الأصحاح ٧

الرؤى الثانوية للنعمة

رؤى جماعتين منفصلتين:

هنالك رؤيتان منفصلتان مشتملتان في هذا الأصحاح. الأولى تتعلق بإسرائيل (الآيات ١- ٨)؛ والثانية تشير إلى الأمميين (الآيات ٩- ١٧). ليس من شك في الطابع الثانوي الاعتراضي لكلتيهما. المحتويات التي في هذا الأصحاح لا تشكل أي جزء من الأحداث التي تقع تحت الأختام. وليس من تعاقب تاريخي. في الأصحاح السابق رأينا فتح الأختام الستة الأولى بالتعاقب؛ ثم في الأصحاح ٨ يفتح الحمل الختم السابع أو الأخير. وهكذا فبين الختمين السادس والسابع، وبما لا يُشكل جزءاً من أي منهما، هناك حلقة ممتعة من البركة لإسرائيل والأمميين. مسار الدينونة يُعلق والستار يُزاح جانباً لكيما نستطيع أن نشهد قلب الله. لم يكن كل شيء واقعاً تحت الدينونة في تلك الأيام الداكنة والشريرة. ولا يُفترض أن الخلاص في كلتا هاتين الجماعتين من وسط إسرائيل والأمميين يحدث بالضرورة بين الختمين السادس والسابع، بما يوحي بمكانتهما وبركتهما الأقل شأناً. الأصحاح هو بلا تواريخ. ختم إسرائيل هو بحسب مكانتهم الألفية، ولكن لا يقول لنا السفر متى تم الختم. رؤيا الجمع الغفير المخلّص من الأمميين بعد خروجهم من الضيقة العظيمة تعتبرهم في بركة ألفية كاملة على الأرض، بأنه مشهد أرضي دنيوي (الآيات ١٦، ١٧). ولكن لا نعلم متى وصلتهم شهادة الله وخلّصتهم. فبعد انتقال القديسين السماويين مباشرة (١ تسا ٤: ١٥- ١٧) سيعمل الله بالنعمة وسط شعبه القديم ووسط الأمميين بالإجمال خارج الجزء المرتد من العالم. هذه الشهادة ستستمر لسنين عديدة، والأرجح خلال كل فترة أسبوع السبعين (الفترة المؤلفة من سبع سنوات) من دانيال وربما أكثر. لدينا هنا في الرؤيا نتائج تلك الشهادة. الإعلان عن هذه الجماعات هو مشهد ينعش النفس. وإذ يأتي بعد أن تُطلق قوة العدو ضد قديسي الله (٦: ٩- ١١) وقبل إنزال العقوبات الأشد التي لم تنزل بعد (٨: ١٦) يُثبت بانتصار أن لا شيء يمكن أن يعيق أهداف الله أو يمنع عمل روح قدسه على الأرض. كم هو صالح الله الذي يعطينا هكذا أصحاح اعتراضي ثانوي ممتع!

الدينونة مكبوحة:

١- "وَبَعْدَ هَذَا رَأَيْتُ أَرْبَعَةَ مَلاَئكَةٍ وَاقفينَ عَلَى أَرْبَع زَوَايَا الأَرْض، مُمْسكينَ أَرْبَعَ ريَاح الأَرْض لكَيْ لاَ تَهُبَّ ريحٌ عَلَى الأَرْض وَلاَ عَلَى الْبَحْر وَلاَ عَلَى شَجَرَةٍ مَا". العبارة "بَعْدَ هَذَا"، التي تتكرر في الآية ٩، تدل على بداية جديدة. إنها تبدأ القسم المتعلق ببني إسرائيل في أصحاحنا، وأيضاً الرؤيا حول جمهور الأمميين الحاملين لسعَف النَّخْل. الاستخدام المتعمد للعبارة وتكرارها قد حفظ مفسرين معينين من الخلط بين الجماعتين. إنهما منفصلتان ومتمايزتان في كل من المواصفات والبركة. إحداهما من وسط إسرائيل والأخرى من وسط الأمم. الأرض الألفية هو المشهد التي تظهر فيه كلتا الجماعتين. ولكن أمراً أساسياً ضرورياً لنا لفهم الأصحاح هو أن نضع نصب أعيننا أن زمن الرؤيا وزمن دخول هاتين الجماعة إلى البركة العلنية المحددة لهما مختلفان.

١- "أَرْبَعَةَ مَلاَئكَةٍ وَاقفينَ عَلَى أَرْبَع زَوَايَا الأَرْض، مُمْسكينَ أَرْبَعَ ريَاح الأَرْض". الرائي المنفي يرى هنا الأرض كسهل ممتد واسع، تحده الجهات الأربعة الرئيسية للبوصلة، الشمال والجنوب الشرق والغرب. عند كل من هذه الزوايا يوجد ملاك يقف بما يتوافق مع سيطرته الكاملة على قوى الشر المدمرة. التكرار الثلاثي للعدد "٤" يُميز اكتمال وعالمية الحدث. ولا نجد مبرراً لحصر العبارة "أرض" هنا في العالم الروماني. يجب على الرياح أن لا تهب إلى أن يُختتم عدد نموذجي من بني إسرائيل (الآيات ٣، ٤). سبطا إسرائيل، أفرايم ويهوذا مشتملين في هذا العمل. فالرب يهوه "يَجْمَعُ مَنْفِيِّي إِسْرَائِيلَ وَيَضُمُّ مُشَتَّتِي يَهُوذَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَطْرَافِ الأَرْضِ" (أشعياء ١١: ١١، ١٢). لذلك فإن كلاً من النبي والرائي يشيران إلى الحد الأقصى من الأرض المأهولة، وليس إلى الحدود الإقليمية للعالم الروماني، سواء كان في الماضي أم في المستقبل. من الواضح أيضاً، أن الآية ٩ تشير إلى نتيجة الشهادة الإلهية بين الأمميين التي تخوم الإمبراطورية في أي فترة من فترات تاريخها على الإطلاق. يجب فهم عبارة الأرض هنا بمعناها الأعم الأوسع الأشمل.

الملائكة الأربع المعيقين ١، غير المنظورين، ومع ذلك الحقيقيين، وذوي القدرات الروحية، نراهم هنا متحكمين بقوة وأدوات الشر. "أَرْبَعَ ريَاح الأَرْض" ٢.

١- "مُمْسكينَ" بقبضة شديدة، ما يدل على أن الرياح كانت تحاول أن تصارع لأجل الإفلات والتحرر. كم هي شديدة لا تقاوم قبضة القدير على سلطات وقوى الشر. إنها مكبوحة عن الفعل إلى أن تنضج مخططات الله وتصبح جاهزة للتنفيذ.

الوضع في حالة توتر يثير الاهتمام. إننا على وشك الدخول إلى آلام أشد عمقاً. قمة الدينونة حتى الآن كانت تحت الختم السادس عندما انهارت كلياً كل القوى الحكمية والسياسية والاجتماعية السيادية والخاضعة لغيرها، ونشأ مشهد من الرعب الكوني. وها إن ويلات أشد تلوح في الأفق. لم يُذبح الجميع استشهاداً تحت الختم الخامس (٦: ٩- ١١)، ولن تمنع الدينونات الآتية والأكثر شدة شهادة الكون لله، كما تُظهر لنا بشكل مؤكد وقاطع الرؤى المعزّية في هذا الأصحاح حصرياً. ولهذا فإن الكوارث والاضطرابات الكونية، التي يشير إليها التعبير "رياح الأرض" هي قيد الكبح لبرهة إلى أن يتخذ الله إجراءات لحفظ عدد مكتمل من بني إسرائيل وجماعة لا حصر لها من الأمميين.

١- "لكَيْ لاَ تَهُبَّ ريحٌ عَلَى الأَرْض". المشهد يدل على حكومة مستقرة (رؤيا ١٠: ٢؛ مزمور ٤٦: ٢): "وَلاَ عَلَى الْبَحْر"، أمم وشعوب في حالة فوضى واضطراب (دانيال ٧: ٢، ٣؛ أشعياء ٥٧: ٢٠)؛ "وَلاَ عَلَى شَجَرَةٍ مَا"، قوة وكبرياء الأرض (دانيال ٤: ١٠، ٢٢؛ حزقيال ٣١: ٣- ٩، ١٤- ١٨). سبب توقف الدينونة توضحه لنا العبارة الدقيقة التي تقول: "حَتَّى نَخْتمَ عَبيدَ إلَهنَا عَلَى جبَاههمْ" (الآية ٣).

الملاك الذي يختم وصرخته:

٢، ٣- "وَرَأَيْتُ مَلاَكاً آخَرَ طَالعاً منْ مَشْرق الشَّمْس مَعَهُ خَتْمُ الله الْحَيّ، فَنَادَى بصَوْتٍ عَظيمٍ إلَى الْمَلاَئكَة الأَرْبَعَة الَّذينَ أُعْطُوا أَنْ يَضُرُّوا الأَرْضَ وَالْبَحْرَ قَائلاً: «لاَ تَضُرُّوا الأَرْضَ وَلاَ الْبَحْرَ وَلاَ الأَشْجَارَ، حَتَّى نَخْتمَ عَبيدَ إلَهنَا عَلَى جبَاههمْ»". الدينونة المنسوبة إلى الرياح في الآية الأولى تُنسب هنا إلى الملائكة. في الأولى هناك رمزية إلى الوكلاء السياسيين والمدنيين الآخرين؛ وفي الأخيرة هناك رمزية إلى القوى الروحية التي توجه وتحكم وكلاء الشر هؤلاء، أدوات الدينونة في الآية الأولى القوى التي تستخدمها في الآية ٢.

"مَلاَكاً آخَرَ"، وليس أحد الأربعة، وبالتأكيد ليس المسيح ٣، كما افترض البعض على ذلك النحو الغريب. الجملة "حَتَّى نَخْتمَ" ستكون منتقصة لكرامة المسيح الفائق السمو؛ وكذلك أيضاً الكلمات الختامية في صرخة الملاك "عَبيدَ إلَهنَا". إن لغة ولهجة يوحنا ٢٠: ١٧: "إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ"، نجدها محفوظة في كل العهد الجديد. ولا نجد هذه العبارات "إلهنا" و"أبينا" أبداً في إشارة إلى المسيح والمؤمنين.

الملاك الذي يُشار إليه في نصنا هنا من الواضح أنه كائن روحي متمايز له مهمة عظيمة مجيدة مكلّف بها. إنه يطلع من الشرق أو من المشرق. "مَعَهُ خَتْمُ الله الْحَيّ" ٤. الملاك الذي يختم والطالع من المشرق لحفظ وبركة إسرائيل يبدو بشيراً بالمسيّا، الذي، ولكونه شمس البر، سيرتفع بشفاء في جناحيه (ملاخي ٤: ٢)، ويشرق على الأرض والشعب بإشراق لا شحوب فيه. بواكير البركة يتنبأ بها الملاك؛ والحصاد ينتظر إعلان المسيح من السماء.

"خَتْمُ الله الْحَيّ" يدل ضمناً على المناعة ضد الموت، والختم على الجباه يُشير إلى الإقرار العلني والعام بأن أولئك الذين خُتموا يخصون الله. ولكن سفر الرؤيا لا يخبرنا ما هو هذا الختم.

"عَبيدَ إلَهنَا". هذا اللقب ينطبق على المختومين من بني إسرائيل. لقد حافظوا على الشهادة لله خلال التجارب الصعوبات؛ وتميز مسلكهم بالصراع والخدمة؛ ومن هنا يستحقون لقب "عبيد".  

الختم ليس وحده عمل الملاك؛ أشياء أخرى مرتبطة أيضاً في الخدمة السعيدة لحفظ عدد مكتمل من بني إسرائيل من الدينونة. "حَتَّى نُخْتمَ". هناك وقار في العمل المُنجَز هنا لا نجده في الختم الذي يتكلم عنه نبي السبي (حزقيال ٩: ٤) ولا في نبي يهوذا على جبل صهيون (رؤيا ١٤: ١). الملاك الطالع من المشرق يُنفذ بشكل حسن المهمة المجيدة المكلف بها. خدمته ليست خدمة عادية، ومن هنا فإن الظروف المحيطة تشير إلى عظمة العمل.

"نَادَى بصَوْتٍ عَظيمٍ" إلى ملائكة الدينونة: "لاَ تَضُرُّوا الأَرْضَ وَلاَ الْبَحْرَ وَلاَ الأَشْجَارَ"، ويطيع هؤلاء أوامره ويُحفظ بنو إسرائيل للبركة الألفية.

عدد المختومين:

الجماعة الأممية (الآية ٩) لا يُذكر عددها. وجماعة بني إسرائيل، عكس ذلك، يُحسب عددها بدقة، وتكون النتيجة، ليس بأعداد صحيحة، بل بعبارات دقيقة على أنه ١٤٤ ألفاً. اثنا عشرة من كل سبط من أسباط إسرائيل الاثني عشر. الأعداد، سواء كانت عادية (١٢) أو مضروبة ببعضها (١٤٤) تشير إلى عدد كامل محدد. العد ١٢ هو العلامة المميزة لإسرائيل، ويُستخدم بشكل واسع في ما يخص اليهود. الإدارة الأرضية، والحكم، والحكومة، يبدو أنها القيمة المعنوية لهذا العدد ٥. عدد المختومين رمزي بالطبع، ويدل ببساطة إلى أن الله قد خصص عدداً معيناً كاملاً ومع ذلك محدوداً من بني إسرائيل لنفسه.

الخصائص المميزة:

في قوائم التعداد للأسباط في كل الكتابات المقدسة، والتي يوجد منها حوالي ١٨ قائمة، العدد الكامل الرمزي ١٢ نجده دائماً معطى؛ ولكن بما أن ويعقوب كان لديه ١٣ حجراً ٦، فكان يُحذف حجر أو آخر دائماً. كان لاوي يُحذف عموماً أكثر من الآخرين. في اللوائح الرؤيوية يُحذف دان وأفرايم. هذان السبطان كلاهما كانا متميزان بارتباطهما بالوثنية في إسرائيل، ولعل هذا هو السبب المرجح لمحو أسمائهما هنا (تثنية ٢٩: ١٨- ٢١). ولكن في النهاية النعمة تنتصر، ويُسمى دان في التوزع المستقبلي للأرض بين الأسباط (حزقيال ٤٨: ٢)، ولكن، وبينما يُذكر الأول، فإن الأبعد يُقصى من الهيكل، لأنه كان يتمركز في أقصى الشمال. في ترجمة الكتاب المقدس يأتي ذكر أسماء الأسباط بحيث يكون كل ثلاثة في آية واحدة، ولكن الترتيب الصحيح للأسباط، هو كما الحال في طريقة ذكر أسماء الرسل (متى ١٠: ٢- ٤)، مثنى مثنى. الثنائي الأول هو يهوذا ورأوبين، رابع وأول ولد لليئة، والأول هو السبط الملكي، وأما الأخير فيمثّل الشعب (تك ٤٩: ٣). الثنائي الثاني، جاد وأَشيرَ، ابني زلفة، واسمهما مرتبط بالبركات النبوية للأيام الأخيرة (تك ٤٩: ١٩، ٢٠). ثالثاً، نفتالي ومنسى، المرتبطان في لائحة أسماء الأسباط الواردة في حزقيال ٤٨: ٤. رابعاً، شَمْعُونَ ولاوي، الولدين الثاني والثالث لليئة، المترابطين في اللائحة النبوية (تك ٤٩: ٥- ٧)، وأيضاً في إعلان الرب عن نفسه للمخلّصين من بني إسرائيل (زكريا ١٢: ١٣). خامساً، يَسَّاكَرَ وزبولون، الولدين الخامس والسادس لليئة، وكلاهما مترافقان في اللائحة النبوية (تك ٤٩) وفي اللائحة الإقليمية (حزقيال ٤٨) لأسماء الأسباط. سادساً ٧، يوسف وبنيامين، ابني راحيل، الزوجة والأم الرئيسة.

جدير بالملاحظة أنه في بعض ترجمات الكتاب المقدس العربية لا نجد كلمة "مختوم" إلا في الآية الأولى والأخيرة. وهكذا نقرأ "منْ سبْط يَهُوذَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ" (الآية ٥)، و"منْ سبْط بنْيَامينَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَخْتُومٍ" (الآية ٨). أسباط يهوذا وبنيامين تفتتح وتنهي لائحة الأسباط بشكل تمثيلي. وإن الخصائص المميزة لهذين السبطين (تك ٤٩: ٨- ١٢، ٢٧) يتمركزان كلاهما في المسيح.

ثلاث جماعات من القديسين الألفيين:

جماعتا إسرائيل والأمميين رآهما الرائي في رؤيتين منفصلتين. الجماعة المنتقاة من الأسباط الاثني عشر( الآيات ٤- ٨) ليس فقط جماعة متميزة عن رفقائهم الأمميين (الآيات ٩- ١٧)، بل متميزة على نفس المقدار عن الـ ١٤٤ ألف الذين من وسط يهوذا من بزغوا من الفظائع في الساعة الآتية من التجربة وقوفاً على جبل صهيون (الأصحاح ١٤). هناك جماعتان يهوديتان متساويتان في العدد- الـ ١٤٤ ألف من كل إسرائيل (الأصحاح ٧)، والـ ١٤٤ ألف من يهوذا وحدها (الأصحاح ١٤). جموع الأمميين حاملي سعف النخيل يجب أن لا يتم الخلط بينهم وبين الكنيسة أو إسرائيل. الحشد الذي لا حصر لعدده يراها هنا يوحنا في رؤيا هو ثمرة العمل المكثف للنعمة الذي بدأ مباشرة أو مع بدء انتقال القديسين السماويين (١ تسالونيكي ٤)، وقد استمروا خلال الأسبوع النبوي المستقبلي المؤلف من ٧٠ سنة (متى ٢٤: ١٤). هذه الشهادة التي في كل أرجاء العالم تمت بشكل فعال بين الانتقال والظهور والفضل في ذلك يرجع إلى الله. هكذا زمان وافر تحت يد الله الصالحة والمسيطرة تُمنح لعمل النعمة العظيم، الذي يُذكرنا من خلال النتائج الكبيرة بأيام العنصرة المزدهرة.

قد نلاحظ أيضاً تمايزاً ممتعاً آخر بين الجماعتين من القديسين الألفيين في أصحاحنا هذا. المنتقون في إسرائيل يراهم يوحنا قبل أن يدخلوا إلى "وقت ضيق على يعقوب"، بينما جمع الأمممين المخلَّصين يُشاهدون هنا بعد خروجهم من "الضيقة العظيمة".

جمع الأمميين المخلّصين وصراخهم:

لقد لاحظنا للتو أن الجمع المُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ وَفي أَيْديهمْ سَعَفُ النَّخْل يخرجون من الضيقة العظيمة، وفي حين أن بركتهم هي ألفية تحديداً في الطابع والزمان، إلا أنه لا يجب أن يُخلط بينهم وبين جماعة أخرى من الأمميين الذين سيخلصون عند بدء الألفية بعد انتهاء الضيقة؛ ولذا نجد هنا الإشارة إلى المكانة الخاصة والبركات المميزة لهذا "الجَمْع الكَثير". إن المكانة والبركة كلتيهما متناسقتان مع الصمود خلال المحنة السابقة التي خرجوا منها، والتي ذُبح فيها الكثير من إخوتهم اليهود والأمميين. "منْ كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ". ولقد لاحظنا للتو هذا التوزع والتبعثر الرباعي الشُعب للجنس البشري (٥: ٩). إن هذه العبارة هي صيغة تقنية تعبّر عن العالمية (انظر أيضاً ١١: ٩).

هذا الجمع الهائل الذي لا يُعد، والذي يعتبر مغايراً تماماً لعدد بني إسرائيل المحدد والمعين بدقة، يشهد له الرائي قائلاً: "وَاقفُونَ أَمَامَ الْعَرْش وَأَمَامَ الخَرُوف، مُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ وَفي أَيْديهمْ سَعَفُ النَّخْل". هؤلاء القديسون هم على الأرض. وهم "وَاقفُونَ أَمَامَ الْعَرْش وَأَمَامَ الخَرُوف" لأنهم يستحقون مكانة كرامة رفيعة بالطبع، ولكن عروش القديسين السماويين هي "حول" عرش الله (٤: ٤)، والخروف (٥: ٦). إضافة إلى ذلك، فإنهم يُجلسون على العروش (انظر أيضاً ٢٠: ٤). لا يُقال أن هؤلاء القديسين الأرضيين لديهم عروش وأكاليل؛ القديسون السماويون هم الذين لهم كليهما. فالجماعة السماوية من هذه النواحي وغيرها من المفديين يحتلون مكانة أرفع وأرقى في الكرامة من "الجمع الكثير" الذين يقفون على الأرض أمام العرش- دلالة القوة المعنوية.

٩- "مُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ". لقد حفظوا حقوق ومطالب الله ضد عالم متمرد مرتد وسط ظروف الأسى والألم والبلوى التي لا نظير لها (مرقس ١٣: ١٩). والآن يتذكر الله أمانتهم ويكافئهم عليها، ولذلك فإنهم "مُتَسَرْبلينَ بثيَابٍ بيضٍ"، وهي ثياب البر (انظر ١٩: ٨). "سَعَفُ النَّخْل" تُعبر عن فرحة الانعتاق الكامل (لاويين ٢٣: ٤٠؛ يوحنا ١٢: ١٣). لقد أتى بهم الله بسلام مخرجاً إياهم من الفترة الفظيعة من البلوى المعينة التي توصف بأنها "الضيقة العظيمة" (رؤيا ٧: ١٤)، وهم الآن منتصرون في انتصار إلههم. النخيل هو الشجرة الوحيدة الذي يُذكر اسمها في بناء الهيكل الألفي (حزقيال ٤٠؛ ٤١)؛ تُذكر أيضاً بشكل أساسي في ما يتعلق بعيد المظال، هذا العيد البهج الأخير والختامي لإسرائيل (لاويين ٢٣: ٤٠). الجمع المتسربلين ثياباً بيضاء هم الجماعة الوحيدة في سفر الرؤيا التي يُقال أن لديهم سُعف نخيل؛ والكلمة لا ترد إلا مرة واحدة في الرؤيا.

١٠- "وَهُمْ يَصْرُخُونَ بصَوْتٍ عَظيمٍ قَائلينَ: «الْخَلاَصُ لإلَهنَا الْجَالس عَلَى الْعَرْش وللخَرُوف»". جهاداتهم وتجاربهم انتهت. العرش الذي كانوا قد وقفوا أمامه قبلاً قد صار الآن وإلى الأبد قوتهم وضمانهم. الجموع التي لا عدد لها من هؤلاء المفديين يصرخون بصوت واحد مرتفع ومتحد. ما سبب هذه الصرخة الشديدة والمثيرة؟ الخلاص بمعناه الأشمل يُنسب إلى الله وإلى الحمل. ليس من أحد صامت في جمهور المفديين. إنهم "يَصْرُخُونَ بصَوْتٍ عَظيمٍ". النعمة المطلقة قد فعلت عملها القدير. لقد جمعت من كل الأرض وكل الأمم حشداً من الأمميين يفوق كل حساب وتقدير بشري- وهؤلاء كلهم وجميعهم كانوا "أموات في الخطايا"- وضعتهم أمام عرش الله مخلّصين ومباركين. فكم كان يليق إذاً أن يُحتفل بانتصار النعمة الإلهية وأن تُنسب إلى المصدر- الله في سيادته الإلهية المطلقة، والحمل، التعبير عن محبة الله ونعمته.

جواب جمع الملائكة:

١١، ١٢- "وَجَميعُ الْمَلاَئكَة كَانُوا وَاقفينَ حَوْلَ الْعَرْش وَالشُّيُوخ وَالْحَيَوَانَات الأَرْبَعَة، وَخَرُّوا أَمَامَ الْعَرْش عَلَى وُجُوههمْ وَسَجَدُوا للَّه ١٢قَائلينَ: «آمينَ! الْبَرَكَةُ وَالْمَجْدُ وَالْحكْمَةُ وَالشُّكْرُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ لإلَهنَا إلَى أَبَد الآبدينَ. آمينَ»". لدينا مشهدان سماويان متمايزان في كلمنهما يكون العرش هو في المركز. هنا، وفي ٥: ١١، ١٢. في كلا المشهدين، يُشكل الملائكة الدائرة الخارجية حول العرش. في هذه الرؤى الملائكية لدينا تسبحة الجمع الملائكي في عبادة سباعية. في المشهد السابق (٥: ١١، ١٢) الحمل هو موضوع التسبيح والتمجيد؛ وفي الرؤيا الأخيرة (٧: ١١، ١٢) الله هو موضوع العبادة. مكان الملائكة في كلا المشهدين هو حول العرش، بينما الشيوخ والمخلوقات الحية يُشكلون الحلقات الداخلية. الترتيب الذي تستمر فيه هذه المجموعات، أي الشيوخ والمخلوقات الحية، تصور بشكل مختلف في المشهدين. في المشهد الأول الشيوخ هم الحلقة الأقرب إلى الداخل؛ وفي المشهد الأخير المخلوقات الحية هي الأقرب إلى العرش. يمكن تعليل الفارق بسهولة. في المشهد الأول يكون الحمل أمام نظرهم مباشرة والمفديين في السماء (الشيوخ) يتجمعون بشكل طبيعي حول؛ بينما في الرؤيا الأخيرة، الله يجلس على عرشه. رمز السيادة الكونية، يُفسر قرب المخلوقات الحية الذين يمثلون السلطة التنفيذية للعرش. الحشد الأممي على الأرض كان قد نسب الخلاص لـ "إلَهنَا"، ولكنه إله الملائكة؛ ومن هنا فإنهم هم أيضاً، في مكانهم في السموات يقولون "إلَهنَا". مع صرخة المفديين المتهللين المبتهجين نجد الملائكة، الذين لا يُحصى لهم كما الحالم مع عدد المفديين على الأرض، والذين يهتمون بهم بشدة، يركعون ويسجدون متعبدين الله، قائلين، آمين. كم هي عميقة عبادتهم أولئك المجتمعين الذين خَرُّوا "عَلَى وُجُوههمْ". صرخة الحشد يتجاوب الملائكة معها قائلين: "آمين". ما يرد في تسبحة الملائكة يختلف عن ترتيبه المحتوى في الأصحاح ٥. فهناك البندان الأخيران، "المجد والبركة"، يُذكران أولاً في أصحاحنا. وهناك نجد "الغنى" بينما هنا نجد "الشكر" بدلاً منها ٨.

الجماعتان المفديتان على الأرض في أصحاحنا هما نخبة إسرائيل والحشد من الأمميين المتسربل بالأبيض. والجماعات في السماء هم الملائكة، والشيوخ، والمخلوقات الحية. ما من أحد من المجموعتين الآخرتين يشاركان في الاحتفال المدائحي. فهذا يخص الحشد الأممي على الأرض، والملائكة في السماء. الموضوع الخاص المميز في المقطع برمته (الآيات ٩- ١٧) هو علاقة الحشد حامل سعف النخل بالله وبالحمل. هذا هو في الحقيقة فحوى صراخهم، الذي ترد عليه الملائكة مضيفة أن "آمين" ٩. علاقة الشيوخ والأحياء بالله تتبدى في الأصحاحين ٤ و٥، ولذلك ففي هذه الأقسام يتم عرض عبادتهم وهذا أمر ملائم، ولكن ليس هنا.

سؤال الشيخ وجوابه:

١٣- ١٧- "وَأَجَابَ وَاحدٌ منَ الشُّيُوخ قَائلاً لي: «هَؤُلاَء الْمُتَسَرْبلُونَ بالثّيَاب الْبيض، مَنْ هُمْ وَمنْ أَيْنَ أَتُوا؟» فَقُلْتُ لَهُ: «يَا سَيّدُ أَنْتَ تَعْلَمُ». فَقَالَ لي: «هَؤُلاَء هُمُ الَّذينَ أَتُوا منَ الضّيقَة الْعَظيمَة، وَقَدْ غَسَّلُوا ثيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثيَابَهُمْ في دَم الْخَرُوف. منْ أَجْل ذَلكَ هُمْ أَمَامَ عَرْش الله وَيَخْدمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً في هَيْكَله، وَالْجَالسُ عَلَى الْعَرْش يَحلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهم الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ منَ الْحَرّ، لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذي في وَسَط الْعَرْش يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إلَى يَنَابيع مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ منْ عُيُونهمْ»". لقد وقف الرائي يتعجب صامتاً. لقد سمع الصرخة المتهللة من جمهور المفديين وعاين فرحتهم، ولكنه لم يشارك شخصياً في أي من هذا. "أَجَابَ وَاحدٌ منَ الشُّيُوخ"، ليس سؤالاً منطوقاً بل استعلام قلبي غير منطوق جال في قلب الرائي. يتميز الشيوخ بأرفع طابع للعبادة وفهم فكر وطرق الله. هم أنفسهم افتديوا من الأرض، ولذلك كان من اللائق أن يكون أحدهم، وليس كائن سماوي أسطوري خلو من الخطيئة، المفسر ليوحنا، ومن خلاله لنا، عن أصل وتاريخ هذه الجماعة المميزة عندما يراها الرائي لأول مرة. لم يكن يوحنا جاهلاً بخدمة الشيوخ السماوية. في رؤيا سابقة (٥: ٤، ٥) أحدهم عزاه وعلّمه. ومن هنا فإن السؤالين الموضوعين أمام يوحنا كانا يعبران بالضبط عما كان يريد أن يعرف: "«هَؤُلاَء الْمُتَسَرْبلُونَ بالثّيَاب الْبيض، مَنْ هُمْ وَمنْ أَيْنَ أَتُوا؟»".

لفت انتباهنا ثلاث مرات إلى "ثيابهم البيض" (الآيات ٩، ١٣، ١٤) لم يكن عبثاً. قبول الله العلني لهم، وتميزهم في نظره في نقاوتهم الكاملة في شخصيتهم وطرقهم، تشهد لها ثيابهم البيضاء النقية ١٠.

الضيقة العظيمة:

١٤- "هَؤُلاَء هُمُ الَّذينَ أَتُوا منَ الضّيقَة الْعَظيمَة". في بعض الترجمات ترد الجملة بصيغة الحاضر: "هَؤُلاَء هُمُ الَّذينَ يأَتُون منَ الضّيقَة الْعَظيمَة". هذا ومن اللافت استخدام ال التعريف في العبارة "الضيقة العظيمة" ١١ ذلك لأن هذه الضيقة ليست ضيقة عامة يشترك بها كل القديسين، أو شعب الله في كل العصور. بل إن هذه الضيقة محددة معينة. الاضطهادات على يد نيرون ١٢ ووثنيين آخرين وأيضاً على يد البابا كان يُشار إليها دائماً على أنها "الضّيقَة الْعَظيمَة" من قِبَل مفسّري المدرسة التاريخية. كثيرون اعتادوا على استخدام التعبير وهم يفكّرون بالمصاعب والضيقات العامة التي يمر بها الناس في الحياة. ولكن يجب تفسير الرؤيا لا كتاريخ بل ككلمة الله. وإن تفسير الكلمة وأيضاً تطبيقها على الضمير، هو حق مقصور على الروح القدس وحده، وهو الذي أوحى بها.

إن "الضّيقَة الْعَظيمَة" هي أمر مستقبلي لم تأتِ بعد. إنها تفترض مسبقاً استعادة الشعب اليهودي الجاحد ليخدم غايات سياسية أممية، وذلك بفضل تدخل قوة بحرية عظيمة (أشعياء ١٨). مدة الساعة الآتية من التجربة، التي ستفوق في شدته كل الآلام الماضية واللاحقة المحتملة على الأرض (مرقس ١٣: ١٩)، تقتصر على النصف الثاني من أسبوع دانيال النبوي المؤلف من ٧ سنوات (دانيال ٩: ٢٧ ومتى ٢٤: ١٥)، أو، بشكل أدق، حتى ١٢٦٠ يوماً، أي ٤٢ شهراً يتألف كلاً منها من ٣٠ يوماً ١٣ (رؤيا ١١: ٣؛ ١٣: ٥). الشيطان الذي طُرد من السماء إلى الأرض هو المحرض على هذا الغضب الشديد الذي لا نظير له والكراهية ضد شهود الله، يهوداً وأمميين (رؤيا ١٢: ٧- ١٧). أدوات الشيطان الرئيسيين في الاضطهاد هم "الوحش"، أي قوة روما الإمبراطورية المنتعشة في شخص رأسها، "القرن الصغير" (دانيال ٧: ٧، ٢١؛ رؤيا ١٣: ١- ٨)؛ ضد المسيح، الذي يُسمى هكذا فقط في رسائل يوحنا حليف ومتحالف مع الوحش (رؤيا ١٣: ١١- ١٧)؛ وملك الشمال، أو الأشوريين (دانيال ٨: ١١؛ أشعياء ١٠: ٢٤- ٣٤) ١٤. الأخيران السابقان سيكونان العاملين الفعالين في اضطهاد القديسين؛ الأخير سيكون عدواً سياسياً للشعب المستعاد، ولكن سيتوجب على القديسين اليهود أن يعانوا كجزء من الشعب. "الضيقة العظمة" تشمل إذاً الأمميين واليهود أيضاً. العالم المسيحي المرتد هو النطاق الواسع الذي سيقع تحت دينونة المسيح المباشرة في ذلك اليوم القادم، ولن يُغمد السيف حتى يشعر الوثنيون أيضاً بالضربة (١ بطرس ٤: ١٧). ولكن بينما تشمل الضيقة اليهود والأمميين، فإن اليهود سيعانون أكثر من الآخرين بكثير (إرميا ٣٠: ٧). الجماعة الأممية التي يتكلم عنها نصنا هنا تبزغ من الضيقة العظيمة. لقد حُفظوا، بينما العالم المسيح، وخاصة يهوذا، قد حُمموا بدم قديسي الله ١٥.

إن الثياب ذات المغزى تستمد بياضها فقط من دم المسيح.

بعد ذلك نجد وقوف الجمع الأممي أو مكانهم. "منْ أَجْل ذَلكَ هُمْ أَمَامَ عَرْش الله". إن دم المسيح المسفوك هو وحده الذي يعطي الحق لأي كان لأن يقف أمام العرش. "هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون" (رومية ٥: ٢) هي العامل المشترك بين جميع القديسين. ضمير الإشارة "هذه" يشير، ليس إلى النعمة بشكل عام، بل إلى نعمة الله الخاصة تلك التي شهدناها في موت وقيامة الرب.

١٤- "وَقَدْ غَسَّلُوا ثيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثيَابَهُمْ في دَم الْخَرُوف. منْ أَجْل ذَلكَ هُمْ أَمَامَ عَرْش الله". غسل الثياب هو أحد تلك العبارات الخاصة بسفر الرؤيا. مهما كانت الشهادة الخاصة الموجهة إلى هؤلاء الأمميين ١٦، من الواضح أن دم الحمل كان من الملامح العظيمة والمميزة. الثياب ذات المغزى وحدها تُجعل بيضاء في الدم. الأساس الذي يستندون إليه في وقوفهم أمام عرش الله يتشاركون به مع جميع القديسين في الزمن والأبدية. دم الحمل، المسفوك لهدف إلهي منذ تأسيس العالم، هو الأساس الوحيد ولكن الكاف الملائم للظهور أمام عرش الله. "منْ أَجْل ذَلكَ"، أو كما في هذه الرواية "هُمْ أَمَامَ العَرْش"، أي بفضل الدم. الدم جعل هؤلاء الخطأة قديسين؛ والضيقة جعلتهم حاملي أوجاع.

١٥- "يَخْدمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً في هَيْكَله". قد رأينا الأصل التاريخي لهذه الجماعة المفدية التي لا يمكن عدها (الآية ٩)؛ وهم منتصرون أيضاً، وينسبون الخلاص لله وللحمل (الآيات ٩ و١٠). ثم يُحول انتباهنا إلى حقيقة أنهم ينشأون عن الضيقة العظيمة، بينما، ليست آلامهم، بل دم الحمل هو الذي يعطيهم الملاءمة الإلهية ليقفوا أمام عرش الله. ثم لدينا خدمتهم التي لا تتوقف، فهم "يَخْدمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً في هَيْكَله". دليل آخر نجده هنا على أنه هؤلاء القديسين هم على الأرض، وليسوا في السماء، إذ يقول الرائي في رؤيا تالية أن: "لم أجد هيكلاً فيها". فأورشليم على الأرض سيكون فيها هيكل، وسيكون واسع الأرجاء، وفيه يعبد اليهود والأمميون الله ويخدمونه في الأيام الألفية (حزقيال ٤٠- ٤٤؛ أشعياء ٥٦: ٥- ٧). يُنظر إليهم كجماعة متعبدة كبيرة، كهنة لله ١٧.

١٥- "الْجَالسُ عَلَى الْعَرْش يَحلُّ فَوْقَهُمْ". تأتي في إحدى الترجمات للكتاب المقدس: "سيسكن بينهم". ولكن هذه الترجمة ضعيفة وغير مناسبة للفكرة الإلهية التي يتم التعبير عنها هنا. لقد نشر الله خيمة الاجتماع على خيمة اللقاء مع أهل العهد القديم، والتي صارت مركزاً لآلاف بني إسرائيل ومقر راحة لهم. لقد كانت تغطيهم وهم في البرية. ملايين من الناس، الجماعة التي افتداها الرب رمزياً، كانت مظلة الله الضخمة التي نشرها فوقهم تحميهم من الشمس اللاذعة ولفحات الشتاء. لقد كانت حماية لهم ومجداً. وهذا يوجهنا إلى أشعياء ٤: ٥، ٦: "يخلق الرب على كل مكان من جبل صهيون وعلى محفلها سحابة نهاراً ودخاناً ولمعان نار ملتهبة ليلاً. لأن على كل مجد غطاء. وتكون مظلة (أو خيمة اجتماع) للفيء نهاراً من الحر ولملجأ ومخبأ من السيل ومن المطر". في الحالة الأبدية خيمة اجتماع الله هي مع البشر (رؤيا ٢١: ٣)؛ في الزمن الألفي خيمة الله ستكون عليهم (٧: ١٥). يا له من يقين يتمتع به الجموع المرتدين ثياباً بيضاء بينما يتنعمون تحت المظلة الواسعة المجيدة، وكل عضو من الحشد الذي لا يعد ولا يحصى ينال ملتجأً وحماية جميعهم على حد سواء! خيمة الاجتماع مع الله تنتشر فوقهم والعرش بكل قوته وجلاله لهم.

البركات الألفية الخاصة للأمميين المفديين نجد عرضاً لها تالياً، بشكل سلبي وبشكل إيجابي، وبشكل يناسب الترتيب الجديد للأشياء تحت حكم المسيح الشخصي. في اللائحة التي تشتمل على هذه البركات الأرضية يمكنننا بكل سهولة أن نرى كم هي سامية بشكل فائق تلك البركات التي يتمتع بها القديسون في السماء. المجد مع المسيح في السموات، والبركة تحت المسيح في الحكم الأرضي الألفي تحددان الفارق. "لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهم الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ منَ الْحَر". لا شك أن في هذا إشارة إلى الأيام الألفية (انظر أشعياء ٤٩: ١٠). في هذا النفي التوكيدي ١٨، جموع الأمميين المخلّصين يُطمأنون إلى أن الحرمان من الحياة، والجوع والعطش، والاضطهاد والضيقة، والشمس والحرارة اللاذعة، سوف لن تكون نصيبهم مرة أخرى. سوف لن يكون هناك عودة إلى الشرور الماضية.

١٧- "لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذي في وَسَط الْعَرْش يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إلَى يَنَابيع مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ منْ عُيُونهمْ". الْخَرُوفَ "الَّذي في وَسَط الْعَرْش" ١٩، فرض سلطته وقدرته وارتدائه جلال نفسه، يدل على أنه سيسدّ كل حاجة بسخاء وجود. ولن نجد أي عناية ملائكية أو إلهية كما الحال هنا (عب ١: ١٤)، ولكن النعمة الرعائية للحمل ستكون فاعلة آنذاك- فتحنو، وتُعنى، وتحفظ، وتقود كل واحد من الجمع الأممي المفتدى. سوف "يَقْتَادُهُمْ إلَى يَنَابيع مَاءٍ حَيَّةٍ"، وليس إلى قنوات أو ينابيع فقط، بل إلى منابع الحياة. امتلاء وسرور البركة الأرضية سيكون لهم، إذ أن الحمل نفسه سيكون مرشدهم إلى هذه الينابيع والموارد ذات المسرّة الخالصة (انظر أشعياء ١٢: ٣).

الكلمات الختامية لا مثيل لها في عمقها وحنوها: "وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ منْ عُيُونهمْ". لاحظوا أن الله وليس الحمل هو الذي أخطأوا بحقه، وهو الذي سيزيل أسباب ومناسبات الألم والبلوى. إن كان سيمسح كل دمعة فلن يبكوا من جديد أبداً. "تعزية أبدية" هي النصيب المؤكد لكل شعبه، السماوي والأرضي. الكلمات في نصنا هنا تتكرر نفسها في ٢١: ٤. وهناك الحالة الأبدية هي التي تُصور؛ أما هنا فالحالة الألفية هي موضوع الحديث. كلا المقطعين ينطبقان على الشعب المخلّص على الأرض وليس على أولئك الذين في السماء.


١. يحاول ووردزوورث في كتابه "محاضرات على سفر الرؤيا"، ص. ١٢٠، أن يرينا أن الـ "أَرْبَعَةَ مَلاَئكَةٍ وَاقفينَ عَلَى أَرْبَع زَوَايَا الأَرْض" هم نفسهم أولئك "الأَرْبَعَةَ الْمَلاَئكَةَ الْمُقَيَّدينَ عنْدَ النَّهْر الْعَظيم الْفُرَات" (٩: ١٤). ولكن المكانة العالمية النطاق التي تتمتع بها المجموعة الوارد ذكرها أولاً مقارنة بالمجال المحدود بالمجموعة الأخيرة تنفي هكذا تفسير. إضافة إلى ذلك، إن الأفعال والزمان مختلفان جوهرياً. ووردزوورث هم من أكثر المفسرين الخياليين وغير الموثوق بهم.

٢. هناك إشارة إلى اضطرابات سياسية وغيرها في التعبير "رياح الأرض" (دانيال ٧: ٢؛ أيوب ١: ١٩؛ إرميا ٤٩: ٣٦). ويجب التمييز بين "رياح السماء" و"رياح الأرض". الأولى تشير إلى وكلاء التدبير العنائي الذين يعينهم الله ليحققوا أهدافه؛ بينما الأخيرة تشير إلى العالم الأثيم لهذه الدينونات والكوارث، أي الأرض. لعلنا نلاحظ أيضاً أن أول ذكر لـ "الأرض" في النص غير محدود في نطاق تطبيقي. وذكر الثاني للكلمة يحصرها في ذلك الجزء المتمدن من الكرة الأرضية على نقيض الـ "بحر" الذي يشير إلى الجزء غير المتحضر (انظر أيضاً رؤيا ١٠: ٢).

٣. الكاهن الملاك الذي في الأصحاح ٨: ٣- ٥، والملاك القوي الذي في الأصحاح ١٠: ١- ٦، ٣- ١٠، يبدو أنهما بلا شك يشيران إلى المسيح. التعابير المستخدمة والأحداث الموصوفة في النصوص الكتابية لا يمكن تطبيقها حقاً على أي كائن مخلوق، مهما كان مجيداً أو عظيم الشأن.

٤. الختم في الدهر التدبيري الحالي ليس علامة خارجية كما الحال هنا. إنه الروح القدس الذي يمنحه الله كي يسكن في المؤمن (٢ كور ١: ٢١، ٢٢؛ أف ١: ١٣). وإن الله (وليس المسيح) هو الذي يختم؛ الروح القدس نفسه، الختم هو شخص.

٥. لدينا ١٢ ساعة في النهار، ١٢ ساعة في الليل، توجهنا نحو الشمس والقمر كقوى حاكمة مسيطرة لليل والنهار. هناك ١٢ سبطاً في إسرائيل و١٢ رسولاً سيحكمون الشعب في المستقبل (متى ١٩: ٢٨). وهناك ١٢ بوابة في المدينة المقدسة (رؤيا ٢١: ١٢). وهناك ١٢ حجراً كريماً يُمثل إسرائيل في صدرة رئيس الكهنة و١٢ رغيفاً في خبز التقدمة على المائدة المقدسة (خروج ٢٨؛ لاويين ٢٤). عن الحكم على الأرض هو الحافز البارز في استخدام هذه الأعداد وكالقيمة النافذة عنها.

٦. بِعد ابني يوسف بدلاً من الأب كما يعقوب.

٧. لدينا يوسف، وليس أفرايم؛ أي الأب بدلاً من الابن. ولكن أفرايم بالبركة يأخذ الأسبقية على أخيه الأكبر منسى، ومن جديد تشرق النعمة (تك ٤٨: ٨- ٢٠).

٨. يلفت و. كيلي، ف. ب. هوبر، بيشوب إيليكوت، وآخرون في كتبهم عن الرؤيا إلى أن الآية ١٢ فيها استخدام لأداة التعريف قبل كل اسم، ومن هنا نقرأ: "البركة، والمجد، والحكمة، والشكر، والكرامة، والقدرة، والقوة". ويقول أحد الكتاب البارزين المخضرمين: "قوة أداة التعريف هي في تعبيرها عن كل صفة بكاملها وبأقصى درجاتها".

٩. الـ "آمين" الأولى هي التجاوب مع صرخة الحشد المخلّص. وأما الـ "آمين" الثانية فهي تأكيد على حقيقة ما يُسبحون به بأنفسهم.

١٠. يقول أحد الروحانيين الاسكتلنديين القدماء معلقاً على هذا المقطع: "إن الكلمة المترجمة ثياب تشير بشكل أنسب إلى ثوب الزفاف؛ وبما أن هذه الكلمة وأيضاً الكلمة المترجمة بيضاء كلتاهما تسبقهما أداة التعريف فإن هذا يعطي قوة وجمالاً خاصين إلى التعبير. إن الإشارة هي إلى ثوب الزفاف في أبهى وأثمن وأكثر مظهر مشرق ساطع رائع. لفهم المعنى الكامل للعبارة يتطلب الأمر أن تترجم هكذا: "من هم أولئك المتسربلون بأثمن أثواب الزفاف، وفي ثياب بأنقى بياض؟".

١١. "من الضيقة، تلك العظيمة"- الفورد.

١٢. "الأيام الباكرة للمسيحية"، ص. ٤٤٨- دين فارار.

١٣. الضيقة تنتهي قبل مجيء المسيح ليحكم (متى ٢٤: ٢٩) وأعتقد أنها ستنتهي عملياً بسكب الجامات (رؤيا ١٦). وبالنسبة إلى المعاناة تحت هذه البلايا، فلن يكون الوحش أو أتباعه في حالة تسمح لهم بالمزيد من الاضطهاد.

الأيام الـ ١٢٦٠ من الاضطهاد (رؤيا ١١: ٣)، أو ٤٢ شهراً، المؤلف كل منها من ٣٠ يوماً، سوف تنتهي قبل انتهاء السنوات الثلاثة والنصف. وفي هذا تنقص عن الفترة الأخيرة لـ ١٧ يوماً، أو بالتحديد ١٧ يوماً ونصف. حتى تنتهي الأشهر الـ ٤٢ ستكون قوة الوحش عظيمة لا تُقاوم (١٣: ٥). البوق السابع يُنفخ، ويتم عندئذ سر الله. ومن ذلك الحين فصاعداً سيتعامل مباشرة مع المرتدين كما تصف لنا الجامات. ولن يكون في الأمر سر من بعد.

الأيام ستُقصر، كما أن فترة سطوة قوة الوحش ستُقلص بالأيام السابق ذكرها التي ستبقى في السنوات الثلاث والنصف من الأسبوع (دانيال ٩: ٢٧). تقصير الأيام أو إطالتها، وليس يوماً واحداً، يشير إلى فترة من الزمن، وليس إلى يوم عادي مؤلف من ٢٤ ساعة.

بالنسبة لي، هذا هو مفتاح فهم الفارق بين الـ ١٢٦٠ يوماً والسنوات الثلاث ونصف. فهما ليسا متساويين. وفي نهاية الأخير يأتي الرب ليملك. بينما في نهاية السابق يُبوق بالبوق؛ وتوازن الأيام بين الـ ١٢٦٠ يوماً والسنوات ثلاث ونصف يترك مجالاً لسكب الجامات"- "الحقيقة في ما يختص بالأيام الأخيرة"، العدد ٤، ص. ١٦٣، C.E.S. . انظر أيضاً المقالة "النبوة الشهيرة للأسابيع السبعين".

١٤. انظر المقالة "الفاعلون الأساسيون في الأزمة القادة".

١٥. إن مكان جماعة الأمميين المخلّصين، عندما تصل شهادة الله إلى ضمائرهم، يجب ألا تحصر بالحدود الإقليمية للعالم المسيحي. سعة مساحة المشهد في الآية ٩ تدل على سعة تغطي على الأرجح كل العالم الأممي. من يرفضون نعمة الله- نعمة الله الكاملة والتي يُكرز بها مجاناً- في زمن الضيقة يُسلمون إلى تعاملات إدانية (٢ تسا ٢: ١٠- ١٢)، ويُعاقبون بدمار أبدي عند ظهور المسيح (٢ تسا ١: ٦- ٩). وهنا هؤلاء المرتدون يُمنع عليهم أي مشاركة في عمل النعمة، التي يُنفذ بسرعة وعلى نطاق واسع (المدة الزمنية غير محدودة) بين الانتقال والظهور.

١٦. لا نقرأ عن أي شهادة يقدمها هؤلاء.

١٧. "ليسوا فقط مثل بني إسرائيل في المجالس، أو الأمم في العالم؛ لديهم مكانة الكاهن في هيكل العالم. الجموع الألفية متعبدون- هؤلاء الكهنة. وكما أن حنة، بنت فنوئيل، لها الحق في الدخول إلى الهيكل نفسه، فهم لديهم أيضاً دائماً إمكانية الدخول إلى العرش"- "خلاصة أسفار الكتاب المقدس"، الجزء ٥، ص. ٦٠٣.

١٨. "لن.... بعد"، أو "أبداً"، هو أسلوب للنفي يتكرر في معظم الأحيان في سفر الرؤيا (١٨: ٢٢، ٣٣) وهذا أمر خاص في هذا السفر يتزامن مع التكرار"- "تفسير سفر الرؤيا"، ص. ٥٦١.- موسيس ستوارت.

١٩. انظر التعليقات على ٥: ٦.