الفصل ١٧

قربان التقدمة

(اقرأ لاويين ٢)

الكلمة العبرية المستخدمة في هذه الحالة هي Minchah ، والتي تعني "تقدمة" ببساطة، للإشارة إلى قربان التقدمة. إن قوام هذه التقدمة لم يكن فيه "لحم" أبداً بمعنى لحم الحيوانات. لقد كانت مؤلفة دائماً من أشياء مخبوزة في التنور، مثل الأقراص والرقائق، وأحياناً جريش سويق.

التقدمة تظهر لنا جمال ناسوت ربنا، الذي كان ساراً لله الآب. ومن هنا فتحت له السماء أبوابها، وتركز الانتباه عليه لأنه كان الشخص الذي سُرّ به الله. رغم أن ربنا كان إنساناً كاملاً وقد أرضى الله وسره على هذه الأرض، فلا يجب أن ننسى أنه كان "إِلَهاً مُبَارَكاً إِلَى الأَبَدِ" (رومية ٩: ٥).

إذ نرى أنه ما من سفك دم مرتبط بهذه الذبيحة، فمن الواضح أنها تصور موت المسيح الذي جاء كذروة لحياة شخص عاش على الأرض وكان كلياً لمجد الله، والتي تُوجت بموته. إن قربان التقدمة يمثل رمزياً موت المسيح، ولكن ليس في كفايته الكفارية، بل كما ورد في الآيات (فيلبي ٢: ٥ - ١١)، التي نجد فيها حضاً على أن يكون لدينا نفس الفكر الذي للمسيح يسوع، الذي رغم مساواته لله، لأنه كان إلهاً، تنازل إلى مستوى الإنسان، وأخذ صورة عبد، وأطاع حتى الموت، موت الصليب. إن موت ربنا قد جمع كل ما كان عليه في الحياة، والذي كان بمجمله مكرساً لله لأجل مسرته وسرورنا.

كان ينبغي أن يكون قربان التقدمة من الدقيق بدون خمير وزيت يصب عليها. الدقيق كان يرمز إلى حياة ربنا الجميلة. فكما أن الدقيق ناعم وليس فيه جريش، كذلك أيضاً كانت حياة ربنا كاملة بكل أجزاءها. أما الزيت الذي يُضاف إليها فيرمز إلى أن الرب يسوع، كإنسان مستقل على الأرض، قد أخذ الروح القدس على أكمل وجه. واللبان الذي كان يُضاف إلى هذه التقدمة يشير إلى الحياة الرائعة التي عاشها المسيح والتي كانت رائحة طيب زكية لله. فكل كلمة، وكل وطأة قدم خطاها كانت موسيقى عذبة على مسمع الله.

إن قبضة يد من هذا الدقيق، مع الزيت واللبان اللذان وضعا عليه، كان يحرقها الكاهن على المذبح كتذكار، "مُحْرَقَةً وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ". لا شيء يفصل حياة المسيح عن موته. وما كان ليمكننا نحن المسيحيون بأي شكل أن نقارب حياته، لو لم يكفر موته عن خطايانا، كما سنرى في ذبيحة الخطية، وأعطانا قبولاً كما رأينا في المحرقة.

إن بقية قربان التقدمة كان يخص هارون وبنيه، ولكنه تذكار جميل عما يعطيه الله لمسرة شعبه، ذاك الذي يرضي قلبه أيضاً.

لقد كان قربان التقدمة يُصنع بأحد ثلاث طرق: —

  1. مخبوزاً في تنور.
  2. مخبوزاً على الصاج.<
  3. مخبوزاً على طاجن.<

ويبدو أن هذا يشير إلى الشدات المختلفة التي عاناها المسيح في تجاربه ومحنه التي خضع لها في الحياة والموت، والتي كان كاملاً فيها جميعاً. التنور يشير إلى ما هو خارج نطاق الرؤية، وقد يرمز إلى المعاناة الخفية في الفكر والروح التي مرّ بها الرب، والتي لا يعرفها إلا الآب وحده. ونقرأ عن ربنا أنه "انزعج في نفسه" عند قبر لعازر. لا يمكن لأي أحد منا وقد تبلدت أحاسيسنا بالخطيئة أن يدرك المعاناة التي مرّ بها ربنا بالروح وهو يلاقي الألم والحزن في هذا العالم. لقد كان فعلاً "رجل أوجاع": "نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ" (أشعياء ٥٣: ٢، ٣).

الصاج كان يرمز إلى الآلام الأكثر علانية لربنا في هذا العالم. لقد قال لتلاميذه بأنه ينبغي أن "يَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ" (متى ١٦: ٢١). يكفي أن نقرأ الأناجيل الأربعة لندرك ما عاناه في طريق شهادته.

أما الطاجن فلعله يرمز إلى ما هو أكثر شدة، بما في ذلك حتى الصليب نفسه. لقد كان الرب يسوع كاملاً في كل شيء. وقد لاحظنا ذلك واضحاً في تجربة البرية لأربعين يوماً، عندما قدم الشيطان له إغواءً ثلاثي الجوانب، كانت لترضي شهوات الجسد، والعين، وكبرياء الحياة. إلا أنه خرج منها سالماً لم يُصَب بأذى، ولم تمسه أدنى ذرة من الشر، ولم يخفق البتة. رغم أن تلاميذه لم يفهموا ذلك تماماً، ورغم التجارب المؤلمة التي احتملها، إلا أن الصليب كان أكثر التجارب قسوة. وفي كل الأمور كان الرب يسوع كاملاً.

إن التفاصيل التي ورد ذكرها تبين هذه الأفكار على نحو جليّ. فإنها تتحدث عن: —

  1. أقْرَاص مِنْ دَقِيقٍ فَطِير مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ.
  2. رِقَاقاً فَطِيراً مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ.<

وفي كلتا الحالتين كان فقد كانت فطيراً، إذ ما من شر أو إثمٍ عمله الرب في حياته. وفي كلتا الحالتين كان يجب أن تكونا من الدقيق، وهذا أيضاً تأكيد جديد على الكمال المطلق في حياة الرب.

"مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ" ماذا يمكن أن يعني ذلك؟ إنها تدل على أن حياة ربنا البشرية كانت مملوءة بروح قدس الله. الزيت هو رمز الروح القدس. بالروح القدس وُلِدَ ربنا من العذراء مريم. ومنذ ولادته أمكن أن نقول " أَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكلاَمِ اللَّهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ" (يوحنا ٣: ٣٤).

"مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ" ترمز إلى اليوم الذي تعمّد فيه ربنا، وبدأ في رسالته العلنية خدمةً لله والإنسان. "فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ فَرَأَى رُوحَ اللَّهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ" (متى ٣: ١٦). إن الكلمة العبرية (Messiah ) أي "المسيا"، والمقابل اليوناني لهل وهي "المسيح" تعني "الممسوح" : "يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ" (أعمال ١٠: ٣٨).

كان هناك شيئان لا يُسمح بوجودهما في الذبائح أو التقدمات للرب، وهما: الخمير والعسل. فالخمير كان يرمز إلى الشر. وبالتالي فمزج أمر الله المقدسة مع الشر أمر بغيض يمقته الله. وهذا ما كانت عليه الحال مع ابْنَي عَالِي: حُفْنِي وَفِينَحَاسُ. فهذان الرجلان كانا "كَاهِنَين للرَّبِّ" في الوظيفة، وفي الممارسة يوصفان بالقول "َكَانَ بَنُو عَالِي بَنِي بَلِيَّعَالَ، لَمْ يَعْرِفُوا الرَّبَّ" (١ صموئيل ٢: ١٢). وتلا ذلك أعظم انهيار في تاريخ شعب اسرائيل. فقد سقط عالي ميتاً، وقُتلَ ابناه في المعركة، واستولى الفلسطينيون على تابوت الله.

إن العسل يرمز إلى ما هو بهيج وسار بالطبيعة، كالمشاعر الطبيعية وأواصر الصداقة وما شابه ذلك. إن للطبيعة مكانتها ولكن ليس في الأمور الإلهية. وأن يكون الإنسان "بلا حنوّ" (٢ تيموثاوس ٣: ٣) هو علامة على الأزمنة الأخيرة والخطيرة. عندما يتم الاستهزاء بعلاقات الحياة، ويعيش الرجال والنساء فقط لإشباع رغبات وشهوات الجسد، فبالتأكيد تكون الأيام الأخيرة قد دنت.

ولكن عند الحديث عما يخص أمور الرب يقول الكتاب المقدس: "إذاً نَحْنُ مِنَ الآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَداً حَسَبَ الْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لَكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ" (٢ كورنثوس ٥: ١٦).

ولدينا في الكتاب القدس مثالاً توضيحياً على ذلك. فعندما صرخ موسى طالباً متطوعين للانتقام للخزي الذي أُلحقَ باسم الرب من فعل عبادة العجل الذهبي، تجاوب معه بنو لاوي. فقال موسى لهم: " «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إلَهُ اسْرَائِيلَ: ضَعُوا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ عَلَى فَخِْذِهِ وَمُرُّوا وَارْجِعُوا مِنْ بَابٍ إلَى بَابٍ فِي الْمَحَلَّةِ وَاقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ أخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ»" (خروج ٣٢: ٢٧). هنا لدينا مثال عن كيف يأتي الولاء لله قبل الولاء للطبيعة (للقربى). ما كان للعسل أن يفرض نفسه في وقت الشدة حيث الارتداد عن الإيمان، حين استوجب على البشر أن يقفوا أمام الله بما يناسب إجلاله وقداسته.

ولنأخذ مثالاً بسيطاً. إن الأب والابن يكونان عضوين في جماعة. خارج الجماعة هما أبٌ وابنٌ؛ ولكنهما في الجماعة إخوة في المسيح. لا ينبغي على الترتيبات البشرية والعواطف والعلاقات الطبيعية أن تفرض نفسها على الأمور الإلهية.

من جهة أخرى، يجب ألا تخلو التقدمة من "ملح العهد". فيجب توافر هذا العنصر لكي يعدّل ما يؤدي إلى التعفن الأخلاقي، حتى ولو كنا تربة خصبة لعمل النعمة المطهّرة لله الذي يعمل في قلوبنا بالكلمة، أو كنا نطبق عملياً مفاعيل موت المسيح على ضمائرنا وقلوبنا. إن أعمال النعمة تلك قد لا توافقنا دائماً، ولكن تأثيرها يكون بحسب عهد الله بالبركة لخاصته. "وَلَكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيراً فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ" (عبرانيين ١٢: ١١).

الفريك المشوي بالنار

كانت تقدمة القربان من بواكير الثمار المقربة إلى الله، أو الفريك المشوي بالنار، أو حتى جريشاً سويقاً، ملتوتاً بزيت ولبان. وهذا كله يرمز إلى المسيح. ما كان يمكن الحصول على حصاد روحي إلا من خلال المسيح. وهنا نستحضر النص الكتابي المعروف: "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ" (يوحنا ١٢: ٢٤). وأيضاً: "الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ" (١ كورنثوس ١٥: ٢٠).

كيف للفريك المشوي أن يرمز إلى المسيح؟ لاحظ أن سنابل الفريك كانت خضراء، ومع ذلك فقد كانت سنابل مكتملة، أي ناضجة. ألا يذكرنا هذا بندب النبي الرائع وهو يقول: "أَقُولُ: يَا إِلَهِي لاَ تَقْبِضْنِي فِي نِصْفِ أَيَّامِي. إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ سِنُوكَ" (المزمور ١٠٢: ٢٤). ففي عمر الثالثة والثلاثين تقريباً فقد ربنا الحياة. ورغم أنه كان في ناسوته شاباً فتياً (في تقدير البشر)، إلا أنه تميز بالنضج الكامل. رغم أن السنابل كانت خضراء إلا أنها كانت مثمرة. لقد امتدت رسالته العلنية قرابة ثلاث سنوات ونصف فقط، ومع ذلك فقد كانت علامة راسخة تلك التي طبع بها تاريخ العالم.

وإضافة إلى ذلك، فإن هذه السنابل الخضراء، الناضجة، كانت تُشوى بالنار. ألا يشير هذا بشكل مؤثر جداً إلى أن حياة المسيح الكاملة قد وضعت على الصليب؟ كان الزيت يُوضع على الفريك المشوي بالنار، ومع الزيت واللبان. إنما كانت التقدمة إضافة إلى المحرقة التي يُشار إليها في (أفسس ٥: ٢)، حيث نقرأ: "اسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً". هذه التقدمة الذكرانية كانت تُوقد على المذبح "مُحْرَقَةً وَقُودَ لِلرَّبِّ".