الأصحاح ٩

البوق الخامس والسادس

بوق الويل الأولى:

١- ١٢- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الْخَامسُ، فَرَأَيْتُ كَوْكَباً قَدْ سَقَطَ منَ السَّمَاء إلَى الأَرْض، وَأُعْطيَ مفْتَاحَ بئْر الْهَاويَة. فَفَتَحَ بئْرَ الْهَاويَة، فَصَعدَ دُخَانٌ منَ الْبئْر كَدُخَان أَتُونٍ عَظيمٍ، فَأَظْلَمَت الشَّمْسُ وَالْجَوُّ منْ دُخَان الْبئْر. وَمنَ الدُّخَان خَرَجَ جَرَادٌ عَلَى الأَرْض، فَأُعْطيَ سُلْطَاناً كَمَا لعَقَارب الأَرْض سُلْطَانٌ. وَقيلَ لَهُ أَنْ لاَ يَضُرَّ عُشْبَ الأَرْض وَلاَ شَيْئاً أَخْضَرَ وَلاَ شَجَرَةً مَا، إلاَّ النَّاسَ فَقَط الَّذينَ لَيْسَ لَهُمْ خَتْمُ الله عَلَى جبَاههمْ. وَأُعْطيَ أَنْ لاَ يَقْتُلَهُمْ بَلْ أَنْ يَتَعَذَّبُوا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَعَذَابُهُ كَعَذَاب عَقْرَبٍ إذَا لَدَغَ إنْسَاناً. وَفي تلْكَ الأَيَّام سَيَطْلُبُ النَّاسُ الْمَوْتَ وَلاَ يَجدُونَهُ، وَيَرْغَبُونَ أَنْ يَمُوتُوا فَيَهْرُبُ الْمَوْتُ منْهُمْ. وَشَكْلُ الْجَرَاد شبْهُ خَيْلٍ مُهَيَّأَةٍ للْحَرْب، وَعَلَى رُؤُوسهَا كَأَكَاليلَ شبْه الذَّهَب، وَوُجُوهُهَا كَوُجُوه النَّاس. وَكَانَ لَهَا شَعْرٌ كَشَعْر النّسَاء، وَكَانَتْ أَسْنَانُهَا كَأَسْنَان الأُسُود، وَكَانَ لَهَا دُرُوعٌ كَدُرُوعٍ منْ حَديدٍ، وَصَوْتُ أَجْنحَتهَا كَصَوْت مَرْكَبَات خَيْلٍ كَثيرَةٍ تَجْري إلَى قتَالٍ. وَلَهَا أَذْنَابٌ شبْهُ الْعَقَارب، وَكَانَتْ في أَذْنَابهَا حُمَاتٌ، وَسُلْطَانُهَا أَنْ تُؤْذيَ النَّاسَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَلَهَا مَلاَكُ الْهَاويَة مَلكاً عَلَيْهَا اسْمُهُ بالْعبْرَانيَّة «أَبَدُّونَ» وَلَهُ بالْيُونَانيَّة اسْمُ «أَبُولّيُّونَ». الْوَيْلُ الْوَاحدُ مَضَى هُوَذَا يَأْتي وَيْلاَن أَيْضاً بَعْدَ هَذَا". تفاصيل هذه "الويل" محبوكة بلغة ورموز أسرارية، ولكن المعنى العام يبدو واضحاً. الأبواق تمثل صعوبات أخرى في حينها أكثر من الأختام أو الجامات. ولكن العناء، والصبر، وانتظار الله لأجل الاستنارة والفهم هي عوامل أساسية في تفسير الكتابات المقدسة. لدينا "مسحة من القدوس"، حتى نحن الأطفال في المسيح (١ يوحنا ٢: ٢٠، ٢٧)، "ولنا فكر المسيح" (١ كور ٢: ١٦)، أي إمكانية الفهم العقلي، وهكذا نصبح مؤهلين إلهياً لفهم الإعلان المكتوب لإلهنا.

كوكبان ساقطان:

١- "كَوْكَباً قَدْ سَقَطَ منَ السَّمَاء إلَى الأَرْض". هذه تدل على أن الرائي قد رأى الكوكب بعد أن سقط، في حين أن ترجمات أخرى تقول "رأَيْتُ كَوْكَباً يسقُط منَ السَّمَاء إلَى الأَرْض" أي خلال مرحلة سقوطه.

تحت البوقين الثالث والخامس (٨: ١٠؛ ٩: ١) يتبدى في المشهد النبوي أشخاص مرتدون ذوي مكانة عالية وسلطة آمرة مؤثرة. "الكوكب العظيم" في ٨: ١٠ و"الكوكب" في ٩: ١لا يرمزان إلى أنظمة ذات سلطة مدنية أو كنسية سواء كانت فردية أو متحدة، ولا تشير إلى تتابع لأشخاص بارزين، بل تشير إلى أولئك الذين وُضعوا مرة في السماء المعنوية، أي أشخاص مميزين يتمتعون بسلطة ولهم صفة دينية لم يسقطوا أو ينحطوا أو يسلكوا تحت تأثير الشيطان. في الإشارة الأسبق (٨: ١٠) الحاكم المنحط يملأ الجزء الغربي من العالم الروماني (الأكثر فساداً وإثماً) بالبؤس والموت. في المشهد الأخير هو على وشك أن يطلق العنان لقوة مهلكة ومعتمة شيطانية على الجزء المرتد من يهوذا ١. الأمميون المرتدون ستقع عليهم الدينونة تحت البوق الثالث؛ اليهود المرتدون سيعانون تحت البوق الخامس. حالة الأشياء تحت الويل الأولى، أو البوق الخامس، ستتجاوز كل ما شهدناه حتى الآن. تأثير شيطاني مباشر وقوة شيطانية تُنشّط عملاء الشر وأدواته.

التشابه والتسلسل التاريخي:

تحت الدينونات والأحداث المتتالية المعلنة في سفر الرؤيا هناك توافق تاريخي معين وتتابع يمكن ملاحظته. ولكن لا يمكن أن يكون هناك تحقيق جزئي أو أقل شمولية، نجده في سجلات المؤرخين.

إن الرؤيا، من الأصحاح ٤ وحتى ٢٢: ٥، ليست تاريخاً، بل نبوة. ظلال المستقبل فقط تُلقى على الصفحات البارعة التي كتبها جيبون وآخرون. ولكن بالنسبة إلى المبادئ التي تحكم البشر والأمم فهي تبقى نفسها دائماً وأبداً، إذ "لا جديد تحت الشمس"، بل تشابه تاريخي مع النبوءات التي تحت الأختام، والأبواق، والجامات يُسمح بأن يكون بشكل كامل. وإننا على قناعة كاملة بفكرة أن التطبيق التاريخي في سفر الرؤيا، وخاصة في الجزء المركزي، كما يُصور في معظم الأدب المعاصر، هو خطيئة مميتة. مسار النبوءة يُستأنف بشكل يتلاءم مع آخر أسابيع دانيال السبعين أو الـ ٤٩٠ سنة (دانيال ٩: ٢٧)، وبعد انتقال القديسين السماويين (١ تسا ٤: ١٧). يشهد بولس على الانتقال. ويوحنا في الرؤيا يرى المنتقلين في السماء (الأصحاح ٤). كل هذه الفترة الكنسية، تاريخ الكنيسة بحد ذاته، هو حلقة كبيرة وشيّقة بشدة، ولها مكانها بين نهاية الأسبوع الـ ٦٩ وبدء الأسبوع الـ ٧٠ من دانيال. الكنيسة ليست هي موضوع النبوءة بل موضوع الرؤيا. كان هناك سر مخفي عن البشر والملائكة إلى أن كُشف هذا السر لبولس وكشفه هذا لنا (أفسس ٣). اليهود، والأمميين من بعده، هم موضوع النبوة. الأهمية الكبيرة لليهود هي المفتاح لفتح النبوءة. الفترات النبوية لها علاقة جميعاً باليهود وأورشليم (دانيال ٩: ٢٤) ٢؛ وعلى نفس المنوال تلك المحتواة في الجزء المركزي من الرؤيا. ولكن، كما قلنا، التاريخ يقدم تشابهاً (وليس تحقيقاً) للأجزاء النبوية من الرؤيا؛ تشابهاً لا يخلو من الأهمية. بحسب أقدر المدارس التاريخية- وعلى هذا يتفق الزملاء جوهرياً- الأختام الأربعة الأولى تُمثل أربع فترات متعاقبة من روما الوثنية. ثم عند سقوط الوثنية والانتصار التاريخي للمسيحية اهتدى عدد كبير من اليهود والأمميين إلى الله، وهذا ما نفترض أن الأصحاح ٧ يتكلم عنها. ثم يُقال أن الأبواق الأربعة الأولى من الممكن أن تتعلق بروما الوثنية، ولكن في انحدارها وسقوطها وانقراضها في الغرب. الغارات الشمالية للقوطيين الجرمانيين، واللومبارديين، والهنغاريين، على الحقول الخصبة والبلدات الغنية والمزدهرة في إيطاليا سرعان ما وصلت إلى ذروتها في دمار إمبراطورية القياصرة. دور البرابرة الهمجيين في روما نفسها، التي كانت يوماً عاهرة العالم الفخورة والمتعجرفة، صار مشهداً محزناً ولكن مفيداً في التعليم. سقطت روما عام ٤٧٦ م.

من جديد، الكوكب الساقط في الأصحاح ٩ يُفترض أنه يشير إلى محمد العربي الكبير، وبالتأكيد يُعتبر نموذجاً أولياً للأنبياء الكذبة الذين سيأتون لاحقاً، وابن الخطيئة، وضد المسيح- هذه الألقاب التي تشير إلى نفس الشخص. ضد المسيح الذي سيأتي سيرأس تحت الشيطان الاندماج الأكثر فظاعة الذي سيتميز بتدمير الأرواح والعقائد التجديفية. بمتابعة التطبيق التاريخي، جيش الجراد سيكون الأعراب الذين ستصل منجزاتهم العسكرية إضافة إلى فتوحاتهم الروحية إلى مستوى يثير العجب حتى هذا اليوم. لقد تم فتح الشرق. وحلَّ الهلال محل الصليب. ودمار الشرق يمكن تشبيهه بالخراب الذي يسببه الجراد. انتصار شارلز المطرقة (المسمى هكذا نظراً لبراعته العسكرية) في تورز، في فرنسا، وحده أوقف زحف الجيش العربي وحفظ الغرب من الارتداد، مع تبعاته المريعة لذلك الوقت وللأبدية. أشهر العذاب الخمسة (٩: ١٠) يُفترض أنها تشير إلى السنوات الـ ١٥٠ التي دام فيها الفتح الذي قامت به القبائل الإسلامية بشكل لا يُكبح على أساس نظرية السنة-يوم. ثم أن البوق السادس، أو الويل الثانية، ينطبق على فترة انتعاش المحمدانية تحت ظل الأتراك، وانقراض الإمبراطورية اليونانية-الرومانية في حادث حصار وأسر القسطنطينية الباقي في الذاكرة. لقد كانت هناك محاولات متكررة دامت ثمانية سنوات لتأسيس إمارات إسلامية في النصف الشرقي من الإمبراطورية، ولكن القسطنطينية الجميلة، القابعة على حدود أوربا وأسيا- حيث البوسفور يفصل القارتين- تحدَّت الأسر. ولكن ساعتها جاءت. وصدر المرسوم وصار قيد التنفيذ. دخل محمد الثاني ٣ القسطنطينية صباح التاسع والعشرين من أيار ١٤٥٣. وتم تطهير الكنيسة اليونانية العظيمة ثم تحولت إلى مسجد، وانتشر رمز الهلال على أسوار مدينة القياصرة.

ولكن السلطة التركية الفاسدة ضعفت، وتم جفاف نهر الفرات الذي تم التنبؤ عنه (١٦: ١٢)، ذلك النهر المشهور، الذي قال المؤرخون أنه يشير إلى السلطة التركية القاسية آنذاك التي راحت تترنح على مدى عدة سنوات وكادت تسقط. كان دمارها الكامل أمراً مؤكداً. في هذا نجد بعضاً من النقاط الرئيسية في تفسير الأجزاء النبوية من سفر الرؤيا التي توافق على حدوثها المدرسة التاريخية. في تقديرنا إن الوضع يتعذر برهانه أو الدفاع عنه بشكل مؤكد. لا يمكن حصر هذه الرؤى النبوية بحقائق التاريخ. هناك تشابه عام بين التاريخ والرؤيا ولكن ليس كل ما يرد في الرؤيا تحقق في التاريخ. والله سوف يؤكد على صحة كل شيء في تلك الأزمة القصيرة والشديدة التي سيتعرض لها بنو إسرائيل والعالم المسيحي، بعد انتقال القديسين السماويين، في الفترة القادمة التي سيحكم فيها ضد المسيح وحليفه السياسي، الوحش أو الإمبراطورية المنتعشة، برأسها الشخصي العظيم، القرن الصغير الذي في الغرب (دانيال ٧: ٧، ٨).

الكوكب الساقط؛ أو، ضد المسيح الشخصي:

ظهور ضد المسيح في الأيام الأخيرة المظلمة وسط الأمميين واليهود المرتدين كان بلا شك مادة للإيمان في زمن الرسل وعصر الكنيسة المسيحية الذي تبعه. كان هناك عدة أشخاص ضد المسيح وعدة أنظمة ضد المسيحيين مارست الفظائع، ولكن هناك منظر أشد قتامة من ذلك. ضد المسيح سيأتي وهو مرتد من أصل يهودي، وسيكون تجسيداً للشر الشيطاني وسيُهلك كل من وطأ على الأرض؛ وإضافة إلى ذلك، سيجمع في نفسه كل شكل ووجه للخطيئة، وسيرأس النظام الفاسد الأكثر فظاعة والأكثر شراً على وجه الإطلاق- مزيجاً من الاعتراف اليهودي والمسيحي، و"الدين الطبيعي" أيضاً- في تمرد مفتوح وقح على الله. سينتحل مكانة المسيح وألقابه، ويعمل على الأرض. سيجترح المعجزات. علامات فائقة الطبيعة ستُصادق على مهمته، وبهذه سيخدع العالم المسيحي الآثم، وهكذا يوقعه في شرك موصلاً إياه إلى دمار ميؤوس منه.

وسيظهر ضد المسيح شخصياً ٤ خلال الطور الأخير من انتعاش قوة روما عندما تتبعثر الإمبراطورية إلى عشرة ممالك. هذه الشخصية الأخيرة من روما لهذا السبب كان يخشاها المسيحيون الأوائل. ففي أذهانهم، كان الانتعاش المستقبلي للسلطة المدينة لروما وظهور ضد المسيح مترابطان متزامنان. وكان المسيحيون ميالين إلى الصلاة لأجل استمرار الإمبراطورية بشكلها الإمبراطوري، حتى مع استمرار الحكم أقسى القياصرة، كملاذ أخير ضد التسلط الآتي على يد ضد المسيح. لقد كان آباء الكنيسة على معرفة جيدة بموضوع ضد المسيح. واعتقد البعض أنه الشيطان متجسداً؛ وآخرون تكلموا عنه على أنه "ابن الشيطان". العلاقة بين الشيطان وضد المسيح في المعرفة التقليدية التي انتشرت في القرون المسيحية الأربعة الأولى تُركز على فكرتين متمايزتين: الأولى، أن ضد المسيح الآتي (كما صوره يوحنا)، أو إنسان الخطيئة (كما وصفه بولس)، هو إنسان حقيقي من أصل يهودي أرضي، يسيطر عليه الشيطان مباشرة؛ والثانية، أنه الشيطان متجسداً، ومن هنا فإنه من خلال الحبل به يُحاكي الولادة العجائبية لربنا المبارك. الفكرة الأولى لاشك أنها كتابية، وهي هامة وشيّقة حتى أن جيروم في الغرب، والذهبي الفم في الشرق، علّما كل على حدة بأن ضد المسيح هو إنسان يحثه الشيطان في معارضة مباشرة لأولئك الذين يحافظون على فكرة أنه كان الشيطان في هيئة بشرية. "ومنذ ذلك الحين فصاعداً بدأ ذلك الافتراض بأن ضد المسيح هو الشيطان نفسه يتلاشى أو يموت تدريجياً من التقليد الكنسي". لقد كان المسيحيون الأوائل يعتبرون نيرون ٥، بشكل خاص، وكلاوديوس، على أنه البادِر الذي يمهِّد لظهور ضد المسيح. الشر الذي يكاد يفوق البشر عند نيرون يُميزه عبر التاريخ على أنه الرمز التاريخي المؤهل والملائم أكثر للدلالة على إنسان الخطيئة والدماء الآتي. يُطبّق جماعة مفسرين البروتستانت المصطلح "ضد المسيح" على النظام البابوي. ولكننا نعتقد أن هناك تخبط في هذا الفكر. فـ "ضد المسيح"، سواء كان بالمفرد أو الجمع، يشير إلى شخص أو أشخاص، وليس إلى نظام. لقد كتب المفسرون في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الكثير وبمهارة عن هذا الموضوع، ونجد أنفسنا مضطرين لنضيف إلى ما كتبوه، ولكن بشكل أدق وأصح بكثير من كثير من خصومهم البروتستانت. الجماعة الأولى تنظر إلى النهاية على أنه فيها يكون ظهور شخص ضد المسيح ٦، وهم في هذا على صواب. إذ أنه سيأتي في المستقبل. يرى الدكتور مانينغ، وهو أحد المميزين في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، أن ضد المسيح، أو "إنسان الخطيئة"، هو فرد واحد، وليس تعاقب من أشخاص أو نظام. يقول: "نكران شخصانية ضد المسيح فيها إنكار لشهادة الروح القدس الواضحة في الكتاب المقدس" ٧. ويضيف الكاردينال العالي: "ضد المسيح قد يُجسد روحاً، ويُمثل نظاماً، ولكن مع ذلك يبقى شخصاً" ٨. يوجز بيلارمين، الفذ الذي لا مثيل له بين الكتاب الكاثوليك الرومان، وبإحكام الاعتقاد حول موضوع ضد المسيح، فيقول: "يعتقد جميع الكاثوليك أن ضد المسيح سيكون شخصاً فرداً واحداً". وهذا الشخص سيكون مميزاً، رجلاً، يهودياً، مرتداً، وهو ضد المسيح الذي تتكلم عنه النصوص النبوية في الكتاب.

يرى بعض المفسرين المعاصرين أن ضد المسيح هو الرئيس المدني للإمبراطورية الرومانية، ولكن هذا ليس صحيحاً. إنه المسيح الكذاب، خادم الشيطان وسط يهود أورشليم، الذي يصنع معجزات ويظهر عجائب من خلال قوة شيطانية مباشرة. إنه يجلس في هيكل الله، ويُطالب بعبادته كإله. الوحش (روما)، النبي الكذاب أو ضد المسيح، والتنين (الشيطان) هما موضع تأليه وعبادة ويُنافسان الله الآب والابن والروح القدس في العبادة. الشعب المرتد يقبل ضد المسيح كملك. هو قوة سياسية عظيمة. صحيح أنه يؤثر على العالم المسيحي، ولكن من الناحية الدينية وليس السياسية. حكومة العالم، المدنية والسياسية، تكون عندئذ في يد رئيس أممي عظيم. وذاك يحكم عرش روما سياسياً تحت إدارة الشيطان. ضد المسيح يكون في أورشليم. رئيس الأمميين يسيطر في روما. كلا الرجلين خُدام للشيطان، ويتحالفان في الشر؛ الأول يهودي، والأخر يهودي. كلاهما يتواجدان لدى مجيء الرب في الدينونة، وكلاهما يُرسلان عندئذ أحياء إلى بحيرة النار- الهلاك الأبدي.

عبارة "ضد المسيح" يستخدمها كاتب سفر الرؤيا وذلك لأربع مرات (١ يوحنا ٢: ١٨، ٢٢؛ ٤: ٣؛ ٢ يوحنا ٧)، ومرة في صيغة الجمع (١ يوحنا ٢: ١٨). من هذه النصوص نحصل على عدة نقاط هامة. ظهور أضداد المسيح هو علامة محددة ومميزة لآخر الأزمنة؛ إنهم مرتدون. ضد المسيح يُنصب نفسه في معارضة مباشرة لكل ما هو أساسي في المسيحية- إعلان الآب والابن- وأيضاً للحقيقة المميزة لليهودية- يسوع المسيح (١ يوحنا ٢: ٢٢). شخص الرب القدوس أيضاً موضوع هجوم شيطاني يمارسه أضداد المسيح (٢ يوحنا ٧). الشر في هذه الشخصية يكون موجوداً بشكل كامل في ضد المسيح ذاك الآتي، والذي يبلغ فيه كل شكل من الشر الديني ذروته.

بولس، في إحدى رسائله المبكرة والمختصرة (٢ تسالونيكي)، يرسم شخصية تتميز بالجحود والتمرد والادعاء الذي يفوق كل ما رآه العالم، شخصية متطابقة بشكل واضح مع ضد المسيح الذي عند يوحنا. إنهما واحد وهما نفس الشخص، وهذا ما أجمع عليه الكل تقريباً في كل الأجيال.

من الواضح أن بولس قد علّم وأعلم شخصياً المسيحيين في تسالونيكي بالمواضيع الجديدة المتعلقة بالارتداد الآتي أو التنكر العالمي للمسيحية، وعما سيكون بعد ذلك مباشرة من استعلان لإنسان الخطيئة (٢ تسا ٢: ٥). ويضيف الآن إلى التعليم الشفهي الذي سبق ونقله. هناك ثلاث صفات مميزة لضد المسيح نجدها هنا: "المتمرد"، "إنسان الخطيئة"، و"ابن الهلاك". الأولى تشير إلى أنه يُنصب نفسه معارضاً مباشرة لكل سلطان إلهي وبشري. والثانية هي أنه التجسيد الحي والفعال لكل شكل أو صيغة من الشر- أي الخطيئة متجسدة. والثالثة أنه تطور الكامل المنتفخ لسلطة الشيطان، ومن هنا فإن الهلاك إن مصيره وقدره الملائمان. هذه الشخصية المخيفة تغتصب مكان الله على الأرض، وتجلس عندها في الهيكل في أورشليم، مطالبة بالعبادة الإلهية والإكرام (الآية ٤). تأثيره الديني، لكونه ليس شخصية سياسية لأي شكل، يسيطر على جموع المسيحيين واليهود المعترفين. يقعون في شرك الشيطان. ويكونون قد تخلو عن الله، وأنكروا علانية الإيمان المسيحي والحقيقة الجوهرية في ليهودية، والآن في عدالة جزائية يتخلى الله عنهم ويتركهم إلى الضلال الفظيع في اقتبالهم إنسان الخطيئة في حين يؤمنون بأنه المسيح الحقيقي (الآية ١١). يا لها من أكذوبة! ضد المسيح يقتبلونه ويؤمنون به بدلاً من مسيح الله! إن قارنا الآية ٩ بالآية أعمال ٢: ٢٢ سنلاحظ توافقاً لافتاً للانتباه. نفس المفردات نجدها في كلا النصين، أعني، القوة، الآيات، والعجائب. وبهذه سيصادق الله على رسالة وخدمة يسوع الناصري (أعمال ٢: ٢٢)، وبنفس أوراق الاعتماد يقدم الشيطان ضد المسيح إلى عالم مرتد (٢ تسا ٢: ٩). ولكن، في الحالة الأخيرة، الكذب والخداع تميز بشكل بارز ما هو فوق الآيات البشرية في ذلك اليوم (٢ تسا ٢: ٩، ١٠).

الرب نفسه يشير إلى ضد المسيح وإلى قبول اليهود له على أنه المسيح والنبي (يوحنا ٥: ٤٣). وفي المزامير كُتب نبوياً عن شخصه بأنه "إنسان من الأرض" (مزمور ١٠: ١٨). وأيضاً "رجل الدماء والغش" (مز ٥: ٦)، وبينما هذه الصفات بحد نفسها تميز الشرير بشكل عام في الأزمة الآتية، فمع ذلك هناك شخص واحد، واحد فقط، تشير إليه هذه الصفات بمعناها الكامل. إنه شخص ضد المسيح، وليس شخصه هو من يتم الحديث عنه في هذه وفي المزامير الأخرى.

في الأصحاح ١١ من نبوءته، يشير دانيال إلى ثلاثة ملوك: ملك الشمال (آرام)؛ وملك الجنوب (مصر)؛ والملك في فلسطين (ضد المسيح). الحروب، والتحالفات العائلية، والخداع والمكيدة نجد تفاصيلها بدقة في الآيات الـ ٣٥ الأولى من الأصحاح الشيق الذي كتبه والذي يجد تحقيقاً تاريخياً دقيقاً له في تاريخ الممالك الآرامية والمصرية التي تشكلت بعد انهيار الإمبراطورية الإغريقية القديرة. لقد كانت هذه النبوءة في تحقيقه الحرفي والمفصل قد أثارت غضب الوثني والمناوئ للحق الإلهي، بورفيري، في القرن الثالث الميلادي. "الرسالة ضد المسيحيين" التي كتبها هي الدرع الذي يُشكل المادة التي استُخدمت في القرن السابع عشر لمهاجمة المسيحية. فكّروا في معلّمين مسيحيين يحاولون الإفادة بشغف من فيلسوف وثني في حملتهم الشريرة ضد الحق!

في الآية ٣٦، "الملك" يُقدَّم في التاريخ على نحو مفاجئ. هذا الملك هو ضد المسيح الذي يسبق حكمه في فلسطين فترة مجيء المسيح الحقيقي، كما سبق الملك شاول أن أتى قبل الملك داود، حيث يُشير الأول إلى الملك الذي هو ضد المسيحيين، بينما الأخير إلى المسيح الملك الحقيقي لإسرائيل. هذا الجزء من الأصحاح (الآيات ٣٦- ٤٥) يتعلق بالمستقبل، فيحملنا إلى زمن النهاية (الآية ٤٠). الملك يُمجد نفسه ويُعظم شأنه فوق كل إنسان وكل إله. كبرياء الشيطان متجسد في هذا الشخص اليهودي الفظيع. احتلال مكان الله فقط هو ما يرضي طموحه. يا له من تناقض مع المسيح الحقيقي، مع يسوع الذي تواضع كما لم يفعل أحد أبداً على الإطلاق. ذاك الذي كان إلهاً وضع نفسه، حتى إلى موت الصليب (فيلبي ٢: ٥- ٨).

أن يكون ضد المسيح هو من أصل يهودي يبدو واضحاً من دانيال ١١: ٣٧، كما أيضاً من فكرة أنه لو لم يكن كذلك لما كان سيطالب اليهود المرتدين بالخضوع لعرشه. الملك، أو ضد المسيح، يتعرض للهجوم من الشمال والجنوب إذ أن أرضه تكون بينهما. ويكون عاجزاً، حتى مع وجود المساعدة من حليفه، الرئيس القوي للغرب، عن أن يتفادى الهجمات المتكررة من أعدائه في الشمال والجنوب. الأول يكونون أشد قسوة وتصميماً بين الاثنين. وتجتاح قوى الشمال الغازية أرض ضد المسيح ؛ ولكنه ينجو من انتقام ملك الشمال العظيم المضطهد، الذي كان أنتيوخوس أبيفانيس السيء السمعة رمزاً أو نموذجاً أصلياً له. ضد المسيح يكون موضوع دينونة الرب لدى عودته من السماء (رؤيا ١٩: ٢٠).

في سفر الرؤيا، الأصحاح ١٣، نرى وحشان في رؤيا. الأول هو السلطة الرومانية ورأسها المجدّف الخاضع لسيطرة مباشرة من الشيطان (الآيات ١- ١٠). والوحش الثاني هو ضد المسيح شخصياً (الآيات ١١- ١٧). يتميز الأول بقوة وحشية بربرية. إنه سلطة سياسية على الأرض في تلك المنطقة، وهو الذي أعطاه الشيطان "قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَاناً عَظيماً" (١٣: ٢). الوحش الثاني من الواضح أنه تابع لسلطة الأول (الآية ١٢). وهذا له غايات دينية وليس سياسية. الإدعاء الديني يدعمه قدرة وقوة روما المرتدة؛ ومن هنا فإن الوحشان يعملان معاً تحت إمرة رئيسهما العظيم، الشيطان. والثلاثة يكونون معاً موضع عبادة.

الوحش الثاني، أو ضد المسيح، يتطابق مع "النبي الكذاب"، الذي يُذكر ثلاث مرات (١٦: ١٣؛ ١٩: ٢٠؛ ٢٠: ١٠). الرئاسات التي تقود التمرد ضد المسيح ذي الحق الملكي والنبوي هم رجلان يُوجههما الشيطان ويحثّهما بشكل مباشر- ثالوث الشر. "أعطى التنين قوته الخارجية للوحش الأول (رؤيا ١٣: ٨)؛ وللثاني يعطي روحه، بحيث يتكلم كتنين إذ أن له هذه الروح" (الآية ١١) ٩.

وأخيراً، يشير زكريا إلى ضد المسيح على أنه "الراعي الباطل"، اللا مبالي على الإطلاق بالقطيع (بني إسرائيل) الذين يتولى السلطة الملكية والكهنوتية والنبوية عليهم. ولكن سلطته المتباهية (ذراعه) وذكائه المتبجح (عينه اليمنى) التي تؤيد ادعاءاته في الأرض تكون معطلة كلياً بينما يُلقى شخصياً وهو حي إلى مقر البؤس الأبدي، بحيرة النار (زكريا ١١: ١٥- ١٧؛ رؤيا ١٩: ٢٠).

لذلك، ففي رأينا، الكوكب الساقط تحت الويل الأولى يُساء فهمه فيُعتبر أنه يدل على ضد المسيح. على من من شخصيات الرؤيا الأخرى يمكن لهذا الوصف أن ينطبق؟ إن المزاعم الروحية والادعاءات الدينية للشيطان يدعمها ويقويها ضد المسيح، بينما سيادته المؤقتة على الأرض تتأسس في ملك وشخص الإمبراطور الروماني ١٠.

والآن يُصور هنا الكرب الذي ستعانيه تلك النفس وذلك الضمير؛ وليس ألماً جسدياً. ضد المسيح يبدو أنه أداة الشيطان المختارة في إنزال الضربة على النفس، بينما الضمير يُطلق العنان لقوة همجية للوحش بأن تُعذبه في مشهد من القسوة وسفك الدماء، التي تتعرض له أجساد البشر.

بعد هذا الاستطراد الطويل ولكن الضروري نعود إلى أصحاحنا.

الكوكب الساقط:

١- "رَأَيْتُ كَوْكَباً قَدْ سَقَطَ منَ السَّمَاء إلَى الأَرْض، وَأُعْطيَ مفْتَاحَ بئْر الْهَاويَة". هذا الكوكب الساقط الرمزي، الذي كان قد وُضع يوماً في السماء المعنوية ليعكس ويُظهر سلطان الله في الحكم، هو ليس نظاماً دينياً أو سياسياً، بل شخصاً حقيقياً، حاكماً منحطاً فاسقاً. الإشارة ليست إلى سقوط الشيطان، كما أظهر الرب نبوياً وأعلن للسبعين (لوقا ١٠: ١٨)، بل إلى ملك بابل. "كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح ١١؟ كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟ " (أشعياء ١٤: ١٢- ١٥). ملك بابل المتعجرف العظيم والمتكبر يُشار إليه هنا في سقوطه الفظيع من علو لم يصل إليه أبداً أي ملك أرضي من قبل، إلى أسفل دركات الخزي. "لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب" البعض يعتبر أن "كوكب الصبح" الذي يتكلم عنه النبي (أشعياء ١٤: ١٢) والكوكب الساقط الذي يتكلم عنه الرؤيا (رؤيا ٩: ١)، على أنهما كليهما يشيران إلى سقوط الشيطان من السماء، ولكن لنا قناعة بان ملك بابل ١٢ هو المُشار إليه بالأول وأن ضد المسيح هو الذي يشير إليه الأخير. فحوى النص في كلا النصين الكتابيين يؤكدان التطبيق النبوي على الرئاسات المدنية والدينية في الأيام الأخيرة- الوحش والنبي الكاذب.

هذا الشخص الرفيع المقام الساقط قد عهد إليه بـ "مفْتَاح بئْر الْهَاويَة". "المفتاح" يرمز إلى السلطة المقتدرة (انظر متى ١٦: ١٩؛ رؤيا ١: ١٨؛ ٣: ٧؛ ٢٠: ١). "بئْر الْهَاويَة" هو عبارة تُستخدم مرة واحدة فقط في سياق يتصل بالدينونة التي تُدونها الآيات ١ و ٢ من أصحاحنا. "البئر التي لا قاعة لها"، أو "الهاوية"، ترد سبع مرات في سفر الرؤيا. والعمق أو الهاوية (لوقا ٨: ٣١) يبدو أنه سجن الشياطين، الذي سيُقيد فيه الشيطان لألف سنة (رؤيا ٢٠: ٣)- مدة الحكم الألفي. بحيرة النار، وليس الهاوية، هو المقر الأبدي للشيطان وللهالكين. يقول W. B. Carpenter في تعليقه على سفر الرؤيا: "الآية التي أمامنا توحي بصورة عمق متسع يتم الدخول إليه عبر بئر أو ممر، قمته، أو فمه مغطاة. "الجحيم" الذي يتكلم عنه دانتي، بحلقاته الضيقة تلتف إلى الأسفل نحو الممر المركزي، هو مشابه للصورة التي لدينا في الرؤيا. الهاوية هي المنبع الأدنى للشر، والذي منه تنبع أسوأ المخاطر" (١١: ٧؛ ١٧: ٨؛ ٢٠: ١- ٣). فالهاوية هنا تُعتبر، إذاً، مغلقة، ولكن أُعطي أمر بفتحها. وقيل أنه بنتيجة فتح هذا السجن الواسع، أسراب من الأرواح الشريرة خرجت منها واجتاحت الأرض. ولكن الدخان، وليس الأرواح، صعدت من البئر، ومن الدخان بزغ سرب مدمر من الجراد الرمزي.

التضليل الشيطاني وتأثيره المعتم:

٢- "فَفَتَحَ بئْرَ الْهَاويَة، فَصَعدَ دُخَانٌ منَ الْبئْر كَدُخَان أَتُونٍ عَظيمٍ، فَأَظْلَمَت الشَّمْسُ وَالْجَوُّ منْ دُخَان الْبئْر". التضليل الشيطاني الذي نشأ في البئر، والذي كان يتميز بعميه المعنوي وتأثيره المدمر يُشار إليه هنا. على الأرجح أنه نفس التضليل الذي سيُسلّم له العالم المسيحي كما يشير بولس (٢ تسا ٢: ١١، ١٢). تأثير الدخان أو التأثير المعتم وقوة الشيطان ستفسد الحكومة الأسمى (الشمس)، وتُعتم وتفسد الحياة الاجتماعية برمتها ومبادئ البشر (الهواء). الهواء يشير إلى التأثيرات الأخلاقية ويرد مرتين في سفر الرؤيا تحت البوق الخامس (٩: ٢) وفي سكب الجامة السابعة (١٦: ١٧).

جيش الجراد:

٣- ١٠- الدخان والجراد ليسا حرفيين. الدخان يُنتج الجراد. "منَ الدُّخَان خَرَجَ جَرَادٌ عَلَى الأَرْض". القوى الشيطانية يُطلق سراحها في المشهد النبوي. الألم المبرح الذي تحدثه هذه الحشود من الأدوات الشيطانية وعملائه تُشبّه بالعذاب الذي تحدثه لسعة العقرب السامة، وهو مخلوق يتجنب النور، ويخافه كثيراً السكان الأصليون في إفريقيا والقبائل العربية المختلفة في آسيا. لا تكون اللسعات دائمة مميتة، ولكن الألم الذي تحدثه فظيع جداً. "العقرب يهز ذنبه على الدوام لكي يضرب، والألم الذي تحدثه لسعته شديد جداً". في لوقا ١٠: ١٩ يربط الرب يسوع الأفاعي والعقارب وقوة العدو بسقوط الشيطان، وهنا العقارب مرتبطة بالكوكب الساقط. ولكن أدوات الانتقام الجهنمية هذه تُطلق على إسرائيل الآثم لا يكون لها حول ولا قوة، ما لم تُعطى لها السلطة بأن تتصرف: "فَأُعْطيَ سُلْطَاناً كَمَا لعَقَارب الأَرْض سُلْطَانٌ" (الآية ٣).

من الواضح من الوصف المعطى أن جيش الجراد هو تمثيل رمزي لدينونة فائقة جبارة تحل على البشر، كما أيضاً من الحظر الذي يمنع إنزال الضرر بالعشب أو الأشجار (الآية ٤)، الذي هو طعامهم الطبيعي. هناك سبب آخر يستوجب حفظ العالم النباتي. العشب يرمز إلى حالة عامة من الازدهار في الظروف المؤقتة ووضع الناس، "لاَ شَيْئاً أَخْضَرَ وَلاَ شَجَرَةً مَا". يؤمر الجراد بغزو فلسطين، الذي فيه الكثير من الأعشاب، وأن يؤذي "النَّاسَ فَقَط الَّذينَ لَيْسَ لَهُمْ خَتْمُ الله عَلَى جبَاههمْ" (الآية ٤). إن جمع الأمميين ليس مختوماً؛ بل فقط الـ ١٤٤ ألف من بني إسرائيل (٧: ٣، ٤). فهنا إذاً يُسلّم الجزء غير المختوم من الشعب ليشرب كأس انتقام الرب بما فيه الحثالة. الموت سيكون موضع ترحيب من قِبل الناس هرباً من عذابهم وألمهم الناجم عن عمل الشيطان وزبانيته، ولكن حتى هذا الملجأ اليائس الأخير يُمنع عنهم، "يَهْرُبُ الْمَوْتُ منْهُمْ" (الآية ٦). الألم المبرّح والعذاب فظيع للضمير الآثم الملوث بالخطايا سيكون فوق الوصف؛ وحدهم أولئك الذين يحتملونه يعرفون مقداره وشدته.

مدة العقاب على يد الشيطان محدود بخمسة أشهر (الآية ٥)، مدة الحياة الطبيعية للجراد ١٣. الوقت المحدد يشير إلى فترة وجيزة محددة من الويل والعذاب، وليس بالضرورة خمسة أشهر حرفياً.

بعد ذلك يأتي وصف مفصل لجيش الجراد، وكل بند من الوصف ذو مغزى و حافل بالمعني.

(١) يبدو عليهم أنهم على أهبة الاستعداد ومتشوقون بطاقة حربية إلى تنفيذ مهمتهم، "شبْهُ خَيْلٍ مُهَيَّأَةٍ للْحَرْب" ١٤.

(٢) يقبعون متفاخرين بكرامتهم الملكية. إكليل الذهب يُزيّن رأس ابن الإنسان (رؤيا ١٤: ١٤)، وأيضاً أولئك الشيوخ الظافرين أو المفتدين (٤: ٤). ولكن هؤلاء الغزاة الشيطانيون الذين نشأوا عن دخان البئر ليسوا مكللين حقاً، وليس هذا الذهب حقيقياً. إنهم ينسبون لأنفسهم كرامة لم يمنحها الله لهم. "عَلَى رُؤُوسهَا كَأَكَاليلَ شبْه الذَّهَب". مزاعمهم بالسلطة الملكية زائفة.

(٣) يُقرون بأن تحركاتهم يقودها ذكاء بشري، ولكن هذا في الظاهر فقط، "وُجُوهُهَا كَوُجُوه النَّاس". كرامتهم وذكاؤهم المنتحلان لا قيمة لهما كما ادعائهم السلطة الملكية.

(٤) ثم يُشار إلى تخنثهم وخنوعهم، ليس إلى الله، بل إلى الشيطان قائدهم: "كَانَ لَهَا شَعْرٌ كَشَعْر النّسَاء".

(٥) إنهم متوحشون مفترسون قساة: "كَانَتْ أَسْنَانُهَا كَأَسْنَان الأُسُود" (يوئيل ١: ٦).

(٦) لا يعرفون شفقة. وما من قوة أو توسلات يمكن أن تحيدهم عن أهدافهم. قلوبهم متقسية وضمائرهم صلبة مائتة، "كَانَ لَهَا دُرُوعٌ كَدُرُوعٍ منْ حَديدٍ".

(٧) بطاقة لا يمكن مقاومتها تندفع القوات الشيطانية بسرعة مدمّرة مثيرة الخوف والرعب في قلب ضحاياها. اقترابهم يُعلن عنه على الشكل التالي: "صَوْتُ أَجْنحَتهَا كَصَوْت مَرْكَبَات خَيْلٍ كَثيرَةٍ تَجْري إلَى قتَالٍ" (يوئيل ٢: ٥).

(٨) في القسم التالي من هذا الوصف فائق العادة يتحول زمن الأفعال من الماضي إلى الحاضر. وهذا مقصود بالتأكيد، ويُميز ملامح أسوأ وأشد من التي سبقت. "لَهَا أَذْنَابٌ شبْهُ الْعَقَارب، وَكَانَتْ في أَذْنَابهَا حُمَاتٌ، وَسُلْطَانُهَا أَنْ تُؤْذيَ النَّاسَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ"، وفي هذا إشارة إلى الآيات ٣ و٥ التي سبقت.

هذا الجراد الذي يشبه العقارب يجتاح الأرض التي كانت مقدسة، ويفترس الجزء من بني إسرائيل غير التقي وغير المختوم. سم وحقد الكذب، الذي وُلد في البئر-أي العقائد، والتعاليم، والمبادئ التي نشأت في الهاوية يقتبلها الجزء المرتد من الشعب، وتخلق في أنفسهم وضمائرهم ألماً لا يُطاق. بدون الله، الذي تخلى عنهم جزائياً لكي يقتبلوا أكاذيب الشيطان وضلالاته، لا عجب في أن تلاميذ الشيطان والسُّذج المخدوعين به هؤلاء، يتشاركون، كما الناس على الأرض، كل البؤس. أذناب الجراد التي تشبه أذناب العقارب تحوي السّم المعنوي الذي يُعذب أولئك الذين يتعرضون له بفظاعة. فهناك تكمن اللسعات السامة، وهناك شدة العذاب (أشعياء ٩: ١٥).

شخصيات متطابقة:

١١- "وَلَهَا مَلاَكُ الْهَاويَة مَلكاً عَلَيْهَا اسْمُهُ بالْعبْرَانيَّة «أَبَدُّونَ» وَلَهُ بالْيُونَانيَّة اسْمُ «أَبُولّيُّونَ»". ملك الجراد الرمزي ١٥ وملاك الهاوية متطابقان، استناداً إلى الضمائر المستخدمة في النص. كلاهما يشيران إلى الشيطان. والدينونة التي نكلم عنها هنا هي دينونة تُنفذ على الأرض. وهي ليست الدينونة الأبدية. القائد البشري في هذه الويل الفظيعة هو الكوكب الساقط، أو ضد المسيح، بينما الرئيس غير المنظور للجميع هو إبليس نفسه. ولكن ضد المسيح هو تجسيد للشيطان بتأثيره المؤذي المهلك، ممثلاً إياه من الناحية الدينية وسط الناس، ومن هنا استخدام تعابير معينة في هذه الرؤيا عن الجراد التي تعتبرهما واحداً. هما كذلك بمعنى أن إبليس يعطي شخصيته لتابعيه البشر، ولكن، من جهة أخرى، إنهما متمايزان. الشيطان روح، وقائد جنود الشر؛ بينما ضد المسيح هو إنسان، ويهودي مرتد، ومجال عمله هو اليهودية شبه الملحدة والعالم المسيحي المرتد الفاسدين كليهما.

لذلك فإننا نعتبر أن الكوكب الساقط يرمز إلى ضد المسيح؛ وملك جيش الجراد وملاك الهاوي يدلان على الشيطان. اللقبان الوصفيان، «أَبَدُّونَ» و«أَبُولّيُّونَ»، وفي حين أنهما يعنيان عملياً نفس الشيء، وكلاهما ينطبقان على نفس الشخص الفظيع، مع ذلك فإن في المغزى الدقيق لمعنييهما يظهران فارقاً جديراً بالانتباه. «أَبَدُّونَ» كلمة عبرية وتعني حرفياً "الدمار". و«أَبُولّيُّونَ» هي كلمة يونانية، وتدل على معنى "المدمّر". ما سبب هذا التمايز الذي يبدو غير مهم بين هذين اللقبين المقترحين؟ ولماذا تأتي الكلمة العبرية قبل اليونانية؟ بما أن اليهود أكثر إثماً من الأمميين، فإن الكلمة العبرية «أَبَدُّونَ»، "الدمار"، تؤكد بشكل حازم الدينونة على يهوذا المرتدة، بشكل مؤكد ونهائي. وبما أن الويل الأولى تنطبق مباشرة على يهوذا، فإن «أَبَدُّونَ» تأتي أولاً. الويل الثانية تتعلق مباشرة بسكان الإمبراطورية الرومانية، ومن هنا فمن الملائم أن يكون الترتيب على الشكل التالي: «أَبَدُّونَ» أولاً و«أَبُولّيُّونَ» ثانياً. الترتيب، في النعمة، كما في الدينونة، هو اليهودي أولاً ثم الأممي. الاسم اليوناني «أَبُولّيُّونَ»، "المدمّر"، يشير إلى شخص الشيطان في علاقته مع العالم المسيحي، كما أن لقبه يرتبط باليهودية. كلا النظامين في "الأيام الأخيرة" سيُمثَلان بشكل كامل، بشخص وأعمال ضد المسيح، الذي سيرأس التمرد ضد حقوق المسيح الكهنوتية والنبوية، فينكر الحقائق الأساسية في اليهودية (دانيال ١١: ٣٦- ٣٩؛ ١ يوحنا ٢: ٢٢)، وفي المسيحية (١ يوحنا ٢: ١٨- ٢٢). الوحش الخارج من الهاوية سيرأس التمرد المدني والسياسي ضد المسيح في حقوقه الملكية، وسلطته الملكية. ومن هنا فإن الاسمين في العبرية واليونانية الذين يُستخدمان للإشارة إلى الشيطان لديهما نظير لهما على الأرض في الارتباط المزدوج لضد المسيح مع الأنظمة الفاسدة اليهودية والمسيحية. نكران المسيح، أي المسيّا، هو الصفة المميزة للنظام السابق؛ ونكران الآب و الابن هو صفة مميزة للنظام الأخير.

إن كانت هناك حاجة إلى المزيد من الأدلة على أن الكوكب الساقط هو شخص تابع لملاك الهاوية، فيمكنننا التسليم بحقيقة أن الأول يمارس سلطة مفوضة. "له" أي للكوكب، أو "له" أي للشخص المعني، "أُعْطيَ مفْتَاحَ بئْر الْهَاويَة". وجود ال التعريف في "مَلاَكُ الْهَاويَة" يجعله شخصاً مستقلاً في سلطته. إضافة إلى ذلك، نلاحظ أن "مفْتَاحَ بئْر الْهَاويَة" يتم الحديث عنه بارتباط مع الكوكب، بينما "الهاوية" يُشار إليها ببساطة على أنها تحت سيطرة "الملاك". هذا التعبير الأخير بحد نفسه يُقدم إشارة واضحة كاملة       إلى القوة أو السلطة الشيطانية. فمنها (الهاوية) يخرج الوحش (١١: ٧)، وإليها (إلى الهاوية) يُلقى الشيطان، فتصبح سجناً له لألف سنة. الكوكب الساقط (الآية ١) هو ضد المسيح؛ الملك والملاك (الآية ١١) كلاهما يشيران إلى الشيطان.

البوق السادس أو الويل الثانية:

المذبحان:

١٣- ٢١: "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ السَّادسُ، فَسَمعْتُ صَوْتاً وَاحداً منْ أَرْبَعَة قُرُون مَذْبَح الذَّهَب الَّذي أَمَامَ الله، قَائلاً للْمَلاَك السَّادس الَّذي مَعَهُ الْبُوقُ: «فُكَّ الأَرْبَعَةَ الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيَّدينَ عنْدَ النَّهْر الْعَظيم الْفُرَات». فَانْفَكَّ الأَرْبَعَةُ الْمَلاَئكَةُ الْمُعَدُّونَ للسَّاعَة وَالْيَوْم وَالشَّهْر وَالسَّنَة، لكَيْ يَقْتُلُوا ثُلْثَ النَّاس. وَعَدَدُ جُيُوش الْفُرْسَان مئَتَا أَلْف أَلْفٍ. وَأَنَا سَمعْتُ عَدَدَهُمْ. وَهَكَذَا رَأَيْتُ الْخَيْلَ في الرُّؤْيَا وَالْجَالسينَ عَلَيْهَا، لَهُمْ دُرُوعٌ نَاريَّةٌ وَأَسْمَانْجُونيَّةٌ وَكبْريتيَّةٌ، وَرُؤُوسُ الْخَيْل كَرُؤُوس الأُسُود، وَمنْ أَفْوَاههَا يَخْرُجُ نَارٌ وَدُخَانٌ وَكبْريتٌ. منْ هَذه الثَّلاَثَة قُتلَ ثُلْثُ النَّاس منَ النَّار وَالدُّخَان وَالْكبْريت الْخَارجَة منْ أَفْوَاههَا، فَإنَّ سُلْطَانَهَا هُوَ في أَفْوَاههَا وَفي أَذْنَابهَا، لأَنَّ أَذْنَابَهَا شبْهُ الْحَيَّات وَلَهَا رُؤُوسٌ وَبهَا تَضُرُّ. وَأَمَّا بَقيَّةُ النَّاس الَّذينَ لَمْ يُقْتَلُوا بهَذه الضَّرَبَات فَلَمْ يَتُوبُوا عَنْ أَعْمَال أَيْديهمْ، حَتَّى لاَ يَسْجُدُوا للشَّيَاطين وَأَصْنَام الذَّهَب وَالْفضَّة وَالنُّحَاس وَالْحَجَر وَالْخَشَب الَّتي لاَ تَسْتَطيعُ أَنْ تُبْصرَ وَلاَ تَسْمَعَ وَلاَ تَمْشيَ، وَلاَ تَابُوا عَنْ قَتْلهمْ وَلاَ عَنْ سحْرهمْ وَلاَ عَنْ زنَاهُمْ وَلاَ عَنْ سرْقَتهمْ". في خيمة الاجتماع في العهد القديم كان هناك مذبحان. أحدهما كان يقع خارجاً في الباحة؛ والآخر فيا الداخل في المقدس. المذبح الذهبي يُذكر مرتين في هذه الرؤى الرؤيوية، هنا وفي الأصحاح ٨: ٣. المذبح النحاسي يُذكر ٦ مرات ببساطة على أنه "المذبح". وهذا الأخير هو الذي كان في الباحة. لبُّ النظام اللاوي كان المذبح النحاسي- مذبح القرابين. ما كان "المذبح" بالنسبة إلى اليهودية، أي الأساس الأخلاقي لعلاقات الشعب مع الرب يهوه، كان "الصليب" للعالم المسيحي- أي مركزه ومجده المميز. والآن يستمد المذبح الذهبي قوته وقيمته من المذبح النحاسي. في كل صباح ومساء ما عدا يوم الكفارة السنوي العظيم، كان البخور (رمز فضائل المسيح) يُحرق على المذبح الذهبي، بينما في ذلك اليوم الخاص من تاريخ إسرائيل، كما في مناسبات أخرى، دم الحيوانات القربانية كان يوضع على قرونه الذهبية الأربعة (لاويين ١٦: ١٨، ١٩؛ ٤: ٧، ١٨). عطر البخور كان يُخرج خارجاً بنار تؤخذ من المذبح النحاس، بينما الدم على القرون الذهبية كان يُسفك على الجانب الشمال من المذبح في الباحة (لاويين ١: ١١). ومن هنا فإن فعالية العبادة والشركة بين الشعب ويهوه، التي تم الحفاظ عليها واستمر تنفيذها على المذبح الذهبي، كان لها أساس يعتمد على سفك الدم على مذبح القرابين.

الصوت الصادر عن أَرْبَعَة قُرُون مَذْبَح الذَّهَب:

١٣- "سَمعْتُ صَوْتاً وَاحداً منْ أَرْبَعَة قُرُون مَذْبَح الذَّهَب الَّذي أَمَامَ الله". لقد لاحظنا لتونا حقيقة أن المذبح الذهبي يُذكر مرتين في سفر الرؤيا. في الإشارة الأسبق، صلوات القديسين على الأرض تُسمع (٨: ٣). والوحش يطلع من الهاوية إلى المشهد. التجديف والاضطهاد يميزان خاتمة حرفته. خلال الزمن الذي قرأنا عنه في ٦: ١١، تظهر مجموعة شاهدة، وبالتالي متألمة، من القديسين. صلواتهم طالبين تدخل الله لأجلهم هي على وشك أن تُستجاب (٩: ١٣). تحت الأبواق الأربعة الأولى تخضع حالة الإمبراطورية إلى مسار التعامل الجزائي. حالتها الاجتماعية والأخلاقية والسياسية تأتي تحت عصا غضب الله، ولكن البوق السادس، أو الويل الثانية، تكون أشد فظاعة بكثير في طابعها وتأثيراتها من أي من التأديبات السابقة. شعوب الأرض الرومانية هي هنا موضوع مباشر لهذه الويل، وليس تعذيباً كما في السابقة، ولكن قتلاً واسع الأرجاء وواسع الامتداد يصيب السكان على يد حشود الأعداء الخارجيين، بالإضافة إلى الضلال الشيطاني والأكاذيب التي ستعيث فساداً ودماراً في نفوس وضمائر الناس. الضربات الجزائية على ظروف الناس شيء، ولكن التعامل مع الناس أنفسهم، الأعداء المعلنين والصريحين لله وقديسيه أمر آخر. ومن هنا فإن الله يستجيب لصرخات وصلوات قديسيه المتألمين من تحت مذبح التشفع. وإلى هذا المذبح تصعد صلواتهم (٨: ٣). ومنه ينبثق الجواب (٩: ١٣).

"الصوت" الذي سمعه الرائي إما هو صوت الله أو صوت أحد ما مفوض منه للتصرف.

يُسمع الصوتُ "منْ أَرْبَعَة قُرُون مَذْبَح الذَّهَب". لماذا ليس من المذبح بحد ذاته، كما في ١٦: ٧. ولماذا تُذكر القرون وعددها بالضبط؟ العدد "أربعة" يعبر عن العالمية ١٦. و"القرن" يشير إلى القوة ١٧. كل قوة وقدرة مذبح التشفع تمثل الجواب الإلهي على الصلوات الممتزجة بالبخور التي تتجمع حوله. كلا المذبحين كان لهما أربعة جوانب وأربعة قرون. كل الخطأة من أي مكنا في الأرض يمكنه أن يستخدم المذبح النحاسي. وجميع القديسين أينما وُجدوا تُسمع صلواتهم على المذبح الذهبي. بالطبع نحن نشير إلى الحقائق المتعلقة بكل من المذبحين.

هناك تمايز آخر دقيق يمكننا أن نشير إليه هنا. في ٨: ٣ الارتباط هو بين المذبح والعرش، بينما في ٩: ١٣ الارتباط هو بين المذبح والله. الأخير هو الأقرب وذي العلاقة الأكثر حميمية، ويستحضر أمامنا اهتمام الله الشخصي بقديسيه.

أمر يتميز بالسلطة:

١٤، ١٥- "قَائلاً للْمَلاَك السَّادس الَّذي مَعَهُ الْبُوقُ: «فُكَّ الأَرْبَعَةَ الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيَّدينَ عنْدَ النَّهْر الْعَظيم الْفُرَات». فَانْفَكَّ الأَرْبَعَةُ الْمَلاَئكَةُ الْمُعَدُّونَ للسَّاعَة وَالْيَوْم وَالشَّهْر وَالسَّنَة، لكَيْ يَقْتُلُوا ثُلْثَ النَّاس". الصوت من مكان التشفع والقوة من الواضح أنه يتمتع بسلطة إلهية، وهو موجه على الملاك السادس. تكرار العدد الترتيبي "السادس" (الآيات ١٣، ١٤) والعدد الأصلي "أربعة" (الآيات ١٤، ١٥) تدل على الدقة التي سيتم بها تنفيذ هذه الويل. الدقة أيضاً في ساعة الانتقام المعينة (الآية ١٥) وعدد الأدوات المستخدمة (الآية ١٦) تتناغم معاً لوصف هذه البلوى التي من الله بطابعها الجليل المهيب. الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيِّدين الأربعة (٧: ١- ٣) يجب عدم الخلط بينهم وبين الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيَّدينَ عند نهر الفرات (٩: ١٤، ١٥). الأول يتمركزون عند أطراف الأرض، والأخيرين في المنطقة التي تطوق نهر الفرات. إضافة إلى ذلك، ليس فقط الأزمنة والظروف مختلفة، بل أيضاً الفعل في كل حالة مختلف تماماً وعلى النقيض. الملائكة الأربعة في الأصحاح ٧ تُقيد قوى الشر، بينما تلك التي في الأصحاح ٦ تطلق السراح لأدوات الانتقام البشرية والشيطانية.

نهر الفرات يُذكر مرتين في سفر الرؤيا، هنا وفي ١٦: ١٢. الصفة "عظيم" تُستخدم في كلا الحالتين: "النَّهْر الْعَظيم الْفُرَات". طوله الإجمالي هو حوالي ١٧٨٦ ميلاً، وهو أطول وأهم نهر في غرب آسيا. إنه مشهور في تاريخ الكتاب المقدس ونبوءاته. الجد الأعلى لإسرائيل، إبراهيم، جاء من جانبه الآخر إلى أرض كنعان. يُحدد نهرا النيل والفرات نبوياً على أنهما تخوم أرض الموعد (تكوين ١٥: ١٨). لفترة وجيزة بسط داود وسليمان سلطتهما الملكية إلى الفرات (أخبار الأيام الأول ١٨: ٣؛ أخبار الأيام الثاني ٩: ٢٦). هذه السيادة الممتدة تقلصت بشكل كبير عند انقسام المملكة على عهد رحبعام. كان الفرات هو الحد الطبيعي الذي يفصل أمم الشرق عن فلسطين. مجرى النبع العريض الذي يغذيه يتدفق بين الأرض التي سكنها بنو إسرائيل وجيرانهم الآشوريين الأقوياء. كان الفرات أيضاً حد الفتح الروماني في ذلك الجزء من العالم. وهكذا نفهم أن الإشارة هنا هي إلى الفرات حرفياً وليس إلى السلطة التركية. وكذلك الأمر في ١٦: ١٢.

التفويض المعطى للملاك السادس هي أن يفك أو أن يحرر الملائكة الأربعة المقيدين عند النهر العظيم. هؤلاء الخدام الملائكيين للدينونة هم تحت السيطرة الإلهية للدينونة؛ لا يمكنهم أن يتصرفوا بدون أمر واضح محدد. والساعة نفسها عندما سيتعامل الرب بعدالة جزائية مع الشعوب المرتدة في الإمبراطورية اللاتينية المنتعشة نلاحظها ببعض الانتباه، فلهذه الساعة كان الملائكة مستعدين ١٨. لا نعلم من الكتاب ما أعاق الخدام الملائكيين من القيام سابقاً بما تقتضيه عناية الله. ساعة الانتقام في المخطط النبوي لم تكن قد أتت بعد. الشر والإثم في الإمبراطورية لم يكن قد ارتفع بعد إلى المستوى الذي تنبأ عنه الكتاب المقدس؛ أما الآن فقد صار كذلك، وبالتالي الدينونة القاسية والمؤلمة والساحقة ما عاد يمكن تأجيلها.

١٥- "لكَيْ يَقْتُلُوا ثُلْثَ النَّاس". ليس هناك "ثُلْثَ" في الويل السابقة. أرض فلسطين هي المجال الذي تقع فيه الدينونة، وغير المختومين من بني إسرائيل وحدهم سيكونون موضع الدينونة. إذ يتجمعون في الأرض في حالة إلحاد رديئة، ستفوق حالة إسرائيل الأخيرة في شرها وميولها الوثنية كل حالة سابقة (متى ١٢: ٤٥). ولكن تكرار الـ "ثلث" اللافت في الأبواق المبكّرة، يستحضر ثانية الإمبراطورية الرومانية إلى نطاق العمل الإلهي. يحدث قتل فظيع للسكان. والآن سنتأمل في الأدوات البشرية التي ستغرق الإمبراطورية بالدم.

عدد ملائكة الانتقام:

١٦- علمنا أن عدد القادة غير المنظورين هو أربعة؛ والآن يعلم القارئ والرائي بأن عدد جيش الانتقام الغازي هو "مئَتَا أَلْف أَلْفٍ" أو مئتا مليون. هذا الجيش الهائل هو عدد كبير جداً بالنسبة إلى الفهم البشري. يحتار الفكر في الجهد المبذول لفهم هكذا جيش، الذي يتجاوز عدده كل ما هو معروف على الأرض. مركبات الله غير المنظورة يُذكر عددها على نحو مشابه (مز ٦٨: ١٧). لعلنا نفهم الدرس المعطى لقلوبنا بأن قوى الخير والشر المنظورة وغير المنظورة جميعها تحت تحكم مباشر من قِبل الله. جيش حرفي مؤلف من مئتي مليون من الفرسان لا حاجة للتفكير فيه. الفكرة الرئيسية في المقطع هي جيش كبير وساحق ماحق، يفوق في عدده وقوته تقدير وحسابات البشر ولم يرَ أحد مثله ١٩. "إنه جيش ذا قوة مسيطرة كبيرة محتشدة" ٢٠. في بعض الترجمات العربية للكتاب المقدس تأتي العبارة "جيش الْفُرْسَان أو الخيالة". ولكن في ترجمة سميث/فاندايك-البستاني تأتي "جُيُوش الْفُرْسَان". وإذاً فليس جيشاً واحداً، بل لدينا جيوش. والسبب في استخدام الجمع بدل المفرد هو أن غزو منطقة الوحش من وراء الفرات لا يمكن أن يحاوله وينجح به إلا أكثر من جيش واحد. الخصم المستقبلي للإمبراطورية المنتعشة هو جوج (روسيا)، القوة العظيمة الشمالية الشرقية. بلاد فارس، وعموماً الممالك والقوى الواقعة إلى شمال وشرق فلسطين تأتي بعد حاكم الشمال العظيم (حزقيال ٣٨؛ ٣٩؛ مز ٨٣). الهجمات المتكررة على المملكة، أو إمبراطورية الوحش، سيبدأ بها ملك الشمال، ثم ستستقر في الأراضي الآرامية الواقعة في تركيا. هذا الملك، العدو السياسي العنيد لإسرائيل المستعاد، تابع لرئيسه العظيم، المستبد بالسلطة الروسية الواسعة. ومن هنا فإن كلمة "حشود" أو "جيوش" هي الكلمة المناسبة المستخدمة.

وصف الفرسان وخيولهم:

١٧- الفرسان "لَهُمْ دُرُوعٌ نَاريَّةٌ وَأَسْمَانْجُونيَّةٌ وَكبْريتيَّةٌ". هذه الأراضي التي أشرق عليها نور الإنجيل بلمعان سوف تُسلم إلى الظلمة الشيطانية والتضليل لوقت طويل. سيتملك الشيطان على العالم ذي القدر المشؤوم. تأثيره سيخترق ويُسمم ينابيع ومصادر الفكر الوطني والفردي وأفعاله. سيأمر قوى الشر الروحية والبشرية. عبادة الأرواح الشيطانية سوف تسود (الآية ٢٠). يهوذا والعالم المسيحي سيُسلّمان إلى العبادة المباشرة للشيطان ويصيران مسكناً له ولمؤيديه الرئيسيين في الأرض- الوحش والنبي الكذاب (رؤيا ١٣؛ ٢ تسا ٢). والشيطان، عندئذ، سيسمح له الله بنشر جيوشه التي لا حصر لها مع درع دفاعي وقائي يجعلها منيعة. دمج النار والأسمانجوني ٢١ والكبريت كصدرة يُوصف بشكل معبّر بالقول "دروع الجحيم الدفاعية". النار والأسمانجوني عناصر مدمرة وليست من النوع العنائي، بل جزائية (تك ١٩: ٢٤). إنها أيضاً رمز العذاب الأبدي.

ثم نرى وصفاً للخيول "في الرؤيا". في الويل السابقة رأينا دمجاً بين الجراد والعقرب، ما يشير إلى الهلاك والتدمير والعذاب؛ وهنا نجد الخيول هي البارزة- مُنفذوا الأعمال العدوانية والعسكرية في السلب والنهب والقتل. "رُؤُوسُ الْخَيْل كَرُؤُوس الأُسُود". تحاصر الجيش المحارب بجو معين من الجلال والشجاعة والجرأة، هذه المواصفات المعروفة جيداً التي يتمتع بها "ملك الغابة" ٢٢.

١٧- "منْ أَفْوَاههَا يَخْرُجُ نَارٌ وَدُخَانٌ وَكبْريتٌ". هذه الحملات العسكرية هي تحت إدارة الشيطان. فهو الذي يُزود من الهاوية عملاءه بدروع دفاعية تقف كل الأسلحة المعادية عاجزة أمامها (الآية ١٧). هنا يُسلّح الجيش بثلاثة قوى هجومية مدمرة. سكان الإمبراطورية التي في ظلها صُلب المسيح، وتدمرت أورشليم، وتبعثر اليهود، يجب أن تعاني الألم والعذاب على الأرض، في عذابات بحيرة النار. إلى النار والكبريت، رموز العذاب الذي لا يمكن تخيله (١٤: ١٠؛ ١٩: ٢٠؛ ٢١: ٨)، يُضاف "الدخان"، الظلمة المعنوية والظلال في الحفرة.

حصاد الموت:

١٨- النَّار وَالدُّخَان وَالْكبْريت هي ضربات منفصلة، ولكنها هنا مجتمعة مترابطة في عمل القتل. الموت الذي يُقدر للجموع أن يتعرضوا له تحدثه قوة الشيطان الجزائية، ومن هنا فهناك موت بالسيف أشد رعباً وفجائيةً. المشهد الموصوف هنا ليس مجرد قتل بشري بسيط بطرق علمية معاصرة أو قديمة؛ القوى التدميرية للهاوية يُطلق سراحها على "ثُلْث النَّاس" الذي يُقتلون، وعلى الأرجح أن يكونوا أسوأ من في الإمبراطورية، مع بقاء قلة تقية (الآية ٢٠)، الذين، مع ذلك، لا يتوبون. الويلات أو الضربات الثلاثة تُذكر مرتين، وتخرج مرتين من فم الخيول. تكرار ذكر هذه القوى التدميرية سيشدد على حقيقة أن قوة الشيطان الجزائية فاعلة؛ وإضافة إلى ذلك، أن الوكلاء ليسوا فقط مجرد مرتوقة، بل إن الشيطان يحثهم ويحرضهم، وهم مسرورون بالقتل. "الْخَارجَة منْ أَفْوَاههَا" تظهر مسرة القلب الشيطانية بالعمل. انظر ١٦: ١٣ للإشارة إلى ما هو شر؛ وانظر متى ١٢: ٣٤ لأجل المبدأ العام.

أفواه وأذناب الخيل:

١٩- "العبارة التي تقول بأن سُلْطَانَهَا هُوَ في أَفْوَاههَا تقوم بدور الربط مع ما سوف يُقال عن أذنابها. النزعة الإيذائية والتدميرية المخيفة لم تجد تمثيلاً كافياً لها في ما خرج من فم الخيول. لا يزال هناك إمكانية لتجسيدها في رمز الأفعى-أذناب" ٢٣.

إن استخدام الكلمات "أفواه" و"أذناب" تعبّر عن فكرة أنها جميعاً تنبض بالحياة بفضل روح واحدة ولكن تعاليم الشيطان وأكاذيبه متنوعة. "سُلْطَانَهَا هُوَ في أَفْوَاههَا وَفي أَذْنَابهَا". ليس هناك فقط سلطة الشيطان المفتوحة، بل بالإضافة إلى ذلك هناك تأثيره السري المهلك والمدمّر للنفس. كلاهما متوقع هنا. في الويل السابقة سلطة الإيذاء كانت في الذنب (الآية ١٠). وهنا قوة التدمير هي في الفم والذنب (الآية ١٩). وهناك هو الكذاب. أما هنا فهو قاتل وكذاب بآن معاً.

١٩- "أَذْنَابَهَا شبْهُ الْحَيَّات". لقد كانت الحية هي المخلوق المختار الذي خبأ الشيطان فيه نفسه خلال خداعه لحواء (تك ٣: ١)، وعلى الأرجح أنه العضو الوحيد بين المخلوقات الحيوانية الذي قُدر له مصير خزي أبدي حتى خلال البركة الطويلة والعالمية التي ستكون في الأيام الألفية (قارن تك ٣: ١٤ مع أش ٦٥: ٢٥). الحية هي المرادف للمكر والخداع والرياء والحنث. "ذنب" الحية هو تعبير عن التأثير المهلك المميت، والكذب، والأذى (أشعياء ٩: ١٥؛ رؤيا ١٢: ٤).

إضافة إلى ذلك، فإن الأذناب لها "رؤوس"، ما يدل على أن تأثيرها المؤذي موجه ببراعة. هدف الإيذاء يتم السعي إليه مع فعالية بارعة وعديمة الشفقة.

ما من توبة:

الآيتان ٢٠، ٢١ الأخيرتان في الأصحاح تكشفان عن صورة مذهلة من الفسوق والفساد والفجور البشري. النفخات المرتفعة الصوت للأبواق التي تصدر بشكل متعاقب هي إعلانات الله العامة إلى العالم- نذائر ويلات. وإذ تزداد شدتها طردياً، تأتي الدينونة تلوَ الأخرى. المشهد النبوي يتحول إلى مجال الفعل الخاص بالشيطان. ينتصر لبرهة. يا له من مشهد يُصور في هذه الأيام الأخيرة! أوربا الغربية، الجميلة في نورها ومعرفتها، تستسلم لعبادة وثنية فادحة وشر ليس له مثيل من الخزي. نشهد هنا عودة واضحة إلى الوثنية في الأيام الأولى. ماذا؟! هل سيرتد هؤلاء الذين آمنوا بالمسيح إلى تلك الدرجة من التردي في الوثنية وخطايا الجسد بأشد طابع للشر؟ نعم. رومية ١: ٢١- ٣٢ ٢٤، ٢ تيموثاوس ٣: ١- ٥، والآيات ٢٠ و٢١ من هذا الأصحاح تزيل الحجاب، فتعطينا شهادة عن العدد الكبير للشعب المضطرب والغاطس في الشرور والتعديات. "البقية"، أو المرتدون المتبقون، لا يتوبون. المصير الفظيع لزملائهم في الوثنية والشرور العامة ترك انطباعاً سيئاً ولكن عابراً. "لَمْ يَتُوبُوا" تتكرر. قسوة القلب لديهم في تحولهم عن الله إلى الشيطان والاستمرار في العلاقة معه، رغم أمثلة التحذير أمام أعينهم، نجد وصفاً لها في الآية ٢٠.

عدم توبتهم في تحولهم عن البر إلى الشر، وهلاكهم هناك، هو موضوع الآية ٢١.

٢٠- "أَعْمَال أَيْديهمْ"، التي لم يتوبوا عنها هي عبارة تدل بشكل خاص على العبادة الوثنية (أش ٢: ٨، إر ١: ١٦؛ ٢٥: ٦، ٧، ١٤؛ تث ٤: ٢٨؛ مز ١١٥: ٤- ٧؛ ١٣٥: ١٥).

٢٠- "حَتَّى لاَ يَسْجُدُوا للشَّيَاطين". "الشياطين" هنا، أو الأدق "الأرواح الشريرة"، هي كائنات روحية حيّة يخشون الدينونة الآتية (متى ٨: ٢٨، ٢٩). الهاوية هي مقرهم الملائم (لوقا ٨: ٣١). إنهم جماعة من الأرواح الشريرة (رؤيا ١٨: ١٤). والشيطان هو قائدهم، "مَلاَكُ الْهَاويَة" (٩: ١١). جيش الأرواح الشريرة في الهاوية تتم عبادته. لقد شجب بولس العبادة الوثنية الأممية بشدة وصرامة (١ كور ١٠: ٢٠، ٢١)، ومع ذلك فإن هذه ستتم ممارستها علانية وعلى نطاق عالمي ضمن حدود الأراضي التي تعتبر مسيحية.

المشهد بمجمله مخصص للعبادة الوثنية. الأغنياء لديهم آلهتهم من الذهب الفضة، والطبقة الوسطى لديهم آلهتهم من النحاس والحجارة، بينما الفقراء لديهم آلهة مكافئة مصنوعة من الخشب. طبيعة العبادة وسلوك العابدين متوافقان بكل تأكيد. إن كانوا قد تخلو عن الله لأجل الشيطان القاتل والكذاب، فإن طبيعة هذا الأخير مختومة على المكرسين له وعُبَّاده. التمثل في الطبيعة والطرائق هي نتيجة طبيعية. ومن هنا تأتي قائمة مختصرة ولكن شاملة، وفيها الجرائم التي ارتكبها عبدة الشيطان. كما أن الآية ٢٠ توضح لنا ديانتهم، فإن الآية ٢١ تظهر لنا حاجاتهم. وهذه الأخيرة هي شرور ورذائل وثنية بارزة. الجرائم المعدودة هنا عددها أربعة، هي قائمة مختصرة، ولكنها شاملة بما فيه الكفاية.

(١) "قَتْلهمْ"، والذي لا يحدث بشكل استثنائي، بل نتيجة الشغف، الخ.، كان يُمارس بشكل اعتيادي.

(٢) "سحْرهمْ"، أو "شعوذاتهم"، أي الادعاء بامتلاك قوى فائقة الطبيعة في تعاملات محرمة مع الأرواح وادعائهم القدرة على التنبؤ بالمستقبل. الساحرة في عين دور (١ صموئيل ٢٨: ٧)، وعليم الساحر (أعمال ١٣: ٨) هما مثالان عن أولئك الذين كانوا يمارسون "فنون السحر السوداء". هذه الخطيئة الكنعانية القديمة كان الله يشجبها بشدة، وكان الموت هو عقوبة من يمارسها (تثنية ١٨: ١٠- ١٢؛ لاويين ٢٠: ٢٧؛ خروج ٢٢: ١٨). كان السحرة والمشعوذون يُصنفون مع الكلاب، والقتلة، والزناة، وعباد الأوثان على أنهم محرومون من المدينة السماوية (رؤيا ٢٢: ١٥). كان تحضير الأرواح آخذاً في ازدياد وانتشار واسع، وسرعان ما استسلم العالم المسيحي لهذه الممارسات كلياً.

(٣) "زنَاهُمْ"، الذي نفهم منه المعنى الفعلي والحرفي. رابط الزواج هو ذاك الذي يربط المجتمع معاً، وهو حارس الأمان والمتراس ضد الفحشاء الجسيمة. بدون مخافة الله، وبدون مهابة العقاب، وبدون أن يشعروا بالتوبيخ تجاه إطلاق العنان لشهواتهم البربرية، وهذه هي خطيئة الوثنية البارزة في جميع الأوقات، ستزدهر في هذه الأراضي نفسها ذات الأخلاقية المسيحية. يا لها من صورة انحطاط أخلاقي توصف هنا! قيم وأخلاق العالم المسيحي سرعان ما تنحط.

(٤) "سرْقَتهمْ". تضعف الروابط الاجتماعية، وحقوق الاحترام المتبادل لبعضهم البعض، وحتى للعلاقة الأكثر قدسية، تتلاشى بشكل كامل، وماذا تكون النتيجة؟ الجشع سيغوي جموع الناس "الَّذينَ لَمْ يُقْتَلُوا" كي يغتنوا على حساب المجتمع. الكل سيسعى لأجل نفسه وهذا هو الحال أو الشعار لتلك الأيام الآتية. قد يكون هناك اهتمام بالملكية، وبحقوق الآخرين، ومراعاة ممتلكات الآخرين، ولكن "السرقات" ستكون جزءاً من حياة وتاريخ تلك الأزمنة الفظيعة المريعة. عالم بدون الله، تخلى الله عنه جزائياً، وقد اقتبلوا الشيطان رئيساً وحاكماً لهم! يا لها من صورة كاريكاتورية عن المسيحية تُقدمها الآية ٢٠، ويا لها من مبادئ أخلاقية فاسدة تكشف عنها الآية ٢١!

المقارنة بين الويلين:

الويل الأولى تُقفر فلسطين. الثانية أوسع في مداها، وأكثر كارثية في تأثيرها، إذ تصل إلى حدود الإمبراطورية الرومانية. ضلالات الشيطان بارزة أكثر في الويل الأولى، وعنف الشيطان يميز الويل الثانية، رغم أن الضلال موجود أيضاً في الويل الثانية. وهذه الويل الأخيرة هي الأسوأ. مشهد هذه الموضع من الاقتراب أوسع من ذلك الذي سبقها، لأن مياهه كانت تهددها حدود اللغات اليونانية والعبرية. وهنا ينشأ الاضطراب في الفرات، وفيه قوة رباعية، تمضي حيثما يكون هناك أوثان. هناك عجلة وتهور وبربرية في الاندفاع الكبير الذي يُصور هنا، وطابع مفترس من التصرفات المعروضة بشكل بارز في ظهورها الأول، والمخالف كثيراً لطابع التصرف في البوق الأخير. ليس هناك إظهار لأي فكرة تنظيم أو تأهب أو استعداد أو سيطرة أو سيادة عقلانية أو لطف قاهر كما في البوق الخامس؛ ولكن المئتي مليون يظهرون في الحال، متألقين كاللهيب في الفعل؛ والضنى والاستهلاك، أكثر منه النصر، يميز تقدمهم؛ بينما نشعر أن وراءهم تعاسة لاذعة من جراء الخضوع لهم. يتدحرج الحزن والألم في دينونة على العبادة الوثنية، ولكنه يتركها، بنتيجة معنوية، حيث كانت ٢٥. البوق السابع، أو الويل الثالثة، يتم تناولها أو الحديث عنها في الأصحاح التالي.


١. يهوذا، في الأزمة المستقبلية، وفي ساعتها الأخيرة من الأسى والألم والجحود، وقبل تدخل المسيح العلني من أجلها، يبدو أنها ستكون بشكل كامل تحت سلطة وتأثير الشيطان. وحالة بني إسرائيل الأخيرة ستكون أسوأ بكثير من الأولى. ستكون عبادة الأوثان هائجة في الأرض (متى ١٢:٤٥)، ورئاساتها وقادتها في تحالف مع الموت والجحيم (أشعياء ٢٨: ١٥- ١٨)، وهذا يُشكل صورة فظيعة للشر البشري المتحالف مع شر الشيطان.

٢. "سبعون أسبوعاً (٤٩٠ سنةً) قضيت على شعبك (اليهود) وعلى مدينتك المقدسة (أورشليم)".

٣. - محمد الثاني (Mohammed the Second )؛ محمد الفاتح (١٤٣٢ - ١٤٨١): سلطان عثماني (١٤٤٤ - ١٤٤٦) و (١٤٥١ - ١٤٨١). فتح القسطنطينية (عام ١٤٥٣).

٤. ظهور ضد المسيح- بعد انقسام إمبراطورية القياصرة، وخلال الانتعاش النبوي فيها عند انقسامها إلى عشرة ممالك على رأس كل منها رئيس عظيم مركزي ومسيطر- تم التعليم عنه وشرحه بشكل واضح ومحدد وبالإجماع في الرأي من قِبل كل الكُتّاب الآبائيين، كما ورد في "أسطورة ضد المسيح"، التي تُرجمت إلى الإنكليزية عن الكاتب جيرمان و. بوسيت. لعل هناك أشياء كثيرة في عمله المميز ندينه عليها، ولكن الكتاب يحوي مقداراً كبيراً من دراسة ضليعة ومعلومات قيّمة حول ما كان يعلّمه المسيحيون الأوائل ويعتقدون به في ما يختص بضد المسيح.

٥. في عهد نيرون أتت المسيحية والوثنية إلى صراع مفتوح لأول مرة. خلال هذه السنوات الـ ١٣ شُرعن لأول مرة الاضطهاد ضد المسيحيين بمرسوم إمبراطوري. الأحداث الغير متسلسلة تاريخياً في ذلك العهد تنتظر كشفاً كاملاً عند كرسي الدينونة الذي يعتليه المسيح.

٦. بالنسبة إلى البروتستانت، البابا هو ضد المسيح. وبالنسبة إلى البابوية، لوثر هو ضد المسيح. وكلاهما مخطئ في هذا الشأن، لأنهما كلاهما تفوتهما ما يقوله الكتاب عن ضد المسيح هذا، إذ أن مواصفاته، حسب يوحنا وبولس، لا تنطبق على البابا ولا على ذلك المصلح الشهير.

٧. "السلطة المؤقتة لوكيل يسوع المسيح".

٨. إضافة إلى ذلك يظهر الدكتور مانينغ أن نشوء البابوية في الغرب وإعاقتها في الشرق تُفسره حقيقة أن عرش القياصرة أُزيل من روما وشق طريقه لتأسيسي الكاثوليكية الرومانية في إيطاليا؛ بينما السلطة الإمبراطورية السياسية في القسطنطينية أعاقت ونسفت المزاعم بالبابوية في الشرق. وهذه الشهادة حقيقية.

٩. "دانيال والرؤيا"، ص. ٣٠٩- اوبيرلين.

١٠. لقد رفض ربنا المبارك وبشكل قاطع نهائي أن يقبل من الشيطان ربوبية ومجداً عالميين (متى ٤: ٨، ٩). ولكن الأمير الآتي سيُسر باقتبال كليهما من يد الشيطان؛ الاتفاق المريع يُبرم، ويعبد الوحش التنين، وعندها يمنح الشيطان وكيله السياسي السيادة على العالم.

١١. لوسيفور يُشير إلى "كوكب الصبح"، هكذا يُترجم اسمه في أشعياء ١٤: ١٢.

١٢. القوتان الأولى والرابعة من القوى الإمبراطورية العالمية (دانيال ٢؛ ٧)، اللتان استُعبدت لهما يهوذا كانتا بابل وروما. الأولى كان مصيرها الدمار الأبدي. "هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها" (إرميا ٥١: ٦٤). إنه لمن الخطأ الافتراض أن بابل كمدينة، أو الإمبراطورية الكلدانية القديمة ستنتعش أو تزدهر من جديد. المسيطر الأخير على السلطة الإمبراطورية على الأرض، "الوحش"، يستلم السلطة ويكمل قصة بابل. نبوخذنصر التاريخي هو رمز للرئيس الأممي العظيم القادم الذي سيجمع، إضافة إلى ملامح خاصة به، المواصفات الرئيسية للإمبراطوريات الثلاثة السابقة. ملك بابل (أشعياء ١٤) هو رمز للملك الذي سيأتي في الأيام الأخيرة من السيادة الأممية قبل عودة الرب.

١٣. من أيار إلى أيلول.

١٤ في إيطاليا وفي بعض البلدان الأخرى يُقال عن الجراد بأنهم "جياد ضئيلة"، بسبب الشبح في الرأس بينها وبين الجياد (انظر يوئيل ٢: ٤). الجيوش المعادية، وخاصة الفرسان، يُرمز غليها في الكتابات المقدسة بغزو الجراد (يوئيل ٢؛ إرميا ٥١: ٢٧). لأجل أخذ فكرة عن الخراب والإقفار الذي سببه وباء الجراد انظر خروج ١٠: ١٢- ١٥.

١٥. قال سليمان الملك، ذلك المراقب الرصين للطبيعة: "الجراد ليس له ملك" (أمثال ٣٠: ٢٧).

١٦. أربعة معادن (دانيال ٢) وأربع وحوش (الأصحاح ٧) تمثل الإمبراطوريات العالمية الأربعة. أربع تقسيمات للجنس البشري (رؤيا ٧: ٩).

١٧. انظر مز ١١٨: ٢٧؛ ٨٩: ١٧، ٢٤؛ ٩٢: ١٠؛ ١٣٢: ١٧؛ رؤيا ٥: ٦، الخ.

١٨. يمكننا أن نستنتج من الكتاب المقدس أن الوقت الذي استغرقه الملائكة في عملهم الإداني سيكون"ساعة، ويوم، وشهر وسنة"، في حين أن هذه الفئات الزمنية تشير إلى اللحظة التي يبدأ بها الملائكة بالتصرف، وليس إلى فترة عملهم هذا.

١٩. أكبر جيش، يذكر التاريخ انه شارك في ساحة المعركة، كان جيش (Xerxes ) في غزو اليونان. بشهادة هيروديتوس تجاوز عدده مليونين ونصف من الناس.

٢٠. "ملاحظات على سفر الرؤيا"، ص. ٤٥.

٢١. "الأسمانجوني كان لوناً أزرق داكناً، يشبه اللون الأزرق الذي نراه في اللهيب، أو في الكبريت المشتعل. اللهيب الأزرق الذي في بئر الهاوية مختلف جداً في الواقع عن زرقة السماء".

٢٢. لدينا زئير الأسد الذي يحدث الرعب (رؤيا ١٠: ٣)، وأنياب الأسد التي تدل على الضراوة (٩: ٩)، والرأس الذي يرمز إلى الجلالة (الآية ١٧)، والفم الذي يشير إلى صفة الأسد المهلكة (١٣: ٢).

٢٣. هنغستنبرغ، المجلد ١، ص. ٣٧٠.

٢٤. حالة العالم منذ دخول الوثنية (يشوع ٢٤: ٢) على دخول المسيحية تُوصف في رومية ١: ٢١- ٣٢. المسيحية مهجورة، ورجعة إلى الحالة الوثنية القديمة أمران مؤكدان. هناك علامات تدل على ذلك بدون أدنى شك- علامات يمكن للناظر أو المراقب الحالي أن يراها.

٢٥. "كنوز الكتاب المقدس"، المجلد ١٣، ص. ٢٣٩.