الفصل ١٣

تقديس هارون وأبنائه

(اقرأ خروج ٢٩: ١- ٣٧)

في البداية يتم تعداد المواد الضرورية لعملية التقديس. فنجد هناك ثَوْراً وَاحِداً ابْنَ بَقَرٍ، وَكَبْشَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَخُبْزَ فَطِيرٍ، وَأقْرَاصَ فَطِيرٍ مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ، وَرِقَاقَ فَطِيرٍ مَدْهُونَةً بِزَيْتٍ. كل هذه المواد تشير إلى المسيح بطريقة أو بأخرى. فبسبب ماهية المسيح وما فعله، يصبح المؤمن على ما هو عليه. والكل يعتمد على المسيح.

هارون وبنيه يُغْسَلُون بالماء

ما مغزى أن يُغْسَلوا بالماء؟ كما سنرى في فصل آخر فإن الكهنة كانوا دائماً يغسلون أيديهم وأقدامهم عند المرحضة النحاسية، ولكن هذه هنا عملية استحمام، أي اغتسال كامل بطريقة شعائرية. وهذا حدث عند تقديسهم، ولمرة واحدة لم تتكرر. ومن الواضح أن (عبرانيين ١٠: ٢٢) تُشير إلى هذا التقديس للكهنة، للدلالة على أن الرمز ينطبق على المسيحيين في هذا التدبير. " لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ (أي بدم المسيح رمزياً)، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ (ورمزياً باغتسال هارون وبنيه شعائرياً)".

من الواضح أن الدم والماء هما وسيلتا تطهير، وكلاهما مرتبطان بموت المسيح، وهذا نجده في (يوحنا ١٩: ٣٤): "لَكِنَّ وَاحِداً مِنَ الْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ". بينما خرج دمٌ وماء حقيقيان من جنب المسيح، فمن الواضح أن لهما معنى رمزياً، إذ نقرأ في (١ يوحنا ٥: ٦) القول: " هَذَا هُوَ الَّذِي أَتَى بِمَاءٍ وَدَمٍ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ. لاَ بِالْمَاءِ فَقَطْ، بَلْ بِالْمَاءِ وَالدَّمِ". وأيضاً نقرأ: "وَالَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي الأَرْضِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الرُّوحُ، وَالْمَاءُ، وَالدَّمُ. وَالثَّلاَثَةُ هُمْ فِي الْوَاحِدِ" (١ يوحنا ٥: ٨).

وإننا نعلم أن دم المسيح هو للتطهير إذ نقرأ في الكتاب: "دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يوحنا ١: ٧). لكي نتذكر هذا سنسمي هذا بالتطهير القضائي، أي إعفاء المؤمن من عقاب الخطيئة لمرة واحدة عن الكل؛ بينما التطهير بالماء هو بغاية التطهير الأخلاقي، لكون المؤمن قد أُعتق من دنس الخطيئة، واستجاب للولادة الجديدة بعمل الروح القدس.

الدم هو للتطهير القضائي.

والماء للتطهير الأخلاقي.

الدم يطهر من قصاص الخطيئة.

والماء يطهر من دنس الخطيئة.

إن الدم مرتبط بالبر وموقفنا أمام الله.

والماء مرتبط بالقداسة والحالة.

الدم مرتبط بموت المسيح الكفاري وحده.

الماء مرتبط بعمل الروح القدس.

دعونا نفكر ملياً في هذه العبارات.

والآن لكي نثبت قولنا بأن الماء مرتبط بالولادة الجديدة، والتي بدونها لا يستطيع أي منا أن يدخل ملكوت السموات، نقرأ: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يوحنا ٣: ٥، ٦)

وهنا قد يقول قارئ: ألا يعني هذا طقس المعمودية؟ بالتأكيد كلا. وفيما يلي الأسباب التي تحدونا لنقول ذلك: (١) لا يمكن أن يكون المقصود بذلك المعمودية المسيحية لسبب بسيط وهو أن ربنا عندما تكلم عن ذلك لم تكن المعمودية المسيحية معروفة آنذاك. المعمودية الوحيدة التي كانت معروفة في ذلك الوقت هي معمودية يوحنا المعمدان. أما المعمودية المسيحية فلم تُعرف إلا بعد موت المسيح، إذ أن المؤمنين اعتمدوا لموت المسيح. وكانت معمودية يوحنا "مَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ" (أعمال ١٣: ٢٤). (٢) قال ربنا بأن "نُولَد مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ". والمعمودية المسيحية تتحدث عن الموت، "فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ" (رومية ٦: ٤). الولادة هي الحياة في بدء الوجود؛ بينما الموت فيعني الدفن في نهاية الحياة. لقد قال ربنا عن الولادة الجديدة. فقال لنيقوديموس: " لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ" (يوحنا ٣: ٧). المعمودية تتحدث عن الموت. فليكن واضحاً في أذهانكم أن "الولادة مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ" لا تشير أبداً إلى المعمودية المسيحية. إنه تزييف رهيب للحقيقة أن نخلط بين ماء التجديد (الحياة) وماء المعمودية (الموت والدفن). إن ممارسة طقس المعمودية على الأطفال غير الناضجين الواعين لجعلهم أولاداً لله وورثة لملكوت الله، هو بدعة كاثوليكية بابوية غير صحيحة، قد استنبطت لوضع قوة وسلطة لا محدودة في يد كهنوت أرعن متعجرف. إن المعمودية كطقس مجرد لم تكن أبداً أمراً أساسياً لأي شخص. ولو فعلت ذلك، لكان كل الأطفال المعمدين قد كبروا ليصبحوا مسيحيين حقيقيين متجددين. ولكن للأسف، إننا ندرك أن هذا الكلام غير صحيح. يصبح الأطفال مسيحيين، فقط عندما ينضجون ويصبحون مسؤولين، فيتوبون عن خطاياهم، ويؤمنون بالرب يسوع مخلصاً لهم.

إن الآيات (أفسس ٥: ٢٥، ٢٦) تلقي ضوءاً على معنى الماء كوسيلة تطهير. فنقرأ: " حَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ". ويستخدم بطرس نفس التشبيه في (١ بطرس ١: ٢٣) مع استبدال "الماء" بـ "الزرع": "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ". ونقرأ أيضاً: "شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ" (يعقوب ١: ١٨). فالزرع فيه حياة ويعطي حياةً.

الألواح مع الأغطية وقد رُدَّت إلى الخلف لإظهار مذبح البخور، ومائدة خبز الوجوه، والمنارة الذهبية.

الألواح مع الأغطية وقد رُدَّت إلى الخلف لإظهار مذبح البخور، ومائدة خبز الوجوه، والمنارة الذهبية.
الكاهن العظيم في المقدس

ولكنك قد تتساءل: كيف يمكن للماء أن يعني الولادة الجديدة؟ ألا تذكر الآية الخلاقة التي استشهدنا بها للتو: " اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يوحنا ٣: ٦)؟ فهذه تعني أن الجسد، أي الطبيعة الشريرة التي اكتسبها كل نسل آدم، لا يمكن أن تقدم أي شيء سوى الجسد المبغض لله كلياً. أنى لله أن يرضى إذاً؟ لا بد أن تكون هناك ولادة بالروح القدس، "َالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ". وهذا يعني أنه لا بد أن تكون هناك طبيعة جديدة من أجل التطهير الأخلاقي. فكروا في ذلك، وسوف تقتنعون بحقيقة الأمر.

نورد هنا مثالاً توضيحياً قد يساعد على فهم هذه الحقيقة. تأخّر مسافر إيطالي في إحدى الأمسيات، واضطر لإيجاد مأوى يبيت فيه لليل في تلك الجبال. فوجد غايته في كوخ متواضع. كانت الغرفة التي خصصت له متسخة الأرضية للغاية. وكان المسافر على وشك أن يطلب من المرأة التي استضافته أن تنظف الأرضية، فإذا به يجد أن الأرضية موحلة. وإن إضافة ماء ساخن وصابون وفرك الأرضي سيزيد الطين بلة وتسوء الأمور أكثر. " اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ". لا يمكنك أن تغير طبيعة الأشياء بوسائل خارجية.

فماذا كان البديل عندئذ؟ كيف أمكن للمسافر أن ينظف الأرض؟ الوسيلة الوحيدة للوصول إلى ذلك هو الحصول على أرضية جديدة للغرفة من مواد غير عرضة للاتساخ. هكذا الحال مع الجسد إذ لا يمكن تحسينه، حتى عند شخص مثل نيقوديموس وهو رئيس لليهود. إن الأرضية الجديدة ضرورية، وبمعنى آخر الحاجة ماسة إلى حياة جديدة، وهذه نحصل عليها بكلمة الله العاملة في الفرد بقوة روح الله، فتؤدي بذلك إلى ولادة جديدة. "تُولَد مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ" تعني حياة جديدة بوساطة الماء (كلمة الله) وقوة الروح القدس.

كتب أوغسطس توبلادي منذ القديم:—

صخرة الدهور، قد انشقّت لأجلي،
فلأحجبنّ نفسي فيك،
وليصر الماء والدم،
اللذان سالا من جنبك،
شفاء مضاعفاً لي من الخطيئة،
فيطهرني ويقوّيني".

من الواضح أن الشاعر قد أدرك معنى التطهير القضائي بالدم، والتطهير الأخلاقي بالماء الناجمين من الحصول على حياة جديدة.

هناك نص كتابي واضح يبين الفرق بين الاغتسال الكامل، وغسل الأيدي والأرجل اليومي، كما كان الكهنة يفعلون عند المرحضة النحاسية. فعندما غسل ربنا أقدام تلاميذه بعملٍ رمزي، قال: "«الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ (أي اغتسل بالكامل حسب الكلمة louo في اللغة اليونانية) لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ (أي جزء من جسده بحسب الكلمة nipto في الأصل اليوناني) بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ...»" (يوحنا ١٣: ١٠). الاغتسال الأول هو استجابة للغسل الطقسي عند الكهنة لكل جسدهم، والذي يحدث لمرة واحدة لا تتكرر؛ أما الاغتسال الثاني، فيقصد به غسل الأيدي والأرجل في المرحضة النحاسية الذي كان يحدث مراراً وتكراراً.

من الممتع والمفيد أن نلاحظ كيف أن الحقائق تتداخل بدقة على هذا النحو في الكتاب المقدس. وعندما نتذكر أن الكُتّاب كانت تفصل بينهم قرون زمنية، وأن الكُتّاب الأوّلين ما كانوا يعرفون ما سيكتبه اللاحقون، فإننا نرى هنا دلالة على روعة الوحي في قول ذلك، وندرك أن هناك فكرٌ واحد فقط وراء كل الكتاب المقدس، ألا وهو فكر الله. إننا نرى الدم والماء يفيضان من جنب المسيح ميتاً على الصليب، وهذا يرمز إلى أنه هو منبع كل الأشياء؛ الماء للاغتسال؛ والدم، ذبيحة الخطية، الضروري لدنوهم من الله. ونجد أن الماء ضروري للولادة الجديدة في (يوحنا ٣)، وفي نفس الأصحاح ضرورة أن يُعَلّقَ ابن الإنسان على الصليب، وأن عليه أن يموت، وأن يسفك دمه الثمين. لقد رأينا في (يوحنا ١٣: ١٠) كيف أن هناك كلمتين يونانيتين بمعنى الغسل: الأولى هي الاغتسال الكامل، والثانية هي غسل جزء من الجسد، وبهذا دلالة إلى اغتسال الكهنة الكامل لمرة واحدة في يوم تقديسهم، وإلى غسلهم لجزء من جسدهم على المرحضة النحاسية. وأخيراً رأينا في (عبرانيين ١٠: ٢٢) أن "مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ (الدم)، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ". وبهذا يقدم الكتاب المقدس شهادة واضحة عن ذلك.

إن الغسل الطقسي لهارون وبنيه يستحضر إلى الذهن حقيقة أنه من الضروري جداً لجميع الذين يتقربون إلى الله أن يُولدوا من جديد، وأن يمتلكوا طبيعة تناسبه وقداسته. ويمكننا تلخيص الأمر كما يلي: هناك نتيجتان أساسيتان نجمتا عن موت المسيح، الأولى تتعلق بإثم الإنسان (الدم) والأخرى بحالته (الحياة الإلهية). ونقرأ: "بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ (أي بالحياة الجديدة في الولادة الجديدة). فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً (التطهير بالدم) لِخَطَايَانَا" (١ يوحنا ٤: ٩، ١٠).

هارون يُلبس ويمسح بالدهن

يُلبس هارون أولاً ثياب المجد والبهاء، وبهذا فهو يرمز بالتأكيد إلى المسيح كممثل لشعبه في علاقتهم معه ككهنة له، وهو رئيس الكهنة العظيم بالنسبة لهم. إن زيت المسحة كان يُوضع على رأسه، وهذا رمز المسيح "إِذِ ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ وَأَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِنَ الآبِ" (أعمال ٢: ٣٣).وبهذا اتخذ مكانته أمام الله.

ثم أُلبِس أولاد هارون أقمصة البوص، والمناطق، والقلانس، لترسيخ علاقتهم بهارون كرئيس كهنة، وهذا رمز إلى كيف يكون جميع المؤمنين اليوم كهنةً في علاقتهم مع المسيح رئيس كهنتهم.

ذبيحة الخطية

بعد ذلك جيء بثور أمام باب خيمة الاجتماع. ووضع هارون وبنيه أيديهم على رأس الثور. وكان هذا رمز قبولهم الأضحية كضرورة بإزاء ذنوبهم. فكل خطايا هارون وبنيه كانت تنتقل رمزياً على هذا النحو إلى الأضحية. وذُبح الثور عندئذ. وهذا يدل على أن موته كان ضربة قاتلة له. وسيرون سكرة الموت المرتعشة عنده، ويتعلمون نوعاً ما بذلك وبالصورة جدية الخطيئة وكيف أن الموت فقط هو القصاص الذي يلائمها. كان جزء من الدم يُوضع على قرون المذبح، والبقية كانت تُصب إلى أسفل المذبح. إن الحياة هي في الدم، وهذا العمل يشهد بأن الموت وحده يمكن أن يكون ثمن الخطيئة، الموت فقط والموت الكفاري، وما كان بمقدور أحد أن ينجز ذلك سوى ابن الله.

إن شحوم الثور، أي الشَّحْم الَّذِي يُغَشِّي الْجَوْفَ وَزِيَادَةَ الْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَيْنِ وَالشَّحْمَ الَّذِي عَلَيْهِمَا، قد أُوقِد عَلَى مَذْبَحِ ذبيحة المحرقة. وهذا سيصعد كـ "رَائِحَة سُرُورٍ للرب" إذ لم يُحرق شيء على المذبح النحاسي، بل إن ما أُصعد كان دلالة قبول كامل من قبل الرب.

إن ما تبقى من الثور أي لَحْمُ الثَّوْرِ وَجِلْدُهُ وَفَرْثُهُ أُحْرِقَ بِنَارٍ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. لقد كان ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، كانت دائماً تُحرَقُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. فخَارِجَ الْمَحَلَّةِ كان مكان التوبيخ. ونقرأ: "فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ" (عبرانيين ١٣: ١١، ١٢). لقد كانت المحلة كبيرة. فقد كان حوالي ثلاثة ملايين نسمة يحيطون بخيمة الاجتماع. وبحسب التاريخ اليهودي، فإن المحلة كانت مساحة دائرية يبلغ قطرها اثنا عشرة ميلاً. فلا بد أنه كان مما يدعو إلى الخشية والرهبة عند الجموع أن يروا ذبيحة الخطية تُحمل إلى خارج المحلة لتُحرق هناك، دلالة على بغض الله الكامل للخطية، ورمزاً لموت ربنا الذي كان وحده القادر على إيفاء قضاء الله.

ثمة هضبة خضراء،
خارج أسوار المدينة،
حيث صُلبَ ربنا القدير،
ومات ليخلّص جميعنا".

لقد أُحرق لحم ذبيحة الخطية، دلالة على مفهوم عام. فالجسد هو سيء بالكلية. وقد أُحرق الروث أيضاً. وإن الروث، الذي هو فضلات الحيوان، يمثل ما هو سيء حتى عند البشر، كالانغماس في الخطية، مثل السكر والكذب والتجديف والنجاسة وما شابهها. والجميع يمكنه أن يفهم مغزى حرق الروث.

أما الجلد، الذي يكمن فيه جمال الحيوان، فقد أُحرق على نفس المنوال. وهنا نجد درساً مختلفاً. فليس فقط أسوأ ما في الإنسان يقع تحت قضاء الله على الصليب، بل حتى أفضل ما لديه. إنه درس قاسٍ نتعلمه، ولكن لابد منه.

لقد كان أيوب يتمتع ببشرة جميلة. وكان صادقاً ومستقيماً وخيّراً وكريماً وطيب القلب، ومع ذلك كان عليه أن يتعلم أن أحسن ما عنده إنما هو لا شيء في نظر الله. لقد حفظ بره الذاتي أمام أصدقائه الثلاثة بثبات. ولكن عندما وجد نفسه في حضرة الله هتف قائلاً: "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ" (أيوب ٤٢: ٥، ٦). لقد أُحرق جلد الثور.

وكان لشاول الطرسوسي بشرة جميلة بمعنى استعاري. فأمكنه أن يتفاخر قائلاً: "مَعَ أَنَّ لِي أَنْ أَتَّكِلَ عَلَى الْجَسَدِ أَيْضاً. إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ آخَرُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى الْجَسَدِ فَأَنَا بِالأَوْلَى. مِنْ جِهَةِ الْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ، مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ، عِبْرَانِيٌّ مِنَ الْعِبْرَانِيِّينَ. مِنْ جِهَةِ النَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ. مِنْ جِهَةِ الْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ الْكَنِيسَةِ. مِنْ جِهَةِ الْبِرِّ الَّذِي فِي النَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ" (فيلبي ٣: ٦- ٦). على ضوء ما سبق والذي كان واضحاً كسطوع الشمس تعلم التواضع في نفسه. لقد أتى الفريسي المتكبر إلى الاعتراف بحقيقة ما هو عليه في حضرة الله المقدسة. وكتب يقول: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (١ تيموثاوس ١: ١٥). وبه أظهر الله طول أناته بالكلية. لقد أُحرق جلد الثور.

حسنٌ أن نتعلم الدرس بأن الجلد وأيضاً الروث كلاهما قد أُحرقا. فأفضل ما يمكن للجسد أن يقدمه لله ليس مقبولاً أكثر من أسوأ ما فيه. "إِنَّ الْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ اللهِ" (لوقا ١٦: ١٥). وهذا درس قاسٍ لنتعلمه.

وفيما يخص الذبائح، من الجدير بالملاحظة أن هناك كلمتين في اللغة العبرية للحرق. إن الكلمة المستخدمة للإشارة إلى الحرق على المذبح النحاسي هي (gatar )، وتُستخدم للإشارة إلى إيقاد البخور ذي الرائحة العطرة، وبذلك تصعد إلى الله لمسرته. والكلمة المستخدمة لحرق ذبيحة الخطيئة خارج المحلة هي (saraph ) والتي تعني "يُتلَف باستخدام نار متقدة". إنها كلمة ذات مغزى هام، وتشير فقط إلى القصاص المستحق، إنها كلمة رهيبة ترمز إلى غضب الله المثلث التقديس وقد حلّ بدينونة كبيرة. إن الله يريد أن يعلمنا من هذه الكلمة الأخيرة شناعة الخطيئة، وبذلك معنى الجلجثة.

إزاء ذلك نجد أنه من المذهل أن هناك كلمة واحدة فقط في البرية وهي (chattath ) نُستخدم للدلالة على الخطيئة وعلى ذبيحة الخطيئة. ومن هنا نقرأ عن ربنا وقد صار متوحداً بالخطايا التي مات على الصليب كفارةً عنها حتى أمكن القول: "لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢ كورنثوس ٥: ٢١). هل كان بالإمكان وصف معنى الصليب الرهيب بصورة أفضل من حقيقة أن ربنا، الذي لم يعرف خطية، قد جُعل خطيئة كان يمقتها، وهو الوحيد الذي كان يمقتها؟ لابد أن المؤمن بأعمق أواصر علاقة المحبة الإلهية إلى المسيح، ذاك الذي سلك تلك الطريق، وقام بذلك العمل الذي كلفه حياته. إن الكلمات تخذلنا وتعجز عن إيفاء الموضوع حقه.

الكبشان ومعناهما الرمزي

لقد تم تقديم كبشين كأضحية عند تقديس هارون وبنيه. كان الكبش الأول ذبيحة محرقة. وكان الثاني "كبش ملء".

وضع هارون وبنيه أيديهم على رأس الكبش الأول. وذُبح، ورش الدم على المذبح، وقُطِع الكبش إلى أجزاء، وأُحرق الكل على المذبح كذبيحة محرقة.

هذا يضعنا أمام أحد جوانب موت المسيح الذي يختلف فيه عن ذبيحة المحرقة التي درسناها للتو. ويجب فهم الفرق بين الاثنين.

كانت ذبيحة الخطيئة ترمز إلى دينونة الله الرهيبة للخطيئة. والدينونة تنزل على الذبيحة.

وكانت ذبيحة المحرقة تؤكد على تكرس وإذعان المسيح لمشيئة الله، وهذا ما دفعه لأن يبذل حياته على الصليب كفارة عن الخطيئة. وإن الرائحة الزكية الحلوة من الحرق تصعد كالبخور إلى الله.

في ذبيحة الخطيئة كانت كل نقائص وعيوب مقدم الذبيحة تنتقل رمزياً، بوضع الأيدي، إلى الأضحية، وكانت الذبيحة تحمل كل تهم وذنوب مقدمها. "الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ..." (١ بطرس ٢: ٢٤).

في المحرقة كانت كل حسنات الذبيحة تنتقل رمزياً إلى مقدم الأضحية بوضع الأيدي، فيصير مقبولاً أمام الله بقبول ذبيحته، ويكون "مقبولاً في المحبوب" (أفسس ١: ٦). ولو لم يكن الخاطئ مباركاً بها، فإن ذبيحة المسيح تلك بالروح الأبدي كانت ستبقى مرضية لدى الله. إن وضع الأيدي يدل على التوحد الكامل المكتمل.

كبش الملء

وضع هارون وبنيه أيديهم على "الكبش الآخر". وهذا ذُبِحَ، ووُضِعَ دمُه "عَلَى شَحْمَةِ أذُنِ هَارُونَ وَعَلَى شَحْمِ آذَانِ بَنِيهِ الْيُمْنَى وَعَلَى أبَاهِمِ أيْدِيهِمِ الْيُمْنَى وَعَلَى أبَاهِمِ أرْجُلِهِمِ الْيُمْنَى" (خروج ٢٩: ٢٠).

هذا الكبش الثاني يدعى "كبش ملء". وبهذا الطقس الشعائري اللافت نتعلم بالرمز أن الله يدعو المؤمنين ليكونوا مكرسين مقدسين له. فيمسح آذانهم، لكي يتلقوا وصاياه وأوامره. ويمسح أيديهم ليقدموا خدمة حسنة له. ويمسح أقدامهم ليسلكوا أمامه لمرضاته الكاملة. لقد خسرنا حياتنا بسبب الخطيئة، ونأخذ الحياة والغفران من خلال موت ربنا، فيكون لله الفضل في كل ما نحن عليه وكل ما لدينا.

كانت حياتي ضئيلة محدودة،
وكانت ذبيحتي صغيرة،
إلا أن المحبة الإلهية المذهلة،
تملكت على روحي وكل كياني.

"لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذاً مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ" (٢ كورنثوس ٥: ١٤، ١٥).

النضح بالدم والدهن

أمر الله موسى عندئذ أن ياخُذ مِنَ الدَّمِ الَّذِي عَلَى الْمَذْبَحِ وَمِنْ دُهْنِ الْمَسْحَةِ وأن يَنْضِح به عَلَى هَارُونَ وَثِيَابِهِ وَعَلَى بَنِيهِ وَثِيَابِ بَنِيهِ مَعَه.ُ فَيَتَقَدَّسُ بذلك الكهنة وَثِيَابُهُم مَعَهُم

إنه بأهلية موت المسيح الكفاري (الدم)، وعمل الروح القدس (الزيت) يُعيَّن المؤمنون كهنةً. وبذلك يصبح المؤمن على علاقة بالمسيح، الذي أمّن لنا بموته مكاناً به نقترب من الله وندنو إليه، حيث أننا بقوة الروح القدس نأخذ هذه المكانة المرموقة الأثيرة. ومن ذاك، الذي مات على صليب الجلجثة، أُعطي الروح القدس نازلاً من السماء ليصل المؤمنين به في المجد.

ذبائح الرفرفة والتلويح

لقد أخذ موسى بالكتفية اليمنى شحوم كَبْش المِلْءٍ، وَرَغِيفاً وَاحِداً مِنَ الْخُبْزِ، وَقُرْصاً وَاحِداً مِنَ الْخُبْزِ بِزَيْتٍ، وَرُقَاقَةً وَاحِدَةً مِنْ سَلَّةِ الْفَطِيرِ، ووضَعَ الْجَمِيعَ فِي يَدَيْ هَارُونَ وَفِي أَيْدِي بَنِيهِ، وهذه توجب عليهم ترديدها تَرْدِيداً أَمَامَ الرَّبِّ. ثم أوقِدهَا عَلَى الْمَذْبَحِ كذبيحة ْمُحْرَقَةِ، رَائِحَةَ سُرُورٍ أَمَامَ الرَّبِّ. إن الكلمات العبرية التي تدل على التقديس، وهي mata yad ، تعني "يملأ اليدين".

إن ما يقابل ذلك في المسيحية هو القلب الممتلئ بالمسيح، وفيضان القلب الممتلئ بالمسيح، المرتفع إلى الله بالعبادة. إن شحوم الكبش إنما ترمز إلى قوة تكرس الرب لمشيئة أبيه وطاعته له حتى الموت.

إن الكتف اليمنى إنما تعزز فكرة تكرس وإذعان ربنا لمشيئة الله، حتى إلى الموت. والكتف يتضمن معنى القوة. وَرَغِيف الْخُبْزِ يشير عموماً إلى كمال حياة ربنا. والَقُرْص مِنَ الْخُبْزِ بِزَيْتٍ يوحي بأنه كما أن الزيت يدخل إلى القرص، فإنه "لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ" (يوحنا ٣: ٣٤). لقد كان ربنا ممتلئاً بروح قدس الله منذ ولادته كإنسان في هذا العالم. ومن الواضح أن الرُقَاقَة الوَاحِدَة مِنْ سَلَّةِ الْفَطِيرِ كانت مدهونة بالزيت، لأنها تُوصف هكذا في بقية نصوص الكتاب المقدس، وهي ترمز إلى ربنا وقد مُسِحَ للخدمة عند اعتماده، إذ نزل الروح القدس عليه كحمامةٍ. الكتف اليمنى تدل على ذبيحة المسيح الكفارية على الصليب، والذي كانت كل حياته مدخلاً إلى موته ذاك، فكان بذلك الذبيحة الكاملة وبمحض إرادته، وبها مجَّدَ الله وآتانا بالبركة.

لقد رأينا للتو كيف كانت تتم رفرفة الكتفية اليمنى أمام الرب، والآن نجد قَصَّ التَّرْدِيدِ وَسَاقَ الرَّفِيعَةِ الَّذِي رُدِّدَ تَرْدِيداً أَمَامَ الرَّبِّ يُخصص ليَكُونُ نَصِيباً لهارون وبنيه ليأكلوا منها. وهذا يرمز إلى دخول المؤمن إلى قوة (كتف) وأهلية موت المسيح الكفاري، والمحبة الإلهية (القص) لدى الرب والتي دفعته للمرور بمحنة الصلب لأجلنا.

إن ذبيحتي التَّرْدِيدِ والرَّفِيعَةِ قد أخذتا صفات ذبيحتي السلام والشركة. كم هو جميل أن تكون لدى المؤمنين نفس أفكار الله عن المسيح، وأن يتغذّوا على فكرة محبته الرائعة، التي نبعت من تقديم نفسه ذبيحة.

كان على هارون وبنيه أن يطبخوا لحم كبش الملء في مكان مقدس، وأن يأكلوا منه مع خبز التقديس. وقد وضع الله شرطين:

١-الكهنة المكرسون هم فقط الذين يأكلون منه.

٢-عليهم أن يأكلوا منه في يوم واحد فقط، و لا يبقى شَيْءٌ منه لليوم التالي.

وهذا يعلّمنا أن المؤمنين فقط هم المخولون بأن يكونوا في حضرة الله من خلال العبادة، وأن هذه الأمور الروحية الرائعة يتمتع بها المؤمنون بقوة الشركة الحاضرة.

وأخيراً، كان يجب تكرار طقس التكريس وتطهير المذبح لسبعة أيام متتالية، للدلالة من خلال العدد (٧) على كمال الله في حضوره خلال هذا العمل. وبالتأكيد كان على الكهنة خلال حياتهم الأرضية ألا ينسوا أبداً الدروس التي تعلموها من الذبيحة والتقديس. عسى أن نتعلم نحن المسيحيون هذه الدروس بعمق أكثر فأكثر إذ ندخل إلى حقيقتها.