محاضرة ١٠

أَرْكَانِ الْعَالَمِ

(غل ٤:‏ ٨-‏ ٢٠)

"لَكِنْ حِينَئِذٍ إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اللهَ اسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِالطَّبِيعَةِ آلِهَةً. وَأَمَّا الآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ اللهَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللهِ، فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟ أَتَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ؟ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً! أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضاً كَمَا أَنْتُمْ. لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئاً. وَلَكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ. وَتَجْرِبَتِي الَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا، بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللهِ قَبِلْتُمُونِي، كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَمَاذَا كَانَ إِذاً تَطْوِيبُكُمْ؟ لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي. أَفَقَدْ صِرْتُ إِذاً عَدُوّاً لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ؟ يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَناً، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ. حَسَنَةٌ هِيَ الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ، وَلَيْسَ حِينَ حُضُورِي عِنْدَكُمْ فَقَطْ. يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ. وَلَكِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِراً عِنْدَكُمُ الآنَ وَأُغَيِّرَ صَوْتِي، لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ!"

"لَكِنْ حِينَئِذٍ إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اللهَ اسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِالطَّبِيعَةِ آلِهَةً". لقد رأينا في هذه الرسالة أن الغلاطيين، الذين كانوا قد أُخرجوا من عتمة الوثنية إلى نور وحرية الإنجيل عن طريق خدمة الرسول بولس، قد وقعوا-‏ إن أمكنني القول-‏  تحت سحر معلمين متهودين معينين كانوا يحملونهم على الخضوع إلى ناموس موسى، قائلين لهم أنهم ما لم يختتنوا ويحفظوا ناموس موسى لا يمكن أن يخلصوا، فبينما كانوا قد بدأوا بالإيمان، صار لزاماً عليهم أن يكملوا خلاصهم بأعمالهم الذاتية، فيستحقون الأهلية بطاعة أوامر الناموس. كان الرسول بولس قد أظهر لهم أن الناموس كان بمقدوره أن يدين وحسب، أن يقتل وحسب لا أن يبرر ويعطي الحياة ولا أن يقدس، وأن تقديسنا بالإيمان هو أمر حقيقي كما هو حال تبريرنا.

والآن يقنعهم بالحجة والمنطق، محاولاً أن يُظهر حماقة سلوكهم في تخليهم عن المسيحية بكل حريتها ونورها من أجل الضوء المنتقص والعبودية التي في اليهودية. فيقول:‏ "ما بالكم؟ لقد كنتم وثنيين عندما أتيت إليكم. لقد كنتم مستعبدين للعادات الوثنية، وكنتم تخدمون أولئك لذين تعتبرونهم آلهة وليسوا هم هكذا، وكنتم تعبدون الأصنام، وتعلمون أنه في تلك الأيام كانت الكاهنة الوثنية تضللكم. وأماكن معينة ماكنتم تستطيعون الذهاب إليها، وأشياء ما كنتم تستطيعون أن تلمسوها. كانت هناك أنوع مختلفة من التقدمات كان عليكم أن تحضروها، وكان هناك تعويذات ضد الأرواح الشريرة، وتمائم، وطلاسم. كنتم عبيداً لعادات دنيوية في أيام وثنيتكم تلك. إن ما يذهلني ويحيرني هو استعدادكم للدخول في عبودية أخرى بعد أن عرفتم واختبرتم حرية النعمة".

"وَأَمَّا الآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ اللهَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللهِ، فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟" لاحظوا هذه العبارة:‏ "إِذْ عَرَفْتُمُ اللهَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللهِ". هناك جانبان لهذا القول. غالباً ما نقول للناس:‏ "هل تعرفون يسوع؟" ولكن يتطلب الأمر أشياء أخرى لندرك بأن يسوع يعرفكم لتكونوا قادرين على القول:‏ "الحمد لله، هو يعرفني. وكن يعرف عن خطيئتي وقد أحبني وسلم ذاته لأجلي". ونقول أحياناً:‏ "هل وجدت يسوع؟" بالطبع إن كلمة الله يقول:‏ "اطلبوا تجدوا". ويطلب منا الرب أن "ادعوه فهو قريب"، ولكنها حقيقة أكثر روعة هي أنه هو من يبحث عنا ويسعى إلينا ويطلبنا. لقد سمعنا قصة الصبي الصغير الذي كان عامل مسيحي قد بادره بالحديث قائلاً له:‏ "يابني، هل وجدت يسوع؟" فرفع صاحبنا الصغير بصره إليه بنظرة حيرة وقلق وقال له:‏ "لماذا يا سيدي. فأنا لم أكن أعرف أنه كن ضالاً. بل أنا من كان ضائعاً، وهو وجدني". هذه هي المسألة.

"كنت ضائعاً، إلا أن يسوع وجدني
وجد الخروف الذي ضلّ الطريق.
ألقى بذراعيه الحانيتين وأحاط بي،
وأعادني إلى سبيله".

لقد عرفني مطولاً قبل أن أعرفه. وهو يعرفني الآن مذ آمنت بالمسيح، كابن له، ويقول بولس:‏ "أليس من العار أنكم بعد أن عرفتم الله، أو عرفتم عن الله، وبعد أن أتيتم إلى هذه العلاقة المباركة معه كأب لكم، إن كنتم تعرفون حقاً معنى أن تكونوا قد ولدتم من جديد، أوليس من الغريب أيضاً أنكم انتقلتم الآن إلى نظام تشريعي يشابه ذاك الذي تحررتم منه عندما أتيتم أولاً إلى المعرفة التي تُخلِّص، إلى معرفة الرب يسوع المسيح؟" "فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟" قد يسأل أحدهم:‏ "ولكن ما الذي تقصده؟ لقد كانوا ينعطفون نحو الناموس، إلى التقيد بالأعياد اليهودية والسبوت اليهودية، والطقوس اليهودية. ولكنهم لم يعرفوا هذه الأشياء في أيام وثنيتهم. لماذا يقول:‏ "كيف ترجعون ايضاً؟" لقد كان المبدأ هو نفسه تماماً. لماذا يتبع الوثنيون طقوسهم والشكليات المتعلقة بهم؟ لأنهم يأملون أن ينالوا الاستحسان والجدارة وأن يخلصوا أنفسهم. ولماذا كان اليهود يمارسون كل شعائرهم وطقوسهم؟ ذلك لكي يرضوا الله بتلك الطريقة، وهكذا ينالون لجدارة وأخيراً يخلصون نفوسهم. فالمبدأ هو نفسه تماماً سواء كنت تحاول أن تخلص نفسك بتقديم ابنك ذاته قرباناً أو أعز شيء تملكه على مذبح وثني، أو كنت تحفظ السبت-‏ اليوم السابع، كما يفعل بعض الناس اليوم، ويرجون بذلك أن يخلصوا أنفسهم، أو كنت تلتزم بأيام الأعياد الوثنية وترجو أن تسر الآلهة الوثنية بهذا الشكل. لقد تحققت الاحتفالات اليهودية في المسيح، وسوف لن نرجع إليها، على رجاء أن نرضي الله بالالتزام بها. لقد كان لها دورٌ يوماً. وكان على رجال الإيمان أن يتقيدوا بها طاعة لكلمة الله. ولكن لم يعد لهذه دور بعد، لأنَّ "غَايَةَ النَّامُوسِ هِيَ:‏ الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ" (رومية ١٠:‏ ٤). كل تلك الطقوس كانت مجرد رموز أو ظلال للأشياء التي ستأتي. وبما أن الحق قد أتى. فلماذا نعود إلى الرموز، لن ننشغل بالرمز طالما أن لدينا المرموز إليه. سوف لن ننشغل بالصور في حين أن لدينا الواقع الحقيقي. إن مبدأ العالم، بالطبع، هو أن نحاول نيل الخلاص بالأعمال التي نقوم بها ذاتياً.

هناك ديانتان وحسب في العالم، ديانة حقيقية وأخرى زائفة. كل أشكال الديانة الزائفة تتشابه مع بعضها، وهي جميعاً تقول:‏ "آتي بشيء في يدي". والفرق الوحيد هو ماهية هذا الشيء. أما الديانة الحقيقية الإعلان الذي من السماء، فيقود الإنسان إلى أن يرنم قائلاً:‏ "لم آتي بشيء معي". تقول المسيحية:‏ "لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ -‏خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (تيطس ٣:‏ ٥). نرى المسيحيين اليوم قد التجئوا إلى الرموز والصور كوسيلة تساعدهم روحياً، ولكنهم بذلك إنما يرجعون إلى أركان العالم. لو سألت وثنياً:‏ "هل هذا الصنم إلهك؟". لكان سيقول لك:‏ "نعم". ولكن الوثني الذكي سيجيب قائلاً:‏ "لا. لست أعتبر هذا الصنم إلهي تماماً. بل إنه يمثل إلهي. إنه يساعدني على الدخول في صلة حميميّة مع إلهي". وإننا نرى نفس الشيء تماماً في العالم المسيحي حيث تمتلئ بعض الكنائس بالصور. هي ليست صور الإله مارس، وجوبيتر، وفينوس، وإيزيس، أو زيريس، بل صور مشابهة-‏ صور للقديس يوسف، والقديس برنابا، والقديس بولس، والرسل الاثني عشر، والعذراء مريم المباركة، بل وحتى المسيح، وتشعل الشموع أمامهم وينحني الناس أمامهم. فإن سألنا:‏ "لماذا لا تعبدون الله؟ لماذا تعبدون هذه الصور؟" لأجابوا:‏ "إننا لا نعبدها؛ بل نبجلها، وهي عبارة عن وسائل مساعدة للعبادة. فهذه الصور تساعد في تحريض أرواحنا وتساعدنا على العبادة".

سمعت يوماً قساً بروتستانتياً يتحدث إلى مجموعة من القسوس فقال:‏ "أجد أنه من المفيد جداً أن يكون أمامي صورة جميلة جداً للمسيح المتوج بإكليل الشوك". وذكر لوحة لفنان معين وقال:‏ "لدي تلك اللوحة ذات الإطار، وعندما أريد أن آتي إلى الرب أود أن أزيل من فكري كل شيء آخر وأن أجلس وأتأمل في تلك الصورة لبرهة، فأبدأ بالإدراك أكثر فأكثر لما فعله الله من أجلي. وهذا يشد قلبي إلى العبادة والتوقير". "كَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟". ليس من رسام على وجه الأرض يمكنه أن يرسم مسيحي. عليك أن تذهب إلى الكتاب المقدس لتحصل على تلك الصورة. إن أردتم أن تُحرضوا روحياً وأن تدخلوا في روح تعبدية، فانكبوا على كتابكم المقدس واقرأوا الأصحاح ٥٣ من أشعياء، أو السرد الوارد في الأناجيل عما أنجزه المسيح، وإذ أنتم منشغلين بحقيقة الله، سينسكب قلبكم في العبادة. لستم بحاجة إلى صور لتساعدكم في العبادة. فما هذه إلا "أركان ضعيفة فقيرة" للعالم. في تدبير النعمة لربنا يسوع المسيح علينا أن نعبد "بالروح والحق".

ولذلك يقول الرسول بولس:‏ "يؤسفني أن أراكم قد رجعتم على هذه الأشياء"-‏  "إنكم تَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ". أي أنهم كانوا يرجعون على السبوت اليهودية وأيام الأعياد، والاحتفالات الأخرى، والسنة اليهودية السبتية، وسنة اليوبيل. ولكن، كما ترون، هذه الأشياء لا تخصنا ولا تنطبق علينا اليوم. لماذا؟ لأن يوم السبت اليهودي قد وجد تحقيقه فيه ذاك الذي قال:‏ "تعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (متى ١١:‏ ٢٨). "تبقى بقية (من يحفظون السبت الحقيقي) من شعب الله" لقد وجدنا سبتنا في المسيح، ولذلك فإنا نقدس اليوم الأول في الأسبوع، يوم قيامته، لا لكي نستحق الأهليةً بل لأنه يسرنا أن يكون لدينا امتياز أن نأتي معاً كجماعة من المؤمنين المتعبدين وأن نستفيد من فرصة الكرازة بإنجيل نعمة الله. ذلك السبت-‏ اليوم السابع كان ذكرى تحرر إسرائيل من مصر. وهذا لا ينطبق علينا، ووجدنا تحقيقه في المسيح. قد يسأل أحدهم:‏ "هل أنت على تمام اليقين بأن السبت الناموسي هو ضمن الرموز؟". نعم، لنفتح الكتاب المقدس على الآية (كولوسي ٢:‏ ١٦، ١٧):‏ "فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أحَدٌ فِي أكْلٍ أوْ شُرْبٍ، أوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أوْ هِلاَلٍ أوْ سَبْتٍ، الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ". ألا ترون؟-‏ لقد كان سبت العهد القديم، استراحة يوم من أصل سبعة أيام. والآن لدي يسوع، ولدي استراحة سبعة أيام من أصل سبعة أيام. لدي استراحة فيه على الدوام، وقد تحررت من سبت الناموس.

ثم كانت هناك الأشهر المقدسة، كان هناك الشهر الذي كانوا يقيمون فيه عيد الفصح وعيد البواكير (عيد الحصاد). ثم الشهر السابع، والذي فيه كان يوم الكفارة العظيم وعيد المظال. ولكن دلالات كل تلك الاشهر والأعياد تحققت في المسيح. فهو الفصح الحقيقي:‏ "إنّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ" (١ كو ٥:‏ ٧، ٨). إن عيد الحصاد قد وجد تحقيقه في قيامة المسيح، وهو الذي قال:‏ "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ" (يوحنا ١٢:‏ ٢٤). لقد وقع المسيح إلى الأرض بالموت، وصار الآن باكورة أولئك الذين رقدوا، وإننا نعبده بعرفان بالجميل على كل ما يعنيه هذا لنا. لقد وجد يوم الكفارة العظيم تحقيقه أيضاً على الصليب. فكان الرب يسوع المسيح هو الأضحية المقدمة قرباناً والتي صنع دمه الثمين كفارة مصالحة للنفس.نقرأ في الكتاب:‏ "لأنَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ فَأنَا أعْطَيْتُكُمْ إيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ لأنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ" (لاويين ١٧:‏ ١١). هذا كله تحقق في يسوع. وهو التحقيق الحقيقي لعيد المظال، العيد الذي يحملنا على انتظار عودته ثانية عندما سيأتينا بالبر الأبدي. لقد أُعطيت جميعها لتشير مسبقاً إلى مجيء ابن الله المبارك وعمله الرائع العجيب.

"إنكم تَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ". لقد دفع كثيرون من الإسرائيليين في العادة السيئة بأن يستشيروا منجمين وآخرين وهكذا عُرفوا كمراقبين للأوقات، ولكن هذا كان مخالفاً لفكر الله بشكل واضح، ويربطه بالشياطين. ليس للمسيحيين أية علاقة بأي شيء من هذا القبيل ثم كانوا يراقبون ويلتزمون بالسنوات المقدسة. فكانت هناك السنة السبتية وكل سابع سنة كان يجب أن تُخصص أو تكرس كسبت للرب. لا يمكنك أن تنتقي أشياء معينة من الناموس وأن تحفظها وحدها وحسب. إن كنت ملزماً بحفظ يوم السبت السابع، فإنك ملزم بأن تحفظ سنة السبت السابعة أيضاً. ولكن بولس يقول بأننا كمسيحيين قد تحرررنا من كل ذلك. لقد كانت مجرد عبودية وقد تحررنا منها.

"أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً!". لقد شك فعلاً فيما إذا كانوا قد اهتدوا حقاً. لقد تذكر كيف أنهم قد اعترفوا بخطاياهم والفرحة التي كانت تغمرهم. والآن يقول لهم:‏ "ألم يكن ذلك حقيقياً؟" قد يشعر الإنسان في أغلب الأحيان. فالبعض يبدأون بداية جيدة ويبدو ظاهرياً أنهم مسيحيون حقيقيون، ولكن سرعان ما تجد أنهم يؤخذون بأمر غير كتابي، وتتساءل فيما إذا كان ذلك كله خطأً. إن خلُص الناس، فإن الروح القدس يختمهم. إنه روح الحق وهو يأتي ليرشدهم إلى الحق الكامل. الحمدلله، فأحياناً يتعافون، ومن ثم نعرف بأنهم كانوا حقيقيين. ولكن إن لم يتعافوا فإننا نقرأ:‏ "مِنَّا خَرَجُوا، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لَكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا" (١ يوحنا ٢:‏ ١٩).

والآن يتوجه مباشرة إلى أولئك المهتدين على يده، وبأجمل أسلوب مليء بالحب والحنان يقول:‏ "أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضاً كَمَا أَنْتُمْ. لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئاً". ما الذي يقصده بذلك؟ إنه يقول لهم عملياً:‏ "كان هناك وقت في حياتي كنت فيه أتقيد بكل هذه الأمور التي تدخلون فيها الآن. وذلك عندما كان كل رجائي بالسماء يستند على أن أصنع براً بذاتي. وكنت دقيقاً في إتباع الشكليات بكل هذه الأشياء التي تتبنونها الآن. لقد تقيدت واحتفلت بعيد الفصح، وحفظت عيد الحصاد، وطقوس يوم التكفير، وحفظت عيد المظال. لقد قمت بكل تلك الأشياء التي تعنون بالقيام بها الآن. وكنت حريصاً منتبهاً إلى أمور اللحوم والمشروبات، وكنت أرى بعض الأطعمة بخسة وليس لي علاقة بها، ولكني أتيت إليكم كواحد منكم. أنتم لم تعرفوا شيئاً عن الناموس، وأنا جئت إليكم كإنسان تحرر كلياً من ناموس موسى، وأعتقد تماماً منه. أتمنى لو أنكم توافوا إلى حيث أنا. كونوا معي الآن كما أنا. فأنا لست تحت الناموس بل تحت النعمة. وأريدكم أن تكونوا تحت النعمة لا تحت الناموس". أمام الله. كانوا فعلياً هكذا، بالطبع، إن كانوا قد خلصوا حقاً، ولكنه كان ليرغب أن يكونوا هكذا بالروح.

ويقول لنا في مكان آخر كيف كان موقفه:‏ "اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ. فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ -‏ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ لِلَّهِ بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ (إذ أني لستُ بدون ناموس الله، بل تحت الناموس للمسيح) -‏ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ" (١ كو ٩:‏ ٢٠، ٢١).

دعوني أوضح موقع بولس. لنعتبر أن هذه المنضدة تشير إليه. إنه يقف في الوسط بين الطرفين. فإلى اليمين هناك أولئك الذين تحت الناموس، أي اليهود؛ وإلى اليسار هناك تحت الناموس ليس لديهم الناموس، أي الأمميين الذين لم يعرفوا شيئاً عن ناموس موسى. والآن يقول:‏ "أنا لست أنتمي إلى أي من الفريقين لأني خلصت بالنعمة، ولكني أقف هنا بين الطرفين، وإذ قد تجددت فإني خاضع للمسيح، لكي أصل إلى اليهودي فإني أُمضي إلى هناك حيث يكون، وإني على استعداد أن أجالسه وأشاركه نوع الطعام الذي يأكله، وأن أذهب معه إلى مجمعه، لكي تسمح لي الفرصة لأكرز له بالإنجيل. وسأستخدم ناموس موسى لأريه خطيئته، والأنبياء لأريه المخلص. ثم أذهب إلى الأمميين، ولكني لا أكرز بناموس موسى لهم". كان ليقول:‏ "عندما أتيت بينكم اتخذت مكاني كإنسان ليس تحت الناموس، بل في حرية النعمة، وكرزت بالمسيح لكم كمخلص لكل الذين يؤمنون. أود لو تقدِّرون ذلك لكيما تقفوا معي. إنكم تتركوني وتذهبون إلى المكان الذي أخرجني منه الله قبل أن خلّصني. ألا ترون الخطأ الذي ترتكبونه؟ إنكم تتخلون عن النعمة من أجل الناموس".

"وَلَكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ. وَتَجْرِبَتِي الَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا، بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللهِ قَبِلْتُمُونِي، كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ". لقد كان يسعى لأن يلامس قلوبهم بتذكيرهم بالأيام الأولى التي جاء فيها إلى أنطاكيّةَ في بيسيديّةَ، إيقونيَّةَ، ولِسْترَةَ، ودَربَةَ، وكرز بالكلمة بينهم. كل هذه كانتمدن غلاطية. هل جاء في موكب أبهةٍ عظيم ومراسم و وتشريفات وألبسة فاخرة فخمة، وشموع وصور؟ لا. ليس شيء من هذا القبيل. لم يأتي ككاهن عظيم ومقتدر أو كشخص يعلن أن لديه سلطة عليهم، بل كإنسان متواضع يكرز بالمسيح وإياه مصلوباً. "تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ".

لقد استخدم الله بولس ليشفي العديد من المرضى، ولكنه لم يشف نفسه، ولم يطلب من أحد إلا الله أن يشفيه. لقد صلّى إلى الله ثلاث مرات لكي يُعتقه من المرض، لكن الله قال له:‏ "سوف لن أحررك ولكن-‏ تكفيك نعمتي". ويجيب بولس قائلاً:‏ "فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ" (٢ كو ١٢:‏ ٩). لقد كان مريضاً لسنين وهو يكرز بالإنجيل. كان ليأتي وسط الناس ضعيفاً ومتعباً ومرهقاً، وعندما لا يكون هناك ما يكفي من المال ليَعول نفسه كان يذهب إلى العمل ويصنع الخيام لكي يكسب نقوداً ليقتات، ومن ثم كان يذهب ليلاً ويبحث عن أناس ليكرز لهم بالمسيح. لقد استودع الإنجيل عند أولئك الغلاطيين بخدمته التي تميزت نكران الذات واستعداده لأن يتألم. وإذ كانوا (وهم الوثنيون البؤساء في تلك الأيام) ينظرون إليه كانوا يتعجبون من أنه كان ولا بد يحبهم كثيراً، وكانوا يعجبون برسالته ويؤمنون بها ويخلصون.  والآن هو يقول:‏ "لقد أضعتم كل ذلك. وما عدتم تهتمون بي أبداً. لقد سرتم خلف أولئك المعلمين الكذبة، وخسرتم الفرح الذي كان لكم:‏" "فَمَاذَا كَانَ إِذاً تَطْوِيبُكُمْ؟ لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي". أعتقد أن الألم الذي احتمله كان له علاقة بعينيه. فعلى الأرجح أنه كان لديه مرض أو علة ما في عينيه جعلت إمكانية القراءة أو رؤية الجمهور صعبة بالنسبة له، وجعلت حضوره خجولاً عندما كان يقف على المنضدة. ومن الممكن أنهم قالوا:‏ "يا لبولس المسكين! لو أمكننا أن نقدم له أعيننا لفعلنا ذلك مسرورين". هذا ما كانوا يشعرون به لفترة ما. "أَفَقَدْ صِرْتُ إِذاً عَدُوّاً لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ؟" هؤلاء المعلمون الأشرار هم الذين أزعجوهم.

"يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَناً، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ". بمعنى آخر، لقد جعلوا منكم فريسة بتعاليمهم المزيفة الكاذبة، محاولين أن يؤثروا عليكم على نحو معاكس لكي تحتشدوا حولهم، لأنهم يريدون أن يقيموا لهم حزباً صغيراً خاصاً بهم. إنهم لا يسعون إلى خيركم، بل يحاولون أن يمدوا تأثيرهم. "حَسَنَةٌ هِيَ الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ، وَلَيْسَ حِينَ حُضُورِي عِنْدَكُمْ فَقَطْ". أي حسنٌ للإنسان أن يكون غيوراً فيما هو حق، حسنٌ أن يمضي وراء الناس بالحقيقة وأن يأتي بهم إلى النور، وأولئك الذين يبدأون في الحقيقة عليهم أن يستمروا فيها.

والآن يقول في بلواه وألمه العميق:‏ "يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ". بمعنى آخر، أتذكر عندما خلصتم، لقد مررت بنفس آلام مخاض الولادة في روحي، والآن أمر بها من جديد لأني في حالة قلق عليكم. "كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِراً عِنْدَكُمُ الآنَ وَأُغَيِّرَ صَوْتِي، لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ!". أي "أكتب لكم أشياء قاسية شديدة اللهجة، ولكني كنت أود لو أتكلم بحنوٍّ ومحبة إليكم لو كنت معكم. ولكني لست مطمئناً إلى حالتكم". الدين الزائف لا يمكن أبداً أن يعطي يقيناً، ولكن الإنجيل المجيد المبارك لنعمة الله يفعل ذلك. إنه يضمن لنا بشكل كامل الخلاص المكتمل والنهائي إذا ما آمنا بالله. فمن سيتنحى إذاً عمداً عن الحرية التي لنا في المسيح يسوع إلى عبودية نظام زائف؟