محاضرة ٤

الإنجيل كما كُرِزَ به لليهود والأمميين

(غل ٢:‏ ١-‏ ١٠)

"ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذاً مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً. وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ بِالاِنْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً. لَكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ. وَلَكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَساً لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا -‏ اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ. وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ، مَهْمَا كَانُوا، لاَ فَرْقَ عِنْدِي:‏ اللهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ -‏ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ. بَلْ بِالْعَكْسِ، إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ. فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ. فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا، الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ. غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهَذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ".

في هذا الأصحاح وهو الثاني من رسالة غلاطية، يخبرنا بولس عن زيارةٍ ثانية إلى أورشليم، وهي في غاية الأهمية، ويخبرنا سفر أعمال الرسل (ص ١٥) عنها. "ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذاً مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً". كان هذا بعد أن جاء أشخاصٌ معيّنون من طرف يعقوب إلى أنطاكية، حيث كان الرسول يعملُ جاهداً، وأكّدوا على الأمور التي أتى بولس على ذكرها في هذه الرسالة:‏ بأن على المؤمنين من الأمميين أن يخضعوا للشعائر والطقوس اليهودية، وأن عليهم أن يختتنوا، وأن يحفظوا ناموس موسى، وإلا فلن يخلصوا. عندما احتك بولس بهؤلاء، انتظر إلى أن يأتيه وحيٌّ معينٌ يطلب منه أن يذهب إلى أورشليم. فيقول:‏ "صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ". لم يذهب لوحده؛ بل أخذ برنابا معه.

كان برنابا قد جاء من أورشليم ليجده في طرسوس، ولكي يقنعه بأن يذهب إلى أنطاكية ويساعد في خدمة الكرازة هناك. في البداية كان برنابا هو القائد، وكان بولس يتبعه. ولكن مع مرور الوقت تبادل الرسولان الأدوار، فتراجع برنابا من الواجهة وقفز بولس إلى الأمام. مع برنابا كانت الحال أن:‏ "يجب أن يزداد هو، وأما أنا فأنقص". ونقرأ في مكان آخر عنه أنه:‏ "كَانَ رَجُلاً صَالِحاً وَمُمْتَلِئاً مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَالإِيمَانِ" (أع ١١:‏ ٢٤). مثل هكذا رجل يمكن أن يتقبل رؤية أحد ما آخر يُكَرَّم بينما هو يُنحّى. وهكذا قفز برنابا إلى الخلف وتقدم بولس إلى الواجهة. ثم يقول بولس:‏ "آخِذاً مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً". لماذا يذكر هذا؟ ذلك لأنها كانت حالة اختبار. فهؤلاء الأخوة المزيفون الذين انحدروا إلى غلاطية كانوا يصرُّون على أنه كان يحدث في أورشليم واليهودية أن ما من أحد يمكن أن يتغاضى عن فكرة أن يخلص أممي ما لم يقبل علامة العهد الإبراهيمي ويُختتن. ولكن بولس يقول:‏ "أَخَذْتُ مَعِي تِيطُسَ أَيْضاً". وكان هذا أمميّاً لم يكن قد خضع لهذا الطقس أو الشريعة، ولم يقترح بولس أن يفعل ذلك، ولذلك فقد أخذه إلى أورشليم، لأنها كانت مركز قيادة الشرائع.

"صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ بِالاِنْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً". عندما نرجع إلى (أع ١٥) نجد أن بولس قد دعا جميع الرسل الذين صادف وجودهم في أورشليم، يعقوب، صفا، ويوحنا، مع شيوخ الكنيسة هناك، وأخبره بقصة كرازته، ونشاطاته. ذكر لهم الخطوط العامة لفحوى رسالة الإنجيل التي كان يحملها إلى الأمميين. وإذا استمعوا إليه فقد قبلوه كواحد منهم في إعلان نفس الإنجيل الذي كانوا يكرزون به، رغم أن ذلك الإنجيل كان أكمل وأغنى من ذاك الذي حصلوا عليه، إذ كانت هناك بعض أشياء محددة أُعلنت لبولس ولم تُكشف لهم.

قبل عدة سنوات، اضطر الله ليعطي بطرس إعلاناً خاصاً لكي يدخل إلى ذلك السر العجيب، أعني به أن اليهود والأمميين عندما يخلصون يصبحون جسداً واحداً في المسيح. إن بطرس لا يستخدم أبداً التعبير "الجسد" إلا أنه يطرح نفس الفكرة. إن البركة لليهود والأمميين كانت على أساس النعمة وكشف الله ذلك له على سطح البيت في يافا، ولكنه فعل ذلك "بِالاِنْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ". عندما رأى ملاءة نازلةً عليه، "وَكَانَ فِيهَا كُلُّ دَوَابِّ الأَرْضِ وَالْوُحُوشِ وَالزَّحَّافَاتِ وَطُيُورِ السَّمَاءِ". وصوت من السماء قال له:‏ "«قُمْ يَا بُطْرُسُ اذْبَحْ وَكُلْ»". إلا أن بولس، كيهودي صالح، قال:‏ "«كَلاَّ يَا رَبُّ لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئاً دَنِساً أَوْ نَجِساً»". فقال له الله:‏ "«مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!»" (أع ١٠:‏ ١٢-‏ ١٥). وبذلك كان يشير إلى تقديس الأمميين. هذا ما أهّل بطرس للخدمة في بيت كورنيليوس، حيث كرز بالمسيح وفتح باب الملكوت أمام الأمميين، كما فعل قبل فترة عندما استخدمه الله ليفتح هذا الباب لليهود في أورشليم. تحدث بولس وبرنابا إلى الأخوة بحرية، موضحين ما فعله الله، وبعد كثير من الجدال والنقاش، نسب ما فعله باسم الله للنعمة، واحتكم يعقوب للكتاب المقدس لاتخاذ قرار في المسألة المتعلقة بالأمميين. لقد كانوا على توافق سار بهيج. فبولس، كما لاحظنا، كان لديه كشف أكمل وأوضح مما أُعطي لبطرس، ولكن كان ذلك نفس الإنجيل بالأساس، ولكي يُظهر أنه ليست هناك مثل هكذا فكرة في ذهنهم بأن يُخضعوا الأمميين إلى شرائع وطقوس تشريعية، نجده يقول:‏ "لَكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ". ياله من جواب عظيم بالنسبة لسكان اليهودية الذين كانوا يضللون هؤلاء الغلاطيين ويبعدهم عن بساطة نعمة الله كانوا يقولون لهم:‏ "الرجل غير المختتن لا يمكن اعتباره عضواً في عائلة الله". بينما بولس يقول:‏ "لقد أخذت تيطس معي، وناقشت الأمر مع الشيوخ في أورشليم، ولم يطلبوا أبداً إخضاع تيطس للختان، لقد قُبِلَ مسيحياً كما هو". ياله من جواب لأولئك الذين كانوا ينتقدونه ويضللون الذين اهتدوا على يده.

"وَلَكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَساً لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا -‏ اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ". من يقصد بكلامه هذا؟ إنه يشير بذلك إلى أولئك الذين خرجوا من اليهودية والذين تسللوا خفية إلى جماعة المسيحيين في غلاطية. فيقول بولس:‏ "لم نخضع لهم ولو حتى بدافع السلام، لأننا بذلك إنما نستل منكم إرثكم في المسيح الذي اشْتُرِيَ بالدم. وهكذا فبسبب محبتنا لكم وإدراكنا لقيمة نعمة الله، فقد رفضنا أن نذعن لهؤلاء الرجال رغم حرصنا على أساس المحبة المسيحية. لم نخضع لهم أبداً".

ومن ثم في الآيات القليلة التالية (٦-‏ ١٠) يخبرنا قصة قصيرة عن ترتيب قام به إبان وجوده في أورشليم يتعلق بتقسيم العمل على نحو متكامل، هذا الترتيب الذي جعل حياة الشركة المسيحية كاملة وفي انسجام بهيج. "أما عن أولئك الذين كانوا معتبرين في الظاهر، (أياً كانوا، فلا فرق بالنسبة لي:‏ إن الله لا يهتم بشخص أي إنسان) فلم يشيروا علي بشيء خلال الاجتماع". كما ترون، لقد أمكنه أن يتحدث على هذا النحو لأنه تلقى إعلانه مباشرة من السماء فالمسيح القائم والممجد هو الذي ظهر له على طريق دمشق، والرب المبارك نفسه هو الذي كان قد علمه خلال تلك الأشهر التي أمضاها في العربية، حيث انكفأ واعتكف ليتفكرَّ في الأمور ويحصل على فهم أوضح للرسالة الرائعة التي كان عليه أن ينقلها إلى العالم الأمميّ. لذلك ورغم أنه قد احتك مع الرسل والشيوخ الذين كانوا قد خدموا سنوات قبل أن يعرف المسيح، لم يقف أمامهم في خشية. لعلهم كانوا قادة متميزين، لكن الله لا يعتمد على شخص الإنسان، فكانوا عبارة عن أخوة في المسيح، كان عليهم أن يتعلموا على يد الله، وهذا ما فعله. ولم يسألهم أن يمنحوه أي سلطة أو أن يعطوه أي كشف خاص للحقيقة التي كان عليه أن يعلنها للأمميين، ومع ذلك فقد كان مسروراً لأن يجلس معهم ويحاورهم على أساس مشترك وأن يسرد عليهم الأمور على نحو أخوي، وقالوا:‏ "بالتأكيد إننا ندرك حقيقة أن الله قد أقامك لخدمة أو رسالة خاصة، ولنا معك في ذلك شركة و زمالة".

"بَلْ بِالْعَكْسِ، إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ". لاحِظْ أن بولس يقول "إنجيل الغرلة"، وذلك من الكلمة اليونانية التي تعني "الإنجيل الذي للغرلة". فالمعنى أنهم رأوا أن الله قد منحه كشفاً خاصاً، وفهماً خاصاً للإنجيل فيما يخص الأمميين. لقد أهّله الرب عن طريق تدريب مبكر، ثم عن طريق إنارته بعد اهتدائه، ليقوم بعملٍ بين الأمميين لم يكونوا هم مؤهلين أو معدين للقيام به. من جهة أخرى، أهَّلَ اللهُ بطرسَ ليقوم بعمل البشارة وسط اليهود واستخدمه بطريقة لافتة للانتباه في يوم العنصرة، وعبر السنين منذ أن وضع الله ختمه مفوضاً بطرس بالعمل الكرازي لبني إسرائيل. وهكذا تبادلوا الحديث وقالوا:‏ "من الواضح يا بولس أن الله قد اختصك بنقل الرسالة إلى الأمميين كما بطرس إلى اليهود". فيقول:‏ "فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضاً لِلأُمَمِ".

"وإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا، الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ (ومن الواضح أنهم كانوا القادة)، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ". أليس من المستغرب أن يرى الناس في هذه الكلمات الفكرة المذهلة التي يعرضها الرسول بولس هنا فيقول بأنهم قد تكلموا معاً فوجودوا أن هناك إنجيلين هنا؟ ألا وهما الإنجيل الذي كان بطرس وبقية الرسل الذين اختارهم الرب يكرزون به، وهو إنجيل الختان، وذلك الإنجيل الذي كان بولس وبرنابا يناديان به، وهو إنجيل الغرلة (الأمميين). وهكذا كانوا سيمضون في الكرازة بالإنجيل الأول لليهود، وكان بولس وبرنابا ليكرزون بإنجيل آخر مختلف كلياً للأمميين. ياللجهل بالمخطط الإلهي عند أولئك الذين يظنون ذلك أو يصلون إلى هذا الاستنتاج. لقد كان بولس قد أخبرهم لتوه:‏ "إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»" (١:‏ ٨). لقد كان بطرس بين الغلاطيين، يعظهم بنفس الإنجيل الذي كان يكرز به في كل مكان آخر. أفكان ملعوناً (أناثيما)؟ إن الملائكة سيعلنون الإنجيل الأبدي في ذلك اليوم الموعود. فهل سيكونون تحت اللعنة؟ بالتأكيد لا. في الواقع ليس هناك إلا إنجيل واحد، رغم أنه يأخذ أشكالاً مختلفة في أوقات مختلفة. إنجيل بطرس كان يتحدث عن خلاص كامل مجاني أبدي بموت وقيامة وحياة ربنا يسوع المسيح التي لا تتبدل، وإنجيل بولس كان يتمحور حول نفس الموضوع تماماً. دعونا نعود قليلاً ونرى شيئاً يتعلق بإنجيل بطرس ونقارنه بذاك الذي لبولس.

في يوم العنصرة نسمع بطرس يعظ. فيقول عن ربنا يسوع المسيح أن داود قد شهد له. "سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً. فَيَسُوعُ هَذَا أَقَامَهُ اللهُ وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذَلِكَ. وَإِذِ ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ وَأَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِنَ الآبِ سَكَبَ هَذَا الَّذِي أَنْتُمُ الآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ. ... لْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ رَبّاً وَمَسِيحاً" (أع ٢:‏ ٣١-‏ ٣٣، ٣٦). هل يبدو أن في هذا ما يخالف الإنجيل الذي كان بولس الرسول يكرز به؟ طبعاً لا. إنها نفس الرسالة عن المخلص المصلوب، والمقام، والمرفوع الممجد.

ما كان تأثير هذا الوعظ؟ تذكروا أن هذا كان هو الإنجيل الذي كرز به بطرس. لقد هتف الناس:‏ "أيها الأخوة، ما الذي علينا أن نفعله؟" لم يصرخوا مثل السجان في فيليبي أن:‏ "«يَا سَيِّدَيَّ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟" (أع ١٦:‏ ٣٠)، بل "أيها الرجال الأخوة، ما الذي علينا أن نفعله؟" لكأنهم كانوا يقولون:‏ "يا بطرس إننا ما برحنا منذ سنين ننتظر مجيء المسيّا، وكنا نؤمن أنه هو الذي سيرفع خطايانا ويؤتينا بركة أبدية، وندرك الآن مما تقوله أنه قد جاء وقد صلب وأنه صعد إلى يمين الله. فما الذي ينبغي علينا أن نفعله؟ أليس من أمل لدينا؟ أميئوس منا؟ لقد رفضنا مسيّا الذي كنا ننتظره، فما الذي ينبغي علينا أن نفعله؟" فيقول بطرس:‏ "«تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. لأَنَّ الْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ الَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ الرَّبُّ إِلَهُنَا»" (أع ٢:‏ ٣٨، ٣٩). إن بولس يقول:‏ "إذا آمنتم بالرسالة التي كرزت بها إليكم بأن هناك مغفرة للخطايا، وأن لكم خلاص فلا تحتاجون لأن تقعوا تحت الدينونة عندما تخضع الأمم لها. إنما عليكم أن تتوبوا". وماذا تعنيه التوبة؟ إنها تغيير كامل في الموقف. بمعنى آخر، غيّروا فكركم، غيروا موقفكم، واعتمدوا، مقرّين بأنكم تقتبلون المخلص الذي كان الشعب قد رفضه، وإذ تفعلون ذلك، فإنكم تقفون على أرضية جديدةكلياً. يالها من رسالة ملائمة لأولئك المؤمنين اليهود! في ذلك اليوم ثلاثة آلاف منهم أخذوا قرارهم، وبمعموديتهم فصلوا أنفسهم عن الشعب الذي رفض المسيح، وانتقلوا إلى جانب يسوع، وعُرفوا بأنهم صاروا من بين أولاد الله.

دعونا نصغي إلى بطرس يقول من جديد:‏ "فَتُوبُوا وَارْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ الْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ. وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ. .... إِلَيْكُمْ أَوَّلاً إِذْ أَقَامَ اللهُ فَتَاهُ يَسُوعَ أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ" (أع ٣:‏ ١٩-‏ ٢١، ٢٦). بماذا يكرز بطرس هنا؟ إنه نفس الإنجيل الذي كان بولس قد كرز به فيما بعد. إنه يقول لهم أن بني إسرائيل قد رفضوا المسيح ولذلك فإنهم تحت الدينونة. ويالها من دينونة رهيبة قد وقع تحتها ذلك الشعب! ولكن، على حدّ قوله، إن كنت تريد أن تتحرر من تلك الدينونة، تُبْ، وغيِّر موقفك، وانعطف ثانية، واقبل المسيح الذي رفضه الشعب، وهكذا تكون على استعداد لاستقباله عندما يعود ثانية. لم يكن بولس قد أعطاهم بعدُ إعلان الاختطاف، ولكنه يقول لهم أنه عندما يظهر المسيح سيكونون على استعداد لاستقباله كأفراد، مع أن الشعب ينبغي عليه أن يعرف قوة دينونته. "فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِذَاكَ وَقَفَ هَذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحاً. هَذَا هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي احْتَقَرْتُمُوهُ أَيُّهَا الْبَنَّاؤُونَ الَّذِي صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أع ٤:‏ ١٠-‏ ١٢). هل في هذا ما يخالف إنجيل بولس؟ لا، بل إنه نفسه تماماً، ولكن بطرس يقدمه للشعب اليهودي، الذين كان لديهم التعليم منذ قرون، بطريقة تجعلهم يفهمون على نحو كامل.

والآن تسمعون نفس الشخص يكرز في بيت كورنيليوس (أعمال ١٠). إنه يروي حكاية حياة وموت وقيامة يسوع. "يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ. وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. الَّذِي أَيْضاً قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ. هَذَا أَقَامَهُ اللهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَأَعْطَى أَنْ يَصِيرَ ظَاهِراً لَيْسَ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ بَلْ لِشُهُودٍ سَبَقَ اللهُ فَانْتَخَبَهُمْ. لَنَا نَحْنُ الَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ الأَمْوَاتِ. وَأَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ لِلشَّعْبِ وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعَيَّنُ مِنَ اللهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ. لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِاسْمِهِ غُفْرَانَ الْخَطَايَا" (أع ١٠:‏ ٣٨-‏ ٤٣). هل هذا إنجيل مختلف عما يجب أن نكرز به اليوم؟ هل هو إنجيل مختلف عن ذاك الذي أعلنه الرسول بولس؟ بالتأكيد لا. إنه نفس الإنجيل، إنجيل نعمة الله والخلاص فقط بالعمل الذي أتمه ربنا يسوع المسيح.

دعونا الآن ننعطف إلى رسالة بطرس التي يوجهها إلى المهتدين من اليهود، ألا وهي إنجيل الختان:‏ "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ" (١ بطرس ١:‏ ١٨-‏ ٢٠). هذا هو الإنجيل الذي كرز به بطرس للمختونين. قارنوا به وبين الإنجيل الذي كرز به بولس لليهود و الأمميين:‏ "وَنَحْنُ نُبَشِّرُكُمْ بِالْمَوْعِدِ الَّذِي صَارَ لآبَائِنَا إِنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ هَذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلاَدَهُمْ إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَيْضاً فِي الْمَزْمُورِ الثَّانِي:‏ أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. إِنَّهُ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ غَيْرَ عَتِيدٍ أَنْ يَعُودَ أَيْضاً إِلَى فَسَادٍ فَهَكَذَا قَالَ:‏ إِنِّي سَأُعْطِيكُمْ مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ. وَلِذَلِكَ قَالَ أَيْضاً فِي مَزْمُورٍ آخَرَ:‏ لَنْ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً. لأَنَّ دَاوُدَ بَعْدَ مَا خَدَمَ جِيلَهُ بِمَشُورَةِ اللهِ رَقَدَ وَانْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ وَرَأَى فَسَاداً. وَأَمَّا الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فَلَمْ يَرَ فَسَاداً. فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ أَنَّهُ بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ الْخَطَايَا وَبِهَذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى" (أع ١٣:‏ ٣٢-‏ ٣٩). هل في هذا خلاف عما كان بطرس يكرز به؟ ليس من خلاف بينهما، إنما هو كشف أكثر اكتمالاً. لا نعرف أبداً أن بطرس قد كرز بالتبرير بل إنما بالصفح والغفران. بولس هو من أضاف التبرير. فعندما يغفر الله بيسوع القائم والممجد، لا يغفر فقط بل إنما يبرر من الإثم. من غير الممكن أن يحدث أن قاضياً دنيوياً يمكن بآن معاً أن يغفر وأن يبرر رجلاً. تخيلوا رجلاً متهماً بجريمة يحاكم عليها في المحكمة، وبعد تقديم الإثبات أو الدليل القاطع على جريمته يعلن القاضي أنه غير مذنب ويطلق سراحه. ومن الطريف أن يقول له أحد ما وهو يغادر مبنى المحكمة:‏ "أريد أن أهنئك، لقد كان جميلاً من القاضي أن يغفر لك".

"هو لم يغفر لي. هو لم يسامحني. أنا مبرّرٌ. ليس من شيءٍ ليُغفَر لي من أجله".

لا يمكنك أن تبرر رجلاً إن كان قد قام بعمل شرير، ولكن يمكنك أن تغفر له. أما الله فهو لا يغفر فحسب بل يبرّر الفجّار، لأنه يربط المؤمن بالمسيح وقد جعلنا "مقبولين في المحبوب" (أفسس ١:‏ ٦). إننا نقف أمام الله مبرأين من كل تهمة وكأننا لم نرتكب إثماً أبداً. إن كلتا الرسالتين واحدة في المحتوى. ولكن رسالة بولس أكثر اكتمالاً نوعاً ما من تلك التي لبطرس. فالأول كانت لديه رسالة وقد كيّفها بشكل خاص لليهود والثاني للأمميين، وهكذا تمايز عملهما عن بعض بشكل واضح. لدينا ما يشبه ذلك في حقل العمل التبشيري اليوم. فرؤساء المجالس يجتمعون ويقول أحدهم:‏ "لنفترض أن مجموعة ما منكم تعمل في هذه المنطقة ومجموعة أخرى تعمل في تلك. فهل تقولون أن هناك أربعة أو خمسة أناجيل مختلفة؟" لا، أبداً على الإطلاق. إنه نفس الإنجيل. فقد يذهب أحدهم إلى نيجيريا، والآخر إلى أوغندا، وآخر إلى تنزانيا، وآخرون إلى أصقاع أخرى، إلا أن لهم جميعاً نفس الرسالة المجيدة. وهي بسيطة واحدة وسهلة، ما لم يحاول المرء أن يقرأ تفاصيل وأشياء لم يكن الرسل يفكرون بها أو تخطر ببالهم أو يقصدونها. لم تتح لبولس أو بطرس أبداً فرصة دراسة المناهج الحديثة لبعض المتطرفين القائلين بالتدبير الإلهي، وهكذا لم تخطر لهم الأفكار التي يحاول بعض الناس دسّها إلى المسيحية اليوم.

الآية ١٠ ممتعة:‏ "غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهَذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ". إني أتساءل ألم يبتسم بولس عندما سمع ذلك. لقد قالوا:‏ "اذهب أنت إلى الأمميين يابولس ولكن لا تنسى أن هناك الكثير من القديسين الفقراء في اليهودية، ورغم أنك لا تكرز وسطهم، فأرسل لنا  برزمة أو مبلغاً من حين إلى آخر". لقد فعل، وبذلك أظهر أنهم كانوا جسداً واحداً وروحاً واحدة، كما أنهم دُعيوا برجاء واحد لدعوتهم.