الأصحاح ٨

الأبواق الأربعة الأولى

نظرة عامة للأبواق السبعة:

الأحداث العظيمة الآتية التي تحجب كل الأحداث الأخرى هي الانتقال إلى السماء (١ تسا ٤: ١٦، ١٧) والعودة من السماء (رؤيا ١٩: ١١- ١٤). بولس وحده يُعالج الموضوع السابق؛ ويوحنا، أكثر من أي كاتب آخر في العهد الجديد يكشف عن الموضوع الأخير. وفي الفاصل بينهما، تجري سلسلة الدينونات السباعية تحت الأختام، والأبواق، والجامات. هذه التأديبات الإلهية تزداد في شدتها بينما ننتقل من سلسلة إلى أخرى. الدينونات ليست متزامنة بل متتالية. الأبواق تلي الأختام، والجامات تلي الأبواق. تسلسل تاريخي دقيق نلاحظه هنا. الرمز العام للنبوءة السابقة كان الختم؛ وفي السلسلة الثانية من الدينونات نجد أن الرمز هو البوق؛ وفي السلسلة الثالثة نجد الجامة أو الطاسة. هذه الرموز الهامة هي ذات طابع خاص لكل منها ينسحب على الأحداث المجمعة تحت كل منها. فُتحت الأختام لكيما تُكشف إعلانات الله المتتالية المتعلقة بالمستقبل، ولكن بالنسبة إلى الإيمان الجموع وحدها سترى الدينونات على أنها تدبيرية وحسب. هذه الأشياء حدثت من قبل. ولكن صوت البوق المرتفع للملائكة يشير إلى معاملة عامة مع الناس ذات طابع إداني كثيف. هذه الأبواق الرمزية تطلق نفيرها على طول وعرض العالم المسيحي المرتد. التدخل الإلهي العلني لله في العالم الآثم والمرتد يُشار إليه هنا. ثم في الرمز العام الثالث، أي الجامات أو الطاسات التي تُسكب، غضب الله المركز يغمر كل العالم النبوي تحت السماء. يكشف الأصحاح ١٦ عن سلسلة من الدينونات حتى الآن تكون فريدة في مداها وشدتها. خلال سير دينونات الختم يتم تقديم الحمل وشعبه المتألم على الأرض، ولكن تحت دينونات البوق يختفي الحمل تماماً، ويتم ملاحظة القديسين عرضياً فقط، ثم وهم يُصلّون.

النبوءة تحت الأبواق الأربعة الأولى تشير إلى الحالة العامة للأشياء، مدنية وكنسية، عن الإمبراطورية الرومانية الغربية المنتعشة آنذاك. الأصحاح ٨: ٢- ١٨ يُغطي هذا الأساس. التكرار لعبارة ثلث (المكرر ١٢ مرة في هذا الأصحاح)، يشير إلى قوة روما المنتعشة القوة أو السلطة نفسها التي أعطت المرسوم الشرعي لصلب الرب وبعثرت المؤمنين في كل أرجاء الأرض (انظر ١٢: ٣، ٤). ثم يأتي الختم الخامس، أو دينونة "الويل" الأولى (٨: ١٣)، تقع على اليهودية المرتدة، وموضوع الآيات الإحدى عشر الأولى من الأصحاح ٩. البوق السادس، أو دينونة الويل الثانية، تتناول مباشرة سكان الأرض الرومان الآثمين والمرتدين، وهي العبء الثقيل الكامن في الأصحاح ٩: ١٢- ٢١. النغمة الأخيرة من البوق، أو الويل الثالثة، عالمية في تأثيرها، وبالنتيجة تصل إلى نهاية فترة حكم الملكوت التي تستمر ألف سنة، حتى إلى "زمن الأموات الذين سيُدانون" (رؤيا ٢٠: ١١- ١٥). المسائل الخطيرة تحت البوق السابع يتم ذكر تفاصيلها باختصار خلال دائرة أربع آيات في الأصحاح ١١ وهي ١٥- ١٨.

يجب أن نلاحظ أن "الثلث" الذي يبرز في الأصحاح ٨، لا يُذكر تحت البوقين الخامس السابع، بل يتكرر ثانية تحت السادس. حذف السابقين يُفسر أو يعلل على أساس أن السلطة الرومانية لم تكن منظورة آنذاك، بينما في الأخير، أي الختم السادس، هي الموضوع المباشر لانتقام الرب. لذا فإن الأبواق تبدأ بالأصحاح ٨: ٢ وتنتهي بالآية ١١: ١٨. وبين هاتين، نجد قسماً اعتراضياً ثانوياً ممتعاً ولكن لابد منه. وهذا يرد في الأصحاحات ١٠، ١١: ١- ١٣.

قلنا قبلاً أن الأختام، وليس الأبواق و الجامات كل منها مقسم إلى مجموعات من أربعة وثلاثة. الناس في ظروفهم وشخصهم يتم التعامل معهم إدانياً تحت الأختام والأبواق والجامات ككل، ولكن في مجموعات مؤلفة من ٣ أشخاص تُرى ذراع الله القوية بشكل أكثر وضوحاً. مصدر كل هذه الإدانات الرؤيوية هو الله نفسه، كما يشير العدد ٣ (ذو الطابع الإلهي). الموجبات البشرية وأدوات الدينونة ظاهرة في المجموعات المكونة من أربعة، وهذا ما يدل عليه العدد ٤ بحد ذاته.

الختم السابع

الأصحاح ٨

١- "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ السَّابعَ حَدَثَ سُكُوتٌ في السَّمَاء نَحْوَ نصْف سَاعَةٍ". السفر أو الدرج ذو الأختام السبعة، الذي يُرى في يد الله المفتوحة (٥: ١، ٢) له أختامه التي يفتحها الحمل بشكل متتابع. ست من الأختام فُتحت في الأصحاح٦، والآن، في الآية الأولى من أصحاحنا، يفتح الأخير، ما ينتج عنه أننا نرى سفر مشورات الله المتعلقة بالأرض مفتوحاً أمامنا. المخططات، ومشورات إلهنا المتعلقة باهتماماته الواسعة بالأرض وأيضاً الوسائل والطريقة التي ستتحقق بها هذه المشورات، لا تعود سراً. كل شيء يُعلن وينكشف. ولكن لماذا فصل الختم السابع عن الأختام الستة السابقة؟ من الطبيعي أن نفترض أنها ختمت الأصحاح ٦. ولكن بدلاً من ذلك نجد أن أصحاحاً كاملاً (الأصحاح ٧) يأتي بين الختم السادس والسابع، بشكل اعتراضي، مخالفاً الترتيب الطبيعي للأحداث. الختم السادس (٦: ١٢- ١٧) أعلن دينونة ذات طابع مرعب مروع بأنه في الرعب العالمي الذي يثير مخاوف الناس، من الملك إلى العبيد، يفترض الرعب العام على أن يكون يوم الغضب العظيم للحمل. ولكن لا، فهكذا قبل أن يُفتح الختم السابع، الذي هو تمهيد للابتداء بالدينونات التي ستكون أقوى وأشد، يُسحب الحجاب جانباً، وتظهر لدينا جماعتان عظيمتان ألفيتان من بين إسرائيل والأمميين في المشهد، وينالان نتائج عمل النعمة الضخم الذي يُجرى حتى خلال الدينونة التي تجعل الأرض مقفرة (الأصحاح ٧).

"سُكُوتٌ في السَّمَاء" ١ لا يعني أن الأناشيد والتسابيح للمفتدين صامتة. الصمت يجب أن يُفسر من ناحية الموضوع المطروح هنا، ألا وهو الدينونة. ولكن، بما أن الدينونات هي على الأرض والعرش في السماء، فإن الصمت يكون هناك. مسار الدينونة يتوقف. هناك توقف مؤقت في إعلان التأديبات الأخرى وفي تنفيذها. الصمت هو لفترة وجيزة. "نصْف سَاعَةٍ" تشير ببساطة إلى فترة قصيرة جداً يتم فيها تعليق الفعل الإداني. فتح الختم السابع لا تليه دينونة بل صمت منذر بسوء. إنه سكون ما قبل العاصفة، كما هو سكوت الطبيعة قبل أن تبدأ العاصفة. لا يخبرنا السفر عن مدى هذا التوقف الفظيع، ولكن في هذه الأثناء نُدعى لنشهد أمراً ذا طابع مختلف كلياً عن أي شيء مرّ أمامنا قبل الآن، وهو أمر يشغل الفاصل الزمني المؤلف من "نصف ساعة"، أياً كان الزمن الدقيق الذي تشير إليه هذه العبارة.

الملائكة السبعة:

٢- "َرَأَيْتُ السَّبْعَةَ الْمَلاَئكَةَ الَّذينَ يَقفُونَ أَمَامَ الله وَقَدْ أُعْطُوا سَبْعَةَ أَبْوَاقٍ". الملائكة المشار إليهم هنا متمايزون وعددهم اختير هكذا بدلالة استخدام أداة التعريف. "السَّبْعَةَ مَلاَئكَةَ" يشيرون إلى المكانة العليا السامية المخصصة لهم، هم "الَّذينَ يَقفُونَ أَمَامَ الله". هؤلاء "السبعة" متمايزون عن السبعة الذين يسكبون الجامات (١٥: ١). ملائكة الأبواق فقط هم الذين يتمتعون بمكانة خاصة (" أَمَامَ الله").

هناك تمايزات بين القوات الملائكية. إنهم مقسمون إلى طبقات ومراتب متنوعة، ولكنهم جميعاً، الرئيس الملائكة إلى أدنى ملاك، هم خدام. علاقتهم بالله ليست على أساس الفداء. إنهم خدام، ولا يرتفعون أبداً فوق تلك المكانة، ولا يرغبون في أعلى من ذلك. الميزتان العظيمتان الرئيسيتان لحياة الملائكة هما الطاعة المطلقة لله والفعالية في الخدمة (مز ١٠٣: ٢٠؛ عب ١: ٧، ١٤). إن "ملائكة الحضور" هم فكرة يهودية مألوفة. يفترض البعض على أنهم نفسهم الأرواح السبعة الذين أمام العرش (رؤيا ١: ٤) ويفترض البعض الآخر أن هذه عبارة مستعارة من سفر طوبيا المنحول. ولكن الافتراضين كلاهما خاطئان. لماذا يستمد المفسرون أفكاراً معقدة يفرضونها بدون سبب كافٍ استناداً إلى نص سهل وواضح؟ ما يقوله الملاك جبرائيل عن نفسه: "أنا جبرائيل الواقف قدام الله" (لوقا ١: ١٩)، يقوله الآن "ملائكة الحضور" السبعة هؤلاء. وبالنسبة إلى العدد سبعة، فإنه يمثل كامل قدرة الله في إدانة قضائية.

٢- "وَقَدْ أُعْطُوا سَبْعَةَ أَبْوَاقٍ" مكان الخضوع هو مكان أسمى مخلوقات الله مجداً؛ أُطلقت الأبواق العمل السيادي المطلق هو الامتياز الخاص بالخالق وحده. ولكن لماذا الأبواق؟ ما من آلة نفخية استُخدمت أكثر في الحياة الطبيعية لبني إسرائيل من البوق. إن البوق كان يدعوهم إلى الاجتماعات والتجمعات العامة. صوته المرتفع كان يجمعهم إلى الحرب، ويوجههم عندما يجب أن يتقدموا وعندما يجب أن يتراجعوا. وعند تنفيذ الناموس، كان "صوت البوق يزداد اشتداداً جداً". في أعيادهم المبجّلة كان البوق يُستخدم بشكل كبير. نغماته التحذيرية العالية كانت تعلن اقتراب خطر العدو. بنفخ البوق كانت توجه الرحلات في البرية. في سنة اليوبيل، وفي الواقع، في كل المناسبات الوطنية الهامة كانت تُستخدم الأبواق (انظر لاويين ٢٥: ٩؛ خروج ١٩: ١٩؛ عدد ١٠: ٢- ١٠؛ لاويين ٢٣: ٢٤، الخ). الظروف التي كانت تستدعي تدخل الله العلني بالدينونة، كما هو مفصل في هذا القسم من الرؤيا الذي ندرسه، مشابه نوعاً ما للأيام الآتية التي تكلم عنها يوئيل ٢: ١، ٢، "يوم ظلام وقتام. يوم غيم وضباب" يوئيل ويوحنا كلاهما يشيران إلى نفخ البوق، ما يدل على أن الله على وشك أن يتعامل علانية ومباشرة وأمام الجميع بتأديب قضائي إذ يرى التعديات أمامه، وهذا إعلان عام ومرتفع الصوت بأنه على وشك أن يصنع ذلك. "السَّبْعَةُ الأَبْوَاقُ". ترمز إلى إعلان كامل مكتمل. الأبواق ذات المغزى التي في سفر الرؤيا يجب أن لا يُخلط بينها وبين الأبواق الحرفية التي في أزمنة العهد القديم.

الكاهن الملاك:

٣- ٥- "وَجَاءَ مَلاَكٌ آخَرُ وَوَقَفَ عنْدَ الْمَذْبَح، وَمَعَهُ مبْخَرَةٌ منْ ذَهَبٍ وَأُعْطيَ بَخُوراً كَثيراً لكَيْ يُقَدّمَهُ مَعَ صَلَوَات الْقدّيسينَ جَميعهمْ عَلَى مَذْبَح الذَّهَب الَّذي أَمَامَ الْعَرْش. فَصَعدَ دُخَانُ الْبَخُور مَعَ صَلَوَات الْقدّيسينَ منْ يَد الْمَلاَك أَمَامَ الله. ثُمَّ أَخَذَ الْمَلاَكُ الْمبْخَرَةَ وَمَلأَهَا منْ نَار الْمَذْبَح وَأَلْقَاهَا إلَى الأَرْض، فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَزَلْزَلَةٌ". المشهد الذي أمامنا مثير للاهتمام جداً وفيه الكثير من قوالب المجاز اليهودي المعروفة. "مَلاَكٌ آخَرُ". من يكون؟ نحن على قناعة بأن الكاهن الملاك هو المسيح، رئيس كهنتنا العظيم. الخدمة عند المذبح تثبت ذلك، إذ يُشار إلى كل من المذبح النحاسي والمذبح الذهبي. ما من مخلوق يمكنه أن يضيف فعالية إلى صلوات القديسين، إذ أن هذا يستطيعه فقط ذاك الذي يمتلك في ذاته الجدارة والأهلية الحقة. إضافة إلى ذلك، ما يجري عند المذبح يخص شخصاً وسيطاً، شخصاً يتوسط بين القديسين المتألمين المصلّين على الأرض والله؛ وكما تؤمن المسيحية فهناك: "وَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (١ تيموثاوس ٢: ٥)، ولا مجال لدحض البرهان على أن الكاهن الملاك هو المسيح وحده، وليس شخصاً أو جماعة تُمثله، كما يفهم بعض المفسّرين. هناك إجماع عام في الفكر بين المفسرين الأوائل للرؤيا في تفسيرهم السليم بأن الملاك هنا يُقصد به المسيح. "مَلاَكٌ آخَرُ" تُستخدم ثلاث مرات للإشارة إلى المسيح في رؤى سفر الرؤيا (٨: ٣؛ ١٠: ١؛ ١٨: ١). هذا اللقب يفترض الحفظ والبعد. لقب "الخروف" يُميز سفر الرؤيا إجمالاً، والأختام بشكل خاص، ويبدو كأنه اللقب المختار المعبر عن اهتمام المسيح بقديسيه، كما أيضاً بعلاقتهم الحميمة وقربهم منهم. تحت سلسلة أبواق الدينونات يتنحى المسيح معنوياً ويتقلد لقباً وشخصيةً ملائكيين عندما يأتي القديسون بشكل متميز وبارز إلى المشهد النبوي فعندها يظهر لقب الخروف (انظر الأصحاحات ٧: ١٧؛ ١٤: ١، الخ).

٣- "وَجَاءَ مَلاَكٌ آخَرُ وَوَقَفَ عنْدَ الْمَذْبَح، وَمَعَهُ مبْخَرَةٌ منْ ذَهَبٍ". الإشارة هنا هي إلى مذبح المحرقة الذي كان يقبع في باحة خيمة الاجتماع في القديم. النار التي كانت تُضرم أولاً بطريقة عجائبية (لاويين ٩: ٢٤) صارت في ما بعد تتغذى على القرابين اليومية والسنوية وغيرها. يُذكر المذبح ستة مرات في الرؤيا، وببساطة كـ "المذبح" (٦: ٩؛ ٨: ٣، ٥؛ ١١: ١؛ ١٤: ١٨؛ ١٦: ٧). من عبرانيين ٩: ٤ فقط نعرف أن المبخرة تُستخدم مرة في السنة في عيد الكفّارة (لاويين ١٨) وكانت من الذهب. المبخرة كانت تُستخدم لرفع النار عن المذبح النحاسي.

٣- "وَأُعْطيَ بَخُوراً كَثيراً لكَيْ يُقَدّمَهُ مَعَ صَلَوَات الْقدّيسينَ جَميعهمْ عَلَى مَذْبَح الذَّهَب الَّذي أَمَامَ الْعَرْش". كان البخور يُستخدم في خدمة خيمة الاجتماع وكان مركباً من أربع مواد، تُذكر بشكل محدد في خروج ٣٠: ٣٤- ٣٦. لقد كان مركباً بطريقة معينة تتوافق مع الصيغة الإلهية. أي تصنيع غير مقدس لا أو استخدام غير مقدس، كان عقابه الموت (الآيات ٣٧، ٣٨). ما من شك في أن المكونات الأربعة، والتي يُذكر ثلاثة منها مرة واحدة فقط، ترمز إلى الجمالات الأخلاقية وكمالات المسيح كما تشهد عليها الأناجيل الأربعة، ولكنها كانت في حاجة إلى نار الدينونة لتنشر عطر المسيح الكامل، وهذا كانت الجلجلة وحدها قادرة على إنجازه. مذبح الذهب، يُشار إليه مرتين في سفر الرؤيا (٨: ٣؛ ٩: ١٣)، كان يقع داخل خيمة الاجتماع في المقدس، أمام ويمين الحجاب. الدم، شاهد الموت والدينونة، كان يوضع على قرونه الأربع سنوياً (لاويين ١٦: ١٨، ١٩)، وأيضاً للكفّارة في أيام ومناسبات أخرى (لاويين ٤: ٧، ١٨). كان البخور يُحرق أيضاً عليه كل صباح ومساء (خروج ٣٠: ٧- ١٠)، كبخور دائم أمام الرب. المعنى العميق للبخور هو أكثر مما يستطيع اللسان أن يخبر عنه أو القلم أن سيكتب عنه. طيب المسيح الزكي الرائحة، ما كان، وما فعله، وما عاناه يرمز إليه البخور. والآن دعونا نجمع الأقسام المختلفة من المشهد معاً وأن نسعى لفهم المعنى الحقيقي الذي تحمله. العمل برمته تستوجبه حقيقة أن قسماً كبيراً من القديسين المتألمين هم على الأرض خلال زمن إصدار نفير الأبواق، وهناك حاجة إلى التوسط أو الشفاعة لأجلهم. في فترة مبكِّرة، تحت الختم الخامس تُشاهد جماعة من الشهداء. أرواحهم تحت المذبح، وهم يصرخون ويصلّون (٦: ٩). ولكن ما من شفاعة كهنوتية تُرفع لأجلهم؛ إنهم لا يحتاجونها. هذه النعمة تُقدم للأحياء، وليس للأموات. صلوات هؤلاء القديسين، خلال الأزمة الكبيرة التي في تاريخ العالم التي ستكون نصيباً لهم، لا تُدوَّن هنا. لا شك أن حملهم الثقيل عموماً سيكون صرخات مناشدة إلى الله للانعتاق من مُضطهدين غير الأتقياء ولإدانة هؤلاء. صلواتهم لا تنطق بنظرات النعمة بل العكس ٢. طلب الدينونة إذاً سيكون حقاً وفي توافق تقي مع طبيعة وروح التدبير الإلهي، كما أنه غير ملائم الآن ويتناقض مع روح هذه الفترة من رحمة الله الطويلة الأناة. الصلة الروحية في أفضل حالاتها ليست كاملة، ولذلك يضيف المسيح كمالاته في الحياة والموت. ومن هنا فإن دخان البخور، أي عبق المسيح وصلوات القديسين، تتصاعد إلى الأعلى، ليس من مبخرة الذهب، بل "منْ يَد الْمَلاَك أَمَامَ الله"، بشكل أكثر حميمية، وبالتأكيد أكثر قرباً من "المبخرة". كم هي قوية إذاً صلوات حتى أضعف القديسين عندما يصحبها عبق رائحة المسيح ابن الله المحبوب. الملاك هنا (المسيح)، وقد انتقل من مذبح المحرقة إلى مذبح البخور، ورفع صلوات "وجميع القديسين" الذين على الأرض آنذاك إلى الله، مضيفاً إليها الطيب الزكي لحياته وذبيحته، يعود إلى مذبح المحرقة ويملأ المبخرة الفارغة الآن بنار منه. ولكن ليس بالبخور، لأن ذلك كان لأجل القديسين. الدينونة، والدينونة الصرف، ستُلقى على الأرض المرتدة، وعن هذا نرى الإعلان القاسي في العمل المقتدر للملاك الذي "أَخَذَ الْمَلاَكُ الْمبْخَرَةَ وَمَلأَهَا منْ نَار الْمَذْبَح وَأَلْقَاهَا إلَى الأَرْض". وهذا دلالة مذهلة تشير إلى الإجراء القضائي الإداني. الله على وشك أن يعاقب الأرض، وكما أن المذبح كان التعبير عن قداسته وبره في تعامله مع خطيئة شعبه القديم، كذا فإن نفس القداسة والبر يفتقد الأرض ويدين ويُعاقِب بناءً عليها. عمل الملاك يتبعه مباشرة العلامات الرمزية للقوة المقتدرة. "حَدَثَتْ أَصْوَاتٌ وَرُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَزَلْزَلَةٌ"، وهي نذائر للاندلاعات الآتية المتتالية من الغضب الإلهي على الأرض. "هذه الأشياء تُشكل صيغة كارثة"؛ والطابع الرباعي الجوانب هنا يشير إلى عالمية الكارثة في ما سيصيب الأرض" ٣. لدينا نفس الصيغة الإلهية التي تشير إلى دينونة فورية تتكرر فعلياً أربع مرات (٤: ٥؛ ٨: ٥؛ ١١: ١٩؛ ١٦: ١٨). في أول هذه الإشارات التركيز على الغضب الآتي مقتصر على هذه العلامات الثلاثة: "بروق وأصوات ورعود" في الإشارتين الثانية والثالثة يُضاف "زَلْزَلَةٌ"؛ بينما في الرابع (١٦: ٢١) نلتقي بالإضافة الأخرى التي هي "بَرَدٌ عَظيمٌ" ولكن في النصوص الأربعة لدينا، مع تغاير خفيف في ترتيب الأشياء: "بروق وأصوات ورعود".

التهيئة للتبويق:

٦- "ثُمَّ إنَّ السَّبْعَةَ الْمَلاَئكَةَ الَّذينَ مَعَهُمُ السَّبْعَةُ الأَبْوَاقُ تَهَيَّأُوا لكَيْ يُبَوّقُوا". هؤلاء الملائكة السبعة لا يُنفذون بأنفسهم الدينونات التي يعلنونها. ملائكة الدينونة الأربعة (٩: ١٤) متمايزون عن ملائكة الأبواق السبعة. ملائكة الحضور السبعة تلقوا أبواقهم قبل تدخل الكاهن الملاك (الآية ٢). ولكن عظمة وجلال العمل الذي بين أيديهم تدل عليه إمارات وعلامات القوة المقتدرة. والآن يُهيئ الملائكة أنفسهم. ليس من عجلة، بل إشارات تحذيرية يقدّمها المسيح، واستعداد متأن يقوم به الملائكة، ما يشير بالتأكيد إلى جدية وخطورة الوضع، الذي استدعى دينونة قاسية.

البوق الأول:

٧- "فَبَوَّقَ الْمَلاَكُ الأَوَّلُ، فَحَدَثَ بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَان بدَمٍ، وَأُلْقيَا إلَى الأَرْض، فَاحْتَرَقَ ثُلْثُ الأَشْجَار وَاحْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ". "بَرَدٌ وَنَارٌ مَخْلُوطَان بدَمٍ". هذه لا يجب أن تُفهم على أنها قوى مدمرة حرفياً. إنها رموز. الطاعون السابع في مصر كان أحد الـ "بَرَد وَنَار"، عاصفة لم يسبق لها مثيل في تاريخ تلك الممالك الأكثر قدماً (خروج ٩: ١٨- ٢٥). الدينونة الآتية المعلن عنها هنا ستكون ذات طبيعة مرعبة وستكون مدمرة وواسعة الانتشار، بدون أن تؤثر عليها قوى الطبيعة المدمرة، "بَرَد وَنَار". إدخال عنصر ثالث، ليس عاملاً مدمراً منفصلاً، بل يُذكر العنصران الأولان "مَخْلُوطَان بدَمٍ"، ما يميز طبيعة خاصة وفائقة البشر في هذه الدينونة. إنها تتميز باندماج القوى الذي يكون خارج نطاق الطبيعة كلياً. ليست الدينونة من النوع العنائي، وليست عاصفة برد ونار حرفياً. فماذا تعلمنا هذه الرموز إذاً؟ كيف نقرأها ونفهمها؟ الكتاب المقدس يصمت بخصوص هذا الموضوع.

البرد يرمز إلى دينونة مفاجئة حادة غالبة مؤلمة تأتي من فوق، والله هو الذي يُنفذها (انظر أشعياء ٢٨: ٢، ١٧؛ رؤيا ١١: ١٩؛ ١٦: ٢١). والنار هي التعبير عن غضب الله. وكرمز يُستخدم بشكل أكبر من أي رمز آخر في هذا السفر المقدس. من خلال دينونة لا مفر منها ومؤلمة، يُشار إليها هنا. بالطبع إن لها معان أخرى، ولكننا نهتم الآن بتطبيقها الإداني فقط (انظر تثنية ٣٢: ٢٢؛ أشعياء ٣٣: ١٤؛ لوقا ١٦: ٢٤؛ رؤيا ٢٠: ١٠، ١٤، ١٥). والدم يرمز إلى الموت، بالمعنى المادي والروحي. في الأخير سيفترض شكل ارتداد، أي نكران كامل للحقيقة المعلنة، والتخلي عن الاعتراف الديني ٤؛ ما يتعلق بالدم كموت جسدي، انظروا تكوين ٩: ٥، ٦؛ حزقيال ١٤: ١٩؛ والدم كموت روحي، انظروا أعمال ٢: ١٩، ٢٠؛ رؤيا ٦: ١٢؛ ١٦: ٣- ٦. بينما يُعتبر الرمزان السابقان منفصلين، "البرد والنار"، لا يمكننا أن ننظر إلى الثالث على هذا النحو. "الدم" كان ممتزجاً مع هذين العنصرين في الدمار. ومعاً يُعبرون عن اندلاع مريع حقاً للغضب الإلهي، أياً كان ومهما كان المنفذون للهدف الإلهي. البوق يُنفخ، والدينونة عامة.

٧- "وَأُلْقيَا إلَى الأَرْض"، هكذا يغطي كموضوع للدينونة نفس المجال تماماً الذي بعثر عليه الملاك النار من المذبح (الآية ٥). في كلتا الحالتين (الآيات ٥ و٧) العبارة "يُلقي" تتضمن قوة لا تقاوم وراءها. دينونة البرد والنار مع الدم لا يمكن إرجاعها إلى أسباب طبيعية وهذا واضح من حقيقة أنهما أُلقيا إلى الأرض على يد ذراع قديرة لم تُرَ بعد. المنطقة المبتلية يُقال بأنها الأرض. ولكن بما أن الأرض والبحر يُشار إليهما بشكل منفصل في رمزيات سفر الرؤيا فلابد لنا أن نتساءل عما يرمز إليه كل منهما. ف الأصحاح ١٠ لدينا رؤيا للمسيح يتميز بعلامة مميزة من الجلال الإلهي. إنه ينزل من السماء ليطالب بالعالم كله. إن العالم هو خاصته. ولذا فإن هناك مغزى في تأكيد حقه العالمي السيادي الذي يجعله يضع رجله اليمنى على البحر ورجله اليسرى على الأرض، وهكذا متملكاً كل العالم الذي تحت السماء. أولئك الذين ينفصلون عن الخليقة الطبيعية يمثلون صورة (١) الزعزعة وعدم الاستقرار (البحر)، و(٢) الاستقرار (الأرض). الرموز نفسها في أقسام أخرى من سفر الرؤيا، تُثبت وتحدد المعنى الدقيق والكامل للمغزى لدى استخدام كل من هذه الرموز. الرمز يستحضر أمامنا صورة كاملة عن عما يُقصد نقله، وفي معظم الأحيان بقوة أكبر من استخدام العبارات المطولة؛ ومن هنا عالمية الرموز في التعبير في الفكر البشري. فالأرض، إذاً، تشير إلى ذلك الجزء من العالم المتحضر والواقع تحت سلطة ثابتة وحكومة راسخة وطيدة. والبحر، بالمقابل، يُمثل ذلك الجزء من العالم الذي هو في حالة فوضى، عالم اللا حكومة والفوضى والتمرد، بدون حكومة إلهية ومدنية ٥. الرفض العلني لله سيتبعه سريعاً تنصل من السلطة القضائية والمدنية، وعندما يصل انعدام الناموس والتقوى إلى ذروته، يتدخل الله بدينونة. وعن هذا يتكلم الجزء النبوي من سفر الرؤيا مقدماً شهادة صادمة، نأمل فهمها في مسار هذه الدراسات.

"احْتَرَقَ ثُلْثُ الأرض"، وأيضاً ثلث الأشجار وكل العشب الأخضر. ونشهد الآن النتائج الرهيبة التي نجمت عن هذه الدينونة المتجلية من السماء. تلك الأراضي التي أشرقت عليها المسيحية بقوة تُركت آنذاك للدينونة. الله السامي في علاقاته، في زمن الأبواق، نُسي وهجره العالم المسيحي. فما الذي يبقى عندئذ سوى ذراع الله القديرة لتضرب بدينونة؟ العناصر التدميرية الرمزية أُلقيت على الأرض. والنتائج كانت مثلثة الجوانب.

(١) "احترق ثلث الأرض". هذه العبارة محذوفة من الترجمة العربية التي لدينا. إن القسم الغربي من الأرض كما تأتي في النبوءات هو الذي يُشار إليه هنا على أنه "ثلث الأرض" أو "الجزء الثالث" ٦. الإمبراطورية المنتعشة برأسها الشخصي المضطَهد والمجدف، "القرن الصغير" (دانيال ٧: ٨)، بعاصمتها القديمة المشهورة، روما (رؤيا ١٧: ١٨)، ستسيطر من جديد على الأرض، ولكن الإمبراطورية على الأقل في جل إثمها، الغرب، سيتم التخلي عنه ليشعر بغضب الرب. لا نعلم إن كانت الكلمة "احترق" تشير إلى الخراب الكئيب الناجم عن الحرب أو عن أي مُرسَل آتٍ من السماء، ولكن من الواضح أن الإمبراطورية ستؤول إلى الزوال بفعل عدة دينونات متضامة متحدة.

(٢) "احْتَرَقَ ثُلْثُ الأَشْجَار". هنا تصل يد الدينونة الصارمة لتصل إلى العظماء والمميزين؛ إلى أناس يعيشون في غطرسة ناجمة عن التكبر أو المنزلة. الدمار يصيب كل هؤلاء، جميعهم، وبالطبع ضمن المجال الذي تأملناه في النبوءة. الشجرة صورة ملائمة ومألوفة تشير إلى العظمة البشرية؛ إلى الكبرياء والمكانة العالية وسط الناس (حزقيال ٣١؛ دانيال ٤: ٤- ٢٧؛ قضاة ٩: ٨- ١٥، الخ).

(٣) "احْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ". ليس من حدود هنا، ولا "ثلث" أو حتى "جزء رابع" كما تحت الختم الرابع (٦: ٨). العشب يشير إلى شعب إسرائيل (أشعياء ٤٠: ٧)؛ الجنس البشري أيضاً يتم الكلام عنه كعشب (١ بطرس ١: ٢٤). "عُشْب أَخْضَر" من الطبيعي أن يشير إلى حالة مزدهرة رفيعة من الأشياء بين سكان الإمبراطورية عموماً. ترافق الأشجار والعشب، كما في ٩: ٤ وهنا أيضاً، يدل على الدينونة التي تصيب الجميع، الرفيعي المقام وخفيضيه، بما في ذلك الدمار الكامل لكل أمر سعيد يحيط بهم. الحالة الموصوفة بالعبارة "احْتَرَقَ كُلُّ عُشْبٍ أَخْضَرَ" تشير إلى مشهد عام من الخراب والدمار. يا لها من أيام مريعة تنظر تلك البلدان التي هي مباركة ومأثورة وسعيدة الآن، إذ أن العدالة الجزائية آنذاك ستًطلق العنان لدينونة الله الصارمة القاسية.

البوق الثاني:

٨، ٩- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الثَّاني، فَكَأَنَّ جَبَلاً عَظيماً مُتَّقداً بالنَّار أُلْقيَ إلَى الْبَحْر، فَصَارَ ثُلْثُ الْبَحْر دَماً. وَمَاتَ ثُلْثُ الْخَلاَئق الَّتي في الْبَحْر الَّتي لَهَا حَيَاةٌ، وَأُهْلكَ ثُلْثُ السُّفُن". "جَبَلاً عَظيماً مُتَّقداً بالنَّار". الكتاب المقدس نفسه يعطي قوة للصورة. الملك البابلي القدير يتكلم عنه هكذا النبي إرميا (٥١: ٢٥): "هئنذا عليك أيها الجبل المهلك يقول الرب المهلك كل الأرض فأمد يدي عليك وأدحرجك عن الصخور وأجعلك جبلاً محرقاً". الرب هنا يهدد المملكة الكلدانية، التي يبدو أنها مترسخة بقوة في قدرتها وعظمتها بحيث تقاوم أي هزيمة- يهددها بدينونة مهلكة، "جبلاً محرقاً". ومن جديد، الحجر الذي لم تلمسه أي يد بشرية أو أداة يقع بقوة تحطيم كبيرة على أقدام التمثال، صورة السلطة الأممية، وتصير عندئذ "جبلاً كبيراً وملأ الأرض كلها" (دانيال ٢). السيادة العالمية النطاق لابن الإنسان تُصور هكذا. الجبل رمزياً يدل على المملكة (أشعياء ٢: ٢؛ زكريا ٤: ٧؛ إرميا ٥٢: ٢٥) أو على قوة أو سلطة مترسخة بشدة (مز ٤٦: ٢؛ رؤيا ٦: ١٤؛ ١٦: ٢٠). الفكرة المجردة، الواجب فهمها في هذه الرموز النبوية، هي عن سلطة راسخة ثابتة قوية، وهذه السلطة نفسها هي موضوع انتقام الله السيادي، لأن الرائي رآها تحترق بالنار، فتصبح في يد الله أداة للدينونة تنزل على الوثنيين. يصف إرميا، النبي المنتحب، بدقة قوة وقيمة الصورة في نصنا (٥١: ٢٥).

٨- "أُلْقيَ إلَى الْبَحْر". خلال البوق السابق (الآية ٧) كانت الأرض هي مشهد الدينونة؛ أما هنا فهو البحر. الأرض هي العالم الروماني عموماً، حيث الثلث هو القسم الغربي من الإمبراطورية. يُمثل البحر حالة تمرد ضد سلطة راسخة؛ عن شعوب في حالة قلق وفوضى، وبالتالي خارج حدود العالم الروماني. ضمن هذا الأخير، في الماضي كما في المستقبل، السلطة والحكومة تؤيدان. البحر الهائج أبداً (أشعياء ٥٧: ٢٠؛ دانيال ٧: ٢، ٣؛ رؤيا ١٣: ١؛ ١٨: ٢١) هو الصورة المختارة هنا للإشارة إلى شعوب الأرض في ملكية منذرة بالسوء، خاضعة للحاجة إلى سلطة قوية متحكمة أو ذراع قوية. السلطة المدنية والحكمية يضعها الله (رومية ١٣: ١). حالة الأشياء في المستقبل بين الأمم خارج الحدود الإقليمية للسلطة الرومانية المنتعشة يمكن مقارنتها بحالة فرنسا خلال فترة الحكم التي امتازت بالرعب في القرن الثامن عشر- أمة بدون الله، بدون دين، وبشبه حكومة فقط، تحكمها النزعات العاطفية الهوجاء للرعاع، ملعب الشيطان في أوربا. لذلك، فإن البحر النبوي يُمثل الحالة العامة للأمم بدون حكومة مدنية أو روحية. إلى الجموع المهتاجة من البشر، والعالم الوثني، تُلقى هذه القوة المحرقة. ونشهد الآن النتائج المهلكة الناجمة عن ذلك. وهذه تكون مثلثة الجوانب كما في البوق الأول.

(١) "صَارَ ثُلْثُ الْبَحْر دَماً". هل يرمز الدم هنا إلى موت طبيعي عنيف أم أنه يشير إلى موت الارتداد الروحي؟ في تقديرنا هذان الشكلان من الموت يمتزجان هنا. تلك الأمم التي هي في علاقة سياسية أو علاقة خارجية مع قوة الإمبراطورية الرومانية المسيطرة سوف تُدمر. دمار الحياة بين الأمميين، المرتبطين بعلاقة مع أسوأ الإمبراطوريات العالمية الأربعة، هي ما يُمثله هذا الرمز أو الصورة. الموت الروحي والجسدي هو النتيجة الأكيدة لكل علاقة مع سلطة روما المرتدة المجدفة والمضطهدة.

(٢) "وَمَاتَ ثُلْثُ الْخَلاَئق الَّتي في الْبَحْر الَّتي لَهَا حَيَاةٌ". هذا الجزء من العالم لا يأتي إلى خضوع طبيعي لسلطة راسخة، بل في علاقة خارجية مع الإمبراطورية، هو ما يراه الرائي تالياً، إذ يُفتقد بالدينونة. الحديث هنا هو عن أشخاص، وليس عن شعوب أو أمم بشكل عام، كما في الدينونة الأولى. العبارة "الْخَلاَئق" لها الكثير من المعاني. حتى في الوثنية توجد معايير متفاوتة عن المسؤولية ودرجات متعادلة في الإثم. "ثُلْثُ"، أي أن الأسوأ هم أمامنا في هذه السلسلة من التأديبات الإلهية. "مَاتَ ثُلْثُ الْخَلاَئق الَّتي في الْبَحْر الَّتي لَهَا حَيَاةٌ". العلاقات المتداخلة في الأختام هي أمر بسيط مقارنة بتلك التي للأبواق. في الأخيرة هناك غموض وأسرارية مقصودة في الرموز المستخدمة ما يجعل الفحص الدقيق أمراً صعباً نوعاً ما. ولكن هنا، مع الأصحاحات ٢: ٢٣ و٣: ١ التي أمامنا نحن أمام أساس متين. الموت الأخلاقي أو الروحي هو بلا شك قوة الدينونة التي تُنفذ هنا. الموت تجاه الله، والموت نحو مبادئ الحق والبر، والموت عموماً يُنظر إليه معنوياً بطابعه الواسع.

(٣) "وَأُهْلكَ ثُلْثُ السُّفُن". هذه القوة التدميرية، سواء كانت أمة أم نظاماً، تُلقى بعنف إلى جمهور البشر غير المنضبطين، ليس فقط أنها تحدث تخريباً فظيعاً، جسدياً وأخلاقياً، على الشعوب والأشخاص، تحطم أيضاً التجارة ووسائل الاتصال مع البلدان البعيدة. "وَأُهْلكَ ثُلْثُ السُّفُن". ولكن قصة الدينونة لم تُسرد بعد. تزداد الظلمة كثافة مع دنو الليل. وينشأ رعب يليه رعب. يا للمفاجأة الصاعقة التي سيتعرض لها العالم المسيحي عندما يستيقظ ليجد الحقيقة المريعة بأن الديّان واقف على الباب!

البوق الثالث:

١٠، ١١- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الثَّالثُ، فَسَقَطَ منَ السَّمَاء كَوْكَبٌ عَظيمٌ مُتَّقدٌ كَمصْبَاحٍ، وَوَقَعَ عَلَى ثُلْث الأَنْهَار وَعَلَى يَنَابيع الْميَاه. وَاسْمُ الْكَوْكَب يُدْعَى «الأَفْسَنْتينُ». فَصَارَ ثُلْثُ الْميَاه أَفْسَنْتيناً، وَمَاتَ كَثيرُونَ منَ النَّاس منَ الْميَاه لأَنَّهَا صَارَتْ مُرَّةً". عند نفخ الأبواق فإن الملائكة الأربعة الكابحين يُطلقون العنان لأربع رياح الأرض، الذين هم الوكلاء العنائيون للدينونة (٧: ١). السحابة السوداء للانتقام المنتشرة فوق العالم الآثم تُرفع قليلاً، لفترة قصيرة يعمل الله خلالها بنعمته المطلقة وسط إسرائيل والأمميين (الأصحاح ٧). ثم تحت الأبواق يتم استئناف سير الدينونة. نفخ الأبواق السابق أعلن إطلاق الدينونات الأشد فظاعة على الأرض وعلى البحر: الأول هو مشهد النظام الحكمي، وأيضاً حيث الله أيضاً كان يُعترف به بشكل أو بآخر؛ والأخير هو المجال حيث قوى الملكية وإرادة الإنسان كانت تحكم في المطلق، والتي كانت دائماً تنكر السلطة الروحية والمدنية. هذه البوق تشير إلى دينونة تعادل سابقاتها في شدتها المرعبة، بل وفي بعض الجوانب تكون مريعة أكثر منها. "سَقَطَ منَ السَّمَاء كَوْكَبٌ عَظيمٌ". السماء هي مصدر السلطة: بالتأكيد هي مكان ثابت؛ ومن هنا إدخال أداة التعريف إلى كلمة "السَّمَاء". كل السلطات الروحية والمدنية والسياسية مصدرها من الأعلى. "السماء سلطان" (دانيال ٤: ٢٦). تحت البوقين السابقين كانت أدواة الدينونة قد "أُلقيت" على الأرض والبحر كلٍّ بدوره، ولكن لا نعلم من أين. وهنا هذا الشخص الرفيع المقام المرتد "سقط" من السماء ٧. الكلمة "أُلقي" تتضمن المعنى ممارسة قوة لا تُقاوم من جهة الفاعل غير المنظور، وأيضاً عنف الدينونة؛ بينما "يسقط أو يقع" التي نجدها أيضاً في ٩: ١، ستشير بالأحرى إلى سقوط مفاجئ وغير متوقع. "الكوكب" كرمز هو كثيراً ما يرد في الرؤيا، ويشير إلى حاكم أو شخص يحتل مكانة ذات تأثير ويحمل مسؤولية أمام الله (١٢: ١- ٤؛ ٦: ١٣، الخ). السيادة يُشار إليها بالشمس؛ السلطة المستمدة يُرمز لها بالقمر؛ بينما الكواكب تشير إلى سلطات أقل. هذا "كَوْكَبٌ عَظيمٌ" يرمز بشكل واضح إلى حاكم معين متميز مسؤول قد عُين في الجَلَد المعنوي ليمنح النور في الليلة المظلمة تلك من تاريخ العالم، ولكنه شخص مرتد، يقبع تحت دينونة الله المباشرة، "مُتَّقدٌ كَمصْبَاحٍ"؛ ومن هذه الناحية يشبه "جَبَلاً عَظيماً مُتَّقداً بالنَّار". الصفة "عظيم" ملتصقة بالجبل، وأيضاً بالكوكب؛ في الأول فقط يُشار إلى القوة المتحدة أو النظام المتحد، بينما في الأخير القصد هو شخص رفيع الشأن. لا نعرف هنا من هو هذا الشخص المنحط والمرتد. البعض يرى في أن الكوكب الساقط العظيم إشارة إلى شخص ضد المسيح ٨. ولكن هذا لا يرتقي إلى أكثر من مجرد تحزر. ضد المسيح يلعب دوراً هاماً في الأزمة القادمة، كما سنرى في الدراسات التالية.

١٠- "وَقَعَ عَلَى ثُلْث الأَنْهَار وَعَلَى يَنَابيع الْميَاه". "المياه" تشير عموماً إلى الشعوب (١٧: ١٥؛ أشعياء ١٧: ١٢، ١٣)؛ والبحر يشير إلى حالة من الاضطراب والاهتياج، اضطراب وقلق وسط تلك الشعوب (أشعياء ٥٧: ٢٠؛ دانيال ٧: ٣)؛ "الفيضانات" امتلاء من البركات الأرضية (أشعياء ٤٤: ٣)، وأيضاً الكوارث الأرضية (عاموس ٨: ٨)؛ "الأنهار"، الحياة العادية لأمة أو شعب والمتميزة بمبادئ معينة (حزقيال ٢٩: ٣؛ أشعياء ١٨: ٢)؛ "يَنَابيع"، مصادر المبادئ والتأثيرات التي تؤثر على حياة أمة (يوئيل ٣: ١٨؛ إرميا ٦: ٧).

١١- "اسْمُ الْكَوْكَب يُدْعَى «الأَفْسَنْتينُ»". وثلث المياه يُصبح الأَفْسَنْتينُ؛ ويموت كثير من الناس، لأن المياه قد جُعلت مُرةً. اسم "الأَفْسَنْتينُ" ذو مغزى معطى الكثير من المفسرين القدماء يعتبرون الشخص المشار إليه هنا على أنه الشيطان، ولكن، كما لاحظنا، ليس هناك وسيلة تساعدنا لتحديد اسم الشخص. المنطقة الجغرافية المتأثرة هي "الثلث". الينابيع، مصادر الحياة الوطنية، تُسمَّم. كل ما هو تحت التأثيرات المدمرة المهلكة لهذا الكائن الساقط تدل على مواصفات شخصه، "الأَفْسَنْتينُ". من الواضح أن هناك إشارة إلى ذلك الحادث الشيق في تاريخ إسرائيل الذي نجد تفاصيله في خروج ١٥: ٢٢- ٢٥. فهناك المياه المرة قد جُعلت حلوة؛ أما هنا فالمياه العذبة الحلوة تُجعل مُرة. الحياة الوطنية والشخصية منفسدان. معاملة قضائية إدانية ذات طابع كثيف وجليل تتناول ثلث الأمم؛ منابع الفعل فيها، وحوافزها، ومبادئها، والحياة الأخلاقية فيها مُسمَّمة، وبالنتيجة "كَثيرُون" يموتون. هذا الموت ليس جسدياً بل معنوياً، وهو في الواقع أشد فظاعة من السابق. "عندما تنظر إلى هذه المكونات المُرة التي تسربت إلى المياه بسقوط هذا الكوكب العظيم، فلا تتعجب أن كثيرين ماتوا، بل بالأحرى فإنك ستستغرب إن بقي أحد على قيد الحياة" ٩.

البوق الرابع:

١٢- "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ الرَّابعُ، فَضُربَ ثُلْثُ الشَّمْس وَثُلْثُ الْقَمَر وَثُلْثُ النُّجُوم، حَتَّى يُظْلمَ ثُلْثُهُنَّ، وَالنَّهَارُ لاَ يُضيءُ ثُلْثُهُ، وَاللَّيْلُ كَذَلكَ". الشمس والقمر والنجوم مجتمعة ترمز إلى كل الجسم الحاكم، من الرأس الأعلى نزولاً إلى أصغر السلطات- نظام كامل من الحكم بكل أجزاءه. تحت الختم السادس (٦: ١٢، ١٣) نفس الرموز تُقدم لنا للتعبير عن انهيار كامل لكل السلطات الحاكمة على الأرض. قوة الإنسان تُحطم. وكل سلطة تحت السماء تُقلب وتُهزم. الحكومات الراسخة منذ زمن بعيد، وكل سلطة اتكالية وقوة تسقط في الحطام العالمي. ولكن هناك، انهيار كل النسيج الاجتماعي، وسقوط كل كرسي للحكم، لن يكون محصوراً أو يمكن تقييده. الحد الوحيد تحت الأختام هو "الجزء الرابع" الذي يحدث مرة واحدة فقط (٦: ٨). وهنا تحت البوق الرابع تمتد الدينونة وتأثيراتها إلى "ثلث" المشهد النبوي، الجزء الغربي من الإمبراطورية المنتعشة. وفي هذا السياق فإن العبارة "ثلث" ترد خمس مرات (الآية ١٢). تأثير هذه الدينونة هي ذلك الظلام الأخلاقي المعنوي، كمثل مسحة جنائزية تُخيم فوق الإمبراطورية.

إعلان عالمي ومرتفع الصوت لأبواق الويل الثلاثة:

١٣- "ثُمَّ نَظَرْتُ وَسَمعْتُ مَلاَكاً طَائراً في وَسَط السَّمَاء قَائلاً بصَوْتٍ عَظيمٍ: «وَيْلٌ وَيْلٌ وَيْلٌ للسَّاكنينَ عَلَى الأَرْض منْ أَجْل بَقيَّة أَصْوَات أَبْوَاق الثَّلاَثَة الْمَلاَئكَة الْمُزْمعينَ أَنْ يُبَوّقُوا»". "نَظَرْتُ وَسَمعْتُ". العين والأذن كلتاهما كان لهما دور، ما يدل على الانتباه الذاهل والاهتمام عند الرائي بالأحداث التي كانت تمر أمامه في الرؤيا. في ترجمتنا العربية نقرأ "ملاك"، ولكن في ترجمات عربية أخرى نجد الكلمة "نسر أو عقاب". وأعتقد أن هذه هي الأفضل. هناك رسالة أوكلت إلى الملاك الطائر (١٤: ٦)، كما أن رسالة أخرى أوكل بها عقاب طائر (٨: ١٣). وسط السماء، أو الجلد، هو المجال الذي يخترقه كلاهما، لكي يستطيعوا معاينة ما في الأرض من مركزها وإلى أقصى أطرافها. الأول هو رسول للرحمة، والأخير هو المنذر بالدينونة. الصرخة الثلاثية بـ "الويل" ينطق بها العقاب وهذا أمر ملائم. في طيرانه السريع والشاهق عبر السماء العالية يعلن بصوت مرتفع المصير المشؤوم الآتي على القسم المتمسحن من الأرض على أولئك الذين رفضوا بكبرياء "الدعوة السماوية"، الذي يكتب بولس عنهم قائلاً: "الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات" (فيلبي ٣: ١٩). هنا طبقة خاصة تُفرز عن سكان الأرض، طبقة أخلاقية، يُقال عنها بأنهم "الساكنون على الأرض"، وأُشير إليهما سابقاً مرتين في (٣: ١٠؛ ٦: ١٠). على هؤلاء المرتدين، الذين هم الأسوأ في الأزمنة الداكنة والشريرة، ستقع دينونة مباشرة ولا يمكن الشفاء منها وهذا ما يُعلن عنه هنا علانية وبصوت مرتفع. وليس من رمز أفضل من النسر في طيرانه الشاهق عبر السماء، ناظراً ببصره الحاد إلى فريسته من بعيد. العقاب هو النذير بالدينونة الوشيكة (انظر تثنية ٢٨: ٤٩؛ إرميا ٤٨: ٤٠؛ متى ٢٤: ٢٨). الدينونات الأربعة السابقة كانت ذات طابع عام، ولكن تلك الآتية ستصل إلى قمة الرعب؛ ومن هنا هذا الإعلان التمهيدي ١٠.


١. يقول هنغستنبرغ وبعض المفسرين الآخرين أن الحديث هنا هو عن صمت في الأرض، ويستشهد بحبقوق ٢٢، وصفنيا ١: ٧، وزكريا ٢: ١٣؛ هذه المقاطع تتكلم عن صمت في الأرض، بينما النص في يدينا، والذي لا نجد حتى الآن أي نظير له أو مثل في العهد القديم، يتكلم عن "سُكُوتٌ في السَّمَاء". يكفينا أن العبارة تشير باختصار إلى قترة توقف مؤقت قصيرة خلال مسار الدينونة. هذا يؤكده التأمل في نصين آخرين، والذين نجد فيهما إعلانات إنذارية أولية عن الدينونات الآتية ينطق بها بنفس الكلمات فعلياً. في النص الأول، (٤: ٥)، لدينا حدوث بلوى إلهية تستمر حتى نهاية الأصحاح ٦. ثم نجد توقفاً مؤقتاً يوحي بانقطاع قصير الأجل لسير الدينونة. وفي النص الثاني، (٨: ٥)، نجد إعلاناً آخر مشابهاً عن التأديبات الإلهية يتم الكشف عنه، وهذا الأخير يأخذ مجراه تحت الأبواق. الصمت هو في السماء لأن الدينونات تنبع منه.

٢. طبيعة الجواب تحدد طبيعة التشفع أو التوسل الذي قُدم.

٣. "إعلان يسوع المسيح ليوحنا"، ص. ٣٤١- هوبر.

٤. يهوذا ١٢، "ميتة مضاعفة"؛ الأولى أموات في الخطايا، والثانية أموات للارتداد.

٥. لقد تم التأكد من الرمزية عند العبرانيين كانت مستمدة من مصر وأشور، حيث كانت المملكة ونظام التمثيل في كلتيهما قد أحرزتا درجة عالية من السمو. ولكن هل نقبل أو نتخيل أن الله يستمد صوراً من الأمم الوثنية الآثمة؟ لا أوافق على هذا الرأي وأعتقد أن هذا المفهوم مثير للشك كلياً. الحقيقة هي أن الرمزية هي أقدم بكثير من الممالك المشار إليها، وهي مترافقة مع بدء وجود الجنس البشري. ولذلك فإن الفترة الأولى التي كشفت (تكوين ٢) الأشجار الرمزية: شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير الشر، تستدعي انتباهنا لأنها أول رموز مقدمة للبشر. إنها جزء من اللغة العالمية، الرمز كما يُصور للذهب ينقل بطريقة مؤثرة الملامح أو المواصفات المعنوية للشيء المتناول. ولذلك فإن الأسد، الذي هو "سيد الغابة" يوحي مباشرة بفكر الجلال والسلطة الملوكية؛ ومن هنا فإن هذه المواصفات المعنوية التي تدل عليها الرموز تشير إما إلى المسيح (رؤيا ٥: ٥)، أو إلى أول الإمبراطوريات العالمية العظيمة- البابلية (دانيال ٧: ٤).

٦. الإمبراطوريات العالمية الأربعة، تُصور كمعادن (دانيال ٢)، ووحوش (الأصحاح ٧). وهذه هي بابل، وفارس، واليونان، وروما. الثلاثة مذكورة بالاسم في الكتابات المقدسة من قِبل النبي العبري. والرابعة، أو روما، يُشار إليها في لوقا ٢: ١، "صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة". كانت وما قد تأسست عام ٧٥٣ ق. م.، بعد فترة قصيرة من تعرض الأسباط العشرة للسبي على يد شلمنأسر. أعطى رومولوس، ملكها الأول، الاسم إلى المدينة، التي قُدر لها أن تلعب دوراً هاماً في تاريخ العالم. قرطاجة، المنافس الإفريقي لروما، كانت القوة الوحيدة التي بدا أنه يمكن أن تهز عظمة روما. كانت المدينة الإفريقية هي الأقدم، وكانت ذات ثراء أكبر. ولكن كان على حام أن يخضع ليافث. ازدادت روما قوة واتساعاً إقليمياً حتى صار العالم المعروف آنذاك عند قدميها (لوقا ٢: ١). يقول غيبون: "إمبراطورية روما ملأت العالم". بعد غزو اليونان صارت الفضائل الأولى في الشخصية الرومانية فاسدة ومنحطة. الكمال والعدالة، اللذان ميزا روما الأولى، ما عادت موجودة بل موضع ازدراء، بينما الطموح الشخصي، بدلاً من الاهتمام بالدولة وحاجاتها، قد صار من الملامح المميزة لأباطرتها وقادتها. بعد مضي أكثر من خمس مئة سنة على الإمبراطورية، دون أن تتعرض للتقسيم، بل تسيطر على العالم، تقطعت أوصالها في القرنين الرابع والخامس. فاختفت عن الوجود. صعود البابوية وانحدار الإمبراطورية كانا متزامنين ومترابطين. تعود أعلوية أسقف روما إلى القرن الرابع. حالة أوربا حالياً، مع تضارب مصالحها وكثرة عددها، هي نتيجة الانهيار الكامل لإمبراطورية القياصرة تلك. وتناول المؤرخون تاريخ روما منذ صعودها عام ٧٥٣ ق. م حتى سقوطها الشائن عام ٤٦٧ م.، ولكنهم توقفوا هنا. يرفع الله الحجاب ويظهر مستقبل الإمبراطورية الميتة الآن. يُبين النبي العبري (دانيال ٢؛ ٧) والرسول المسيحي (رؤيا ١٧- ١٩) بوضوح أن الإمبراطورية ستنتعش وتظهر إلى الوجود لدى مجيء الرب بقوة. دمارها الكامل من قِبل الرب بشخصه سيلي الملكوت الألفي والعالمي لربنا يسوع المسيح، الذي سيفوق في عظمته وطابعه وامتداده كل قوة على الأرض ظهرت منذ بدء العالم (دانيال ٧: ٢٦، ٢٧).

٧. "الكوكب العظيم" في الأصحاح ٨: ١٠ يجب أن لا يُخلط بينه وبين الكوكب الساقط في ٩: ١. كلاهما سلطانان روحيان، يُشاهدان ساقطين معنوياً من مكانهما العالي. ولكنهما شخصان متمايزان.

٨. الاسم الرمزي للكوكب (الآية ١١) لا ينطبق على الشخص المشار إليه، بل إلى التأثير المهلك الذي ينتج عن الفعل.

٩. "محاضرات على سفر الرؤيا". ص. ١٨١.- رامسي.

١٠. "الويل، وخاصة على أولئك الذين استقروا في الأرض، يتعارض مع الدعوة السماوية، وأولئك الذين لم يتنبهوا ولم يتأثروا بالدينونات التي على الأرض، بل كانوا متمسكين بها موطناً لهم رغم كل ما أُعلن لهم حتى ذاك الوقت. ثلاث ويلات. العبارة "قاطنون"، أو "سكان" الأرض لم تُستخدم بعد، سوى في الوعد إلى فيلادلفيا ومطالبات الأرواح تحت المذبح، لأن كلاً من هذين كانا متعارضين مع بعضهما. بعد كل تعاملات الله هذه، هم طبقة ظاهرة متمايزة، ويتم الكلام عنهم في ما ستمر به الأرض بهكذا تعابير. ضد هذه الطبقة المعاكسة وغير المؤمنة توجه الآن دينونات الله الأرضية؛ الأولى ضد اليهود، والثانية ضد سكان العالم الروماني، والأخيرة عالمية".- "مختصر أسفار الكتاب المقدس"، الجزء ٥، ص. ٦٠٥.