الفصل ١٢

ثياب المجد والبهاء

(اقرأ خروج ٢٨: ١ - ١٠)

في دراستنا حتى الآن كنا ننتقل من الداخل إلى الخارج، من تابوت العهد في قدس الأقداس إلى فناء خيمة الاجتماع. لقد خرج الله إلى الإنسان من خلال شخص ابنه الحبيب، والإنسان يدخل إلى الله بالمسيح كرئيس كهنة اعترافنا. يُطلب إلينا أن "لاَحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ" (عبرانيين ٣: ١). والآن نبدأ بدراسة كيفية دخول الإنسان إلى الله كعابد خاشع.

هنا قد يسأل المشكك قائلاً عن السبب في أنه لم يتم ذكر المذبح الذهبي في المقدس، ولم يتم ذكر المغسلة النحاسية في فناء خيمة الاجتماع. ويبدو وكأن في الأمر حذفاً. ولكن قد بينا لتونا أن هناك سبب لذلك وهو جميل جداً. فما سيستخدمه الملحد المشكك للإشارة بسرور إلى أنه خطأ في كتاب عرضة للخطأ أو غير معصوم، يمكن أن يراه الفكر الروحاني على أنه علامات واضحة من الإلهام أو الوحي في كتاب معصوم عن الخطأ.

الجواب في هذا: ما لم يكن الكاهن العظيم في مكانه بالنسبة للمؤمن، لا يمكن الدخول إلى الله. كانت المرحضة النحاسية مخصصة للكهنة حيث يغسلون فيها أيديهم وأقدامهم من النجاسة بماء المرحضة النحاسية، والغاية من ذلك هو أن يكونوا نظيفين أنقياء في خدمتهم للمقدس. وكان المذبح الذهبي قائماً حيث كان الكهنة يُصعدون بخوراً للرب، وهذا رمز العبادة والتوسط لشعب الله. ولذلك سيكون تركيزنا الآن منصباً على هارون كرمز للرب يسوع الذي هو رئيس الكهنة الحقيقي.

"ثياب مقدسة... للمجد والبهاء"

علينا أن نتناول الآن موضوع ثياب المجد والبهاء التي كان هارون يرتديها. إن المسيح يُدعى "رئيس كهنة عظيم" (عبرانيين ٤: ١٤). أما هارون فلم يُدعى هكذا على الإطلاق. إن المرموز إليه يفوق الرمز بكثير. ففي حين أن هارون هو رمز هام للمسيح، إلا أنه يقف على تضاد معه من بعض النواحي. إنه سابق لأوانه، ولكن حسنٌ أن نشير إلى أوجه التغاير بين هارون وربنا.

في الواقع، كان على الله أن يأخذ حالة هارون الحقيقية بعين الاعتبار. فقد كان إنساناً، خاطئاً وساقطاً، رغم كونه كاهناً عظيماً. ففي يوم تقديس هارون وبنيه العظيم، كان لابد أن يقدم ذبيحة خطية عن ذاته وعن أولاده. وفي هذا لا يمكن أن يكون رمزاً لربنا، لأنه لم يكن في حاجة إلى ذبيحة خطيئة. فلقد كان هو نفسه ذبيحة الخطيئة على الصليب، ولم يكن أبداً في حاجة إلى مخلص لذاته.

ومن جديد، وفي يوم الكفارة العظيم، كان هارون يدخل مرتين إلى قدس الأقداس ليرش دم ذبيحة الخطيئة على وأمام كرسي الرحمة، أولاً عن نفسه، ومن ثم عن الشعب. لم يكن دخوله الأول لأجل نفسه يرمز إلى ربنا لأنه لم يكن أبداً في حاجة لذبيحة خطيئة عن نفسه. ولكن عندما كان هارون يدخل في المرة الثانية ليقدم ذبيحة عن خطايا الشعب، فهناك كان رمزاً لربنا الذي "َلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً" (عبرانيين ٩: ١٢).

ومن جديد نجد أنه كان يتوجب على هارون وبنيه أن يغسلوا أيديهم وأقدامهم في ماء المرحضة النحاسية لإزالة النجاسة عنهم قبل أن يدخلوا إلى المقدس ليقوموا بخدمتهم. ورغم أن هارون كان يتطهر وينال المغفرة بالدم الثمين (رمزياً)، فمع ذلك كان عرضة للوقوع تحت النجاسة، وكان في حاجة إلى التطهر بالماء. ومن الواضح أنه من هذه الناحية لم يكن يرمز لربنا، بل هو في موقف مغاير له، لأنه لم يتنجس رغم اجتيازه لمواقف نجاسة.

إذا وضعنا هذه الفروقات بينهما في ذهننا، فسوف نرى أن هارون هو رمز جميل لربنا من نواحٍ عديدة.

إن التعبير رئيس الكهنة يشتمل ضمناً على الكهنة. إن شخصية ربنا كرئيس كهنة تحدد مكانة المؤمنين ونصيبهم. وإن الإصحاح ٢٨ يخصص ما لا يقل عن ٣٩ آية لوصف ثياب رئيس الكهنة في المجد والبهاء، وأربع آيات فقط مكرسة لوصف ثياب الكهنة.

ألا يعلمنا هذا درساً بالغ الأهمية؟ لكي نصل إلى فهم صحيح لمكانتنا وقسمتنا ككهنة، أي كعابدين لله، من الضروري أولاً أن نفهم شخص، ومكانة، ونصيب رئيس كهنتنا العظيم. عندما ندرك، إلى حد ما، مكانته ونصيبه، يمكننا بسهولة أكثر أن نفهم مكانتنا ونصيبنا. إنهما يستمدان صفاتهما منه.

دعونا الآن نتفحص بالتفصيل ثياب الكاهن العظيم. لقد كانت عبارة عن:

  1. صُدْرَةٌ
  2.  وَرِدَاءٌ
  3.  وَجُبَّةٌ
  4.  وَقَمِيصٌ مُخَرَّمٌ
  5.  وَعِمَامَةٌ
  6.  وَمِنْطَقَةٌ
  7. وصفيحة ٌ ن الذهب النقي وقد نُقشت عليها العبارة "قُدْسٌ لِلرَّبِّ".

وإلى هذه أُضيفت ثياب الكهنة التي كانت مؤلفة من:

  1. أقْمِصَةً
  2. ومَنَاطِقَ
  3. وقَلانِسَ
  4. سَرَاوِيلَ مِنْ كَتَّانٍ لهارون وأبنائه.

إذ نمعن النظر في المعنى الرمزي لهذه القطع من الثياب، دعونا نتذكر أن الله نفسه قد صمّم هذه الثياب، وأن الرجال حكماء القلوب الذين كرسهم الله قد ساعدوا في صناعة هذه الثياب. لقد كان بصلئيل بشكل خاص قد دُعي ليكون قائداً ومديراً لعملية الصناعة هذه. فالله "مَلأَهُ مِنْ رُوحِ اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ صَنْعَةٍ" (خروج ٣٥: ٣١). كم هي رائعة فكرة أن الله أوحى لهم بطريقة تنفيذ أو إنجاز عملية إعداد هذه الثياب التي صممها هو بنفسه. لابد أن ندرك أن ذلك يعلمنا دروساً خاصة هامة جداً.

الرداء

إن كلمة "رداء" الواردة هنا هي في الأصل كلمة عبرية صرفة تعني "يرتدي"، ومن هذا السياق اكتسبت معنى تقنياً وصارت تشير في الكتاب المقدس إلى الثوب الكهنوتي. "انْتَخَبْتُهُ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ لِي كَاهِناً لِيَصْعَدَ عَلَى مَذْبَحِي وَيُوقِدَ بَخُوراً وَيَلْبَسَ أَفُوداً أَمَامِي, وَدَفَعْتُ لِبَيْتِ أَبِيكَ جَمِيعَ وَقَائِدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ!" (١ صموئيل ٢: ٢٨).

"فَيَصْنَعُونَ الرِّدَاءَ مِنْ ذَهَبٍ وَاسْمَانْجُونِيٍّ وَارْجُوَانٍ وَقِرْمِزٍ وَبُوصٍ مَبْرُومٍ صَنْعَةَ حَائِكٍ حَاذِقٍ". هذه القائمة مدهشة نوعاً ما. ويُذكر الذهب هنا لأول مرة إضافة إلى الاسمانجوني والأرجوان والقرمز، التي رأينا أنها كانت ألوان الستارة الداخلية. لم نقرأ قبل الآن عن الذهب كجزء من أي ثوب أو ستارة. فلماذا يُذكر الذهب هنا؟

إن الذهب المتمثل في الخيط الذهبي الرفيع الذي يتلألأ على ثوب الكاهن العظيم، سيذكرنا بأن المسيح يتخذ مكانه الحق (الذهب، البر الإلهي) ككاهن عظيم لنا. وإن كهنوته العظيم يقوم على أساس قوي. وإن فهمنا لهذا يدخل ارتياحاً إلى القلب والوجدان في المعرفة بأن علاقتنا مع ربنا تقوم على أساس عمل البر المجيد الذي أتمه على الصليب لخلاصنا.

الاسمانجوني (أو الصباغ الأزرق) يرمز إلى الشخص السماوي في ناسوت ربنا. إنه لم يصبح إنساناً إلى أن ولد من العذراء مريم في بيت لحم. ومع ذلك أمكنه أن يقول عن نفسه: "لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ" (يوحنا ٣: ١٣). "الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ" (ا كو ١٥: ٤٧).

الأرجوان يرمز إلى مجد ربنا كابن الإنسان الذي يتمتع بسلطة واسعة كملك الملوك ورب الأرباب والحاكم الديان على كل العالم.

القرمز يرمز إلى مجد ربنا كملك إسرائيل ومسيح شعبه الأرضي.

البوص المبروم يرمز إلى حياة ربنا التي لا عيب فيها. وإن "صَنْعَةَ حَائِكٍ حَاذِقٍ" تدلنا على مشاعر الفرح والسرور التي تنتاب الفكر في كل تفاصيل الحياة الجميلة لهؤلاء جميعاً. ولذلك نقرأ: "لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هَذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ" (عبرانيين ٧: ٢٦).

زنار الشدّ في الرداء

هذا كان قد صُنِعَ من نفس المادة كما الرداء. ولا داعٍ لأن نكرر هنا ما سبق أن قلناه عن التعليم الرمزي الكائن وراء الألوان.

ولكن ينبغي أن نتحدث قليلاً عن الزنار نفسه. إن "زنار الشدّ" هو تعبير يُستخدم فقط بما يخص رداء الكاهن العظيم ويرمز إلى العمل المتوارث. إنه يرمز إلى الخدمة. فمثلاً، بعد عشاء الفصح قام ربنا المبارك و"أَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا" (يوحنا ١٣: ١٤، ١٥). وفي مكان آخر نقرأ: " طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ" (لوقا ١٢: ٣٧).

كم هو مؤثر أن نعرف أن الرب في الأعالي يُعنى بشعبه على الدوام. إنه يهتم بنا، ولكنه ليس خادماً لنا، لأن الخادم يعمل حسب أوامر سيده. إن دُعينا إلى وليمة الملك، وقدّم لنا كوباً من الشاي بيده، فإنه يخدمنا، ولكنه سيستغرب كثيراً إذا سمع أننا قلنا أنه كان خادماً لنا. وإن خدمة الرب لنا طوعية وهي بدافع المحبة النابعة من قلبه، وهذه يفيض بها على شعبه. إنه يخدمنا كرئيس إزاء عيوبنا ونقائصنا وضعفاتنا؛ كمحام يدافع عنا حتى عندما يُتّهم المؤمن بارتكاب خطيئة. إن "زنار الشدّ" هو رمز خدمة ربنا المبارك التي يقدمها لخاصته. فكم هو جدير بالعبادة هكذا مخلص حتى نرفع له أسمى آيات الشكر والعرفان له.

صفيحتا الكتف

هذه لا تُذكر بشكل منفصل في الآية ٤، حيث نجد تعداد المواد المختلفة المتعلقة بثياب الكاهن العظيم. وكان من الواضح أن هذه كانت جزءاً من الرداء، ومثبتة إلى الصُّدرة بقوة بضفيرتين من الذهب.

وكان هناك حجرا جزعٍ نقشت عليهما أسماء بني إسرائيل، سِتَّةً مِنْ أسْمَائِهِمْ عَلَى الْحَجَرِ الْوَاحِدِ وَأسْمَاءَ السِّتَّةِ الْبَاقِينَ عَلَى الْحَجَرِ الثَّانِي حَسَبَ مَوَالِيدِهِمْ. هذان الحجران كانا عند ذاك موضوعين في محجرين أو قاعدتين من ذهب، على كتفي الرداء، وبهذا يحمل أسماءهم أمام الرب كتذكار. ما المعنى الرمزي الذي نفهمه من ذلك في هذا التدبير؟ في الكتاب المقدس، الكتف هو مكان القوة. ونقرأ: "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ" (أشعياء ٩: ٦). إن كتفاً واحدة كافية لرئاسة الكون، ولكن عندما نجد الموضوع يتعلق بحفظ المسيح لشعبه في حضرة الله فإننا نجد ذكراً لكتفين اثنين. وبهذا يعلمنا الله أن الرب يسوع بكل قوته العظيمة قادر على أن يحفظ الجميع في حضرة الله. "الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا" (عبرانيين ٩: ٢٤).

ونجد نفس الفكرة في مثل الراعي الذي يجد الخروف الضال. وعندما نجح الراعي الصالح، الذي يرمز إلى ربنا، في إيجاد الخروف نقرأ: "وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً" (لوقا ١٥: ٥). إننا كمؤمنين موضع عناية الرب واهتمامه بالفعل.

صفيحة الصدرة للقضاء

ولكن ليس هذا كل شيء. إذا كانت صفيحتا الكتف ترمزان إلى قوة الرب التي استخدمها لأجلنا، فإن صفيحة الصدرة ترمز إلى محبته لخاصته. لقد كانت مصنوعة من نفس المواد التي في الرداء، وهذا تأكيد على الأمجاد الشخصية والوظيفية لربنا. في هذه الصدرة كانت مجموعة مكونة من أربعة صفوف من الحجارة الكريمة، ثلاثة في كل صف، وقد حُفِرَت عليها أسماء بني إسرائيل الاثني عشر. ما المعنى الخاص في كل حجرة؟ لسنا مؤهلين للإجابة على هذا السؤال. لكن لاشك أن لهذا معنى ومغزى خاص. إن النقش الكائن على الحجر كان بالغ الأناقة والدقة، ويقول خبير في الحجارة الكريم ، معبراً عن رأيه في الترتيب الذي اختير لوضع الحجارة عليه، إنه كان يفوق المهارات البشرية، وأنه يمكن أن يتم بترتيب إلهي.

كان لكل حجر كريم مميزاته الخاصة من ناحية اللون، والكثافة، وقدرتها على كسر الضوء، وما أشبه ذلك، ولذلك فإن كل حجر كانت مختلفة عن الأخرى. وهكذا الحال عند الله الذي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات في الشخصية من حيث تجاوبها مع عمل الله في المؤمنين. بالتأكيد ليس الله صانع مواد بالجملة حتى لا تتمايز عن بعضها أبداً. يُقال أنه ليس هناك ورقتا نبات متشابهتان تماماً في الطبيعة، ولا يمكن أن نرى وجهين متطابقين تماماً بكل التفاصيل. فلا شك إذاً أن الحال هو هكذا أيضاً في عالم النعمة.

إن المدينة الرمزية في (رؤيا ٢١)، والتي نرى فيها تمثيلاً للكنيسة في حقبة الألفية للمسيح، كان فيها اثنا عشر حجراً كريماً في أساسها. وإذ نطالع العهد الجديد نميز الفرق بين بولس وبطرس ويوحنا وباقي خدام المسيح. إنهم يشعون على الأرض كلٌّ منهم بصفاته الخاصة، ويعكسون حياة المسيح فيهم من خلال ظروف حياتهم الأرضية. فهل سيتوقفون عن الإشعاع "لأن نجماً يمتاز عن نجم في المجد"؟ (١ كورنثوس ١٥: ٤١). لا نعتقد ذلك.

ولكن هذا واضح للغاية. فهذه الحجارة الثمينة التي تتلألأ على صفيحة الصدرة عند رئيس الكهنة، ترمز إلى رئيس كهنتنا العظيم، الرب يسوع المسيح، يمثل ويحفظ خاصته بعواطف محبة عميقة في حضرة الله. فلسنا ضائعين وسط الحشد. ولسنا مكوّمين معاً في عمومية مبهمة غير واضحة. كل واحد منا بحد ذاته هو موضع عنايته واهتمامه ودعمه، المتمثل بكل قوة الحب الإلهي في حضور الله.

علاوة على ذلك، فإن خواتم الذهب كانت موضوعة على طرفي صفيحة الصدرة، وخاتمان كانا مثبتان على الرداء، وكانت الخواتم مربوطة إلى بعضها برباط، أو عصابة باللون الأزرق. وبهذا تكون هناك العقيق وقد وضع في محاجر، أو قواعد، من الذهب. وفي الصدرة كانت الحجارة الثمينة مستقرة في الذهب في حشوتها. ولذلك كانت صفيحتا الكتف متصلتان بالرداء كما الحال مع الصدرة. بهذا الكم الهائل من التفاصيل يؤكد الروح القدس على الحقيقة المجيدة التي يتحد بها الحب الإلهي والقوة الإلهية لطمأنينة المؤمن، وحفظه أمام الله في العطف الإلهي. لقد قال ربنا بشكل واضح صريح: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي" (يوحنا ١٠: ٢٧، ٢٨). ما كان يمكن منح الحياة الأبدية لو أنه كان من المحتمل فقدانها. لو أمكن وجود فاصل ولو بجزء من الثانية أو ثغرة بعرض شعرة بيننا وبين الحياة الأبدية، لما أمكن أن تكون أبدية. وكلمة "لن تهلك" لا تعني أنك لن تهلك للحظة، بل أنك لن تهلك أبداً.

أرجو من القارئ أن يعذر الكاتب، إذا ما أورد حادثة بسيطة متعلقة بهذا الموضوع العزيز على قلبه. فعندما كان طفلاً صغيراً سردت له والدته الورعة هذه الحكاية. فمنذ سنوات عديدة، وقف تشارلز ستانلي، وهو واعظ موهوب ذو شخصية قوية وجذابة في مظهرها، وقف ذاك ليكرز في مدينة كبيرة شمال إنكلترا. فاستعار جَدُّ الكاتب كرسياً من حانوت قريب كي يقف الواعظ عليه. وسرعان ما احتشد الناس من حوله. وابتدأ الواعظ حديثه باستخدام مثال رائع عن ضمان المؤمن في المسيح، هذا الموضوع الذي نتحدث عنه لتونا. وتحدث عن المؤمنين هكذا:

"لم يكن المسيح يضع
أحجاراً كريمة على صدره"

لقد كان يكرز في منطقة كانت تنتشر فيها عقيدة أن المؤمن يمكن أن يخلص اليوم ويفقد خلاصه في اليوم التالي، فيخلص حتى يكاد يصل إلى بوابة السماء، ومع ذلك يضل ويخسر خلاصه عند النهاية. واستخدم السيد ستانلي هذا التعبير المذهل أن "أشكر الله لأنه ليس لديه مزلاج أمام المؤمنين يفتحه اليوم ويغلقه غداً". وبإسهابه في الحديث عن هذا الموضوع في أن صدرة هارون كانت ترمز إلى محبة المسيح لخاصته التي لا تبدل فيها، وأن خواتم الذهب كانت ترمز إلى البر الإلهي، وأن الرابطة أو العصابة الزرقاء اللون ترمز إلى النعمة الإلهية، أكد على الضمان المطلق للمؤمن. وقالت لي والدتي كيف كانت تسمع إيماءات الموافقة الدافئة الصادرة عن المستمعين.

إذاً كانت الحجارة الكريمة، التي على صفيحتي الكتف أو الصدرة، منقوشة. لقد قال الله عن صهيون: "هُوَذَا عَلَى كَفَّيَّ نَقَشْتُكِ. أَسْوَارُكِ أَمَامِي دَائِماً" (أشعياء ٤٩: ١٦). والحفر أو النقش يدل على شيء ثابت باقٍ معصوم عن الخطأ ومتعذر محوه أو إزالته. كم هو مؤثر التفكير بأن تلك الحجارة المنقوشة ترمز إلينا في مكانتنا الثابتة والراسخة كمؤمنين في قلب المسيح.

"لا يعاني المخلصون أبداً،
ولا شيء يفصلهم عن الرب"

الأورِيم وَالتُّمِّيم

إن الإسمين أوريم وتميم، هي كلمات عبرية صرفة، وتعني "الأنوار"، و"الكمال". لسبب وجيه ما لا نجد تفاصيل عن كيفية وضعها في الصدرة وكيف كانت تُصنع. والتخمين بخصوص هذا الموضوع لا يفيد. لقد وُضِعَت في "صدرة القضاء"، وبذلك تكتسب الصدرة اسمها هذا من وجود الأوريم والتميم فيها. والقضاء هنا لا يعني الدينونة، بل حسن التمييز والمحاكمة. نتحدث بلغتنا الحياتية اليومية عن رجل نصفه بأنه يتمتع بملكة التمييز والمحاكمة العقلية، أي أنه قادر على تقديم الرأي السديد. الآية في (المزمور ١١٩: ٦٦) تقول: "ذَوْقاً صَالِحاً وَمَعْرِفَةً عَلِّمْنِي لأَنِّي بِوَصَايَاكَ آمَنْتُ".

ونعلم عن استخدامها من خلال نصوص كتابية أخرى. فمثلاً، عندما كان الله يعطي أوامره وتعليماته لموسى ومن خلفه، يشوع، قال: "فَيَقِفَ أَمَامَ أَلِعَازَارَ الكَاهِنِ فَيَسْأَلُ لهُ بِقَضَاءِ الأُورِيمِ أَمَامَ الرَّبِّ. حَسَبَ قَوْلِهِ يَخْرُجُونَ وَحَسَبَ قَوْلِهِ يَدْخُلُونَ هُوَ وَكُلُّ بَنِي إِسْرَائِيل مَعَهُ كُلُّ الجَمَاعَة" (عدد ٢٧: ٢١). ونقرأ أيضاً: "وَلِلاوِي قَال: «تُمِّيمُكَ وَأُورِيمُكَ لِرَجُلِكَ الصِّدِّيقِ الذِي جَرَّبْتَهُ فِي مَسَّةَ وَخَاصَمْتَهُ عِنْدَ مَاءِ مَرِيبَةَ" (تثنية ٣٣: ٨). ومن الواضح بشكل أو بآخر أنه في أوقات الشدة أو الارتباك، كانت تظهر تساؤلات عن الأوريم والتميم عند رئيس الكهنة، وكان الله نفسه يقدم الإجابة على هذه التساؤلات.

ومن هنا نرى أن هناك ثلاثة أشياء واضحة تتعلق بالصدرة، وهي:

  1. صفيحتا الكتف ترمزان إلى السلطة أو القوة.
  2. الصدرة التي تدل على المحبة.
  3. الأوريم والتميم ترمزان إلى الحكمة.

وهذا ارتباط حكيم جميل. فقد تكون لدينا المحبة دون القوة. فمثلاً، الأم لديها محبة إذ تُعنى بطفلها المحتضر ويكاد قلبها ينفطر عليه، ولكن ليس لديها القوة لتنقذ حياته. ونجد عند رجل ثري محبة وقوة، ومع ذلك تعوزه الحكمة، إذ نراه يعطي ابنه المحبوب كل ترف يمكن للمال أن يشتريه، جاعلاً إياه ينغمس في النزوات والأهواء، إلى أن يدمر حياة ابنه لنقص الحكمة لديه.

ولكن عندما تجتمع الحكمة والمحبة والقوة معاً، كما هو الحال مع ربنا المبارك في علاقته مع شعبه،فإننا نحصل على نتائج كاملة مثالية. فلنبتهجنّ دائماً في ذلك.

جُبّة الرداء

كانت جُبّة الرداء كلها من الاسمانجوني، رمزاً للشخص الإلهي في رئيس كهنتنا العظيم: "فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ" (عبرانيين ٤: ١٤). "لأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ الْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا" (عبرانيين ٩: ٢٤). يا لغبطتنا إذ أن لنا ذاك ممثلاً عنا.

على هدبِ هذا الرداء كانت قد وضِعَت رُمَّانَاتٍ مِنْ اسْمَانْجُونِيٍّ وَارْجُوانٍ وَقِرْمِزٍ، وجُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً جُلْجُلَ ذَهَبٍ وَرُمَّانَةً عَلَى اذْيَالِ الْجُبَّةِ حَوَالَيْهَا. وكانت الرمانات ترمز إلى الإثمار، والأجراس إلى الشهادة. وكانت الألوان على الرمانات ترمز إلى الأمجاد الشخصية والوظيفية للرب يسوع المسيح. وأما أجراس الذهب فترمز إلى البر الإلهي.

لكم يسرنا أن نرى إثمار ربنا (الرُمَّانَات) لله المساوي لشهادته له (الأجراس). أما معنا فالأمور غالباً ما لا تكون متوازنة. فسلوكنا وكلامنا غالباً ما لا يتطابقان. إن على السلوك أن يعطي قوة للكلام. وعلى الكلام أن يكون نتاجاً للسلوك، كما هو في الواقع.

لاحظ في الآية ٣٣ من هذا الأصحاح أن الرُمَّانَات تأتي أولاً في الترتيب، ثم تُذكر الأجراس. أما في الآية التالية فالأجراس يرد ذكرها أولاً ثم الرُمَّانَات. فلماذا هذا الاختلاف؟ في الحياة يجب أن يأتي الإثمار أولاً، قبل أن تكون هناك شهادة حقيقية. وإن أولئك الذين يشهدون بدون أن يمارسوا ما يعلمونه هم نحاس يطن أو صنج يرن.

أما في الحال مع ربنا المبارك فقد كان كل شيء كاملاً ومتوازناً.

في الآية التالية، وكما سبق فقلنا، نجد أن الترتيب ينعكس. فهو يتعلق بهارون داخلاً إلى المقدس، وخارجاً منه. عندما دخل ربنا إلى السماء، كان ذلك بمثابة إعلان النبأ العظيم (الأجراس) بالكفارة، وقد اكتملت لمسرة الله ورضائه الكامل، هذا النبأ الذي أعلن عن نفسه بالحجاب الذي انشق وبالقيامة المجيدة. ثم تأتي ثمار هذا الحدث (الرمانات)، التي ترمز إلى نتائج دخول ربنا إلى حضرة الله في انسكاب الروح القدس، الذي نرى نتائجه المغبوطة المباركة من يوم العنصرة ولا نزال حتى اليوم.

صفيحة الذهب النقي على العمامة

هذا الزخرف المذهل، كانت قد حُفِرَت عليه الكلمات "قدسٌ للرب"، وكان موضوعاً على خيط اسمانجوني على جبهة عمامة رئيس الكهنة. "فَتَكُونُ عَلَى جِبْهَةِ هَارُونَ. فَيَحْمِلُ هَارُونُ اثْمَ الاقْدَاسِ الَّتِي يُقَدِّسُهَا بَنُو اسْرَائِيلَ جَمِيعِ عَطَايَا أقْدَاسِهِمْ. وَتَكُونُ عَلَى جِبْهَتِهِ دَائِما لِلرِّضَا عَنْهُمْ أمَامَ الرَّبِّ" (خروج ٢٨: ٣٨). إن كل ما يقدم إلى الله يجب أن يكون مقدساً كلياً. ولكن في حالة المؤمنين، ورغم علاقتهم الأكيدة أمام الله على أساس عمل المسيح الكفاري، فللأسف هناك نقائص وعيوب لديهم. فكيف يمكن لله إذاً أن يقبل تقدمات المؤمن في العبادة؟

إن الصفيحة الذهبية المثبتة في مكانها البارز هي شهادة دائمة على حضور الله إلى البر وقد أنجز بالكامل مغطياً على كل نقائص وعيوب دنو المؤمنين إلى الله ملقياً بها جانباً بحيث لا يبقى إلا ما هو من الروح القدس، حتى ذاك الذي هو "قدسٌ للرب". يا له من رمز مبارك ويدعو إلى البهجة، مشجعاً المؤمن على المجيء إلى حضور الله المقدس بجرأة. "وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ" (عبرانيين ١٠: ٢١، ٢٢).

القميص المخرم المصنوع من البوص الناعم

إن هذا الثوب الذي هو أقرب ما يكون إلى الداخل يدل على الكمال المطلق في حياة وسلوك مخلصنا وربنا المعبود. اللافت أنه في يوم الكفارة العظيم لم يكن رئيس الكهنة يرتدي ثياب المجد والبهاء، بل هذا القميص من البوص الناعم. لقد مضى ربنا إلى الصليب، ليس بادعائه حكم الكون، ولا بكونه ملكاً على اليهود، بل بكمال حياته، ولذلك ما كان للموت سطوة عليه، فكان قادراً على أن يبذل حياته كذبيحة كفارية عن الخطيئة، لأجل بركتنا الأبدية.

ثياب بني هارون

صُنِعَت قمصان ومناطق وقلانس لبني هارون، وأيضاً "سَرَاوِيلَ مِنْ كَتَّانٍ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ. مِنَ الْحَقَوَيْنِ الَى الْفَخْذَيْنِ تَكُونُ" (الآية ٤٢). هذه كان هارون وبنيه يلبسونها. وبذلك لم يكن رمزاً للمسيح. تبارك الله، الذي لم يكن لديه عُري يحتاج لأن يستره. لقد كان مطلق الكمال. أما بالنسبة لهارون وبنيه فإن تدبير الله المدروس لأجلهم يظهر لنا أن علاقتنا تكون إنما مع إله قدوس. فلا يجب أن يكون هناك جرأة في حضرته المقدسة.