الفصل ٢٦

أعياد الرب السبعة

(اقرأ لاويين ٣٢)

لقد قيل أنه ما لم يكن المسيحي قادراً على تفسير مواسم أعياد الرب السبعة، وأمثال ملكوت السموات السبعة، والرسائل السبعة الموجهة إلى كنائس آسيا في (رؤيا ٢، ٣) فإن معرفته المسيحية لا تكون بعد قد أخذت أبعادها.

لا شك أن هذه السبعات الثلاث تغطي حقائق كثيرة جداً. وإن موضوعنا في هذا الفصل هو أن نلقي بعض الضوء على أعياد الرب السبعة.

يبدأ (لاويين ٢٣) بالتأكيد على أن على الإنسان أن يعمل ستة أيام في الأسبوع، وأنه في اليوم السابع - أي السبت - يجب أن يستريح، ولكن الآية ٤ من هذا الإصحاح تؤكد على ما سيليها، وتقول: "هَذِهِ مَوَاسِمُ الرَّبِّ المقدسة". ومن ذلك الحين تحددت سبعة أعياد. وهي: —

  1. فصح الرب.
  2. عِيدُ الْفَطِيرِ لِلرَّبِّ.
  3. عيد أوَّلِ الحَصاد.
  4. عيد الخمسين.
  5. عيد هُتَافِ الْبُوقِ.
  6. يوم الكفارة العظيم.
  7. عيد المظال.

بعض المفسرين يعتقدون أن السبت هو أول الأعياد السبعة، ويعتبرون أن عيد الفصح وعيد الْفَطِير هما عيدٌ واحد، ومع ذلك يبقى عدد أعياد الرب سبعة.

ولكن عند النظر إلى بداية الإصحاح ٢٣ من سفر اللاويين نجد أن هذا العرض لا مبرر له. تؤكد الآية ٣ على موضوع السبت، يوم الراحة. ولكن الآية ٣ تقول "هذه مواسم الرب المقدسة" ثم يبدأ تعداد مواسم أعياد الرب السبعة.

لماذا يتم التركيز على موضوع السبت بالدرجة الأولى؟ الجواب هو أن السبت يرمز إلى نهاية تدبير الله بالنعمة على هذه الأرض، وحتى دخوله إلى راحته كان في ذهنه من قبل، وذلك إلى جانب أهدافه الأخرى في منح نعمته ومحبته للبشر. إن كلمة السبت، وفي العبرية (shabbath )، تعني "الانقطاع عن العمل". "لأَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ عَنِ السَّابِعِ: «وَاسْتَرَاحَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِهِ»" (عبرانيين٤: ٤). فيوم السبت يرمز إلى أبدية الاستقرار التي عند الله عندما سيستقر في كامل محبته، عندما يسكن البر. "وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا الْبِرُّ" (٢ بطرس ٣: ١٣).

باختصار، لدينا هنا مثال يضع لنا الله فيه صورة عن انقضاء الدهر، ثم يعطينا تفاصيل عن أعياد الرب كرمز يدل على كيفية عمله بالنعمة مع شعب إسرائيل والكنيسة وصولاً إلى هدفه في المجد والراحة الأبدية.

إضافة إلى ذلك، نجد أن يوم السبت لا يُذكر أبداً على أنه عيد لوحده، رغم أن هناك أيام احتفال تحدث يوم سبت. وأخيراً فإن السبت كان يحدث أسبوعياً، بينما الأعياد السبعة للرب فكانت أعياداً سنوية. من غير المنطقي إذاً أن تتم المساواة بين احتفال يحدث اثنتين وخمسين مرة في السنة، واحتفالات أخرى تحدث مرة في السنة. إن الآية ٤ تؤكد هذا القول: "هذه هي مواسم الرب المقدسة".

كان يتم الاحتفال بأعياد الرب السبعة هذه على النحو التالي: —

فصح الرب: — في اليوم ١٤ من الشهر الأول.
عِيدُ الْفَطِيرِ لِلرَّبِّ: — في الأيام ١٥ – ٢١ من الشهر الأول.
عيد أوَّلِ الحَصاد: (زمن الحصاد): — في اليوم ١٦ من الشهر الأول.
عيد الخمسين: بعد ١٥ يوماً: — في اليوم ١٦ من الشهر الثالث.
عيد هُتَافِ الْبُوقِ: — في اليوم الأول من الشهر السابع.
يوم الكفارة العظيم: — في اليوم ١٠ من الشهر السابع.
عيد المظال: — في اليوم ١٥ من الشهر السابع

وهذا يندرج في ثلاثة أقسام. أول قسمين يدلان على طريقة الله في التعامل مع الإنسان، وذلك على أساس النعمة، سواء في زمن العهد القديم أم في من العهد الجديد، سواء كان المؤمن يهودياً أو أممياً.

أما العيدان الثالث والرابع فيشيران إلى هذا الدهر الحاضر، والذي تميزه كنيسة الله.

العيد الخامس والسادس والسابع يدلان على معاملة الله لليهود بعد اختطاف الكنيسة إلى المجد.

وبهذا نصل إلى نهاية معاملة الله بالنعمة، ونأتي إلى الحالة الأبدية المثلثة الجوانب، تلك التي يرمز إليه السبت.

دعونا ندرس هذه الأعياد بالتفصيل.

عيد الفصح (عبور الرب)

كان الفصح هو في بداية تعامل الله مع إسرائيل بأن أقام علاقة بينه وبينهم. وكان يجب لهذا الشعب أن يكون شعباً معتقاً أولاً. وكان هذا رمزياً. ولكن لا يخفى علينا ما يرمز إليه ذلك. ونقرأ: "لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا" (١ كو ٥: ٧). فذبيحة المسيح فعلية وفعالة لأجل الخاطئ الذي يؤمن.

لقد تم شرح ليلة العبور في مصر مطولاً، فلا حاجة بنا هنا لأن نستفيض في ذلك. ولكم يُسَرُّ القارئ للكتاب المقدس عندما يصل إلى هذه الآية "وَيَكُونُ لَكُمُ الدَّمُ عَلامَةً عَلَى الْبُيُوتِ الَّتِي أنْتُمْ فِيهَا فَأرَى الدَّمَ وَأعْبُرُ عَنْكُمْ فَلا يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلاكِ حِينَ أضْرِبُ أرْضَ مِصْرَ" (خروج ١٢: ١٣). فالله يرى الدم، رمزاً لدم المسيح الثمين، وهذا يرضيه من جهة مطالب عدالته وقداسته، وذاك الدم نفسه يُعطى للمؤمن كعلامة لأجل اليقين. ماذا أيضاً؟ كما تقول الترنيمة: —

>

"لقد رضي الله عن يسوع،
وأنا سررت به أيضاً"

إن كان الله راضياً، فالمؤمن أيضاً سيكون هكذا.

إن العلاقة مع الله على أساس الانعتاق والفداء الذي هو من تدبير الله بالنعمة، نجدها مصورة رمزياً في حادثة الفصح (عبور الرب) إذ نقرأ: "«هَذَا الشَّهْرُ يَكُونُ لَكُمْ رَأسَ الشُّهُورِ. هُوَ لَكُمْ أوَّلُ شُهُورِ السَّنَةِ" (خروج ١٢: ٢). لقد كان بداية الروزنامة اليهودية، وكانت شهادة رمزياً إلى أن الله أمكنه أن يبدأ العلاقة مع شعبه على أساس الانعتاق.

عيد الفطير

إن كان دم الفصح قد أعطى الله الحق في افتداء شعبه، وإخراجه له بيد قوية وممتدة من أرض العبودية، فإن عيد الفطير يدل على وجوب وجود ملاءمة أخلاقية من جانب الشعب، إذا ما كانوا يريدون أن يكونوا سعداء في العلاقة مع الله. فينبغي أن يكونوا شعباً مقدساً.

هذا العيد الذي انبثق عن الفصح وتلاه مباشرة، سنرى أنه كان مختلفاً عنه. ففي الفصح الله هو الذي كان يتصرف رمزياً بنعمة في علاقته مع شعبه على أساس الفداء. أما عيد الفطير فكان الاستجابة على ذلك التي تدل على أن الله يتوقع من شعبه سلوكاً عملياً على الأرض. كان يجب الإبقاء على الخمير خارج مساكنهم؛ أي أن الشر يجب أن يكون مرفوضاً من قبلهم.

في العهد الجديد نجد ارتباطاً بين العيدين، حيث نجد الآية تقول: "إِذاً نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ" (١ كو ٥: ٧، ٨).

إن المسيح هو فصحنا. ونحن نأتي إلى الله على أساس الفداء، والقداسة تصيب من يقيمون العلاقة مع الله. أما الشر، الذي يرمز إليه الخمير، فينبغي أن ينتفي من حياتنا. "اِتْبَعُوا .... َالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ" (عبرانيين ١٢: ١٤). هذه الكلمات موجهة إلى المؤمنين، لكل واحد منا.

إن عيد الفطير، والذي يمتد على مدى سبعة أيام، يرمز إلى مسؤوليتنا الكاملة هنا على الأرض، واليوم الثامن يقودنا إلى ذلك اليوم الذي لن يكون فيه مساء أو صباح، ألا وهو سبت راحة الله، الحالة الأبدية عندما سيكون الله الكل في الكل.

عيد الحصاد

في الآية ٩ من هذا الإصحاح، وبجملة "وقال الرب لموسى" الافتتاحية، يبدأ قسم جديد، فنتعرف على عيد الحصاد وعيد الخمسين.

يتميز هذا العيدان بأهمية خاصة تظهر في القول: "فِي غَدِ السَّبْتِ" (الآية ١١) و "إِلَى غَدِ السَّبْتِ السَّابِعِ" (الآية ١٦). إن السبت هو اليوم العظيم المرتبط باليهودية. لقد كانوا معتادين في كل أعيادهم على التمحور حول يوم السبت بشكل أو بآخر. ما هو المقصود بهذا الانطلاق الجديد، "اليوم الذي يلي السبت"؟ الجواب هو أن "اليوم الذي يلي السبت" هو "أول أيام الأسبوع"، المرتبط بالمسيحية. حتى هذه الساعة يحتفل اليهود بيوم السبت في اليوم السابع من الأسبوع، بينما "وَفِي أَوَّلِ الْأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ التَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزاً خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْغَدِ وَأَطَالَ الْكَلاَمَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ" (أعمال ٢٠: ٧). على عادتهم في عهد الرسل، وهذه العادة برحمة الله قد أجاز لهم بها حتى الوقت الحاضر هذا.

باختصار، قد نتساءل، ما الحدث العظيم الذي حدث في أول يوم في الأسبوع؟ والجواب هو أن أعظم وأروع لحظة في تاريخ البشرية كانت عندما قام ربنا يسوع من بين الأموات كفاتح منتصر على الخطيئة والموت والجحيم. فلا عجب أن اليوم الأول من الأسبوع كان يُدعى يوم الرب. ويكتب الرسول يوحنا: "كُنْتُ فِي الرُّوحِ فِي يَوْمِ الرَّبِّ" (رؤيا ١: ١٠). لقد كان يوماً خاصاً مميزاً جداً.

إن رفض اليهود للمسيح قد نقلنا إلى عهد جديد، ألا وهو في المسيحية. إن اليهودي الذي يهتدي إلى الإيمان المسيحي اليوم، يتخلى عن اليهودية ديانةً، ويعتنق المسيحية. وإلى أن تختطف الكنيسة إلى المجد سيبقى صحيحاً "أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّاً لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ" (رومية ١١: ٢٥).

وهكذا فإن هذين العيدين، عيد الحصاد وعيد الخمسين، كانا يطرحان تساؤلات كثيرة في زمن العهد القديم، ولكن عندما نأتي إلى العهد الجديد نجد المفتاح لفهم كل ذلك بشكل واضح للغاية، كما سنرى.

إن الحصاد في الطبيعة يُستخدم للدلالة رمزياً إلى الحصاد بالنعمة. وإن ربنا، وعندما جاء إليه أهل السامرة بعد مناداة المرأة لهم قائلة: "«هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟»" (يوحنا ٤: ٢٩)، قال (ربنا) لتلاميذه: "أمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً" (يوحنا ٤: ٣٥، ٣٦).

عندما كان يحين موعد قطف الحصاد عند اليهود، كانوا يأتُونَ بِحُزْمَةِ أوَّلِ حَصِيدِهمْ إلَى الْكَاهِنِ. وهذا كان عليه أن يُرَدِّد الْحُزْمَةَ أمَامَ الرَّبِّ لِلرِّضَا عَنْهُمْ، "فِي غَدِ السَّبْتِ".

هذا رمز واضح إلى المسيح في قيامته. فقد رقد في القبر طوال يوم السبت، ليظهر لهم بالتأكيد أنه تلك الآيات لا تدل على بركة للناموس أو لشعب إسرائيل. ففي الأصحاح ١٥ من رسالة كورنثوس الأولى نقرأ عن القيامة العظيمة: "وَلَكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ" (الآية ٢٠). وفي نفس الأصحاح نقرأ: "كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ. وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. الْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ ثُمَّ الَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ" (الآيات ٢٢، ٢٣) وهكذا نجد أن هذا الأصحاح من العهد الجديد الذي يتحدث عن القيامة العظيمة يرتبط بشكل واضح مع (لاويين ٢٣).

عندما يقول "فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ"، فهذا لا يعني، كما يعتقد الكونيون، أن كل الجنس البشري سينال الخلاص في نهاية الأمر. فليس كل البشر "في المسيح". بما أننا مولودون في هذا العالم، نتاج ذرية ساقطة، فإننا جميعاً "في آدم". وحتى نكون "في المسيح" لابد أن نكون قد خلصنا، وآمنّا بالرب يسوع مخلصاً. يمكن للمسيحيين أن يعودوا في الزمان إلى تلك اللحظة من حياتهم حين وضعوا إيمانهم في الرب فانتقلوا من الموت إلى الحياة. في رسالته إلى الكنيسة في رومية، يوجه بولس تحية فيقول: "سَلِّمُوا عَلَى أَنْدَرُونِكُوسَ وَيُونِيَاسَ نَسِيبَيَّ الْمَأْسُورَيْنِ مَعِي اللَّذَيْنِ هُمَا مَشْهُورَانِ بَيْنَ الرُّسُلِ وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي" (رومية ١٦: ٧)، وبذلك يُظهر أن أقرباءه قد اهتدوا قبل أن يكون هو قد اهتدى إلى المسيح.

هناك نقطة أخرى بالغة الأهمية يجب ملاحظتها في تلك الكلمة ذاتها "بواكير الثمار" (أو "أوَّلِ الحَصِيدِ"). فهي تدل رمزياً إلى أنها نموذج عن حصاد النعمة الكلي، الذي يشكل جميع المؤمنين جزءاً منه. كم هي بركتنا مرتبطة بتأكيد قيامة المسيح، "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْتَى لاَ يَقُومُونَ فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ" (١ كو ١٥: ١٧).

بهذا المعنى نجد في (رومية ٨: ١١) مثالاً توضيحياً آخر. فنقرأ: "وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ". لاحظ هذا الارتباط العجيب: فالمسيح أُقيم بقوة الروح القدس، وهذا الروح القدس نفسُه أرسله يسوع الصاعد بالمجد ليسكن في كل مؤمن كضمان على أنه كما قام هو فإن القديسين المؤمنين على الأرض، الذين سيكونون أحياء عندما يأتي الرب، سيُحيون بأجسادهم الفانية بقوة ذلك الروح القدس نفسه. وإن الروح القدس يُعطى كختم أو ضمان على هذا.لقد أقيم المسيح نيابياً كما أنه مات نيابياً، وقيامته حملت معها الوعد أو الختم بالقيامة لكل شعب الله، الذين رقدوا في المسيح يسوع، أو الأحياء عند مجيئه الذين سيُقامون في أجسادهم البالية متحولين إلى أجساد ممجدة كمثل جسد المسيح نفسه.

ومع تَرْدِيدِهم حُزْمَةَ أوَّلِ الحَصِيدِ كان عليهم أن يعْمَلُوا خَرُوفاً صَحِيحاً حَوْلِيّاً مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ- وهذا إنما كان يدل على رضى الله عن ذبيحة المسيح راحة السرور للرب.

لاحظ أنه ليس هناك ذبيحة خطية، كما كان عليه الحال مع قربان التقدمة الجديد كما سنرى. ما كان يمكن أن يكون هناك ذبيحة خطية فيما يخص ربنا شخصياً.

كانت تقدمة قربان تُقرب أيضاً للرب، وتترافق معها تقدمة شرا، رمزاً إلى سرور الله بحياة ربنا يسوع المكرسة كلياً لله حتى الموت، وإلى الفرح- تقدمة الشراب- المرتبط بها. ونجد أن الرب يؤكد عليهم ألا يأكلوا خُبْزاً وَفَرِيكاً وَسَوِيقاً إِلَى هَذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِقُرْبَانِ إِلَهِهُمْ، أي أنه ما من شيء يمكن التمتع به روحياً إلى أن يُوضع الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، ألا وهو موت المسيح، وإلى أن نبدأ معه.

عيد الخمسين

كان يجب الاحتفال بعيد الخمسين في "غَدِ السَّبْتِ السَّابِعِ"، بمعناه الخاص في أنه "أول أيام الأسبوع"، والذي هو اليوم العظيم بالنسبة للمسيحيين، كما كان السبتُ بالنسبة لليهود. وإضافة إلى ذلك، كان ينبغي أن يُقام في اليوم الخمسين بعد أن يتم ترَديد حُزْمَة أوَّلِ الحَصِيدِ أمَامَ الرَّبِّ.

ما الحدث العظيم الذي جرى بعد خمسين يوماً من قيامة المسيح؟ إنه الكلمة نفسها، العنصرة (والكلمة اليونانية "العنصرة" تعني "الخمسين" أيضاً)، وهذه تشير إلى ذلك الحدث العظيم الذي يصفه سفر أعمال الرسل (٢: ١- ١٣). إننا نعلم أن ربنا قد مكث أربعين يوماً على هذه الأرض بعد قيامته، وقبل صعوده. وكان على التلاميذ أن يمكثوا في أورشليم "إِلَى أَنْ يُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي" (لوقا ٢٤: ٤٩). "وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَة، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا" (أعمال ٢: ١- ٤).

ففي يوم العنصرة، "غَدِ السَّبْتِ السَّابِعِ" ، "أول أيام الأسبوع"، وبعد خمسين يوماً من قيامة ربنا من بين الأموات، حدث هذا الأمر العظيم، ألا وهو منح الروح القدس ليكون في هذا العالم كما لم يسبق له أن كان من قبل. وسُكناه في كل مؤمن، جعل من هذا اليوم اليومَ العظيم لولادة الكنيسة. ففي ذلك اليوم تأسست الكنيسة. والسر الخفي منذ الدهور بزغ في رؤية رأس (الكنيسة) المنتصر في السماء، ألا وهو ربنا المسيح يسوع، وسكنى الروح القدس في المؤمنين على الأرض، والذي به يرتبط كلٌ منهم بالرأس السماوي في الأعالي، ومع بعضهم البعض كأعضاء في جسده الواحد على الأرض. "جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ" (أفسس ٤: ٤). "أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ" (أفسس ٥: ٢٥- ٢٧).

ومن هنا يمكننا أن نرى بوضوح أن "التَقْدِمَة الجَدِيدَة" هي رمز لكنيسة الله على الأرض. في الواقع ليس هناك إعلان واضحٌ صريح عن الكنيسة على الأرض في العهد القديم، كمثل هذا الذي نجده في (لاويين ٢٣). وفي نفس الوقت، إن العلاقة بين رأسها الذي في السماء وأعضاء الجسد الواحد على الأرض، لا نجد تلميحاً إليها في العهد القديم. وهذا يشكل "السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ وَمُنْذُ الأَجْيَالِ، لَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ" (كولوسي ١: ٢٦).

التَقْدِمَة الجَدِيدَة

كانت التَقْدِمَة الجَدِيدَة عبارة عن رَغِيفَيْنِ. وهذان الرغيفان يدلان على كيفية ارتباط المؤمنين من اليهود والأمميين معاً في هذا الاتحاد الجديد المبارك. في الواقع ما كان لأمر أقل من هذه الحقيقة الرائعة أن يجعل اليهودي ينسى أنه يهودي متديّنٌ، والأممي ينسى أنه أممي "بعيدٌٌ"، ويُشعرهما بالدفء والمجد الذي يتمتعان به لكونهما أعضاء في الكنيسة الجسد والتي يكون الرب رأسها، بعد أن تناسيا تلك الحقبة الطويلة من العداء بينهما. ما أحوج الكنيسة اليوم إلى تذكير بذلك. إن الكنيسة قد جمعت في حناياها مؤمنين من كل الأصقاع، واللغات، والمجتمعات، والألوان، والأعراق، وجعلتهم في شركة مسيحية واحدة مباركة. فما عاد يمكن حصر الكنيسة في بقعة محددة من الأرض، أو في جماعة مسيحية معينة دون غيرها.

وفي (أفسس ٢: ١٣، ١٤) نجد بولس يحذر من أي تفرقة أو تحزب. فنقرأ: "لَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ (يقصد الأمميين) صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ (اليهود والأمميين) وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ، أَيِ الْعَدَاوَةَ". كم هو جميل أن تسقط كل أسوار الانقسام تحت تدفق المحبة الإلهية، والمفعول الحي للروح القدس.

كان يجب أن يكون الرغيفان مِنْ دَقِيقٍ وَيُخْبَزَانِ خَمِيراً. لماذا الخمير؟ في (لاويين ٢: ١١) نجد القول: "«كُلُّ التَّقْدِمَاتِ الَّتِي تُقَرِّبُونَهَا لِلرَّبِّ لا تُصْطَنَعُ خَمِيراً لأنَّ كُلَّ خَمِيرٍ وَكُلَّ عَسَلٍ لا تُوقِدُوا مِنْهُمَا وَقُوداً لِلرَّبِّ". يبدو إذاً أن التَقْدِمَة الجَدِيدَة تتناقض مع التعليم الوارد هنا القاضي بعدم حرق ذبيحة فيها خمير. صحيح أنه في كل الذبائح التي ترمز إلى المسيح شخصياً دون استثناء لا يجوز أن يكون فيها خمير. فمن غير المقبول على الإطلاق في أن يكون هناك خمير، أي شر، في أي شيء يخص الرب.

ولكن لدينا هنا "تَقْدِمَة جَدِيدَة"، وليس قربان تقدمة (لاويين ٢) ترمز إلى المسيح شخصياً، بل تقدمة ترمز إلى الكنيسة التي نشأت عن موت المسيح. إن التَقْدِمَة الجَدِيدَة، على كل حال، لا ترمز أبداً إلى المسيح شخصياً، بل إلى الكنيسة المؤلفة من يهود ويونانيين، كانوا خطاة قبل أن جاؤوا إلى البركة، والذين لا يزال ممكناً لهم، ولو كانوا من القديسين، أن يخطأوا. وإن الخمير في التقدمة يدل على ذلك إقراراً. كون هذه التقدمة قد خُبِزَتْ في التنور يدل على أن مفعول الخمير سيتلاشى بالنار. إضافة إلى ذلك، وإلى جانب المحرقة وقربان التقدمة مصحوبةً بالسكيب (تقدمة الشراب)، كانت هناك أيضاً ذبيحة خطية وذبيحة سلامة. هذه التقدمة قد وُصِفَتْ بعناية كـ "تَقْدِمَة جَدِيدَة".

ونتذكر في عيد الحصاد، الذي يرمز إلى المسيح في قيامته، أنه كان هناك محرقة وقربان تقدمة مصحوبةً بالسكيب، ولكن بدون ذبيحة خطية. فأنى لذبيحة خطية أن يكون لها وجود حيث يشير العيد إلى ربنا شخصياً؟ ولكن في هذه الحالة، ذبيحة الخطية تتطابق مع الخمير في دقيق الأرغفة، وبذلك تشكل اعترافاً بما كانت عليه حالة القديسين قبل أن يهتدوا. فحتى في التَقْدِمَة الجَدِيدَة هذه كانت هذه الذبائح والتقدمات ترافقها، وبهذا تظهر الكنيسة كأنها تقدمة للرب، إذ أن المؤمنين يدنون بكل كفاءة وأهلية عمل المسيح، سواء في المحرقة أم في قربان التقدمة أم في ذبيحة الحطية أم في ذبيحة السلامة، وهذا الدنو يغطي كل هذه الرموز المتنوعة التي تشير إلى موت المسيح.

التقاط فضلات الحصاد (لاويين ٢٣: ٢٢)

من هذا المقطع الكتابي يشرق نور الوحي الإلهي بشكل واضح جليّ. فنقرأ: "وَعِنْدَمَا تَحْصُدُونَ حَصِيدَ أرْضِكُمْ لا تُكَمِّلْ زَوَايَا حَقْلِكَ فِي حَصَادِكَ وَلُقَاطَ حَصِيدِكَ لا تَلْتَقِطْ. لِلْمِسْكِينِ وَالْغَرِيبِ تَتْرُكُهُ. أنَا الرَّبُّ الَهُكُمْ»". لاحظوا أين تأتي هذه الآية. إنها تقع بين الاحتفال بالتقدمة الجديدة، رمز تدبير الله الحاضر بالنعمة فيما يخص كنيسته على الأرض، وعيد هُتَافِ الْبُوقِ. وهذا يستحضر إلى أذهاننا الأعياد الثلاثة الأخيرة التي تتعلق بتعامل الله مع اليهود، ومع خاصته، ومع الأمم، بعد أن تكون الكنيسة قد اختُطفت بالمجد.

هذه الآية تشير إلى الزمان عندما يكون قد انتهى جمع حصاد الدهر الحاضر بنتيجة الكرازة بإنجيل نعمة الله، فعندها سيتحرك الروح القدس لإيصال إنجيل الملكوت لليهود ليعدّهم لاستقبال الرب يسوع المسيح الملك. ومن خلال اليهود ستصل الرسالة إلى المسكين والغريب- وهم الأمم الوثنية في العالم- وذلك تمهيداً لذلك اليوم الذي سيملك فيه الرب يسوع على الكون لكونه رباً وابناً للإنسان و"لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَجْدِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ" (حبقوق ٢: ١٤).

ليس هناك تفاصيل كثيرة في الكتاب المقدس عن ذلك. ولعل أوضح هذه التفاصيل هي التي نجدها في متى ٢٥: ٣١- ٤٦). فهذا المقطع يخبرنا عن الرب يسوع المسيح، وقد اجتمعت الشعوب أمام كرسي مجده. فيفصل الخراف، أي أولئك الذين اقتبلوا إنجيل الملكوت، عن الجداء الذين رفضوا هذه الشهادة- فيرسل الخراف إلى الحياة الأبدية، أي إلى البركة الألفية، والجداء إلى العقاب الأبدي.

من اللافت للانتباه أن الخراف والجداء دائماً ما تختلط معاً في قطعان الرعاة، وإن فصل الخراف عن الجداء سيكون أمراً أساسياً للدلالة على ما سيحدث في الأيام الأخيرة.

عيد هُتَافِ الْبُوقِ

مع التقدمة الجديدة نغادر التدبير المسيحي، الذي رأينا رموزه في هذا الفصل الممتع. ومن جديد نجد الصيغة: "وقال الرب لموسى". ومن هنا سنبدأ برؤية الله وهو يهتم بشعبه العبراني، وسنرى كيف سيفي الله بوعوده التي قطعها لإبراهيم، وكيف سيرتب لمجيء المسيا، ابن الله وابن الإنسان. "اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكاً لَكَ" (المزمور ٢: ٨).

ونقرأ: " «قُلْ لِبَنِي اسْرَائِيلَ: فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ فِي أوَّلِ الشَّهْرِ يَكُونُ لَكُمْ عُطْلَةٌ تِذْكَارُ هُتَافِ الْبُوقِ مَحْفَلٌ مُقَدَّسٌ" (لاويين ٢٣: ٢٤). إن البوق، وهو آلة تصدر صوتاً عالياً، وكان له دور هام عند تنقلات الشعب من مكان لآخر، يرمز إلى تنبيه روح قدس الله للشعب بعد أن أمضوا فترات من النكران والعمى الروحي. ويقول بولس عنهم: "فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا هَذَا السِّرَّ لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ. أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّاً لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ" (رومية ١١: ٢٥). ويشير زكريا إلى أن الله سيرضى عن الشعب المؤمن الذي سيدرك خطيئته: "وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ النِّعْمَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ وَيَكُونُونَ فِي مَرَارَةٍ عَلَيْهِ كَمَنْ هُوَ فِي مَرَارَةٍ عَلَى بِكْرِهِ" (زكريا ١٢: ١٠).

من اللافت للانتباه أن عدداً كبيراً من اليهود كانوا مرات عديدة ينكصون من أجل عيد هُتَافِ الْبُوقِ، رغم أنهم في حالة عدم إيمان بنبوءات العهد القديم، وينتظرون موعد هُتَافِ الْبُوقِ رغم أنه ليس هناك مجال للخطأ فيه. ولكن كل ذلك يكون ظلاً للاحتفال العتيد.

يوم الكفارة العظيم

يوم الكفارة يأتي بعد عيد هتاف البوق بعشرة أيام. عندما سيبتهل بنو إسرائيل إلى الله بعد أن ينظروا إلى من طعنوه، فإن روح نعمة الله ستغمرهم لصلاحه الإلهي، ثم سيختبر الشعب مرحلة إذلال روحي عميق، لدرجة أن الرجال والنساء سيوبخون أنفسهم على ذلك. والجميع سيشعرون بالندم: "وَتَنُوحُ الأَرْضُ عَشَائِرَ عَشَائِرَ عَلَى حِدَتِهَا: عَشِيرَةُ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى حِدَتِهَا وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى حِدَتِهِنَّ. عَشِيرَةُ بَيْتِ نَاثَانَ عَلَى حِدَتِهَا وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى حِدَتِهِنَّ" (زكريا ١٢: ١٢).

وبهذه الروح من الخزي العميق سوف يحتفل بنو إسرائيل بيوم الكفارة بشكل لا نظير له. وهذا الاحتفال سيكون دلالة عل قبول المسيا، الذي كان في عمله على الصليب، وإراقة دمه الكريم، تحقيقٌ كامل مجيد لكل الرموز والصور. هذه الرموز كان يبجلها اليهود، ولكنهم أفقدوها معناها الحقيقي المتعلق بالمسيح الذي رفضوه واحتقروه. يا له من يوم مجيد سيحتفل به العالم في حلة جديدة وقد قام على أساس البر، وسيحل فيه الأمن والسلام إذ يملك المسيح على الأرض بشخصه. ونقرأ: "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَفْضُهُمْ هُوَ مُصَالَحَةَ الْعَالَمِ فَمَاذَا يَكُونُ اقْتِبَالُهُمْ إِلاَّ حَيَاةً مِنَ الأَمْوَاتِ؟" (رومية ١١: ١٥).

عيد المظال

كان عيد المظال بعد عيد البوق بخمس عشرة يوماً وبعد يوم الكفارة بخمس أيام. هذا العيد هو رمز الألفية.، أي فترة السنوات الألف التي سيحكم فيها المسيح على هذه الأرض. في هذه الفترة سيتعامل الله مع بني إسرائيل على الأرض. ونلاحظ أنه ليس لبني اسرائيل ذكر في النبوءات التي تتناول الحقبة بعد الألفية.

في الأصحاح ٦٥ من أشعياء نجده يتحدث عن "سماء جديدة وأرض جديدة" (الآية ١٧)، ثم يصف أورشليم بأنها أرض فساد، مثلها كمثل خاطئ أثيم قد لحقت به لعنة. ويبدو أن أشعياء يتنبأ عن فترة أرضية، هي مرحلة الحكم الألفي لربنا يسوع المسيح. ولكن في العهد الجديد نجد نبوءات أكثر تحديداً ووضوحاً. فنجد يوحنا يقول في سفر الرؤيا: "ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ" (رؤيا ٢١: ١)، وسيسكن البر، حيث لن يكون هناك من بعد دموعٌ، أو حزن، أو بكاء، أو ألم أو موت. وسنكون هناك في أبدية بكل ما في الكلمة من معنى.

في عيد المظال، الذي كان يحدث في نهاية الحصاد، في وقت الوفرة والفرح، نجد صورة ضعيفة عن إمكانية تحقيق وشيك لذلك الرمز. فقد كان على الإسرائيليين أن يقطنوا في مظال من أغصان الشجر ليتذكروا كيف أن الله أخرجهم من أرض العبودية في مصر. فلربما ينسون ذلك في غمرة احتفالهم بمباهج الحياة التي أفاض الله الكريم بها عليهم، وتنعمهم بالسلام لزمن طويل.

لا يجدر بنا، كمسيحيين مؤمنين، أن ننسى ورغم البركات الرائعة التي نتمتع بها، أننا إنما كنا خطاةً وقد خلصنا بالنعمة.

الأصحاح ٢٩ من سفر العدد

إن الأصحاح ٢٩ من سفر العدد هو أصحاح لافتٌ للانتباه. تدور أحداثه في البرية وقد خرج بنو إسرائيل إليه، ووصلوا إلى الأرض على الجانب الشرقي من نهر الأردن. في هذا الإصحاح تفاصيل دقيقة لا نجد مثلها في أي مكان آخر في الكتاب المقدس عن الذبائح التي كانت مطلوبة منهم فيما يتعلق بأعياد ومواسم الرب؛ أي عيد هتاف البوق، ويوم الكفارة، وعيد المظال.

أحد التعليقات المميزة التي كتبت كانت تدور حول الذبائح التي كانت لتقدم خلال الأيام الثمانية من الاحتفال بعيد المظال. ففي اليوم الأول، ومن بين الذبائح الأخرى، كان يجب تقديم ثلاث عشرة ثوراً كمحرقة. وفي اليوم الثاني اثني عشرة ثوراً، وهكذا دواليك كان العدد يتناقص يومياً، وصولاً إلى اليوم السابع حيث كان يجب تقديم سبعة ثيران. ألا يدل هذا على أن كل ما يترك لالتزام البشر يفقد حماسته الأولى مع الأيام؟ لقد فقدت أفسس محبتها الأولى. وظهرت خلال فترة حياة الرسول بولس علامات آخر الأزمنة. وفي أيام يوحنا ظهر كثير من المسحاء الدجالين. ونرى الكنائس السبع التي يخاطبها يوحنا في الرؤيا باسم الرب.

إن للألفية وجهان. فهي أولاً ترحب بانتصار ربنا يسوع المسيح. فيمارس حقه كوريث لداود ويحكم على شعبه الذي حافظ على إيمانه. "وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلِينَ: [اعْرِفُوا الرَّبَّ] لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ" (إرمياء ٣١: ٣٤).

ومن جهة أخرى، ستكون الامتحان الأخير والأهم للإنسان، وفيها سيظهر كم أن الجنس البشري الساقط لا سبيل إلى تقويمه رغم أنه في أمثل الظروف. وبالتأكيد لن يكون هناك بعد تلك الفترة سوى الخضوع المقدس لمشيئة الله. ونلاحظ أنه عندما يسحب الرب يده، فإن إبليس المطلق السراح خلال فترة الألفية سيذهب ليخدع الأمم، وبتأثيره وتحت قيادته سيظهر آخر وأكبر تمرد ضد الله قد ظهر على الإطلاق. سيكون عدد المتمردين كبيراً، وينتشرون في كل أصقاع الأرض. ولكن الله سيُنْزِل عليهم ناراً من السماء، وسينهي تمردهم. انظر (رؤيا ٢٠: ٧- ١٠). وستزول السماء والأرض، وستذوب كل العناصر بنار متقدة، وستفنى الأرض وكل ما فيها، "وَلَكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا الْبِرُّ" (٢ بطرس ٣: ١٣). هذه هي طبيعة الإنسان في الجسد، فحتى حكم المسيح شخصياً لا يبدلها.

ولكن هل يُهزم الله؟ حاشى. فنقرأ: "وَبَعْدَ ذَلِكَ النِّهَايَةُ مَتَى سَلَّمَ الْمُلْكَ لِلَّهِ الآبِ مَتَى أَبْطَلَ كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ. لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ الأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ" (١ كو ١٥: ٢٤- ٢٦). باختصار، إن الحالة الأبدية ستكون عبارة عن مشهد ينتفي منه أي أثر للخطيئة، والحزن، وإرادة الإنسان؛ سيكون مشهداً يتميز بحضور الله " يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ" (١ كو ١٥: ٢٨).

ونصل في نهاية المطاف إلى انطباعين، نأخذهما من تأملنا في التعليم الرمزي لخيمة الاجتماع. الانطباع الأول هو أنه ما كان ليمكن أن نكون على علاقة بقدسات الله، وما كنا لننال بركة منه كخاطئين، لولا ذبيحة المسيح التعويضية الكفارية، وبها وحدها. ولا نبالغ إذا قلنا بضرورة وجلال ذلك. الانطباع الثاني هي أنه في موازاة وقوف المؤمن الكامل على أساس ذبيحة المسيح الكفارية، لا بد، أيضاً وأيضاً، من ملاءمة أخلاقية ضرورية، إن أردنا أن نكون على علاقة مع الله.

إن هذا الانطباعان يتمحوران على الحقيقة التي يرمز إليها معنى الدم والماء. وهذان يمكن تلخيصهما في الآيتين التاليتين: —

"دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يوحنا ١: ٧).

"اِتْبَعُوا .... َالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ" (عبرانيين ١٢: ١٤).

إن أي انتقاص أو تقليل من أهمية أي من هاتين الحقيقتين العظيمتين سيكون له نتائج لا تُحمد عقباها.

جون رايت وأبناء، بريستول