيح صار حقيقة واقعية جداً في حياته. ولذلك فعندما جرى هذا الحادث المجيد، عندما أتى إلى معرفة الرب يسوع المسيح بنعمة الله الجليلة المطلقة، نجده يقول:‏ "أدركت أن ذلك الفهم المجيد لم يكن لي فحسب بل أن علي أن أجعله معروفاً لدى الآخرين. لقد سُرَّ الله أن "يكشف ابنه فيّا، لكي أكرز به بين الوثنيين والأمم". عندما خلص الرب بولس أخبره أن ذاك كان في ذهنه.

في أعمال الرسل (الإصحاح ٩) نجد قصة اهتداء الرسول بولس. ونقرأ أن الله قد تحدث إلى حنانيا وأرسله لرؤية بولس في الزُّقَاقِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمُسْتَقِيمُ في دمشق. ولكنه لم يشأ الذهاب في بادئ الأمر، فقد كان يخشى أن يتسبب بولس في قتله، إلا أن الرب الإله قال له:‏ "«اذْهَبْ لأَنَّ هَذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي" (أع ٩:‏ ١٥، ١٦). ولذلك ذهب حنانيا مطيعاً الله لرؤية بولس ونقل له فكر الله. فقد كان الله قد قال:‏ "ظَهَرْتُ لَكَ لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ وَمِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَنَا الآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ" (أع ٢٦:‏ ١٦، ١٧). لقد كان رسول الأمم بامتياز، ولكن كانت له أيضاً خدمة رائعة لشعبه، وطوال حياته كلها كان لديه شعار أن:‏ "لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ" (رومية ١:‏ ١٦). لقد مضى من مدينة إلى أخرى يصطاد الناس في المجامع أو يجد جماعات أو أفراد يهود، فيخبرهم بالتغيير العظيم الذي طرأ له ويناشدهم أن يُسلِّموا ذواتهم لذلك المخلص العظيم الرائع نفسه. وعندما كانوا يرفضون رسالته كان يتجه إلى الأمميين ويكرز بالإنجيل لهم.

شككّ بعض من هؤلاء الغلاطيين فيما إذا كان حقاً رسولاً، إذ أنه لم يرَ الرب أبداً عندما كان هنا على الأرض؛ ولم يأخذ تفويضه من الاثني عشر. يقول:‏ "لا لم افعل، وإني أفتخر بأني رسول، ليس من بشر، ولا من إنسان، بل بيسوع المسيح. لقد تلقيت تفويض من السماء عندما رأيت المسيح القائم في المجد وجاء هذا وجعل مسكنه في قلبي. لقد أرسلني لكي أمضي وأكرز برسالته". "لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْماً وَدَماً". لقد ظنوا أنه كان ينبغي عليه أن يذهب إلى أورشليم لكييعقد ويعرض المسألة على بقية الرسل وأن يعرف إذا ما كانوا يصادقون على رسالته وكانوا على استعداد لسيامته للخدمة المسيحية، أو شيء من هذا القبيل. ولكنه يقول:‏ "كلا، لم أستشِر أحداً، ولم أتباحث مع أحد. لقد كانت رسالتي من السماء، وكنت سأنقلها معوِّلاً على الله الحي، "وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضاً إِلَى دِمَشْقَ" (الآية ١٧)". لم يذهب في البداية إلى المكان الذي كانوا يعتبرونه مركز قيادة الكنيسة المسيحية، أي في أورشليم، ليحصل على تفويض أو ترخيص بالعمل. وبدلاً من ذلك نرى أنه قد غاب بعيداً مختلياً بنفسه. في قراءتنا لسفر الأعمال لا نستطيع أن نعرف ذلك، لكنه هو نفسه يشير في هذه الرسالة إلى أنه ذهب إلى بتراء العربية، وهناك في مكان هادئ نوعاً ما ولعله كان يعيش في كهف، أمضى بعض الوقت يرتقب أن يوضح الله له الأشياء التي كانت في فكره. لقد كان في حاجة إلى الوقت ليفكر بالأمور ملياً، وفي حاجة إلى الوقت لكي يكلمه الله والذي أمكنه خلاله أن يكلم الله. وهناك تكشّفت له الحقيقة بكل ملئها، وكل جمالها، وكل مجدها. لم يكن ذاك هو الوقت الذي حصل فيه على إعلان جسد المسيح. بل بالحري كان ذلك على طريق دمشق عندما قال له الرب:‏ "شاول، شاول. لماذا تضطهدني؟"، ياله من إعلان عظيم ذاك المتعلق بالجسد الذي يشكله جميع المؤمنين على الأرض! إنهم مرتبطون على نحو وثيق برأسهم الممجد في السماء حتى أن كل عضوٍ لا يمكن أن يُلمس دون أن يؤثر على رأسهم.كان هناك الكثير مما كان يحتاج لأن يفهمه، لذلك مضى إلى البرية.

هل لاحظتم كم كثرٌ هم خدام الله المحبوبين الذين توجب عليهم إنهاء دروس في جامعة البرية؟ عندما أراد الله أن يهيء موسى ليكون قائداً لشعبه أرسله إلى البرية. فمرّ على كل المدارس المصرية، وظنّ أنه كان مستعداً ليكون محرراً لشعب الله. وعندما غادر جامعة مصر قال في نفسه على الأرجح:‏ "أنا الآن على استعداد لأن أضطلع لمسؤلية عملي الحياتي الكبير". ولكنه سرعان ما شرع يقتل المصريين ويخيفهم في الرمال فقال الله له:‏ "لست مستعداً بعد يا موسى. فأنت في حاجة إلى منهاج ما بعد التخرج". كان عمره آنذاك أربعين سنة أمضاها في تعلم حكمة مصر، أمضى بعدها أربعين سنة لينساها ويتعلم حكمة الله، وأخيراً، وعندما تلقى درجة ما بعد التخرج أرسله الله ليحرر شعبه.

إيليا أمضى وقتاً في البرية. وداود فعل مثل ذلك. تلك السنوات في البرية التي اصطاده في نهايتها الملك شاول كالحجل على سفح الجبل. لقد كانوا مستعدين لمساعدته لكي يتأهل للقيام بعمله العظيم. وإذا فكرنا في ربنا المبارك نفسه نجد أنه قد اعتمد في نهر الأردن مظهراً توافقه مع كلمة الله واستعداده للمضي إلى الصليب ليحقق كل برٍّ لأجل الخطأة المحتاجين، فنزل عليه الروح القدس كحمامة. وبعدها ذهب إلى البرية لأربعين يوماً، وصلّى وصام متأملاً في الخدمة العظيمة التي كان مقبلاً على القيام بها. ثم مرّ عبر تلك التجارب الشديدة على يد الشيطان وخرج منها منتصراً، وانطلق ليكرز بإنجيل الملكوت. والآن هاهنا هذا الرجل الذي كان يكره اسمه والذي كان يمقت المسيحية ولكن بعد أن رأى المسيح القائم اعتزل في البرية لفترة من التأمل والصلاة، والتعلم قبل أن يستهلَّ عمله العظيم. ثم نجده يقول:‏ "ثم رجعت أيضاً إلى دمشق"، وكرز بالمسيح في المجامع قائلاً:‏ "أنه ابن الله". إذا قرأتم بتمعن سفر أعمال الرسل ستجدون أنه لم يكرز أحد بالمسيح كابن لله إلا بعد اهتداء بولس. أعرف أن التعبير "ابنك القدوس يسوع" مستخدم، ولكن الترجمة الأفضل "خادم أو عبد". لقد كرز بطرس بيسوع على أنه المسيّا، والعبد، ولكن بولس بدأ شهادته بالقول أن يسوع كان في الحقيقة ابن الله. عندما سأل الرب يسوع بطرس:‏ "من تقول أني هو؟"، أجاب بطرس:‏ "أنت المسيح ابن الله الحي" (متى ١٦:‏ ١٥، ١٦). ولكن لم يكن ذلك الزمان هو المناسب في نظر الله ليعلن ذلك، لأن الرسالة كانت مقتصرة نسبياً على شعب إسرائيل، في أول جزء من سفر أعمال الرسل. ولكن عندما اهتدى شاول، وبدون خوف من البشر، راح يكرز في تلك المجامع نفسها بأن يسوع هو ابن الله وأنه هونفسه الآن يضطهد على يد أولئك الذين كانوا معجبين به كقائداً ممارساً للشعائر الدينية اليهودية.

مرّت ثلاث سنوات على هذا الرجل قبل أن يذهب إلى أورشليم. لقد انتقل من مكان إلى آخر وأخيراً مضى إلى هناك، ولكن ليس لكي يُسام أو ليعترف به كرسول. ففي الآية ١٨ يوضح لنا سبب الذهاب إلى هناك:‏ "ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً". إن كلمة "أتعرف" في النص الأصلي ممتعة جداً. إنها الكلمة اليونانية التي اشتقت منها "حكاية"، أي رواية قصة ما، أو سرد أحداث مضت، فهكذا يقول بولس أنه بعد ثلاث سنوات صعد إلى أورشليم ليروي حكايته لبطرس وليسرد عليه الأمور التي مرَّت معه، وليخبره عما فعله الرب. ياله من اجتماع رائع. كم كان رائعاً لوسمعنا تلك المحاورة بينهما ونحن قابعون في ركن من الحجرة دون أن يلاحظنا أحد. بطرس الذي كان قد عرف الرب والذي كان قد أنكر الرب والذي تجدد على نحو رائع

والذي كرز وبشر بتلك القوة في يوم العنصرة والذي استخدمه (الرب) بقوة ليفتح الباب أمام اليهود ثم أمام الأمميين، بطرس ذاك أخبر قصته وحكى بولس حكايته. وعندما أنهيا الحديث، أتخيل أن بطرس قد قال:‏ "حسناً يابولس، إن لديك نفس الرسالة التي لدي، إلا أنني أعتقد أن الرب اعطاك أكثر مما أعطاني، وأريد أن أعطيك يمين رفقة الشركة والزمالة. إني أبتهج بخدمتك، ويمكننا أن نمضي معاً في إعلان هذا الإنجيل السار المجيد". كان ذلم بعج خمسة عشر يوماً من رفقة رائعة أمضيناها معاً.

ولبقية الرسل يقول بولس:‏ "وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ". لسنا متأكين عن أي يعقوب يتكلم. علّه يكون الرجل الذي يشار إليه باسم يعقوب ابن حلفا، ابن عم الر، الذي يُذكر بأنه أخو الرب. وفي اعتقادي الشخصي أنه يعقوب الذي يحتل مكانة كبيرة في سفر أعمال الرسل-‏ هو يعقوب أخو ربنا يسوع المسيح، الذي لم يؤمن إبان وجود المحلص هنا على الأرض، بل أتى إلى الإيمان به بالقيامة، وهوالذي قاد كنيسة الله في أورشليم. كان بولس قد رآه، ولكن لم يأخذ من اي منهما أية مصادقة أو موافقة او ترخيص أو تفويض خاص. لقد التقى بهما على أساس مشترك. ألا وهو أنهم رسلٌ للرب يسوع المسيح مثله، بتعيين إلهي.

"وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ". غريب أنه اضطر ليقول هكذا كلام. وغريب أن هؤلاء الغلاطيين، الذين اهتدوا على يده، يمكن أن يفكروا للحظة أنه قد لا يكون صادقاً. ولكن عندما يتأثر المرء بتعاليم زائفة مغلوطة، يحدث عامة أنه يكون على استعداد لتوجيه كل أنواع التهم طاعناً باستقامة وأمانة الناس الآخرين. وهكذا الحال هنا، فاضطر بولس للقول:‏"وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ".

بعد عودته من أورشليم انطلق في برنامجه التبشيري العظيم. "وَبَعْدَ ذَلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ. وَلَكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ". لقد صار معروفاً وسط جماعات أخرى في اليهودية، وعرفته تجمعات يهودية بشكل جيد، إلا أن المسيحيين في اليهودية، وهم المؤمنون الذين كانوا انفصلوا عن الدين اليهودي، ما كانوا قد رأوه أبداً. "غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلاً، يُبَشِّرُ الآنَ بِالإِيمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلاً يُتْلِفُهُ". وكم كان لهذا من تأثير كبير عليهم. فها هنا رجل كان قد ذهب إلى كل مكان ليحيد الناس عن المسيح، بل إنه حتى حاول أن يجبرهم على التجديف، وهددهم بالموت إذا لم ينكروا إنجيل الرب يسوع المسيح. والآن طرأ هذا التغيير الكبير، وانتقلت الأخبار عبر الكنائس:‏ "المضطهد العظيم قد كان مبشراً، فهو لم يعد عدواً لنا، بل إنه يكرز للآخرين بنفس الإيمان الذي لدينا تماماً". "فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ فِيَّ". في الحقيقة لقد كان اهتداء بولس عملاً إلهياً جليلاً للنعمة، وهذا يستحق المزيد من التسبيح والمجد لذاك الذي اختاره وفوّضه وأرسله. وكانت الثمار الغزيرة الناجمة عن ذلك هي لمجده. مامن شيء يعطي هكذا قوة لخدمة المسيح كمثل الاهتداء الحقيقي. لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لأي إنسان أن يتجرأ على القول أنه خادم للكرازة وهو لم يختبر اهتداءً شخصياً ولم يعرف حقيقة الإنجيل.

ذلك الإنجيل لم يفقد شيئاً من قوته. إن في مقدوره اليوم أن يصنع العجائب في الناس الذين يضعون إيمانهم على الرب يسوع المسيح. فهل آمنتم به؟ وهل وضعتم فيه ثقتكم؟ هل هو مخلصكم. هل تعرفون ما معنى الاهتداء؟ هل في مقدوركم القول:‏ "الشكر لله، فقد خلصت روحي؛ لقد أعلن الله ابنه فيّا"؟