الفصل ١٦

ذبيحة المحرقة

(اقرأ لاويين ١)

هذه هي الذبيحة التي تمثل تصويراً لموت المسيح في أعلى جوانبه. إن الكلمة العبرية Olah ، والمترجمة "محرقة"، تعني "ما يصعد" أو يرتفع إلى الأعلى. إنها ذبيحة طوعية اختيارية، تمثل المسيح رمزياً لأنه ذاك الذي قدم نفسه طوعياً لله كذبيحة كفارية عن الخطيئة. ويجب أن نلاحظ بعناية أن الكفارة مرتبطة بها. لقد كانت تُوقد على المذبح النحاسي، ومنها جاء اسم المذبح "مذبح المحرقة" (خروج ٣٠: ٢٨؛ ٤٠، ١٠). ونقرأ: "بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ»" (عبرانيين ١٠: ٦، ٧). وهذا سيؤدي به إلى الصليب للتكفير عن الخطيئة مع إبقاء مجد الله دون انتقاص.

وضع الأيدي

كان وضع الأيدي يشير إلى التطابق بين الذبيحة ومن يقدمها. فكان ينطبق عليه القول: "فترضى عليه للتكفير عنه". فوضع الأيدي، والحالة هذه، كان في غاية الأهمية وذي مغزى كبيراً. لقد كان يعني انتقال كل حسنات الأضحية رمزياً إلى من يقدمها، وبهذا يقف مقبولاً كلياً أمام يدي الله. وهكذا ينال المقدم حظوةً عند الله.
موت المسيح في جانبه هذا كان قد لمّح إليه الرسول بولس عندما كتب "لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ" (أفسس ١: ٦). فالمحبوب هو المسيح، وجميل منا أن نتأمل في السبب الذي تم اختيار هذه الكلمة "المحبوب". إنها المرة الأولى التي يُلقَّب فيها الرب هكذا. لو قال الكتاب المقدس أننا كنا مقبولين في المسيح، لكان هذا صحيحاً ولكن بالكاد يكون قولاً كافياً، لأن روح الله يؤكد على دفء طبيعة القبول الرائعة التي يقف فيها ربنا المبارك أمام الله ممثلاً لنا. ولذلك فإن روح الله يستخدم كلمة "المحبوب"، ويمكننا أن نرنم بفرح قائلين:—

"إننا أحباء الرب،
بما لا قياس له،
لأننا أعزاء،
بمقدار محبة الآب للابن"

في هذا الجانب من موت المسيح نعرف كم كان مقبولاً وعطراً ذلك الموت الكفاري لربنا بالنسبة لذاك الذي أرسله. إن كل ما كان يُحرق على مذبح المحرقة كان يتصاعد "كرائحة سرور لله".

اختلاف أهمية الحيوانات المقدمة كذبيحة

مِنَ الْبَقَرِ: ذَكَراً صَحِيحاً.

مِنَ الْغَنَمِ (الضَّانِ أوِ الْمَعْزِ): ذَكَراً صَحِيحاً.

مِنَ الطَّيْرِ: مِنَ الْيَمَامِ أوْ مِنْ أفْرَاخِ الْحَمَامِ.

إن الثور أكثر قيمة وأهمية من الغنم أو الماعز؛ والغنم أو الماعز أكثر قيمة وأهمية من مِنَ الْيَمَامِ أوْ مِنْ أفْرَاخِ الْحَمَامِ. هذا يضعنا أمام اختلاف درجات تذوق المؤمن لموت المسيح. ولكن الحمد لله، فإن ذبيحة أفراخ الحمام كانت مقبولة على نفس الدرجة مع ذبيحة الثور. إننا مقبولون، ليس بحسب درجة اقتبالنا لموت المسيح، بل لتذوق الله الكامل لموت المسيح. ما من أحد منا يمكن أن يرتفع إلى ذلك المستوى، إلا أن الله يقبلنا على أساس فكره في موت ابنه. وهذا مصدر تعزية وفرح كبير لنا، وسيعطينا ثقة لنسبح الله ونمدحه على عطيته التي لا يحدها وصف.

إن الثور الصحيح كان أعلى شكل من الذبيحة. وبالنسبة لمقدم الذبيحة فإنه يرمز إلى مقاربة عالية لموت المسيح. كان على مقدّم الذبيحة أن ينحر الثور. وعندها كان الكاهن يرش الدم حول المذبح. وبدون رش الدم ما كان يمكن صنع كفارة عن الخطيئة. فكانت المحرقة تُسلخ بعد ذلك وتقطع إلى أجزاء، رمزاً لتقبل الله بالتفاصيل لكل ما قام به المسيح ببذل حياته على الصليب. وكانت توقد النار على المذبح، ويوضع عليه الخشب ليُحرَق.
ثم كان الكهنة يقومون بتقطيع الأجزاء وفصلها: فالرأس والشحم توضع على المذبح، والأحشاء تُغسل بالماء، وتُتلف بالحرق على المذبح. إن الأحشاء والأرجل كانت تُغسل بالماء رمزاً للمسيح في ينابيع وجوده الداخلية (الأحشاء) وبكل دقائق وفعالية سيره (الأقدام). ولعله حسنٌ القول الذي أبداه أحدهم أن "بالنسبة للغسل بالماء، كان هذا يجعل الذبيحة رمزاً لجوهر المسيح الذي هو نقي". وكان يجب حرق كل الذبيحة على المذبح.

إن مفتاح فهم هذا الرمز الجميل لموت المسيح يتمثل بفكرتين أساسيتين: الأولى، الكلمة المستخدمة بمعنى "حرق" ترمز إلى إصعاد العطور إلى الله الناجم عن تكرس ربنا الكامل والرائع في تسليمه ذاته للموت تنفيذاً لإرادة الله. إنها كلمة تُستخدم في حرق البخور، وصعود الرائحة العطرة. والفكرة الثانية، هي فكرة قبول مقدم الذبيحة. لو لم يكن هناك خاطئ قد خلص بذبيحة ربنا، لما أمكن لموته أن يمجّد الله. إن تكرس المسيح وإذعانه لمشيئة الله كان في هذا لمسرة قلب الله.

إن تقدمة خروف أو معزاة "صحيحة" يوحي بإدراك حيوي أقل لموت المسيح، ولكنه ثمين ومقبول لدى الله، ثمين لأنه يعرف تماماً قيمة تلك الذبيحة الكاملة لربنا على الصليب. ولكن بما أن الذبيحة محرقة، كان على الحيوان المقدم أن يكون ذكراً، وفي هذا رمز لوقار وبركة هذا التمثيل لعمل المسيح.

ولكن مقدم الذبيحة قد يكون فقيراً. فالثور، أو النعجة أو المعزى قد تكون أكثر مما يستطيع تقديمه. فجعل الله تدبيراً لذلك. إذ سمح له أن يأتي بزوجي يمام أو فرخي حمام. إن النعمة ستتقبل وتقدر أدنى إدراك لموت المسيح، الذي لن ينقص ولو بذرة واحدة القبول الذي يناله مقدم الذبيحة، لأن ذلك يعتمد، ليس على اقتبال المقدم، بل على القيمة الكبيرة التي يعطيها الله لتلك الذبيحة العجيبة.
وكانت حوصلة الطائر وريشه تُلقى بعيداً، رمزاً إلى أن العابد قد يخلط بين أفكاره البسيطة وغير المقبولة عن موت المسيح وما هو جدير ومقبول. وفي حالة الثور، أو الغنم أو الماعز، كانت كلها تُحرق على المذبح، ولكن في هذه الحالة فإن الحوصلة والريش كانت تُلقى جانباً إلى الجهة الشرقية من المذبح في مكان الرماد، لإظهار أن الأفكار التافهة عن المسيح يجب أن تتلاشى.

كانت الطيور تُشقّ إلى نصفين، ولكن دون أن يُفصلا عن بعضهما بشكل كامل، وهذا، من جديد، رمز فقر الإدراك، كما لو أن العابد أمكنه أن يسير كل تلك المسافة على الطريق الصحيح، ولكن ليس لديه قوة الفهم ليكمل الطريق بأكمله.

كم هي مؤثرةٌ نعمة الله التي تُسكب في هذه الحالة. وكم يسر النفس أن تُخاطَب بنفس الكلمات التي كان مقدم الثور أو النعجة أو المعزى يتلقاها: "مُحْرَقَةً وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ".

كان يجب حرق رأس الثور على المذبح، في حين يُعصر الدم على جانب المذبح. ليس إلا الدم يمكن أن يفي بالغرض. ورغم فقرنا فإن لدينا هذه الذبيحة الرائعة، وهذا يشجعنا على أن نرغب في أن نزداد فهماً روحياً لإدراك هذا الجانب الرائع من موت المسيح.