محاضرة ٧

مفتدون من لعنة الناموس

(غل ٣:‏ ١٠-‏ ١٨)

"لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ». وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ «الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا». وَلَكِنَّ النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ، بَلِ «الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا». اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ». لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ، أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ «لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْداً قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ». وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي «إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ». لاَ يَقُولُ «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَ«فِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ. وَإِنَّمَا أَقُولُ هَذَا:‏ إِنَّ النَّامُوسَ الَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، لاَ يَنْسَخُ عَهْداً قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ فَلَمْ تَكُنْ أَيْضاً مِنْ مَوْعِدٍ. وَلَكِنَّ اللهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ".

من الطبيعي أن يتساءل المرء:‏ "ما الذي نقصده عندما نتحدث عن لعنة الناموس؟" هل هي لعنة بالنسبة لله أن يعطي لشعب اسرائيل الوصايا العشر، المعيار الأخلاقي الأكثر رقياً الذي أمكن لأي بشر أن يتلقوه أو أن يُعطى لهم، إلى أن جاء ربنا يسوع المسيح وأعلن العظة على الجبل؟ هل هذه لعنة؟ بالتأكيد لا. لقد كانت بركة كبيرة لإسرائيل أن يحظى بهكذا تعليم، يظهر لهم كيف يحيون وكيف يتأدبون، وقد حفظهم من كمٍّ هائل من الخطايا التي كانت ترتكبها الأمم الوثنية حولهم. ومع ذلك لدينا هذا التعبير في الكتاب المقدس:‏ "لعنة الناموس"، ونقرأ "لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»".

عندما أعطى لله ذلك الناموس، أعلن بركة على كل من يحفظونه، وصرّح بأنهم سينالون الحياة بذلك. "«إِنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»" (رومية ١٠:‏ ٥)، ولكنه قال، من جهة أخرى، وكما استشهد هنا، "«مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ»". فكل من يميز الإرادة الإلهية في ذلك الناموس فيما يتعلق بحياة الإنسان هنا على الأرض ومع ذلك يخفق في الارتقاء إلى مستواه يصبح تحت لعنته. ومن هناك اليوم أمكنه أن يحفظ هذا الناموس؟ أعرف أناساً يقولون:‏ "إن بذلنا كل ما في وسعنا، أفلن يكون هذا كافياً؟" ينفي الكتاب المقدس هكذا فكرة. ونقرأ قي رسالة يعقوب:‏ "مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب ٢:‏ ١٠). إننا نعرف كم هذا الأمر حقيقي وصحيح فيما يتعلق بناموس البشر. لنفترض أنني كمواطن في الولايات المتحدة لم أخالف أياً من قوانين بلادي إلا واحدة، فبانتهاكي لذلك لقانون الوحيد أصبح خارجاً عن القانون، وبالتالي فأنا سأخضع لقصاص مخالفة القانون. عندما نتحدث عن أناس تحت "لعنة الناموس"، فإننا نعني أنهم خاضعون لعقوبة انتهاك القانون، والقصاص هو الموت، روحياً وأبدياً. "الروح التي تخطئ تموت" (حزقيال ١٨:‏ ٢٠). لذلك حسنٌ القول بأن الناموس هو "خدمة الموت" و"خدمة الدينونة" (٢كورنثوس ٣:‏ ٧،٩)، لأن كل من هم تحت الناموس، ولكن أخفقوا في حفظه هم تحت الدينونة، ومحكوم عليهم بالموت، ولذلك فهم تحت اللعنة. ولكن ربنا يسوع المسيح قد مات ليحررنا من لعنة الناموس.

ألا نستطيع أن نحرر أنفسنا؟ رغم أننا قد أهلكناها في الماضي، أفلا نستطيع أن نقرر أننا من هذه اللحظة فصاعداً سوف "نقلب صفحة جديدة"، وأن نكون حريصين جداً على أن نحفظ كل مبدأ في ناموس الله الأخلاقي؟ في الدرجة الأولى، لم نكن نستطيع أن نفعل ذلك. فمن غير الممكن لأناس ذوي طبيعة ساقطة أن يحفظوا على نحو كامل ناموس الله المقدس. لنأخذ تلك الوصية على سبيل المثال:‏ "لا تَشْتَه". لا يمكنكم أن تحفظوا أنفسكم من الاشتهاء رغم أنكم تعرفون أن الاشتهاء خطأ. إنك تنظر إلى شيء يمتلكه جارك، ويقول قلبك لا إرادياً:‏ "ألا ليت ذاك الشيء كان لي". وبإعادة التفكير تقول:‏ "إنه أمر لا يستحق. إني مسرور حقاً من أجل جاري". ولكن مع ذلك، ألم تشتهِ؟ يقول الرسول بولس أنه طالما أن الوصايا الأخرى تتعلق بحياته فهو بلا لوم خارجياً أو ظاهرياً. لقد كان يحيا بدون الناموس إلى أن جاءت الوصية التي تقول "لا تشتهِ". "وَلَكِنَّ الْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِالْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ" (رومية ٧:‏ ٧، ٨). وهكذا أماته الناموس الذي لم يستطع أن يحفظه. لكن لنفترض أنك تستطيع أن تحفظه من هذا اليوم إلى اليوم الأخير من حياتك فهل ستُمحى وتُلغى كل أفعال السوء التي عملتها في الماضي؟ أبداً على الإطلاق. إن إخفاقك في الماضي سيبقى في سجل الله. "اللَّهُ يَطْلُبُ مَا قَدْ مَضَى" (الجامعة ٣:‏ ١٥).

"وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ «الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا»". لاحظوا:‏ لا أحد يتبرر بناموس الله. ما من أحد إطلاقاً تبرر بالناموس عند الله. ولن يتبرر أحد أبداً بناموس الله. في رومية ٣ نقرأ:‏ "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ النَّامُوسُ فَهُوَ يُكَلِّمُ بِهِ الَّذِينَ فِي النَّامُوسِ لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ" (رومية ٣:‏ ١٩، ٢٠). بمعنى آخر إن الله لم يُعْطِ الناموسٍَ ليخلص الإنسان، بل أعطى الناموس للإنسان ليختبره، وليظهر حالة الإنسان الحقيقية. وهذا يشرح مقطعاً يحير البعض:‏ "قَدْ زِيدَ الناموسُ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ" (غلاطية ٣:‏ ١٩). لقد أُعطي في الحقيقية لكي يمنح الخطيئة صفة التعدي المحددة.

كنت أتمشى في المنتزه في ذلك اليوم وفجأة نظرت إلى الأسفل ورأيت قرب قدمي لافتة تقول:‏ "ابتعد عن الأعشاب". لقد كنت على العشب، ولكن في اللحظة التي رأيت فيها العلامة هرعت للانتقال إلى الممر. لو تابعت سيري على العشب بعد رؤية اللافتة لكنت متعدياً. قبل ذلك لم أكن متعدٍ، لأني لم أعرف أني كنت أعمل الخطأ. رأيت أناساً آخرين يسيرون على العشب، ولم يدركوا أن هناك أقساماً محددة لا يُسمح فيها بذلك. لم أعرف أن ذلك كان ممنوعاً في ذلك المكان المحدد. إلى أن جاء الناموس كانت الخطية في العالم، وكان الناس يخطأون في الطريق الذي يختارونه، ولكن "حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ" (رومية ٤:‏ ١٥). لقد وضع الله ناموسه ليقول:‏ "ابتعدوا عن الأعشاب". فإن ساروا الآن على العشب يكونون متعدِّين. إذا عصى الناس الله فإنهم يتعدون. تتبدى الخطيئة في قلب الإنسان من حقيقة أن الناس يعصونه عمداً وطواعية وبكامل إرادتهم. من غير الممكن أن تتبرر بالناموس، لأن التبرير يعني أن تكون خلواً من أي تهمة أو ذنب. الناموس يكشف التهمة، الناموس يجرّمني بالذنب، والناموس يدينني بسبب ذلك الإثم.

لقد كُتب في الأنبياء:‏ "البار بالإيمان يحيا" (حبقوق ٢:‏ ٤)، ولذلك فقد صار معروفاً حتى في زمن العهد القديم أن على الناس أن يتبرروا، ليس بجهود بشرية بل بالإيمان. هذه الكلمات نجد أنها مقتبسة ثلاث مرات في العهد الجديد. في الرسالة إلى رومية يقول الرسول (بولس):‏ "لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ:‏ لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ. منْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللهِ بِإِيمَانٍ لإِيمَانٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ «أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا»" (رومية ١:‏ ١٦، ١٧). وفي الرسالة إلى العبرانيين نجد بولس يقتبس نفس الكلمات:‏ "الْبَارُّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا" (عب ١٠:‏ ٣٨). ونجد نفس القول في رسالة غلاطية. لقد كان ذلك القول حقاً أن هذه الرسائل الثلاث تبسطها أو تعرضها الكلمات الثلاث:‏ "الْبَارُّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا".

كيف يصبح الناس أبراراً أمام الله؟ كما نوَّهنا للتو، تجيب رسالة رومية على هذا السؤال وتشرح الكلمة الأولى، "البار". إنها تخبرنا من هم الأبرار، أولئك الذين يؤمنون بالرب يسوع المسيح، ولكن إن كان التبرير بالإيمان كيف يُحفظ المرء أمام الله في تلك الحالة؟ أوليس بأعمال يقوم بها؟ تجيب رسالة غلاطية على ذلك وتركز على الكلمتين التاليتين:‏ "بالإيمان يحيا". وما هي تلك القوة التي تثبت وتؤازر وتقوي وتمكّن الأبرار من السير مع الله في هذا العالم، فيحيون حياة غير دُنيوية، تماماً كما "سَارَ أخْنُوخُ مَعَ اللهِ وَلَمْ يُوجَدْ لأنَّ اللهَ أخَذَهُ" (تكوين ٥:‏ ٢٤)؟ ومن جديد نجد الجواب يأتينا في الرسالة إلى العبرانيين حيث يتم عرض الكلمتين الأخيرتين من القول "البار بالإيمان يحيا". لقد استغرق الأمر ثلاثة رسائل في العهد الجديد لبسط نص واحد من العهد القديم مؤلف من ثلاث كلمات:‏ "البار بالإيمان يحيا". وهذا يعطينا فكرة عن مدى غنى وامتلاء كلمة الله.

ولكن إن كان "البار بالإيمان يحيا" فلا يمكن للبشر إذاً أن يتبرروا بأي جهود أو محاولات يقومون بها، لأن الآية ١٢ تقول:‏ "النَّامُوسُ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ، بَلِ «الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا»". لم يقل الناموس:‏ "الإنسان الذي يؤمن يحيا"، بل:‏ "الإنسان الذي يفعلها سيحيا". لعل القول الأخير يبدو لنا الأمر الصحيح. فإن فعل الإنسان الصواب فإنه لا بد أن يحيا. المشكلة هي أن الإنسان لا يفعل الأمر الصواب. ونقرأ:‏ "الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رومية ٣:‏ ٢٣). إن انتُهِكت إحدى الوصايا العشر فذلك الإنسان يخسر كل حق أو مطلب له بالحياة. لنفترض أن رجلاً سقط من جرف أو شفا حفرة ومدّ يده وهو يقع هابطاً وأمسك بسلسلة مثبتة إلى أصل شجرة باقية في الجرف وتعلق هناك بالسلسلة. إن للسلسلة عشر حلقات. فكم يلزم لقطع السلسلة وإيقاع الرجل إلى الهاوية في الأسفل؟ واحدة فقط. إن الناموس هو مثل تلك السلسلة. فعندما تخطئ لأول مرة تكسر الحلقة وتسقط إلى الأسفل وتصبح في موضع دينونة إن لم تخلص. لا يمكنك أن تُعد نفسك لحضور الله بأية أعمال بر يمكن أن تقوم بها. يقول الناموس:‏ "الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا"، ولكن الناس أخفقوا في ذلك، ولذلك حُكمَ عليهم بالموت.

والآن انظروا إلى رسالة المصالحة المجيدة:‏ "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ". كيف فعل ذلك؟ "إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»". فها هنا رجل لم ينتهك أبداً ناموس الله، ها هنا ابن الله القدوس الابدي، مسّرة قلب الآب من الأزل وإلى الأبد، الذي جاء إلى العالم، وصار إنساناً، وذلك لأجل الهدف الواضح المحدد ألا وهو افتداء أولئك الذين كانوا تحت لعنة الناموس. لقد قال هو نفسه:‏ "كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (متى ٢٠:‏ ٢٨). ولكن إن كان هو نفسه قد انتهك ذلك الناموس، فهو خاضع لضرورة دفع القصاص ولا يمكنه أن يفتدينا أبداً، ولكن كم كان حريصاً كلمةُ الله في أن يظهر لنا أنه لم يأتِ تحت ذلك القصاص. لقد كان قدوساً في الطبيعة من اللحظة التي جاء بها إلى العالم. لقد قال الملاك لمريم، أمه:‏ "الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ" (لوقا ١:‏ ٣٥). لقد كانت حياته نقية على نحو مطلق وهويعيش هنا على الأرض. لقد عظمَّ الناموس وجعله مبجلاً وجديراً بالاحترام من خلال حياة التكرس لإرادة الله التي عاشها. "مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ" (عب ٤:‏ ١٥). بِلاَ خَطِيَّةٍ، رغم أنه تعرض للتجربة. وأخيراً فإن الله "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢ كورنثوس ٥:‏ ١٥). لم يكن لدى الله أي شيء ضده، ومع ذلك أخذ مكاننا طواعية، ومضى إلى الصليب، ودفع هناك قصاصاً كان علينا نحن أن ندفعه. إن كان علي أن أدفع الثمن، فإن الأبدية كلها لن تكفي لذلك. أما هو الأبدي، معلقاً على الصليب، فقد تحمّل إلى النهاية تبعات أي ادعاء يطالبني به الناموس الذي انتهكتُه، فإن اقتبلتُه الآن، وآمنتُ به مخلصاً لي، فماذا تكون النتيجة؟ إني أتحرر من لعنة الناموس.

"محرراً من الناموس، يا لفرحتي!
نزف يسوع دماً، وهناك المغفرة
ملعوناً تحت الناموس ومجروحاً بالسقوط،
افتداني المسيح مرة وإلى الأبد.
والآن أُعتِقنا-‏ وما من دينونة.
فيسوع يقدم خلاصاً كاملاً:‏
اسمعوا صوته العذب يقول:‏ "تعالوا إلي.
تعالوا وهو يخلصنا مرة وإلى الأبد".

هل دخلت نفسك في مثل هكذا حالة؟

إن كنت أنسى فلن أنسَ، بعد أن جاهدت مطولاً لأصنع براً ذاتياً، لن أنسَ الفرحة التي غمرتني عندما اِقْتُدْتُ للنظر بالإيمان إلى ذاك الصليب القائم هناك، الصليب الذي غدا فارغاً الآن.

"رأيت أحداً معلقاً على الخشبة،
في رؤى نفسي،
وذاك التفتَ إلي بعينين حانيتين،
إذ تسللتُ دانياً إلى صليبه".

لقد عرفت أنه كان هناك من أجلي وعني. ذاك الذي كان بلا خطيئة، كان يتألم هناك عني، أنا الخاطئ الأثيم، ورفعت بصري إليه. وأمكنني أن أقول له بإيمان:‏ "أيها الرب يسوع، أنا خطيئتك، أنا فجورك. إنك بلا خطيئة ذاتية، وإنما تحتمل تبعات خطاياي". وإذ نظرت من جديد، كان ذلك الصليب فارغاً ووضع جسد ربي في القبر. "أُسلِم لأجل معاصينا" و وُرِيَ عن الأنظار المدفونة. ولكنني نظرت من جديد وكان ذاك القبر فارغاً، ونهض قائماً في انتصار، "أُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا" (رومية ٤:‏ ٢٥). والآن لم أنظر إلى الصليب بل إلى عرش الله، وبالإيمان رأيته (المسيح) جالساً هناك، إنسان ممجد إلى يمين الله، وهو نفس الإنسان الذي وقف صامتاً في قاعة محكمة بيلاطس ولم ينطقْ بكلمة ليبرّئ نفسه. إذ ما كان ليمكنني أن أتطهر ما لم يمت من أجلي.

من ليرغب في أن يصنع براً ذاتياً له في حين أنه يستطيع أن ينال واحداً أفضل من ذلك بكثير بالإيمان بالرب يسوع المسيح؟ "اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:‏ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ»". والآن وبسبب ذلك يمكن لبركة ابراهيم أن تأتي إلى الأمميين في المسيح يسوع. يمكننا أن نتلقى وعد الروح بالإيمان. "لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ". ما هي "بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ"؟ قبل زمان طويل قال الله:‏ "فيك وفِي نسلكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ أُمَمِ الأرض". ولكن توالت السنين والقرون وبقيت شعوب الأمميين خارجاً. لقد كانوا خارج الحظيرة، غرباء عن عهد الموعد، ولم يعرفوا شيئاً من بركة إبراهيم أو ما وعدَ به الله بنسله. أما الآن فقد مات المسيح، ليس من أجل اليهود وحسب، بل من أجل الأمميين أيضاً، وبفضل ما قام به تذهب الرسالة إلى العالم بأكمله بأن الله يمكن أن يخلّص كل من يؤمن بالرب يسوع، ويصبح جميعُ المؤمنين أبناءً لإبراهيم بالإيمان ويُختَمونَ بروح قدس الله. إن بَرَكَة إبراهيم هي التبرير بالإيمان لكل من يؤمن، كما "«آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً»" (رومية ٤:‏ ٣). يلفت بولس انتباهنا إلى حقيقة أن الله عندما قال لإبراهيم:‏ "في نسلك تتباركُ جميعُ الأمم"، لم يكن يشير فقط إلى تلك الأمة التي ستخرج من نسله، بل إلى شخص وحيد معين، إذ كان في مخطط الله السرمدي أن يُولَدَ المسيح من نسل إبراهيم.

"أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ «لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْداً قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ»". عندما يبرم الناس عقوداً أو يقطعون عهوداً فمن المفروض أن يلتزموا بها. لقد أقام الله عهداً بنعمة غير مشروطة مع إبراهيم قبل سنين طويلة. وفيما بعد جاء الناموس، فهل أبطلَ ذلكَ العهد بالنعمة النقية المقام مع إبراهيم؟ "وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي «إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ». لاَ يَقُولُ «وَفِي الأَنْسَالِ» كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ. وَ«فِي نَسْلِكَ» الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ". فمن خلال الرب يسوع، إذاً، تذهب بركة العهد لكل خاطئ أثيم بائس يؤمن به. "وَإِنَّمَا أَقُولُ هَذَا:‏ إِنَّ النَّامُوسَ الَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، لاَ يَنْسَخُ عَهْداً قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ". لم يكن الله متسرعاً أو متراخياً عندما أعطاه عهد النعمة هذا غير المشروط. لم يقل:‏ "إن فعلت كذا وكذا وإن لم تفعل أشياء معينة، فإن العالم برمته سيكون مباركاً بنسلك". بل قال وعلى نحو غير مشروط:‏ "بك وبنسلك تتبارك جميع أمم الأرض" فهي ليست أبداً مسألة جهود بشرية وليست مسألة شيء يمكننا أن نكتسبه.

عندما يناقش الرسول بولس هذا الموضوع نفسه في رومية ٤ يقول في الآيات الافتتاحية:‏ "فَمَاذَا نَقُولُ إِنَّ أَبَانَا إِبْرَاهِيمَ قَدْ وَجَدَ حَسَبَ الْجَسَدِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ تَبَرَّرَ بِالأَعْمَالِ فَلَهُ فَخْرٌ -‏ وَلَكِنْ لَيْسَ لَدَى اللهِ. لأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرّاً». أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ" (رومية ٤:‏ ١-‏ ٤). ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أنك إذا ماكان عليك أن تفعل شيئاً ما لتكسب خلاصك فإنك لن تَخلص بالنعمة. لنفرض أنك تعمل ستة أيام لصالح مستخدم (رب عمل)، وفي نهاية ذلك الوقت يأتي إليك بموقف شامخ متكبر ويسلّمك مغلفاً ويقول:‏ "لقد كنتَ تعمل بشكل جيد خلال الأيام الست الأخيرة، وها هنا هدية صغيرة لك، أريد أن أعطيك هذه كعلامة أو تذكار عن نعمتي". فتنظر إلى المغلف وتجد أنه يحتوي على أجرك، وتقول:‏ "يا سيدي لست أفهم. هذه ليست تقدمة أو هدية. فقد استحقيت وكسبت هذا المبلغ". ولكن الرجل يقول:‏ "أريدك أن تشعر بأنه تقدير لجهودك". فتجيب قائلاً:‏ "لا. أنت تدين لي بذلك. أنت مدين لي بذلك. لأني كسبت هذا المال". إن كنتُ أستطيع أن أفعل شيئاً لخلاص نفسي فإني سأجعل الله مديناً لي بذلك، إلا أن كل ما يعمله الله من أجلي، إنما يعمله بنعمة صافية نقية. ولذلك نقرأ:‏ "وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَعْمَلُ وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ فَإِيمَانُهُ يُحْسَبُ لَهُ بِرّاً" (رومية ٤:‏ ٥). ورغم أن الناموس قد جاء بعد أربعمئة وثلاثين سنة من الوعد بالنعمة لكل الأمم من خلال نسل إبراهيم إلا أنه لم يغير هدف الله. لقد أُعطي فقط لزيادة إحساس الإنسان بعوزه ولجعله يدرك إثمه وعجزه ولكي يقوده لأن يرمي بذاته على نعمة الله غير المحدودة.

"لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ فَلَمْ تَكُنْ أَيْضاً مِنْ مَوْعِدٍ. وَلَكِنَّ اللهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ". إن كان يأتي بجهود ذاتية فليس هو مسألة وعد على الإطلاق. ولكن الله أعطاه لابراهيم بالوعد و"لأَنَّ الْمَوْعِدَ"، كما يقول بطرس، "هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ الَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ الرَّبُّ إِلَهُنَا" (أع ٢:‏ ٣٩). لعلك، عزيزي القارئ، كنت تجاهد لسنين لتعدَّ نفسك لحضور الله، لقد كنت تحاول جاهداً أن تصنع براً ذاتياً، "وتحاول أن تكون مسيحياً". أرجو منك أن تكف عن ذلك وأن تتوقف عن المحاولة. لا يمكنك أن تصبح مسيحياً بالمحاولة أو بأي شيء آخر حتى لو استطعت أن تصبح أمير ويلز. أنت ما أنت بالولادة. أنت ما أنت كخاطئ بولادة طبيعية، وأنت تصبح ابناً لله بولادة ثانية جديدة، من خلال الإيمان بالرب يسوع المسيح. وإن بركة إبراهيم هي لك عندما تقتبلها بالإيمان.