محاضرة ١٦

الافتخارُ بالصليبِ

(غل ٦:‏ ١١-‏١٨)

"اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي! جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَراً حَسَناً فِي الْجَسَدِ، هَؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا، لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ الْمَسِيحِ فَقَطْ. لأَنَّ الَّذِينَ يَخْتَتِنُونَ هُمْ لاَ يَحْفَظُونَ النَّامُوسَ، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَتِنُوا أَنْتُمْ لِكَيْ يَفْتَخِرُوا فِي جَسَدِكُمْ. وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ. لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لَيْسَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الْخَلِيقَةُ الْجَدِيدَةُ. فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللهِ. فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَاباً، لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ. نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. آمِينَ".

هناك شيء في الآية ١١ أعتقد أنه يضعنا في قلب بولس الرسول. لقد كان على مبعدة قليلاً عن غلاطية عندما جاءه النبأ عن معلمين متهودين قد اندسوا وسط الجماعات (المسيحية)، وكانوا يعلّمون المؤمنين أنه ما لم يختتنوا ويحفظوا الناموس لا يمكنهم أن يخلصوا. لقد رأى أن هذا كان يعني التنازل والتخلي عن حقيقة النعمة كلياً. إنّ المؤمن لا يطيع لكي يخلص، بل لأنه خلص. إنه يُسَرُّ بأن يمجّدَ ذاك الذي افتداه، وإطاعته تنبع من قلب ممتلئ بالامتنان نحو ذاك الذي بذل حياته لأجله. إنه لا يحاول أن يجعل نفسه، أو أن يحفظ نفسه، أهلاً للسماء. لقد كان الرسول منزعجاً جداً مما سمعه لدرجة أنه جلس فوراً وخطَّ هذه الرسالةَ بنفسه. إنها تحتدم بالحرارة المتقدة الناجمة عن غيرته المتوهجة لإنجيل الله. كما قلنا تواً، إنه لم يكن من المعتاد للناس أن يكتبوا رسائلهم بأنفسهم في تلك الأيام. فكتابة الرسائل كانت مهنة منفصلة متميزة، كما لا يزال الحال عليه في بعض مدن الشرق اليوم. وإن كان لإنسانٍ أن يرسل العديد من الرسائل، فإنه كان يستخدم أحد محترفي كتابة الرسائل، وإن كانت لديه مراسلات كثيرة كان ليستخدم مختزلاً. فما كان ليقوم بكل المراسلات بنفسه. وكان الرسول (بولس) في العادة يملي رسائله على أشخاص مختلفين. وكانوا يكتبوها لأجله، ثم كان يوقّع عليه ويرسلها إلى المعنيين بها. ولكن في هذه الحالة هنا، من الواضح أنه لم يكن متوافراً لديه ناسخ أو مختزل بالقرب منه، وكان مهتاجاً جداً في داخله، لدرجة أنه لم يكن يطيق صبراً على تأجيل الرسالة، وهكذا جلس وكتبها بنفسه. ويشير إلى ذلك في الآية ١١:‏ "اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي!". لم تكن هذه الرسالة طويلة. فبالمقارنة مع رسالته إلى أهل رومية، نجدها قصيرةً. إنها لا تزيد عن ثلث طول الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ونصف طول الرسالة الثانية إلى كورنثوس. وبالمقارنة مع كتابات أخرى في العهد الجديد، فإنها تعتبر رسالةً قصيرةً موجزة بحق. ولكن إن لجأنا إلى ترجمة أكثر دقة نجد الفائدة أكبر. فالترجمة الأدق هي:‏ "انظروا ما أكبر الحروف التي كتبتُ بها إليكم بيدي نفسي". وهذا لا يدل فقط على أنه لم يكن معتاداً على كتابة الرسائل بنفسه وحسب، بل أيضاً أنه كان يعاني من مرض في عينيه، وكان غير قادر على أن يرى جيداً. أتذكرون مرةً عندما كان يُحاكَمُ في أورشليم، وأمر رئيسُ الكهنة بأن يُضربَ بولس على فمه، فرد بولس عليه ساخطاً وقائلاً:‏ "سَيَضْرِبُكَ اللهُ أَيُّهَا الْحَائِطُ الْمُبَيَّضُ!" (أع ٢٣:‏ ٣)، وقال أحدهم:‏ "«أَتَشْتِمُ رَئِيسَ كَهَنَةِ اللهِ؟»"، وفي الحال اعتذر وقال:‏ "«لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّهُ رَئِيسُ كَهَنَةٍ»". كان لا بد أن يعرفه، على الأقل من خلال ثيابه الكهنوتية، ولكن بولس كان في الركن البعيد من الحجرة ببصرٍ ضعيف، فلم يستطع أن يميز الرجل. ثم هناك النص الكتابي الذي يقترح نفس الأمر. فقد قال لتوه في هذه الرسالة:‏ "إَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي" (غل ٤:‏ ١٥). ما كانوا ليفعلون ذلك لو لم يكن بصره ضعيفاً. لذلك أعتقد أنه من الممكن أن سبب ذلك كان مرضاً في عينيه اضطر لتحمله لسنوات عديدة، ولذلك جلس ليكتب الرسالة كما لو كان نصف أعمى بأحرف كبيرة ممتدة منتشرة. وإذ كان يدرك أن المخطوطة التي كان سيرسلها لم تكن أنيقة مرتبة فإنه اعتذر عن ذلك بقوله:‏ "اُنْظُرُوا، مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي!". أعتقد أن الرسالة بأحرفها الكبيرة قد لامست قلب أولئك الغلاطيين، ولا بد أنها قد جعلتهم يدركون كم كان فعلاً يحبهم، وكم كان مهتماً بهم وقلقاً عليهم، حتى أنه لم يُطِقْ صبراً على الانتظار كي يكتبها بالطريقة المعتادة، بل أرسل هذه الرسالة بأسرع ما أمكنه بعد أن كتبها.

ثم يختم بالقول:‏ "جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَراً حَسَناً فِي الْجَسَدِ، هَؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا". لو أمكن الحفاظ على المسيحيين ضمن حظيرة اليهودية وجعلهم طائفة أخرى يهودية لأمكن تجنيبهم بذلك الكثير من الاضطهاد الذي تعرضوا له. ولذلك يقول الرسول بولس، إن هؤلاء المبعوثين من أورشليم الذين يجولون بينكم ليس لديهم خيرٌ لكم في قلوبهم، بل إنما يريدون أن يعملوا منظراً حسناً في الجسد؛ إنهم يريدون أن يحشدوا الكثير من الموالين والمشايعين للتعليم الذي ينادون به، ولكنهم لا يرون أن اسم الرب يسوع المسيح يلازمه فصل أو انفصال. كان ليمكنني أن أمضي معهم وأعمل منظراً حسناً في الجسد أيضاً، وبذلك لن يكون هناك اضطرار للتعرض للاضطهاد من أجل صليب المسيح. ذلك الصليب لم يكن فقط حيث تألم الرب يسوع المسيح من أجل خطايانا بل رمز الفصل. إنه يدل على مدى بغض العالم لابن الله، وبولس جعل تطابقاً بينه وبين ذاك الذي رفضه العالم بازدراء، ولذلك كان يفتخر بذلك الصليب.

عندما يستند الناس إلى أساس قانوني أو شرعي ويقولون لكم أن الخلاص هو بالجهود والمساعي البشرية، فإنهم أنفسهم لا يعيشون وفق اعتراف إيمانهم. لعلكم سمعتم البعض يقول:‏ "لا أعتقد أن على الناس أن يخلصوا بدم الرب يسوع المسيح. أعتقد أنه لو فعل كل امرئ ما في وسعه فهذا كل المرجو منه". هل رأيتم إنساناً فعل كل ما في وسعه؟ هل فعلتم أفضل ما تعلمون؟ تعلمون أنكم أخفقتم مراراً وتكراراً، حتى في تلك الأشياء التي كنتم تعرفون أنها صائبة، وأشياء لم تفعلوها بينما كان يجب أن تعملوها، وأشياء فعلتموها وكنتم تعلمون أنه ما كان يجب عليكم القيام بها. لذلك، فإن الحديث عن الخلاص بأن تعمل ما في وسعك سخيفٌ ومنافٍ للعقل. ما من امرئ فعل كل ما في وسعه، بالطبع ما عدا مخلصنا القدوس الطاهر الذي لا عيب فيه، الرب يسوع المسيح.

قد يقول أحدهم:‏ "يكفيني من الإنجيل أن أتبع ما جاء في العظة على الجبل". هذا قولٌ حسنٌ جداً. ولكن هل رأيتَ إنساناً فعل ذلك؟ أو هل عملتَ أنت هكذا؟ اختبروا أنفسكم بها. اقرأوا متى ٥، ٦، و ٧، واختبروا أنفسكم بصدق. تحققوا من أنفسكم، ولاحظوا كم تقصرون عن عيش هذه الوصايا الثمينة لهذا الخطاب الرائع الذي أدلى به الرب يسوع المسيح. علينا بلا شك أن نعيش أنا وأنتم وفقه. إنه يدل على نوع الحياة التي ينبغي على كل مؤمن أن يعيشها. ولكن إن لم تعش حسب العظة على الجبل، إما من ناحية إحراز الخلاص أو الحفاظ عليه، فإنك في الحال تضع نفسك خارج السرب. إنك لم تحيَ وفقها، وأخشى ألا تفعل ذلك، ولذلك فعليك أن تكون ممتناً وشاكراً لله بالفعل لأنه يخلص الخطأة البؤساء بالنعمة. قد يقول آخر:‏ "أعتقد أنه إن حفظنا الناموس الذي أعطاه الله على جبل سيناء (والذي يقول بولس عنه أنه مقدس، وعادل، وصالح)، فإن في ذلك تحقيقٌ لكل ما يطلبه الله أو الإنسان منا". أعتقد أن هذا الكلام معقول فيما يخص العيش الحقيقي. ولكن من جديد أطرح السؤال:‏ هل حفظتموه؟ هل تعرفون أحداً قد حفظه على الإطلاق؟ دعونا لا ننسى هذه الكلمات:‏ "لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ" (يعقوب ٢:‏ ١٠). ولذلك، وعلى هذا الأساس، ليس من أمل لأي أحد منا. "إن أخفقنا"، يقول البعض، "فإن الله أعطانا الأسرار". ولكن أولئك الذين يتحدثون بهذا الشكل ليسوا متأكدين أبداً من أنهم يحفظون الأسرار على نحو صحيح. أنى لك أن تعرف أنك تحافظ عليهم بشكل كامل؟ قد تخفق في نقاء الهدف وأنت تتناول عشاء الرب، أو في المعمودية. وحتى أولئك الذين يستندون إلى الجهد الذاتي كوسيلة لتحقيق الخلاص لا يحفظون الناموس بشكل كامل. إننا نخفق جميعاً، ولذلك نحن في حاجة لأن نميز حقيقة أن الخلاص هو فقط بنعمة الله المجانية والمنقطعة النظير.

إنهم يريدونكم أن تتبعوهم في تعاليمهم لكي يفتخروا بأجسادكم، على حد قول الرسول بولس. الناس يحبون التبعية، ويحبون أن ينضم إليهم الناس في أي موقف يتخذونه. إذ يخدم كبرياء القلب الطبيعي أن يكون قادراً على تزعّم مجموعة كبيرة.

إزاء كل الجهد البشري يضع بولسُ صليبَ مخلصنا المبارك:‏ "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ". عندما قال هذه الكلمات لم يكن يفكر فقط بتلك الأداة الخشبية التي مات عليها يسوع، وبالتأكيد ما كان يفكر بصليبٍ موضوعٍ على برج كنيسة، أو على مذبح كنيسة، ولا بصليبٍ يتدلى من سلسلة على صدرة أو عنقٍ، أو يرتديه أحدٌ كَحِلْيةٍ و زينةٍ. عندما كتب عن "صليب ربنا يسوع المسيح"، كان يفكّر بكل ما يتضمنه ذلك الصلب للمخلص المبارك على تلك الخشبة. إن صليب المسيح هو معيار بغض الإنسان لله. فكّروا في هذا الأمر. لقد أرسل الله ابنَه إلى العالم. ملايين من الناس تكلمت عن ذلك في موسم عيد ميلاد المسيح، والتجار اليوم يشجعون الناس على التقيد والاحتفال بمولده لكي يبيعوا بضائع أكثر. وستجد أنه حتى التاجر اليهودي سيتمنى لك عيد ميلاد مجيد إن اشتريتَ منه شيئاً ما. ولكنْ تذكروا ذلك، لقد أنبأنا العالمُ للتو بما يفكر به نحو المسيح. قد يحتفلون بمولده بالهدايا التي يقدمونها لبعضهم البعض، وقد يقيمون حفلات مهيبة واحتفالات عظيمة باسم المسيح المولود في بيت لحم، ولكن هذا العالم قد أظهر موقفَه من يسوع بأن أخذوه على عجل إلى الصليب الروماني. وعندما سأل بيلاطسُ:‏ "ماذا تريدون أن أفعل لكم بيسوع الذي يُدعى المسيح؟" صرخوا بصوت واحد متّفق أن:‏ "اصلبه" (متى ٢٧:‏ ٢٢)، وذاك هو المسيح الذي يعترفون بعبادته اليوم، إنه المسيح الذي صلبوه. بل حتى إنهم ليحتفلون بعيد ميلاد المسيح في خانات المدن، ويحتفون بميلاده بالشرب والسكر والعربدة في ليلة الميلاد أو يوم الميلاد. وسوف يسمّون ذلك محافظة على عيد ميلاد يسوع. إلا أن مسيح بيت لحم هو مسيح الصليب، والعالم قد أطلق حكمه عليه. لقد قالوا:‏ "لا نريد هذا الإنسان أن يملك علينا". ويقول بولس الرسول:‏ "حسناً. إني أناصر هذا الرجل الذي رفضه العالم". وعندما يقول:‏ "حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ"، فكأنه يقول بطريقة أخرى:‏ "إن افتخاري، وفرحي، ومسرتي هي في ذاك الذي صلبه العالم". ١.

إذاً صليبُ المسيح كان المكان الذي أظهر الله فيه محبته بكامل امتلائها. "فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ:‏ لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا" (١ يوحنا ٤:‏ ١٠). عندما فعل الإنسانُ أسوأ ما أمكنه، بذل الله أفضل ما عنده. عندما قال الإنسانُ:‏ "خذه بعيداً! اصلبْه!"، قبِلَه الله بديلاً عن الخطاة، ووقعت عليه الدينونة التي كانت تستحقها خطايانا. ولذلك فعندما قال بولس:‏ "أَفْتَخِرَ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ"، فإنه كان يقصد أن يقول:‏ أفتخر بالمحبة التي أعطانيها يسوع بموته عني أنا الخاطئ.

ولكنه أظهر أن موت المسيح هو موتي وأن عليّ أن أتخذ مكاني معه، معتبراً أن موته هو موتي:‏ في ٢:‏ ٢٠، نقرأ:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". عندما يقول بولس:‏ "أَفْتَخِرَ بِصَلِيبِ المسيحِ"، فإنه يقصد أن يقول:‏ أقبل صليبَ المسيح صليباً لي؛ أقبل موتَه موتاً لي؛ وآخذُ مكاني معه في كونه مات عن العالم، والخطيئة، وعن الذات، ومن الآن وصاعداً لستُ تحت الناموس بل تحت النعمة. لقد صلبَ الناموسُ مخلصي. لقد استوفى مطالبه عند ذلك الصليب، والآن، وقد تحققت جميعُ مطالبه، فقد تحررتُ من سلطته وأنا حرٌ لأن أسلك أمام الله في النعمة، ساعياً لأن أمجّده في حياة من الطاعة السعيدة لأني أحب ذاك الذي مات هناك ليزيل خطيئتي. كل هذه، وأكثر من ذلك بكثير، يتضمنه التعبير:‏ "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ".

أيها المسيحيون، هل اتخذتم هذا الموقف؟ هل تدركون أن صليب المسيح يعني الانفصال الكامل عن العالم الذي رفضه؟ هذا ما نعترف به باعتمادنا؛ وهذا هو ما تعنيه المعمودية المسيحية. لقد سمعتُ من كثيرين عن مؤمن فكَّر مليّاً ولوقت طويل قبل أن اتخذ خطوة اقتبال المعمودية لأنه كان يخشى ألا يكون قادراً على أن يحيا وفق ما يمليه عليه هذا الطقس الجميل، وبالطبع فإننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بمعزل عن المسيح. ولكن ما الذي يشتمله ذلك؟ تمييزاً وإدراكاً مني بأني قد دُفِنْتُ معه، وأن هذه هي نهاية حياتي كإنسانٍ يحيا بحسب الجسد. ولذلك فقد أُقِمْتُ مع المسيح لأسلك في جدّة الحياة.

أذكر بعض الأخوة الذين كانوا يتحدثون عن علاقة مسيحي بجماعات ذوي ممارسات سرية يحلفون على إبقائها طي الكتمان. [يخبرنا الكتاب المقدس عن الرب يسوع أنه قال:‏ "فِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ" (١٨:‏ ٢٠). ومن هنا أعرف أنه لم يكن أبداً ضمن أي جماعة أو نظام أقسم أعضاءه على كتمان أمرهم، وأنه دعاني لأكون تابعاً له]. قال أحد هؤلاء الأخوة للآخر:‏ "إنك تنتمي إلى الجماعة كذا".

فأجاب:‏ "لا . لستُ كذلك".

فقال الآخر:‏ "بلى. أعرف ذلك. فقد كنتُ هناك في تلك الليلة التي أُدْخِلْتَ في عضويتهم، وعندما ينتمي شخصٌ إلى تلك الجماعة فإنه يبقى فيها حتى الموت".

  • "نعم، بالضبط. وإني أقر بما تقول. ولكني قد دفنتُ وثيقة عضويتي في قاع بحيرة أونتاريو".

لقد قصد أن يقول أنه بمعموديته قد آل النظام القديم إلى زوال.

سمعتُ عن امرأة فتية عزيزة كانت مُحِبة للدنيا ومنغمسة في شؤونها كلياً، ولكنها أتت في نهاية المطاف إلى المعرفة التي تخلص بالرب يسوع. وجاء أصدقاؤها إلى عيد ميلادها في مساء أحد الأيام ليقيموا حفلة مفاجئة لها، وأرادوا أن يأخذوها معهم إلى مكان فيه تسلية دنيوية غير سليمة. فقالت:‏ "جميلٌ منكم أن تفكروا بي، لكني لا أستطيع أن أذهب معكم. فأنا لا أذهب أبداً إلى هذه الأماكن".

  • "هراء. لطالما ذهبتِ معنا إلى هناك".
  • "ولكني دفنتُ الفتاة التي اعتادت أن تذهب إلى تلك الأماكن".

"لستُ أنا الذي أحيا، بل المسيح يحيا فيَّ".

المعمودية المسيحية يجب أن تدل على انفصال عن العالم الذي صلَبَ الرب يسوع المسيح. انظروا إلى إسرائيل. لقد كانوا دائمً مستعبَدين لفرعون، وهناك فرعون قديم على الجانب الآخر من البحر، وهو يصرخ أن:‏ "عودوا إلى هنا واخدموني؛ ضعوا أعناقكم تحت نير عبوديتي من جديد". ويخيل إلي أني أسمعهم يقولون:‏ "وداعاً يا فرعون. فالبحر الأحمر يفصل بموجه بيننا. لقد صُلِبْنا لمصر ومصر لنا". ومن هنا القول:‏ "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ". وهكذا صُلِبَ العالمُ لي وأنا للعالم. دعوني أوجه كلمة تحذير هنا. لقد حكم كثيرون على أشياء العالم القذرة، والبذيئة، والفاسدة، والدنسة، ولم يحكموا على العالم المتألق، المثقف، الجميل. إلا أن العالم المتألق، المثقف هو قذرٌ في عيني الله كمثل كثيرين سلكوا معه، قبل أيام من اهتدائهم. يمكنك الخروج من صحبة وشركة الله باتصالك بالعالم المثقف، كما لو أنك تنزل إلى أسفل العالم، والأماكن غير الورعة لوسائل التسلية السوقية.

أيها المسيحيون، ابقوا على مقربة من موطئ أقدام قطيع المسيح، ولا تدعوهم يلاقونكم في الحقول الأخرى. ها هنا ختان حقيقي. لقد كان الختان طقساً يرمز إلى موت الجسد. "فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ المخلوق الجديد"، أو حرفياً:‏ "الخليقة الجديدة". وهذا هو كل ما في الأمر. أنت وأنا من خلال الصليب قد خرجنا من الخليقة القديمة، إن كنا قد خلصنا، وأصبحنا الآن في الخليقة الجديدة التي رئيسها الممجد هو المسيح. انظر إذاً إلى علاقاتك، ومسراتك، وتسليتك، وحياتك الدينية، واحرص على أن تحفظ نفسك في تلك الدنيا التي يٌعتَرَفُ فيها بالمسيح رئيساً ورباً.

ثم يضيف قائلاً:‏ "فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا الْقَانُونِ"-‏ أي قانون؟ فهو لم يضعْ أي قانون. نعم، لقد قال أننا خليقة جديدة. هذه هي الطريقة لامتحان أي شيء يوضع أمامنا. أهو من الخليقة القديمة أم الجديدة؟ إن كان من القديمة، فلا علاقة لي به. فأنا أنتمي إلى الخليقة الجديدة وعليَّ أن أسلك بحسب هذا القانون. "فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هَذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ"، لأنهم سيحتاجون إلى الرحمة على الدوام. سوف لن يحرزوا الكمال في هذه الحياة، إلا أن الله لا ينسى خاصته أبداً. أحياناً ننجرف كثيراً حتى أننا ننساه، بل حتى نشعر كأن قلوبنا قد فترت محبتها له، وكأنه قد تخلى عنا، ولكن دعونا نتذكر دائماً القول:‏ "لا أتركك، لا أهملك" (عب ١٣:‏ ٥). هناك نفي مزدوج في الأصل، فالقول هو:‏ "سوف لن أتركك، أبداً، أبداً، ولن أتخلى عنك". وما من شك في أن الرب المبارك سوف لن يتخلََّ عمن وضع ثقة إيمانه في يسوع، ولذلك فهو دائماً يتعامل معنا برحمة، مسترداً أنفسنا عندما نخفق.

ثم يستخدم الرسول تعبيراً خاصاً ومميزاً جداً:‏ "وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللهِ". فمن يقصد بقوله "إِسْرَائِيلِ اللهِ"؟ لا أعتقد أنه يشير إلى الكنيسة أو ما شابه ذلك، لأنه قد أشار لذلك تواً عندما تكلم عن الخليقة الجديدة. أعتقد أنه يرى إسرائيل الحقيقي في أناس الله الأرضيين الذين يقبلون حقاً شهادة الله والذين يعترفون بخطيئتهم ويؤمنون بالمخلص الذي قدّمه الله. "لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ" (رو ٩:‏ ٦). أن يكون المرء مولوداًً من نسل إبراهيم لا يجعله ابناً لإبراهيم. كما وأنه إن كان إنسانٌ مولوداً من إسرائيل لا يجعله إسرائيلياً. عليه أن يمتلك إيمان إبراهيم ليبارَكَ مع إبراهيم المؤمن المخلص، وعليه أن يقتبل المخلص الذي جاء بإسرائيل إن كان يريد أن يُعتبر إسرائيلياً حقيقياً.

أما الآن وقد جعل هؤلاء المهوِّدون علامةً مميزة جداً على الجسد من خلال طقس وقالوا أن الإنسان الذي لا يحمل تلك العلامة يُعتبر نجساً وغير مؤهل لعلاقة الشركة مع المسيحيين، فيقول بولس:‏ لدي علامة أفضل من أي شيء تتكلمون عنه:‏ "فِي مَا بَعْدُ لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَاباً، لأَنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ". ما الذي عناه بذلك؟ إن جسده كان قد تجرح عدة مرات كرمى ليسوع، عندما انهالت عليه تلك الحجارة القاسية في لسترة، وعندما جُلِدَ بالسياط وُسِمَ جسَدُهُ، ولكنه يفتخر بتلك الأمور ويقول:‏ "إنِّي حَامِلٌ فِي جَسَدِي سِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ". يقول أحدهم:‏ "عندما نصل إلى السماء لن ينظر الله إلى أوسمتنا بل إلى الندوب على أجسادنا". أتساءل إن كنا قد تلقينا أية ندوب من أجل يسوع. إن الكثير من هذه الندوب ليست جسدية، بل هي ندوب في القلب، ولكنه أمر عظيم أن تكون لدينا سمات الرب يسوع.

والآن يختم بولس هذه الرسالة بدون أية تحيات أو سلامات. ففي حين كانت معظم رسائله تحوي الكثير من التحيات لمختلف الناس، إلا أننا نجد هنا أنه لم يرسل أية تحية خاصة أو توصية لأحد منهم، ذلك لأنهم، وكما تلاحظون، كانوا يتلاعبون بسرعة وباستخفاف بأمور الله، ولن تكون هناك فائدة، بعد أن كتب لهم هذه الرسالة الشديدة اللهجة، من أن يسترضيهم بإرسال تحيات حارة قلبية للأخوة في المسيح وكأنه لم يحدث ما يعيق حياة الشركة. ولذلك يكتفي بالقول:‏ "نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. آمِينَ". ليعطِنا الله جميعاً أن نتمتع بتلك النعمة.


١. كانت هذه الخطبة قد ألقيت خلال موسم عيد الميلاد.