الأصحاح ١٣

الوحشين

التنين والوحشين:

تغلب الملاك ميخائيل على التنين نشأ عنه هزيمة نكراء لقوة الشيطان وتأثيره في السموات. التنين وزبانيته طُردوا إلى الأرض، هذا الحدث ذو الأهمية الاستثنائية المغزى الكبير. وصارت الأرض الآن عالماً يعمل فيه الشيطان، وصار اليهود والأمميون مُتقو الله موضوع كراهية الشيطان القاتلة. إنه أيضاً يعمي ويُظلم الشعوب والبلدان التي كانت تُشكل منارة للمسيحية على نحوٍ متألق. رغم أن الشيطان روح، ولذلك فهو غير منظور للعين البشرية، إلا أنه يعمل فعلياً على الأرض خلال النصف الأخير من أسبوع دانيال النبوي، السنوات الثلاثة والنصف. وكيلاه الرئيسيان أمامنا في هذا الأصحاح، رجلان. هذان الوسيطان يتم الحديث عنهما أيضاً كوحشين، وحشين ضاريين عنيفين ١. وهما مثل البشر، مسؤولان أمام الله، ولكن نراهما هنا كأداتين في يد الشيطان، الذي يعطيهما قدرتهما ويسيطر عليها ببراعة. الشيطان هو الفكر المدبر الذي يعمل في ومن خلال هذين المرتدين. الوحش الأول أممي يتميز بقوة همجية (الآيات ١- ١٠)؛ والثاني يهودي، يتميز بتأثيره الماكر (الآيات ١١- ١٨). فهذان، إذاً، هما وكيلا الشيطان أو خادماه الرئيسيان على الأرض، ففيهما وبوساطتهما يعمل ليحقق دمار بني إسرائيل ويخفق في ذلك ولا ينجح مع "بَاقي نَسْلهَا" (١٢: ١٧). وفي وقت لاحق يحثّ مغفليه العميان الذين يتبعونه فيُشكّل حشداً كبيراً ضد المسيح نفسه وجيشه السماوي (الأصحاح ١٩: ١١؛ ٢٠: ٣). يا لهمجية ذلك الحشد! ويا لفداحة تلك الهزيمة التي سيُمنى بها التنين.

الوحش الأول

(الآيات ١- ١٠)

الانتعاش التاريخي للإمبراطورية الرومانية:

١- "ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى رَمْل الْبَحْر". البعض يقول "وقف". في الحالة الأولى يكون الرائي هو المقصود، بينما في الحالة الثانية يكون التنين هو المعني. يقول هنغستبرغ معلّقاً: "لا يمكننا الاستناد إلى أساس خارجي لتحديد القراءة الأصح". الآراء متباينة. ولكن دراسة متأنية لفحوى النص تظهر بشكل محدد وحصري أن الرائي وليس التنين هو الذي "وقف على رمل البحر". النبي الرؤيوي يأخذ مكانه دائماً أو يقف في موقف إشراف وملاحظة بما يتلاءم مع المادة التي بين يديه. ومن هنا نجد "السموات" (٤: ١)، و"رمل البحر" (١٣: ١)، و"برية" (١٧: ٣)، و"جبل عظيم عالي" (٢١: ١٠)، كنقاط استشراف يستطيع منها أن يتأمل في الرؤى المتنوعة التي تمر أمام ناظريه.

١- "رَمْل الْبَحْر" الذي يقف الرائي عليه يشير إلى الحشود الهائلة من الناس (٢٠: ٨). هذا الرمز منتشر جداً ولذلك فكل الآداب تستخدمه. الرمل يلفت انتباهنا إلى الجموع البشرية التي لا عدد لها، بينما البحر رمز يدل على القوى والعناصر الوحشية والثورية الفاعلة في وسطهم. بمعنى آخر، يُشار إلى جمع العرق البشري هنا على أنه في حالة اهتياج واضطراب. في حالة الأشياء يأخذ الرائي موقفاً، ويقول: "رَأَيْتُ وَحْشاً طَالعاً منَ الْبَحْر".

هذا الوحش هو بلا شك الإمبراطور الروماني القديم وقد عاد للظهور مجدداً في العالم النبوي. لقد طلع الوحش على نفس المنوال كما الأباطرة الثلاثة السابقين. "صعد من البحر أربعة حيوانات عظيمة" (دانيال ٧: ٣)؛ أي خارجاً من جموع بشرية غير مستقرة وغير مرتاحة. الإمبراطوريات العالمية الأربعة: بابل، وفارس، واليونان، وروما تُمثَّل بالمعادن (دانيال ٢) وبالوحوش (الأصحاح ٧) بآنٍ معاً، وليس فقط في بدء المراحل الأولية لتاريخها بل في النهاية حيث سيكونون عندما يأتي الرب ٢. القوى الثلاثة الأولى ٣، وقد جُرِّدت من قوتها، تبقى موجودة فقط في النهاية، أما القوى الرابعة (الإمبراطورية الرومانية) فستكون، وكما في الماضي، القوى المسيطرة على الأرض. لقد طلِعت روما أصلاً من مخاض الثورة والفوضى وانعدام السلطة. سرعان ما بُنيت المدينة قبل سبي الأسباط العشر إلى أشور. البشائر العديدة والأساطير المتعلقة بولادة روما تشير كلها إلى عظمتها المستقبلية. ولكن بينما دانيال ٧: ٣، ٧ يشير إلى النهوض التاريخي للإمبراطورية، ٧٥٣ ق.م.، فإن الرائي في رؤيا ١٣: ١ يشير إلى عودة ظهورها في المستقبل. لأكثر من ١٤٠٠٠٠٠ سنة انقطعت الإمبراطورية الرومانية الغربية عن الوجود ٤، ولكن انتعاشها المستقبل لاشك فيه، وإلى هذا تشير الآية الأولى من أصحاحنا. لا وسيلة لدينا للتحقق عما إذا كانت الإمبراطورية موجودة أو تشكلت فقط خلال زمن دينونات الختم. قد يكون الأمر أن الوحش ظهر من خلال الانهيار العام لكل السلطة الحاكمة تحت الختم السادس (٦: ١٢- ١٧). الشهداء الأوائل (٦: ٩- ١١) لا يُقتلون تحت اضطهاد الوحش، بل يبقون إلى أن ينضموا لأولئك الذين سيُذبحون لاحقاً، بما يُظهر أن الوحش ليس في مشهد العالم آنذاك، أو على الأقل لا يكون فعالاً، خلال الزمن الذي تغطيه الأختام.

الوحش الطالع من البحر، والصاعد من الهاوية:

الوحش يُرى أولاً خلال انتعاشها التاريخي بحيث يكون "طَالعاً منَ الْبَحْر". ولكن يُقال أيضاً أنه "يصعد من الهاوية" (١٧: ٨). كلاهما في المستقبل. الإمبراطورية ستوجد لسبع سنوات، ولكن عندما تصعد في البداية سيكون ذلك انطلاقاً من فوضى سياسية واجتماعية، بينما في المرحلة الأخيرة والنهائية يُشار إلى مصدرها وطابعها الشيطانيين. "البحر" يُشير إلى صعودها التاريخي المستقبلي، و"الهاوية" إلى حالتها تحت سلطة الشيطان. هذا الجانب الأخير من الإمبراطورية يعود تاريخها إلى الفترة من سقوط الشيطان في "وسط الأسبوع". الطبيعة والفعل الشيطاني يُميزانها خلال الفترة الأخيرة من وجودها، السنوات الثلاث ونصف.

رؤوس الوحش وقرونه:

١- ثم يوصف الوحش بأن لديه "سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى قُرُونه عَشَرَةُ تيجَانٍ". نلاحظ هنا أن عدد التيجان عشرة بينما في ١٢: ٣؛ ١٧: ٣ نجد أن عدد التيجان سبعة. هذه القرون المتوجة العشرة تشير إلى عشرة ملوك (١٧: ١٢). سرعان ما ستُشاهَد عشرة ممالك متمايزة في أوربا الغربية. قد يصعب تخمين عددها أو تحديد حدودها بالضبط ولكن الله بترتيباته العنائية سيوضحها لنا بسهولة عندما سيحضرها إلى الوجود. الإمبراطورية في كل تاريخها لم تكن لها هذه الصفة. عندما اختفت من الوجود، تشكلّت عدة ممالك ودويلات صغيرة ضئيلة الشأن، كانت عبارة عن شذراتٍ من تلك الإمبراطورية العظيمة الواسعة الأرجاء، والتي كان لها رأس مستبد واحد. ولكن عندما ستنتعش ستتشكل عشرة ممالك ضمن حدودها الإقليمية. وعندها عشرة ملوك، منهكين من كثرة الصراعات الدولية والغيرة سيكون لهم "رأي واحد، ويعطون الوحش قدرتهم وسلطانهم" (١٧: ١٣). ولن يكون هناك سوى حاكم واحد على الإمبراطورية، هو "القرن الصغير" الذي يتكلم عنه دانيال ٧، الأمير الروماني الذي سيقطع عهداً مع الأمة المرتدة لسبع سنوات (دانيال ٩: ٢٧) وهذا العهد سيُقطع في منتصف الوقت، ويتلاشى أخيراً عند مجيء الرب بالدينونة (رؤيا ١٩: ٢٠).

أسماء التجديف:

١- هناك صفة أخرى ومروعة أكثر تضاف هنا ألا وهي أن "عَلَى رُؤُوسه اسْمُ تَجْديفٍ". للمراقب غير النبيه ستكون الإمبراطورية بقوتها الهائلة وانتشارها الإقليمي الواسع مذهلة، ولكن الفكر المتأمل يرى في طابع التجديف عند رؤسائها، السلطة الحاكمة فيها، رؤيا مريعة جديرة بالتأمل والتفكير. الرؤوس السبعة للوحش تُمثل، ليس أشكالاً متعاقبة من الحكم، كما في الأصحاح ١٧: ١٠، بل اكتمال وكمال سلطة الحكم التي كانت تُمنح للوحش في فترة أيامها الأخيرة. "القرون السبعة" (٥: ٦) ترمز إلى تمركز القوة فيها، و"الرؤوس السبعة" تشير إلى كمال الحكومة الفكرية (١٢: ٣).

"عَلَى رُؤُوسه اسْمُ تَجْديفٍ" ٥. هجران الاعتراف بالمسيحية (٢ تسا ٢: ٣)، والتجديف العلني والصريح بالله هو النتيجة المحزنة. سيتحدى الوحش الله علانية، ويجعل من نفسه القوة العنيدة المقاومة لكل من يخصُّون الله (الآية ٦). وهذه من الملامح الجديدة للإمبراطورية، وهي تُميز المرحلة الأخيرة من وجودها. روما القديمة كانت وثنية في طبيعتها. لعلنا توقعنا أن تلك الأسماء كانت على رأس التنين، ولكن الحقيقة هي أنها على الوحش، لأنه هو الذي سيكون الشاهد العلني للمعارضة المباشرة والشنيعة لله ولمختاريه ولكل السموات أيضاً. كل شكل وطابع يتم فيه خزيان الله في أعين الناس يُشار إليه بـ "اسْمُ تَجْديفٍ".

مواصفات الإمبراطورية:

٢- إلا أن الوحش يُصور أيضاً على أنه "شبْهَ نَمرٍ، وَقَوَائمُهُ كَقَوَائم دُبٍّ، وَفَمُهُ كَفَم أَسَدٍ". أي أن الوحش، أو روما الإمبراطورية، وإضافة إلى أنها تتمايز بملامح خاصة بها، إلا أنها تجمع وتُركِّز على الصفات الرئيسية للإمبراطوريات الثلاثة السابقة، و"تمتصها"، كما قال أحدهم ٦. ولأجل فهم هذه الإمبراطوريات نحتاج إلى العودة إلى النبي العبري. الأصحاح هو نبوءة مرتبطة بالموضوع معطاة بالرؤيا إلى دانيال (الأصحاح ٧)، وتمتد من مجيء غازي يهوذا إلى عرش السيادة الكونية، ومنها إلى كل الأجيال حتى صعود نجم يهوذا من جديد؛ بمعنى أخر، من حكم نبوخذنصر إلى عهد المسيح كابن الإنسان. تُوصَف الإمبراطوريات الثلاثة الأولى باختصار (دانيال ٧)؛ الإمبراطورية البابلية في الآية ٤، والفارسية الميدية في الآية ٥، واليونانية في الآية ٦. وبقية الأصحاح تكرس بالدرجة إلى التمعن في الوحش الرابع، الذي يُوصف ولا يُذكر اسمه (الآية ٧). سنلاحظ أن الرائي يذكر الحيوانات المتوحشة بترتيب عكسي خلافاً لما ورد عند النبي. عند دانيال يتطلب التتابع التاريخي للإمبراطوريات ذكر الأسد أولاً، الرمز المختار لعظمة بابل. في رؤيا ١٣: ٢ يُذكر النمر أولاً أو الإمبراطورية الثالثة. خفة الحركة والوثب المفاجئ، كانت تميز الإمبراطور اليوناني العظيم، الإسكندر، الذي كان يُشار إليه بالنمر؛ والمستبد الفارسي الطماع والساحق الذي اجتاح أقاليمها (باستثناء يهوذا ربما) يُشبَّه بقوائم الدُّب، بينما الرعب الذي يُعبر عنه زئير الأسد، كما أيضاً عنفه وضراوته في تمزيق الفريسة إلى أشلاء، يأتي ثانياً. هذه المواصفات في الطبيعة الوحشية تُرى هنا مجتمعة ومتجسدة في الوحش الرابع عند دانيال ٧، سيادة السلطة الرومانية المنتعشة.

التنين والوحش:

٢- "وَأَعْطَاهُ التّنّينُ قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَاناً عَظيماً". الوحش الذي تتجمع فيه بآن معاً الملامح المميزة وسمات سلفه، وأيضاً سلطته، يُشكل أداة مناسبة يستطيع التنين أن يعمل من خلالها. ولذلك فليس الوحش فقط وارثاً للسطوة على العالم الممنوحة مباشرة على نبوخذنصر، بل يُمثل أيضاً التنين بقوته الوحشية والفظيعة في العالم. مكر الحية نجد تعبيراً عنه في الوحش الثاني (الآية ١١). سلطة الشيطان من الهاوية، وعرش الشيطان نفسه وسط عالم يجحد بالله، والسلطة غير المحدودة على الأرض تُشكل هذه الصورة الفظيعة المصورة هنا. لقد رفض المسيح أن يأخذ السيادة للعالم من الشيطان (لوقا ٤: ٥، ٨)؛ وها هنا أحد يقبلها. لا يبقى سوى أن نضيف أن الفترة المشار إليها عندما يعطي التنين عرشه وسلطانه للوحش هي الزمان والمناسبة عندما يطلع الوحش من الهاوية (١٧: ٨)، الناتج عن طرد الشيطان من السماء.

الطابع الشيطاني والتاريخ الفظيع للإمبراطورية يُغطي أفظع المآسي في مستقبل العالم- السنوات الثلاث ونصف التي تسبق مجيء الرب في المجد. في نهاية هذه الفترة، الأسبوع السبعون من دانيال، الوحش ومعاونه في الشر يذهبان "إلى الهلاك"، أي بحيرة النار. الوحشان في أصحاحنا هنا يتبين أنهما في النهاية إنسانان يعملان بوحي وإلهام الشيطان. رؤساء المرتدين في الأيام الأخيرة يُقدر لهم أن يبقوا على قيد الحياة لينالوا مصيرهم الأبدي (١٩: ٢٠).

موت وقيامة الوحش وتعجب كل الأرض:

٣- "وَرَأَيْتُ وَاحداً منْ رُؤُوسه كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ للْمَوْت، وَجُرْحُهُ الْمُميتُ قَدْ شُفيَ. وَتَعَجَّبَتْ كُلُّ الأَرْض وَرَاءَ الْوَحْش". لدينا هنا الموت السياسي والقيامة للوحش. الرأس المذبوح والوحش متطابقان بشكل واضح. الوحش برأسه الإمبراطوري هو الذي ذُبح. اختفت الإمبراطورية عن الوجود عام ٤٧٦ م. السطوة العالمية الأرجاء للقياصرة كانت تُمسك زمام الأمور بيد من حديد وأودت إلى الموت السياسي منذ ذلك الحين وحتى الآن. ولكن الله بعنايته سيُنهض الإمبراطورية من جديد إلى الوجود طالعة من وسط شغف ثوري وصراع، كما الحال في نشوء الإمبراطورية على يد نابليون الأول- من البحر (الآية ١). "جُرْحُهُ الْمُميتُ قَدْ شُفيَ". يراه الرائي كحقيقة منجزة، ونسلم بأنه يشير إلى تلك الحالة من خلال الآية ١. ولكن قيامته كما تقدمه إلى العالم مرتبط بانتعاشه الشيطاني وسط الأسبوع (دانيال ٩: ٢٧). النهوض التاريخي للوحش واستمراره يُستأنَف أو على الأقل يكون متزامناً مع معاهدة السنوات السبع مع يهوذا. الانتعاش الشيطاني (الآية ٢؛ ١٧: ٨) هي في النصف الأخير من ذلك الأسبوع النبوي. "تَعَجَّبَتْ كُلُّ الأَرْض وَرَاءَ الْوَحْش". سيُقدم الوحش صورة مجهولة وغير منظورة حتى الآن، صورة لا مثيل لها في تاريخ الجنس البشري. قوة بشرية تُمنح بطاقات شيطانية، تتحدى الله علانية، وتُمنح بسلطة ملوكية وسلطان عالمي الأرجاء للشيطان سيُغطي النظرة الخاطفة لكل الأرض ستُدهش الصورة النظر ليس من سبب لحصر العبارة "كُلُّ الأَرْض". انتعاش الإمبراطورية يجب أن يكون مسألة ذات اهتمام لكل الكائنين ضمن مجالها وتأثيرها. سلطة التنين وتأثيره البعيد سيتجاوز الحدود الجغرافية للمالك العشرة. الوحش الذي سيمنح الشيطان له سلطته يمارس تأثيراً قوياً مسيطراً على كل أرجاء الأرض بل ويصل حتى إلى حدود العالم الوثني.

عبادة التنين والوحش:

٤- "وَسَجَدُوا للتّنّين الَّذي أَعْطَى السُّلْطَانَ للْوَحْش، وَسَجَدُوا للْوَحْش قَائلينَ: «مَنْ هُوَ مثْلُ الْوَحْش؟ مَنْ يَسْتَطيعُ أَنْ يُحَاربَهُ؟»". هنا تمت تنحية الله جانباً، ويغتصب التنين مكانه. ليس الخالق، بل الشيطان هو الذي يصبح موضوع العبادة الكونية. الاعتراف المجرد يصبح بلا قيمة في ذلك اليوم الفظيع. وحدها الواقعية تنتشر في عالم مأخوذ كلياً إلى الشيطان. ووحدهم أولئك الذين كُتبت أسماؤهم في سفر الحمل، أو، بمعنى آخر، المختارون (الآية ٨)، يمكنهم أن يجابهوا الشيطان في ساعة انتصاره الظاهر. في أعين البشر يكون التنين قد أنهى ما كان يُفترض بان الله وحده يستطيع فعله، معطياً سلطاناً سامياً عظيماً للوحش؛ على ذلك الأساس الكرامات الإلهية تُعطى له. ولكن الوحش يتم السجود له أيضاً. التعجب الذي يثيره عودة ظهوره في عالم التاريخ يليه السجود. كلا التعجب والسجود كونيان عالميان، الأخير في الطابع والامتداد يتجاوز كل ما سبق وشُوهد في روما من قبل. تحضير الأرواح، الذي كان يقطع خطوات متقدمة كبيرة في السنوات الأخيرة، يعمل لهدف واحد محدد، السجود للشيطان. تُمارس عبادة الشيطان في أوربا وأميركا بشكل كبير. في ٢ تسا ٢ نعلم أن إنسان الخطيئة، المتطابق مع الوحش الثاني في أصحاحنا، يُسجد له أيضاً. يا له من تجديف فظيع! يا له من استهزاء وسخرية بالمسيحية! ليس للثالوث القدوس: الآب، والابن، والروح القدس، بل عبادة ثالوثية للشيطان: التنين، والوحش، وإنسان الخطيئة. وإلى هذا تأتي إنكلترا التي تُعتبر مسيحية. النُقاد الضليعون يبذلون قصارى جهدهم تحت تأثير الشيطان لتسليم العالم المسيحي للشيطان، وإنهم يخطون خطوات سريعة في هذا الاتجاه. "مَنْ هُوَ مثْلُ الْوَحْش؟ مَنْ يَسْتَطيعُ أَنْ يُحَاربَهُ؟ ٧" هذه تشير إلى أن قوته وقدراته الحربية هي مواصفات باهرة تنال إعجاب العالم، ومن هنا يأتي التقدير إلى مكانته العالية، ولكن ليس السجود هو النقطة الخاصة المعينة هنا. نعتقد وعلى الأرجح، أن تلك الكرامات الإلهية يجب أن تُعطى إلى الرأس الشخصي للإمبراطورية المُستعادة؛ لتقوم بفعلها الذي هو من عمل الوحش الثاني (الآيات ١٢- ١٥).

التجديف والاضطهاد وسلطة الوحش العالمية الانتشار:

٥- ٧- "وَأُعْطيَ فَماً يَتَكَلَّمُ بعَظَائمَ وَتَجَاديفَ، وَأُعْطيَ سُلْطَاناً أَنْ يَفْعَلَ اثْنَيْن وَأَرْبَعينَ شَهْراً. فَفَتَحَ فَمَهُ بالتَّجْديف عَلَى الله، ليُجَدّفَ عَلَى اسْمه وَعَلَى مَسْكَنه وَعَلَى السَّاكنينَ في السَّمَاء. وَأُعْطيَ أَنْ يَصْنَعَ حَرْباً مَعَ الْقدّيسينَ وَيَغْلبَهُمْ، وَأُعْطيَ سُلْطَاناً عَلَى كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَأُمَّةٍ". الوصف السوداوي المنسوج هنا حول الشر الشيطاني والكبرياء البشري يخرج منه شعاع تعزية من الله إلى قديسيه المحبوبين (الآن وآنذاك) من خلال تكرار العبارة "أُعْطيَ". فخلف الوحش هناك قدرة الرب الكلّية العظيمة رغم أنها محتجبة. ليس للشيطان قوة من ذاته. كل قوة هي من الله. تطبيق القوة هو مسألة أخرى والجميع مسؤولين عنها حتى الشيطان نفسه. القوة التي هيّجت بحر الجليل وأنشأت عاصفة ضارية لكي تغرق المركب الذي كان فيه أثمن حمولة أبحرت على الإطلاق، ألا وهي المسيح وتلاميذه، استطاع أن يُهدّئها ذلك النائم الإلهي في مؤخرة السفينة. أُعطي الشيطان لوهلة سلطاناً على عناصر الطبيعة ليُظهر لنا أن قوته، وأيضاً استمراره، يُسيطر عليه الله كلياً بما يناسب مشيئته ومسرته (متى ٨: ٢٣- ٢٧). في كبرياء قلبه يتبجح الوحش ويجدّف. ما هو عليه وما فعله يشكل حاصلة الـ "عَظَائم" التي يتم الحديث عنها، ويُضاف إلى ذلك الكلمات ذات المغزى "وتَجَاديفَ". الله، وكل خاصته في الأرض وفي السماء، محتجزون ويُجدّف عليهم بكلمات ليست مدونة، ولكنها قاسية بالتأكيد بما أوحى الشيطان من عبارات تجديف.

ومن جديد نلتقي بقدرة الشيطان المجسدة على الأرض. "وَأُعْطيَ سُلْطَاناً أَنْ يَفْعَلَ اثْنَيْن وَأَرْبَعينَ شَهْراً". لاحظوا أن التأكيد في نصنا ليس على وجود الوحش أو الإمبراطورية، بل على تلك المحنة العظيمة عندما سيستولي الشيطان على الحكم لمدة ٤٢ شهراً، أو السنوات الثلاثة ونصف التي تسبق هلاكه الأخير. خلال هذه الفترة سيُتابع الوحش مهنته في التجديف والعنف تحت التأثير المباشر للتنين. فترة امتداد الإمبراطورية منذ نشأتها (الآية ١) حتى دمارها النهائي على يد الرب شخصياً لدى مجيئه في المجد (١٩: ١٩- ٢١) تُغطي على الأقل كل أسبوع النبوءة الأخير (دانيال ٩). ابتداءاً من انتعاشها من الهاوية في وسط الأسبوع، ومن ذلك الوقت فصاعداً نؤرخ فترة عمله الشيطاني لمدة ٤٢ شهراً.

عندئذ يكون الله وخيمته وسكان السماء موضوع تجديف الشيطان. تُطلق كلمات نابية وبذيئة. لا نعرف ما يُقال، ولكن من المؤكد أنها تدل على الحد الأقصى من الحقد نحو الله بفعل التنين الماكر الحاقد وهذا سيكون علنياً وبصوت مرتفع. وعلى الأرجح أيضاً أن يأخذ التجديف طابعاً إضافياً من الازدراء والسخرية بالصور والمظاهر التي تعبر عن المواضيع الإلهية. ثم يقف القديسون على الأرض الذين يدافعون عن حقوق الله ضد التنين وأتباعه ويُسلمون بقوة الوحش. القديسون في هذه الأوقات ليسوا بطابع الشهود السلبيين الـ ٧٠٠٠ الذين في زمن النبي. في شهادتهم هم مثل إيليا في الجرأة ورفض المساومة. يُسمح للوحش بأن يشفي غليله وانتقامه من القديسين بأن "يَغْلبَهُمْ". انظر أيضاً (١١: ٧، ٨) المتعلقة بأورشليم. أياً كان الامتداد الإقليمي للإمبراطورية في المستقبل، فإن سلطة الوحش تبدو غير محدودة في مداها وامتدادها، إذ تشمل "كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَأُمَّةٍ"- هذه التقسيمات الأربعة للجنس البشري. ولذلك نجد تجمعاً في أورشليم من الناس من كل أصقاع الأرض مترابط مع الوحش في قتله للقديسين اليهود (١١: ٩). البلدان والشعوب خارج الإمبراطورية الرومانية سيكونون تحت تأثيره وسلطانه القويين. الوحش والمرأة (بابل) مترابطان جداً، وإضافة إلى ذلك فإن هناك أمماً أخرى لها علاقة خارجية مع الوحش وتكون له سلطة عليها (الأصحاح ١٧).

عبدة الوحش:

٨- "فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَميعُ السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض، الَّذينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسيس الْعَالَم في سفْر حَيَاة الْخَرُوف الَّذي ذُبحَ". قمنا بالتعليق أكثر من مرة على المغزى الأخلاقي في التعبير "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض" بأنها تشير إلى مجموعة من الأشخاص قد رفضوا عن عمد الدعوة السماوية والذين كانوا في الواقع مرتدين عن المسيحية. إنهم متمايزون عن الأمم والشعوب واللغات والقبائل (١١: ١٠). وهنا، إن عبارة "السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض" لا تشير إلى مغزى خاص، لأن الإشارة هي إلى الجميع ما عدا النخبة المُنتقون. كل الذين يسكنون آنذاك على الأرض النبوية على تضاد مع أولئك الذين أسماؤهم هي في سفر حياة الحمل، ومن هنا فإن المعنى الروحي للعبارة سكان الأرض لا يمكن أن ينطبق في هذه الحالة. في المقطع الذي أمامنا الجميع يسجدون للوحش ما عدا النخبة المنتقاة. الحمل المذبوح الذي كان قد افتداهم بدمه يكون لديه اعتبار خاص لأولئك الذين يعانون. سفر الحياة الذي كُتبت فيه أسماؤهم يخصه. في صفحاته كُتبت أسماؤهم منذ تأسيس العالم، ومن هنا فلا يمكن أن تُمحى، كما الحال مع كتاب أو سجل المعترفين (٣: ٥). الأسماء، الحقيقية أو الزائفة، موجودة في هذا السفر الأخير، إذ أن الله يأخذ بالاعتبار اعتراف كل المسيحيين. ولكن سفر الحياة عند الحمل لا يمكن أن يحوي إلا أسماء المفتدين كما كُتبت منذ تأسيس العالم، أي من بدء الزمان. إنه نفس السفر ونفس الجماعة التي يُشار إليهما في ١٧: ٨ وفقط هناك اسم الحمل محذوف. الوحش يغزو ويقتل، ولكن الحياة الأبدية هي نصيب أولئك الشهداء. الحمل افتداهم بموته، وهكذا صنع صلاحاً في زمن معين، وكشف في اللحظة المناسبة الحقيقة المشجعة والمعزية في أن أسماءهم كُتبت في سفر الحياة الخاص به، بركتنا كمسيحيين تعود جذورها إلى قبل النخبة التي يتم الحديث عنها هنا وأولئك الذين في متى ٢٥: ٣٤. نحن معروفون مسبقاً، ومختارون، وقُدِّر لنا مسبقاً منذ تأسيس العالم، وقبل أن يبدأ الزمان، أن نكون في الأبدية (أفسس ١: ٤، ٥؛ رومية ٨: ٢٩). يمكننا القول أن النخبة في متى ٢٤: ٢٢ تشكل جماعة من متقي الله، اليهود، في حين أن أولئك الذين هم في أصحاحنا والخراف الذين في متى ٢٥: ٣٤ مختارون منتقون من العالم بمجمله.

دعوة وتحذير:

٩- ١٠- "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ! إنْ كَانَ أَحَدٌ يَجْمَعُ سَبْياً فَإلَى السَّبْي يَذْهَبُ. وَإنْ كَانَ أَحَدٌ يَقْتُلُ بالسَّيْف فَيَنْبَغي أَنْ يُقْتَلَ بالسَّيْف. هُنَا صَبْرُ الْقدّيسينَ وَإيمَانُهُمْ". الصيغة "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ" استخدمها الرب مراراً وتكراراً خلال فترة خدمته على الأرض (متى ١١: ١٥؛ ١٣: ٩، ٤٣؛ لوقا ٨: ٨، الخ). إنها في جوهرها تحمل نفس المفردات والمعنى، ولكن ينقصها ما يقوله يوحنا في مخاطبته للكنائس السبع (رؤيا ٢، ٣). فالعبارة "مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ" ليس لها تطبيق هنا، لأن الكنائس لم تعد على قيد الوجود خلال سير الدينونات الرؤيوية. الدعوة إلى السماع تفترض وجود فهم روحي، وبهذا يتمايز عن السماع الطبيعي المألوف للناس.

المبدأ إذاً ينطبق على الوحش كما على قديسي الله في جميع العصور، على الأعداء والأصدقاء سواسيةً. ومهما كبرت النعمة وقدرة الروح القدس على العمل في القديسين فإن تطبيق هذا المبدأ يبقى صالحاً. ولكن ما الحقيقة هنا التي تترك انطباعاً قوياً في الذهن؟ إنه يقين العدالة العقابية، أو كما يقول الكتاب: "بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ" (متى ٧: ٢). من يقود إلى العبودية، أياً كان، سيخضع لها بالتأكيد. كل من يقتل لابد أن يُقتَل. يا لها من كلمة تحذير، وملائمة وفي أوانها للقديسين الذين يكونون آنذاك قد سُحقوا تحت وطأة الحكم الحديدي للوحش! سوف لن يُقاوموا. أسلحتهم لن تكون جسدية بل روحية. "هُنَا صَبْرُ الْقدّيسينَ وَإيمَانُهُمْ". وبهذا الشكل فقط يمكنهم أن ينتصروا. انتصاراتهم معنوية وروحية، وليست مادية. يكونون بلا حول أو قوة أو رجاء، ويكون اتكالهم على الله وحده. لن يسجدوا للوحش، ولكن من جهة أخرى يجب أن لا يقاوموا، ومن هنا فإن الأسر والموت سيكون نصيبهم المحزن. ليكن كذلك، إذ ستكون لهم حياة وراء قدرة العدو في أوجها. أسماؤهم كُتبت في سفر الحياة للحمل، وما من قوة في الجحيم أو الأرض يمكن أن تمحي الكتابة أو تحرمهم من نصيبهم الأبدي الذي يقوم على أساس موت حمل الله.

يمكننا القول أنه في رؤيا ١٣ ودانيال ٧ الإمبراطورية المنتعشة هي الموضوع البارز. ولكن في الأولى الطابع العام لقوة العالم هو الميزة البارزة، في حين نجد في الأخيرة أن الملامح المميزة هي الرأس الشخصي بشكل خاص في الإمبراطورية هي التي تُرى بشكل واضح. تجديف الوحش والاضطهاد الذي يمارسه (رؤيا ١٣: ٥- ٧) تأتي في تعابير تكاد تتطابق مع تلك المستخدمة مع القرن الصغير (دانيال ٧: ٨، ٢٥). النبي العبري والرائي المسيحي كلاهما يربطان بشكل حيوي الإمبراطورية برأسها الشخصي، الإمبراطور الأخير. طابع الإمبراطورية مجسد في رأسها العظيم الأخير. هناك ملامح أخرى في الوحش الرابع وعلاقته بالزانية كما نراها في الأصحاح ١٧ من سفر الرؤيا والذي سندخر التأمل فيه إلى أن نصل إلى ذلك الأصحاح. إن "الوحش"، أي الإمبراطور، يُصور بشكل مميز في الرؤيا على أنه القوة أو السلطة المدنية العظيمة في الأيام الأخيرة.

الوحش الثاني

(الآيات ١١- ١٨)

الوحشان في حالة تضاد:

يُمثل الوحشان في أصحاحنا سلسلة من متناقضات مذهلة. الأول يطلع من حالة غير مستقرة للأشياء- البحر؛ والثاني يطلع من حالة مستقرة راسخة من الحكم المدني والسياسي في الأرض. السابق قوة مدنية والأخير قوة دينية. الوحش الأول كان له عشرة قرون، والثاني له اثنان. في تأثير ماكر مهلك للنفس يكون الوحش الثاني أكثر خطراً من وكيلي الشيطان التنفيذيين ولكن الأول يكون أسمى وأعظم في السلطة المدنية والعسكرية. من الواضح أن الوحش الثاني تابع للأول، ويستخدم في الواقع قوى الإمبراطورية العسكرية وغيرها ليحقق هدفه- تأليه الوحش الأول. الوحش الثاني هو نائب للأول. الأول أممي؛ بينما الثاني يهودي. وزمنياً أيضاً يلي الوحش الثاني طلوع الأول. هناك تشوش كبير في أذهان الكثيرين في ما يتعلق بالعوالم الخاصة بكل من هذين الوحشين من حيث تأثيرهما. الأول في نظام سياسي وعسكري واسع، ولأنه هكذا فإنه يهلك عند مجيء الرب. بينما الامتداد الإقليمي للإمبراطورية يكون محدوداًَ أكثر مما كان في طابعها الإمبراطوري الماضي، وسلطتها وتأثيرها الذي يمتد في كل أرجاء الأرض المتحضرة والممسحنة، مشتملة على شعوب وأمم عديدة. له يعطي الشيطان عرشه وسلطته، هذان اللذان رفضهما المسيح من الشيطان (لوقا ٤: ٦، ٧). إنه يأخذه من أبيه (مز ٢: ٨). ما من قوة يمكن أن تصمد أمام الوحش. إنه القوة المسيطرة على الأرض.

الوحش الثاني يسيطر في أرض الكنعانيين، ولكن سلطته السياسية سرعان ما تتضاءل عندما يتدخل الوحش الأول، في شخص رئيسها، في الأمور السياسية والدينية لليهود، ويكون لذلك الوقت السيد الافتراضي في الأرض. يُرى ضد المسيح كوحش في بداية تاريخه، ولكنه يهلك في النهاية وكما النبي الكذاب، إذ يكون قد خسر سيادته المؤقتة. السلطان كأمير وملك على الأرض يظهر في الوحش الأول، الذي يبقى مسيطراً لفترة طويلة ويهلك في النهاية. الوحش الثاني يصبح خادماً للأول. ولكن الوحش الثاني هو الذي يخدع العالم، ويعمل لوضع اليهودية والمسيحية بين ذراعي الشيطان. العبودية الأكثر إذلالاً التي لا نظير لها والتي تعرض لها الوحش الأول هي ملمح مريع آخر لتلك الأوقات. لن تكون هناك حرية. كلا الوحشين يتشاركان نفس المصير وفي نفس الوقت في أورشليم أو قربها لدى مجيء المسيح بقوة وسلطان (١٩: ٢٠).

المحاكاة الساخرة للمسيح:

١١- "ثُمَّ رَأَيْتُ وَحْشاً آخَرَ طَالعاً منَ الأَرْض، وَكَانَ لَهُ قَرْنَان شبْهُ خَرُوفٍ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ كَتنّينٍ". مَن هو ذلك الوحش الذي يُشار إليه على أنه "آخر"؟ إن مظهره كشبه خروف يوحي لأول وهلة بأنه المسيح الكذاب. إن له "قرنان". والحمل له "سبعة قرون". القرن هو رمز القوة والسلطة، مادية كانت أو أخلاقية أو ملوكية. ونستنتج أن القرنين على الوحش هما محاكاة للقرون السبعة على الحمل (٥: ٦). كامل القوة هي مع الحمل؛ ولكن قوة محدودة مع الوحش. قرنا القوة ترمزان إلى المهمة المزدوجة للملك والنبي التي يُفترض في ضد المسيح توليها. كملك يملك على أورشليم، ولكن في إطاعة إلى رئيسه الأعظم "الوحش" (دانيال ١١: ٣٦). تحت هذا اللقب الرؤيوي، "النَّبِيِّ الْكَذَّابِ" (١٦: ١٣؛ ١٩: ٢٠؛ ٢٠: ١٠)، يمارس سلطة روحية عظيمة بين اليهود وشعوب العالم المسيحي عموماً.

"كَانَ يَتَكَلَّمُ كَتنّينٍ". رغم بعض الشبه الخارجي بالحمل في انتحال السلطة الرسمية التي له حق فيها ينكشف في الحال عندما يتكلم. صوته الذي يشبه صوت التنين وكلامه يخونانه، ويظهران أنه خادم للشيطان. إنه الأداة التي يعمل بها الشيطان في تدمير اليهودية والعالم المسيحي، روحياً وأخلاقياً على حد سواء، لكونه معاونه العظيم، الوحش الأول، الذي له دور فعال في العوالم النبوية للحكم السياسي والمدني. الدمار، المادي والمعنوي، هو هدف التنين الأعظم، وفي سعيه لتحقيق هدفه يؤيده نائباه الرئيسيان باقتدار، وهما الوحشان الوارد ذكرهما في أصحاحنا.

يمكننا القول أن روما وأروشليم هما المركزان المعينان اللذان يظهران تأثير عمل الشيطان في أوربا ويهوذا وكل أرجاء الأرض.

الوحش الثاني وخادم الوحش الأول:

١٢- ١٥- "وَيَعْمَلُ بكُلّ سُلْطَان الْوَحْش الأَوَّل أَمَامَهُ، وَيَجْعَلُ الأَرْضَ وَالسَّاكنينَ فيهَا يَسْجُدُونَ للْوَحْش الأَوَّل الَّذي شُفيَ جُرْحُهُ الْمُميتُ، وَيَصْنَعُ آيَاتٍ عَظيمَةً، حَتَّى إنَّهُ يَجْعَلُ نَاراً تَنْزلُ منَ السَّمَاء عَلَى الأَرْض قُدَّامَ النَّاس، وَيُضلُّ السَّاكنينَ عَلَى الأَرْض بالآيَات الَّتي أُعْطيَ أَنْ يَصْنَعَهَا أَمَامَ الْوَحْش، قَائلاً للسَّاكنينَ عَلَى الأَرْض أَنْ يَصْنَعُوا صُورَةً للْوَحْش الَّذي كَانَ به جُرْحُ السَّيْف وَعَاشَ. وَأُعْطيَ أَنْ يُعْطيَ رُوحاً لصُورَة الْوَحْش، حَتَّى تَتَكَلَّمَ صُورَةُ الْوَحْش وَيَجْعَلَ جَميعَ الَّذينَ لاَ يَسْجُدُونَ لصُورَة الْوَحْش يُقْتَلُونَ". هذه الوحوش هي منظمات سياسية أياً كانت الرئاسات التي تمثلها. الثاني هو القوة التابعة، ورئيسه الملكي التابع الفعال للوحش الأول. قد يستنتج المرء لأول وهلة أن الوحش الأول هو مجرد آلة فعالة، وأن الطاقة والقوة التي تتسم بها توجد متمركزة في الوحش الثاني الذي "يَعْمَلُ بِكُلِّ سُلْطَانِ الْوَحْشِ الأَوَّلِ أَمَامَهُ"، أي في حضوره. ولكن ليس الحال هكذا. الوحش الأول هو اتحاد قوي بين عشرة ممالك، تلاحمت بشكل منسجم فغدت قوة ضخمة هائلة (١٧: ١٣) تحت قيادة قائد استبدادي، فعال، وفظ، ومضطهِد، ومجدِّف. ليس للوحش الديني سلطة ملكية خارج فلسطين ولذلك فإنه يستخدم سلطة الوحش الأول وقوته ونفوذه، ليحقق مخططه الشيطاني في أن يجعل العالم المسيحي يسجد أمام الإمبراطورية الرومانية المنتعشة. الوحش الثاني ليس لديه قوة عظيمة أو قدرة عسكرية من تلقاء ذاته؛ هذا يُعطى من التنين على الوحش الأول. يؤثر الثاني على الناس من ناحية دينية وروحية، وهو أسوأ من كلا الاثنين. الوحش الثاني يشابه الأول في السوء، بل يفوقه شراً. ينتحل لنفسه الحق في العبادة كإله؛ فيجلس في الهيكل الحرفي الذي يبنيه الشعب الجاحد؛ ويقيم نفسه فوق كل سلطة، إلهية وبشرية؛ وفي الواقع، يأخذ مكانة الله ما أمكنه ذلك، ويكون كل هذا في أرض فلسطين ٨. فهناك يملك، وقد جعل عرشه في أورشليم، وهناك أيضاً يشغل الهيكل على أنه الله. هذا الوحش هو اندماج السلطتين الدينية والمدنية، المسيطر السابق. وخلافاً للمسيح، الذي جاء باسم أبيه (يوحنا ٥: ٤٣)، هذا الشخص الفظيع يدعي أنه مسيّا إسرائيل، أيضاً، كملك ونبي بين الناس الذين يكونون في حالة إلحاد. ويكون الشعب، (ما عدا البقية التقية الباقية)، قد أُعميوا جزائياً، واعترفوا بمزاعم ضد المسيح الذي سيترأس بنفسه المرتدين من اليهود والمسيحية (١ يو ٢: ٢٢). سوف يؤله ضمن حدود الأرض المقدسة. وأما خارج حدود فلسطين، في العالم المسيحي الأوسع، فإنه يفرض على الأمم والشعوب أن يسجدوا للوحش الأول، "الَّذي شُفيَ جُرْحُهُ الْمُميتُ". ويكون قد انتعش آنذاك.

١٣- "يَصْنَعُ آيَاتٍ عَظيمَةً"، وهذه لا تُحدَّد، ولكن آيةً واحدة بارزة واضحة يتم ذكرها بالتحديد، ألا وهي "أنَّهُ يَجْعَلُ نَاراً تَنْزلُ منَ السَّمَاء" وهذه تظهر علانية "قُدَّامَ النَّاس". إنها صفة المعجزة التي اجترحها إيليا باسم يهوه إزاء أولئك الذين كانوا يعبدون بعل (الملوك الأول ١٨: ٣٨، ٣٩). على هذا النحو، إذاً، يؤيد الوحش الثاني مزاعم الأول بأن يُسجد له في كل الكون؛ وعلى نفس المنوال فإن الشيطان يصادق على الوحش الثاني (٢ تسا ٢: ٩). إنه الوقت الذي يلجأ فيه الله وبدينونة عقابية إلى التخلي عن العالم المسيحي الأثيم، الذي أسلم نفسه للشيطان. وهنا تبدأ عقوبتهم. إن الله بقضائه سيُسلم العالم المسيحي إلى "عَمَل الضَّلاَلِ، حَتَّى يُصَدِّقُوا الْكَذِبَ" (٢ تسا ٢: ١١). والنتيجة هي أن الشيطان يأخذ مجلسه في بيت المعترفين بالله، وهكذا يُنحِّي الله جانباً وتنتشر عبادة شيطانية بثلاث أشكال تنتج عنها نتائج فظيعة. وتكون هذه نهاية حضارتنا المتبجحة والتطور المادي والسلوكي. فإما أن يكون الله والمسيحية، أو الشيطان والعالم المسيحي. الحق مرتبط بالأول، بينما الاعتراف المجرد، الذي لا قيمة له، يعد الطريق للأخير.

الإعلان الصريح بأَنْ "يَصْنَعُوا صُورَةً للْوَحْش الَّذي كَانَ به جُرْحُ السَّيْف وَعَاشَ"، هي صورة مُسبَّقة عما رأيناه حتى الآن. لافت للانتباه أنه في  بداية السيادة الأممية كان الناس مضطرين تحت وطأة ألم الموت لأن يسجدوا للصورة التي تمثل عظمة وجلال الإمبراطور الأول (دانيال ٣). والآن في نهاية فترة السيادة الأممية يتكرر الأمر. يا لطبيعة البشر الراسخة في الفساد! الصورة والمثال متمايزان في الكتاب المقدس. خسر الإنسان الصورة (الأخلاقية) لله (تك ١: ٢٦)، ولكن رغم سقوطه يبقى صورة الله أو ممثلاً له بقوةٍ (تك ٩: ٦). الصورة شيء يمثل شيئاً آخر، ولكن ليس بالضرورة على نفس الشبه أو مثله تماماً. إننا متأكدون من فكرة أن "صُورَة الْوَحْش" ستكون تمثيلاً فعلياً حرفياً دقيقاً في مركز العالم المسيحي بوسائل تجعل الوحش موضع سجود. لقد كانت صورة فعلية نُصبت في بقعة دورا حيث كان يُعبد نبوخذنصر.

الجرح القاتل للوحش يتكرر ذكره ثلاثة مرات هنا (الآيات ٣، ١٢، ١٤). في الملاحظة الثالثة لذلك يُقال أن الجرح هو جرح السيف، ما يدل ضمناً على أنه ليس انكساراً طبيعياً للإمبراطور، بل انهزاماً عنيفاً. قبائل البربر المتوحشة اكتسحت من الشمال الإمبراطورية المتهاوية وقضت عليها سياسياً بسرعة كبيرة.

صورة الوحش التي تُعبد تحت ألم الموت:

١٥- "وَأُعْطيَ أَنْ يُعْطيَ رُوحاً (وليس حياةً) لصُورَة الْوَحْش". ليس لضد المسيح قوة بحد ذاته. ما كان ليستطيع أن يُنشط بنفسه الصورة أو يعطيها حيوية حقيقية أو زائفة. القوة التي وراءه هي الشيطان. هو الذي يتصرف من خلال الوحشين. إنه يعطي الروح وليس الحياة لأن الله هو الذي يعطي الأخيرة ويحفظها بيده. إنها صورة "للوحش" أي لمجده؛ ولكنها أيضاً صورة "الوحش" أي تُمثله، وتسترعي انتباه العالم غليه، تجعل فكرة الوحش أمام ناظري وفكر البشر. يقول هغستنبرغ معلّقاً: "الحديث هو ليس عن صور، بل عن صورة. ولكن المقصود مشهد مؤلف من عدة صور". لا نستطيع أن نؤكد في ما إذا كانت الصورة التي يتم الكلام عنها هنا متعددة ومتبعثرة في كل أرجاء طول وعرض العالم المسيحي. الاعتراض، على كل حال، المتعلق بأن تكون صورة أم عدة صور، هو على فكرة الإتيان بالعالم إلى قدمي الوحش في سجود. الصورة تُجعل لتتكلم. وما تقوله يجب أن يعرفه فقط أولئك الذين يسمعونها. الموت هو النصيب المقرر لأولئك الذين يرفضون تقديم الكرامة للوحش كإله، أو رئيسه المتمايز، "رئيس (روما) الذي سيأتي" (دانيال ٩: ٢٦). ولذلك فبالآيات والعجائب من النوع المعجزي، التي يجترحها الوحش الثاني، يخدع الجموع المسيحية المرتدة الآثمة، ولذا فليس كل تصور للعالم المسيحي مغلوط، بل تُمارس أيضاً الميزة الأكثر فساداً ألا وهي الصفاقة والوقاحة. فيا له من مستقبل ينتظر تلك الديار!

خضوع العالم للوحش- التحكم بالتجارة:

١٦- ١٧- "وَيَجْعَلَ الْجَميعَ: الصّغَارَ وَالْكبَارَ، وَالأَغْنيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، وَالأَحْرَارَ وَالْعَبيدَ، تُصْنَعُ لَهُمْ سمَةٌ ٩ عَلَى يَدهم الْيُمْنَى أَوْ عَلَى جبْهَتهمْ، وَأَنْ لاَ يَقْدرَ أَحَدٌ أَنْ يَشْتَريَ أَوْ يَبيعَ إلاَّ مَنْ لَهُ السّمَةُ أَو اسْمُ الْوَحْش أَوْ عَدَدُ اسْمه". في تلك الأيام الفظيعة الفكر والسلوك الفردي يتحطمان. ويُشاهد أبشع أشكال الخضوع مذلة ومهانة التي يفرضها أسوأ مستبد عرفه التاريخ، وما من احد يجرؤ على الرفض. الفئات المتنوعة المسماة هنا هي علامة شاملة على الجميع ضمن مجال تأثير الوحش، وتُذكر مثنى مثنى. ما من أحد، سواء كانت له مكانة رفيعة أو متدنية، يمكن أن ينجو. ليس بمقدور الأغنياء أن يشتروا أية وسيلة لتجنب الحكم الحديد للوحش ولا يستطيع الفقراء الحصول على إعفاء من هذا الحكم. الأَحْرَارَ وَالْعَبيدَ هما على حد سواء على مستوى ميت واحد- الخضوع الكامل المطلق للوحش. الجميع، من الصغير إلى الكبير، متساوون في العبودية. مقاومة إرادة الوحش تعني الحرمان من حق الحياة (لأنه يسيطر فعلياً على كل التبادل التجاري)، ونوال الموت المحتم. توضع علامة ملغزة معينة على اليد اليمنى للجميع أو على جبهة ١٠ الجميع، ما عدا الشهداء الذي يُضحون بحياتهم بسبب احتجاجهم القوي والأمين ضد الادعاءات الشيطانية. العلامة على "اليد" ستشير إلى أن الشخص موسوم كعبد فعلي للوحش؛ وإذ يوضع ختم على الجبهة سيكون إقراراً علنياً بالعبودية. في كلتا الحالتين على الجميع الاعتراف بالسيادة المطلقة للوحش وعليهم أن يسجدوا له. لقد كان أمراً مألوفاً وسم العبيد باسم أو بعلامة خاصة بمالكهم. بولس (غلاطية ٦: ١٧)، إسرائيل في أسباطه (رؤيا ٧: ٣)، المتبقين في يهوذا (١٤: ١)، القديسون السماويون والممجدون (٢٢: ١٤) يُوسمون بيد الله على أنهم خاصته، ويكون ذلك علنياً (انظر أيضاً حزقيال ٩: ٤).

لنلاحظ بعناية أن الشيطان يعطي وحدة وقوة لهذه المنظمة السياسية والاجتماعية الكبيرة والتي تسمى هنا بـ "الوحش"، ولذا فإن على الجميع أن يتبعوه في الآلام والعقوبات الناجمة عن الرفض العديم الشفقة. ضرورات الحياة، التي يتم الحصول عليها عن طريق التجارة الشرعية، سيُحرم منها أولئك الذين، بأمانتهم لله وإخلاصهم للحق، يرفضون تقديم الولاء للوحش ولمؤيده وتابعه القوي والماكر، ضد المسيح. النبذ الاجتماعي، والموت هم النصيب المعين لكل المخلصين لله في هذه الأزمة الفظيعة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية. المزج والتآلف هو نمط اليوم. الدين يتطلب ذلك، والعالم السياسي يتطلب ذلك، والثروة ورأسمال يتطلبان ذلك، والعمال، ماهرين كانوا أم لا، يتطلبون ذلك. الجميع يعمل لغاية واحدة بالغة الأهمية، دمج الشيطان لكل الأحزاب الدينية تحت سلطة ضد المسيح، وكل الأحزاب السياسية والاجتماعية تحت الوحش. ومن الحشود المضطربة في الديمقراطية، ومن القوى الوحشية للثورة وفوضى انعدام الحكم التي لا تعرف أي قانون، ومن الصراعات والنزاعات بين رأسمال والعمال، ومن تحطم العروش وانقلاب الممالك، ستبزغ قوة قوية وإمبراطورية بتأثير مباشر من الشيطان، وستُحطِّم كل من يقف في طريقه أو يعترض تقدمه. والجميع دون استثناء سيخضعون لهذه السلطة أو يتحملون العقاب- ألا وهو الموت.

١٧- "السّمَةُ أَو اسْمُ الْوَحْش أَوْ عَدَدُ اسْمه" ١١. ليس لدينا ثلاث بنود محددة. فالـ "السمة" و"الاسم" و"العدد"، ليست منفصلة عن بعضها. السمة عامة، وهي مركبة من اسم الوحش أو عدده. والأخيرين مشتملين في الأولى، ويشرحان السمة. اسم الوحش ليس ممتنعاً عنا، كما اسم الحاكم الشخصي لروسيا فيا لأيام الأخيرة والذي قُرر له أن يلعب دوراً هاماً بما يتعلق بإسرائيل (حز ٣٨؛ ٣٩). لا نعتقد أنه من المستحيل معرفة من أو ما هو المقصود باسم وعدد الوحش؛ ولكن ما من شك أن الله سيلقي ضوءاً كاملاً وفهماًَ شاملاً على هذه النقاط للقديسين الذين سيكونون آنذاك في العالم، والذين ستكون هكذا معرفة ذات أهمية وفائدة كبيرة لهم بل وحتى ضرورية لكي يعرفوا شخصية الوحش الحقيقية. نترك الأمور هنا كما أرادها الله، إلى أن يوضحها هو بنفسه، ولا شك أنه سيفعل ذلك؛ إن لم يكن لنا، فعلى الأقل لأولئك الذين سيكونون في مركز يستفيدون فيه من هذه المعرفة. أولئك الذين يقتبلون سمة الوحش سواء باسمه أو بعدده يُقدر لهم البؤس الأبدي. الكلمات التي تعبر عن مصيرهم الفظيع تدل على رعب لا مثيل له. ولا نجد في كلمة الله ما يفوق هذا الوصف المخيف للهلاك الأبدي المحتوم والتام لمؤيدي الوحش. الله وحده يستطيع أن يصفه، وقد فعل ذلك بكلمات وعبارات تدل على ألم لا يُوصف (١٤: ٩- ١١). باب الرجاء مغلوق أمام الوحش، وأتباعه ورفقائه في الشر، وعبادته الكثيرين. رفض العالم المسيحي للمسيح لابد أن يليه قبول المسيا الكذاب، وذلك الفعل الذي يُشكل قمة إثم وحماقة البشر، عندما يتم، لن تكون له سوى نهاية واحدة، ألا وهي بحيرة النار.

عدد الوحش:

١٨- "هُنَا الْحكْمَةُ! مَنْ لَهُ فَهْمٌ فَلْيَحْسبْ عَدَدَ الْوَحْش فَإنَّهُ عَدَدُ إنْسَانٍ، وَعَدَدُهُ: ستُّ مئَةٍ وَستَّةٌ وَستُّونَ". حاول المفسرون التمعن في هذا النص وأبدوا اهتماماً كبيراً وأجروا أبحاثاً عميقة لإيجاد جواب واضح على السؤال: ما المقصود بالعدد ٦٦٦؟

ثمة حكمة إلهية في هذا العدد الرمزي- الذي يرد ذكره لمرة واحدة فقط، وهذا يتطلب فهماً روحياً لكشف اللغز فيه. ما من شك في أن الفهم الصحيح والكامل والدقيق والنهائي سيكون واضحاً أمام الحكماء أو الأتقياء في الأزمة الوشيكة عندما ستُظهر قوة الوحش مكر الشيطان الذي سيتبدى في أعلى أوجه التطور البشري من خلال الكبرياء والفحشاء وفي معارضة دينية سياسية متآزرة ضد الله وممسوحه، إذ أن هذا هو المعنى العام للعدد ٦٦٦. المعنى الذي سيكون واضحاً للقديسين المعنيين مباشرة بالأمر سيستدعي التنصل الفوري من الوحش ومزاعمه الذي سيكون الخادم السياسي للشيطان في معارضة مجدفة ضد الله.

٦٦٦ هو عدد الإنسان؛ الرقم ٦ مرتبط بالإنسان في يوم خلقه وتاريخه اللاحق. فالإنسان خُلق في اليوم السادس. وعدد الأيام التي يعمل بها ويشقى هي ٦. وكان على العبد العبراني أن يخدم ٦ سنوات. والأرض كانت تُبذر بالحب لمدة ٦ سنوات. وتحت الختم ٦ ستحدث كارثة عالمية ومرعبة تصيب الجنس البشري. بما أن العدد ٧ يشير إلى الكمال أو الاكتمال، فالعدد ٦ يشير إلى النقص ما يدل على نقص الإنسان وتعبه. ولكن خلال تطور تاريخ البشر يمضي الإنسان من سيء إلى أسوأ، ومن هنا فإن تراكم العدد ٦ يكون ذا مغزى أخلاقي إلى أن يُشاهد الإنسان في معارضة علنية مباشرة لله. جليات وأخوه العملاق كانا رجالاً ذوي قوة وطول فائق الطبيعة، وفي عداء علني صريح لله وشعبه. العدد ٦ خُتم على كليهما (١ صم ١٧: ٤- ٧؛ أخبار الأيام الأول ٢٠: ٦).

ومع المزيد من تطور الإنسان في تاريخ شره المطرد تأتي القمة كرقم ٦٦٦ المشؤوم، عدد الوحش. هناك ارتباط واضح بين قوتي العالم الأولى والأخيرة. في الطابع هما متطابقتان، ما خلا أن الأخيرة هي الأسوأ. صورة تمثال الذهب الذي يضعه نبوخذنصر لمجده الذاتي كان ارتفاعه ٦ أذرع وعرضه ٦ أذرع (دا ٣). ما من شك بأن التمثال في سهل بقعة دورا كان يُقصد به دمج وتوحيد الأديان العديدة والمتنوعة للإمبراطورية البابلية العظيمة. تحت تهديد الموت الفظيع كان لابد من عبادة التمثال الذهبي. وبالتأكيد فإن دانيال ٣ تشير إلى الشر الأكثر شدة وسوءاً في رؤيا ١٣. الواحد يُعلن عن الآخر. في كلا النصين الكتابيين، الكبرياء والإرادة الذاتية والاستقلال المتكبر عن الله لدى البشر الذي يوضع فوق الشريعة البشرية هي صورة محزنة. ولا يبقى سوى السؤال: ما مغزى هذه الثلاثية من العدد ٦ أي ما المغزى من العدد ٦٦٦؟ المغزى هو قمة تطور الإنسان واكتماله تحت سيطرة الشيطان المباشرة. إنه اندماج القوى المدنية والدينية والسياسية التي تسير بوحي الشيطان. إنها البيئة خارج الله عندما لا يجعلونه الحاكم المطلق بل يضعون إنساناً مكانه، ليس في العالم الوثني، بل في فلسطين ذاتها وفي كل أرجاء العالم المسيحي. ولا يستطيع الإنسان أن يذهب إلى ما وراء المغزى من هذا الرقم ٦٦٦ الذي يشير إلى الشر. نصل هنا إلى قمة الحماقة البشرية، والكبرياء البشري، والتعجرف البشري، وإطلاق العنان للإرادة البشرية. ونعتقد أن هذا هو المغزى من هذا الرقم الرمزي ٦٦٦. ليس أُحجية يصعب على الفكر البشري البارع حلها، ولكنه يشتمل على حكمة يستطيع الحكيم بالروح في ذلك الزمن كما الآن أن يفهمها ويستفيد من معرفتها.

النظرة إلى المكانة النبوية:

في الأصحاح ١١ اليهود وأورشليم، بينما في الأسر بالنسبة إلى الأمميين، هم في مقدمة الرؤيا، على الأقل حتى الآية ١٣. بقية هذا الأصحاح تُنبئ بشكل عام ومبهج بالنهاية. في الأصحاح ١٢ لدينا نور السموات ملقى على مصادر الخير والشر غير المنظورة، والتي هي الابن الذكر والتنين؛ ثم علاقة إسرائيل بكليهما، خاصة خلال الأسبوع الأخير من الألم الآتي. الشيطان، وقد طُرد من السموات، وملائكته معه، يسعى ليصب انتقامه على يهوذا، ويضطهد قديسي الله- اليهود والأمميين- ويجدف على الله، والسموات، وكل ما فيها. نشاطه مستمر، وطاقاته لا حد لها، إذ يعلم أن استمراره هو لفترة وجيزة فقط. إنه لأمر مثير للدهشة كيف تحتشد الأحداث خلال فترة قصيرة نسبياً مؤلفة من ثلاث سنوات ونصف. ما كان ليستغرق مئات من السنين ليتحقق في ظروف أخرى عادية يتحقق بسرعة هنا تحت زعامة الشيطان الماكر. يجب أن نتذكر أيضاً أن الموانع العديدة العنائية القائمة حالياً لإعاقة التفجر الأخير للشر ستزول آنذاك. ستُختطف الكنيسة إلى السماء، وسيكون الروح أيضاً قد غادر الأرض. "الَّذِي يَحْجِزُ (أو يسمح) الآنَ، وحِينَئِذٍ سَيُسْتَعْلَنُ الأَثِيمُ، الَّذِي الرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ" (٢ تسالونيكي ٢: ٧، ٨). هناك إعاقة مزدوجة: "ما يحجز" و"ذاك الذي يسمح"- الشيء هو الكنيسة، والشخص هو الروح القدس.

ثم في الأصحاح ١٣ لدينا الوحشان اللذان يسعى الشيطان من خلالهما ليحقق أهدافه في العالم المسيحي واليهودية الفاسدة. الوحش الأول هو روما بلا شك، المدنية والسياسية، القوة العالمية العظيمة التي يُعطيها الشيطان مكانه، وعرشه، وسلطته. الوحش الثاني يتصرف بقدرة فائقة تقريباً من الناحية الدينية في فلسطين، ولكن في الحقل الأوسع خارج الأرض المقدسة يطلب الشيطان خدماته، وهناك يسلك في خضوع للسلطة الإمبراطورية. لا يكفي أن نهاية الأخيرة في يهوذا تتجاوز في صنميتها كل ما مر في الماضي (متى ١٢: ٤٥)، وتتجاوز تلك الصورة المرعبة التي رسمها نبي السبي (حز ٨)، بل إن العالم المسيحي أيضاً سيُختزل إلى كتلة فاسدة مجدفة حافلة بالوثنية والشر. وهذا يحققه الوحش الثاني في حضور الأعلى منه في السلطة.

ثم نرى الأعداء الخارجيين ١٢ لشعب إسرائيل في ذلك الوقت، الذين لا يذكرهم سفر الرؤيا، والذين يرأسهم الآشوريون أو ملك الشمال، الذي سيكون أداة العقاب للشعب المسترد. ملك الجنوب، أو مصر، هو حليف الوحش ويعارض جاره الشمالي العظيم، ملك الأشوريين، الذي هو الخصم العنيد للملك المعادي للمسيحيين في الأرض (الوحش الثاني الوارد ذكره في الأصحاح ١٣) وملك الجنوب. تقبع فلسطين بين هاتين القوتين المتضادتين، وتصبح ساحة المعركة بينهما. الماضي (دا ١١: ١- ٣٥) والمستقبل (الآيات ٣٦- ٤٣)- لهاتين المملكتين في علاقتهما مع اليهود هي موضوع يستحق الدراسة الجدية. ولعله يمكننا القول أن الأصحاح ١١ من دانيال هو توسع مع تفاصيل أكثر للأصحاح ٨. يجب قراءة أشعياء وميخا ودانيال بشكل خاص

لفهم العلاقة بين إسرائيل وأعداءهم الخارجيين في الأيام الأخيرة. جوج، أو روسيا، سيّد ملك الشمال، يُخزى بشكل شائن على الجبال بعد دمار الأشوريين، وبعد أن يأتي الرب، مكملاً بذلك مجموعة الدينونات قبل أن يملك الرب في سلام ويؤسس الأرض بيوبيلها الطويل الأمد المؤلف من ألف سنة. يرأس جوج أمم وشعوب الشمال الشرقي في مقاومة ومعارضة للوحش- القوة التي في الغرب. السابق معاد سياسياً لليهود، والأخير صديق لهم سياسياً بعد استردادهم. اليهود قبل عودة الرب بقوة يكونون موضع عداء وحرب بين جوج والوحش. الأهداف السياسية لهذه الأخيرة مختلفة، وهذا ما يجعلهم في حالة صراع. تنضج الأحداث في أوربا وآسيا بسرعة نحو الصراع النهائي. فلتبقَ نفوسنا في سلام.


١. الوحشان هما قوى الممالك، ولكن التعبير يُستخدم في أحوال كثيرة للإشارة إلى رأس المملكة الشخصي، كما ينطبع بشخصية الحاكم. ولهذا ففي هذا الأصحاح نجد استخدام الضمائر الشخصية والمذكرة مع الوحش في إشارة، بالطبع، إلى الحاكم الشخصي الفعلي (انظر الأصحاح ٢٠: ١٠). ومن هنا فإن التعبير "وحش" يمكن استخدامه كبديل عن الإمبراطور أو الرئيس الشخصي أو الفعال عنده. نلاحظ أن الوحشين اللذين يذكرهما الأصحاح ٤- ٦ هما كائنان حيّان.

٢. لا يُعطي النبي اهتماماً للفاصل الزمني الذي لم تكن فيه القوة الرومانية صاعدة أو موجودة على مدى قرون. ويُظهر يوحنا انتعاشها.

٣.   الأولى لن تكون موجودة إقليميا، بل ستوجد مدمجة في خصائصها ضمن الرابعة. وقُدِّر لبابل أن لا تنهض كقوة مؤقتة (إرميا ٥١: ٦٣، ٦٤).

٤. سقطت روما عام ٤٧٦ م. آخر من كان يعتمر التاج الإمبراطوري كان يُدعى روميولوس أوغسطوس، وكان حاكماً فتياً وضعيفاً. الاسم السابق استدعى إلى الذاكرة مؤسس الإمبراطورية، بينما الأخير أول السلالة الإمبراطورية.

٥. من حيث التطبيق التاريخي، "أسماء التجديف" هي تلك الأسماء التي حملها الأباطرة غير الأتقياء، والذين أصر العديدون منهم على وجوب تقديم العبادة والتكريم الإلهيين لهم. كان الناس يُحيّون نيرون منادين إياه بـ "الخالد". وأمر كاليغولا بأن توضع صورته في الهيكل لتُعبد جنباً إلى جنب مع الرب. في الحقيقة إن تأليه أو عبادة الأباطرة كان قانوناً سارياً في الإمبراطورية الرومانية. وهذه العادة أدخلها القياصرة خلال فترة ارتقائهم للعرش الإمبراطوري.

٦. كل الوحوش العنيفة والقوية التي صورها دانيال (٧: ٣)، تأتي تباعاً إلى مشهد الفعل كممثلين عن إمبراطوريات مختلفة جمع يوحنا هنا بينها في وحش واحد.  وهناك الكثير من المغزى في هذا. الإمبراطورية الرومانية جمعت في ذاتها كل عناصر الفظاعة والاستبداد التي وُجدت في كل الإمبراطوريات العظيمة الأخرى التي سبقتها؛ وامتدادها أيضاً كان يعادل امتداد جميعها مجتمعين. ومن هنا ملاءمة الرمز المركب الذي يجمع رموز الإمبراطوريات الأخرى مع تلك التي في روما، وهذا ما يجعل الأخيرة تتمتع بقوة ووحشية فظيعتين وامتداد إمبراطوري واسع"- ستوارت على "الرؤيا"، ص. ٦٣٨.

٧. هكذا يأتي هذا التحدي الوقح والمتعجرف والجريء للزعم بالقدرة الإلهية. الوحش، وبقوة لم يسبق لها نظير على الأرض، يقف كقوة فاعلة مباشرة موجهاً القدرة الفائقة البشر للتنين- قدرة لا تدخر أحداً ولا تعرف الرحمة.

٨. يسجدون له علانية، ومع ذلك، الأمر الغريب، هو أنه هو نفسه يسجد لإله صنعه بنفسه، إله غير معروف في تاريخ إسرائيل. يحمل الإله الصنم بكرامة (دانيال ١١: ٣٨). "الملك" الذي يدخل بشكل مفاجئ إلى تاريخ الخلافات بين ملوك الأشوريين والمصريين (دانيال ١١) والذي له أصل يهودي (الآية ٣٧) هو من غير ريب المسيح الكذاب: وعلى نفس المنوال، وكمثل إنسان الخطيئة والفاجر (٢ تسا ٢)، ضد المسيح الذي يتكلم عنه يوحنا، النبي الكذاب في الرؤيا، والوحش الثاني في أصحاحنا. ينتحل لنفسه الحق بأن يُسجد له حصرياً في فلسطين ويربط العبادة مع حليفه الكبير ومع التنين في العالم خارجاً.

٩. -  "تُصْنَعُ لَهُمْ سمَةٌ" أي تُعطى لهم علامة. قارن رؤيا ١٠: ١١ "قَالَ لِي"، أي يُقال. (انظر لوقا ٦: ٣٨؛ ١٢: ٢٠؛ ١٦: ٩، تجد استخداماً مشابهاً لهذا، وهذان الاستخدامان، الأول وخاصة الأخير، هما من الآيات التي غالباً ما يُساء فهمها).- "محاضرات على سفر الرؤيا"، وليم كيلي، ص. ٤١٣، الحاشية.

١٠. البرهميون في الهند يحملون علامة على جباههم إكراماً للإله الذي يعبدونه، وبهذه العلامة يُميزهم الجميع بكل سهولة.

١١. "عَدَد الوحش"- يبدو أن المحاولات العديدة التي أُجريت في السنوات الأخيرة لحل هذا اللغز الرؤيوي الهام تظهر أن الدارسين ليسوا متفقين بعد حول هذا الموضوع. وايلاند يجد العدد في العبارة "قيصر الرومان" المكتوبة بأحرف عبرية. شميدت وذيشر يميزونه في الاسم "نيرون" كما يُكتب. بفليدرر يجده في العبارة "القيصر نيرون" وفويلتر في "تراجان أدريانوس". إربيس واسبيتا وزاهن، الذين يتبعون مثال إيريناوس في قراءة العدد على أنه ٦١٦ وليس ٦٦٦، يطابقون الوحش مع كايغولا، أي "غايوس قيصر"، ولكن هذه النتيجة يتم الوصول إليها فقط باستخدام الأحرف اليونانية وليس العبرية. يبدو أنه لم يظهر حتى الآن أي فهم كافٍ لعدد الوحش"- "المفكر"، المجلد ٥، الصفحة ٩٨.

١٢. انظر المقالة المستقلة "الفاعلون الرئيسيون في الأزمة الآتية".