الأصحاح ٥

العرش والحمل المذبوح

الارتباط بين الأصحاح ٤، و٥، و٦

في الأصحاح السابق شهدنا العرش الواسع والمجيد للسرمدي، رمز السلطة الحاكمة لله على كل أرجاء الكون. وحوله كل الأشخاص والأشياء متجمعة في أماكنها المتمايزة الخاصة بكل منها. الفكرة الرئيسية من الأصحاح هي الله الحاكم المطلق على كل الخليقة والذي يحكم بحسب طبيعته وعلى أساس البر الأبدي. إنه ليس جزءاً من الكلمة الإلهية التي تثير عواطف النفس. بل بالحري إنه رؤيا تمتص كياننا كمخلوقات. الرؤيا تبقى، والمشهد لا يتبدل، وكذلك المجد بأية حال من الأحوال لا يتعتم إضافة إلى الحقائق الأخرى المحتواة في الأصحاح ٥ التي نجدها أمامنا.

هناك ارتباط وثيق بين الأصحاحات ٤ و٥ و٦. السلسلة الأولى من الدينونات تُلاحظ في الأصحاح ٦. الشخصية البارزة فيه هو الحمل، بينما العرش كما رأيناه في الأصحاح ٤ هو مصدر الدينونات. لدينا هنا استمرارية للرؤيا التي رآها الرائي للتو، مع اثنتين من الملامح البارزة والإضافية، أعني بها، السفر ذي الأختام السبعة، والحمل المذبوح. لعله يمكننا القول أنه في هذا الأصحاح، واستعداداً للتصرف الملائم الذي يتكلم عنه هذا السفر، أي الدينونة، جلالة الأسد ووداعة الحمل مندمجان مترابطان ومتمركزان في ذاك الذي هو وحده جدير بأن يحمل هذين المجدين المضاعفين.

هذا الأصحاح الكبير مقسم إلى أربعة أقسام: الاثنان الأولان يُستهلان بالكلمات "رأيتُ" (الآيات ١، ٢)؛ والقسمان التاليان يُستهلان بكلمة "نظرتُ" (الآيات ٦، ١١). باختصار، المواضيع هي: أولاً السفر، ثانياً التحدي، ثالثاً النشيد، ورابعاً العبادة.

السفر ذو السبعة أختام:

١- "وَرَأَيْتُ عَلَى يَمين الْجَالس عَلَى الْعَرْش سفْراً مَكْتُوباً منْ دَاخلٍ وَمنْ وَرَاءٍ، مَخْتُوماً بسَبْعَة خُتُومٍ". هذا السفر أو الدرج، بالطبع، هو رمز. سفر الحياة (٣: ٥؛ ١٣: ٨) هو سجلٌ بالأسماء؛ أسفار الأعمال (٢٠: ١٢) هي السجلات الإلهية لتصرفات البشر. ولكن السفر الذي رآه الرائي يحوي كامل إعلان هدف الله ومشورته المتعلقان بالعالم. إنه يحتوي على تاريخ المستقبل، ويعطينا خطوات متتالية ضرورية لافتتاح الملكوت العالمي للمسيح. الله على وشك أن يجلب من جديد ابنه الوحيد إلى العالم وسط هتاف الملائكة (عب ١: ٦)، والدرج ذو السبعة أختام يكشف كيف سيحدث هذا. محتويات السفر تُغطي الفترة من بدء فتح الختم الأول (الأصحاح ٦) إلى نهاية فترة الحكم في الملكوت وبدء الحالة الأبدية (١١: ١٨).

السفر موضوع إلى يمين الأبدي. موضع الدرج كان في انسجام ملائم لإعلان الملاك (الآية ٢)؛ وفي ذاته هناك تحدٍ للكون لأن يستحق الدنو إلى مكان الشرف الرفيع (مز ١١٠: ١؛ أفسس ١: ٢٠) وأن يأخذ السفر.

السفر أو الدرج كان "مَكْتُوباً منْ دَاخلٍ وَمنْ وَرَاءٍ" ١. وهذا يعني أن كل مشورة الله في ما يتعلق بهذا العالم قد كُشف عنه في الداخل؛ ولن تُمنح أية إعلانات أخرى تتعلق بأهداف الله. هذا السفر قد كُتب بأكمله (قارن مع حزقيال ٢: ١٠).

١- "مَخْتُوماً بسَبْعَة خُتُومٍ". كل ختم يكون نهاية لجزء معين من السفر؛ ومن هنا فإن المحتويات قد أُعلن عنها بشكل متتالي مع فتح الأختام بالتسلسل. ولكن كل شيء محتجب بشكل مطلق عن الناس والملائكة إلى أن يفتحه الحمل. الـ "سَبْعَة خُتُوم" تُعبر عن كمال مشورات الله المحتجبة بأمان في الفكر الإلهي إلى أن يكشفها الحمل علانية. دانيال النبي (١٢: ٤) كان قد أُمر أن "أَخْفِ الْكَلاَمَ وَاخْتِمِ السِّفْرَ إِلَى وَقْتِ النِّهَايَةِ"؛ بينما الرائي في بطمس (رؤيا ٢٢: ١٠) يُطلب منه العكس تماماً: "لاَ تَخْتِمْ عَلَى أَقْوَالِ نُبُوَّةِ هَذَا الْكِتَابِ، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ". السابق كان ليُختم؛ والأخير ما كان ليُختم. حتى دانيال، الذي كان متميزاً عن كل معاصريه بفضل الإعلانات العديدة والبعيدة المدى والرؤى التي أُعطيت له، يقول: "أَنَا سَمِعْتُ وَمَا فَهِمْتُ" (١٢: ٨، ٩). ولكن الآن قرأنا أن "الْوَقْتَ قَرِيبٌ"، وليس "النهاية" قريبة. سفر النبوءة يُعلن بشكل كامل وبشكل علني. بالنسبة لنا، السفر ذو السَبْعَة خُتُوم مع الإعلان الدقيق والكامل فيه عن المستقبل، ما عاد سراً خفياً. والنبوءة، التي كان يوماً سريةً، ما عادت كذلك.

تحدي الملاك:

٢، ٣- "وَرَأَيْتُ مَلاَكاً قَويّاً يُنَادي بصَوْتٍ عَظيمٍ: «مَنْ هُوَ مُسْتَحقٌّ أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ؟» فَلَمْ يَسْتَطعْ أَحَدٌ في السَّمَاء وَلاَ عَلَى الأَرْض وَلاَ تَحْتَ الأَرْض أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْه". يجب لفت انتباه الكون الأخلاقي والذكي إلى السفر الذي في راحة يد الجالس على العرش. الملائكة "مُقْتَدِرِونَ قُوَّةً" (مزمور ١٠٣: ٢٠)، ولكنهم يستخدمون قدرتهم فقط في طريق الإطاعة الفورية لإرادة الخالق. كل واحد من القوات الملائكية التي لا يُحصى عددها يُرى في حالة اتكالية على الله الذي عمل مسرته هو خدمتهم السعيدة. كل الملائكة أقوياء، ولكن هناك صفوف، ورتب، وطبقات بينهم. هناك ملائكة بارزون وسط رفقائهم، مثل جبرائيل، ميخائيل، الخ ٢. الصوت العالي لأحد هؤلاء الملائكة الأقوياء يخترق أقصى حدود الكون، ويصلوا إلى "السماء"، مسكن الله؛ "الأرض"، مسكن الناس؛ و"تحت الأرض"، مسكن المخلوقات الملائكية الأخرى. هذه التعابير الثلاثة تدل على امتداد الكون. فصوت الملاك يصل إلى كل مكان وكل كائن.

٢- "مَنْ هُوَ مُسْتَحقٌّ أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ؟" لم يكن هناك مقدرة أو كفاءة أخلاقية كافية للإجابة على إعلان الملاك. الكون بكل أجزائه- "ممالك الخلق الثلاثة" (فيلبي ٢: ١٠)- ليس فيه ولو كائن واحد كفؤ ليكشف ويجري مشورات الله. "ما من إنسان"؛ "ما من أحدٍ". "أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ" يُعتبران أمران منفصلان. الترتيب الطبيعي كان يجب أن يكون بأن يُفك الختم أولاً لكي يُفتح السفر. إعلان الملاك هو لفتح السفر كي يكشف عن محتوياته؛ وفتح الختوم، وتنفيذها كما في الأصحاح ٦. القوة الأخلاقية للأفعال هي نقطة التركيز. التحدي لا يمكن مجابهته. المباشرة في العمل كانت تتطلب استحقاقاً أخلاقياً ومقدرة مبرهنة ما كانت موجودة عند أي من الكائنات المخلوقة.

استحقاق الحمل:

٤، ٥- "فَصرْتُ أَنَا أَبْكي كَثيراً، لأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مُسْتَحقّاً أَنْ يَفْتَحَ السّفْرَ وَيَقْرَأَهُ وَلاَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْه. فَقَالَ لي وَاحدٌ منَ الشُّيُوخ: «لاَ تَبْك. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذي منْ سبْط يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، ليَفْتَحَ السّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ السَّبْعَةَ»". حزن الرائي يظهره بشكل مركز استخدام الضمير "أنا" وهو ضمير توكيدي في اللغة. "صرْتُ أَنَا أَبْكي كَثيراً". يوحنا هنا يُعتبر ممثلاً للشعور النبوي في "زمن النهاية"، أو "الأيام الأخيرة". تتحرك روحه في داخله عندما تقع عيناه على السفر المختوم الواقع في اليد المفتوحة لذاك الجالس على العرش، حيث لا أحد في الخلق الواسع لله كفؤ لإعلان محتويات الختم وتنفيذها. دموع يوحنا وُصفت بأنها "ضعف المخلوق"، ولكن إن كانت عبارة "بكي كثيراً" تدل أحياناً على الضعف، فإنها تعادل التعبير عن المشاعر التقية والبارة. قال أحدهم: "بدون الدموع ما كانت الرؤيا لتُكتب، وبدون الدموع لا يمكن أن تُفهم". ولكن كان يجب فتح السفر. وبما أن عبادة الطغمات الأسمى والأعلى والمعرفة الحميمة لفكر الله هي مواصفات الشيوخ المحتشدين والممجدين أو ممثلي المفتدين، فإن أحد هؤلاء الشيوخ الذين يُعزون الرائي الباكي للفت انتباهه إلى ذاك المؤهل تماماً بكشف المشورات الإلهية وتنفيذها بانتصار. من يكون ذاك؟ إنه الأَسَدُ الَّذي منْ سبْط يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ. ما الذي فعله؟ لقد تغلب على كل قوة روحية بموته على الصليب. ومن هنا فإن له حق لا يُنازعه عليه أحد في نفسه، وأيضاً بسبب ما فعله، لأن يتقدم إلى يمين الأبدي، ويأخذ السفر، ويُجري مشورات الله.

٥- "الأَسَدُ الَّذي منْ سبْط يَهُوذَا". (تكوين ٤٩: ٩). البطريرك المحتضر، ومهما كانت رائعة رؤياه الروحية، ما كان ليمكنه أن يحلم بأن تنبؤه المجيد (الآيات ٨- ١٠) كانت تشير إلى مجيء المسيّا بعد أربة آلاف سنة تقريباً، ذاك الذي سيضمن بقدرته الجبارة، وجلاله، وسيادته المطلقة، البركة لإسرائيل ولكل الأرض. في شخصه كشبه أسد يسحق كل قوة مناوءة، ويؤسس الملكوت العالمي على آثار كل معارضة. هنا الجدارة والقدرة مندمجتان.

٥- ولكن لقباً يُستخدم هنا للدلالة إلى ربنا: "أَصْلُ دَاوُدَ". لماذا داود؟ ولماذا ليس موسى ولا إبراهيم؟ إن داود هو ممثّل الملكية. موسى ممثّل الناموس. وإبراهيم وديعة الوعد أو العهد. والآن نجد هذين الأصحاحين (٤ و٥) يتناولان موضوعاً رئيسياً ألا وهو حقوق الملكوت وأمجاد المسيح. العروش والتيجان يُشار إليها كثيراً، وبالحقيقة تميز هذا الجزء المهيب من الرؤيا. ومن هنا، وبما أن تقديم الملكوت هو المسألة المطروحة، فحسناً فعل بأن ذكر اسم داود. المسيح هو أصل وذُرّية داود بآنٍ معاً (٢٢: ١٦). إنه سابق له لكونه إله، ولاحق له لأنه إنسان. إنه الجذر والغصن كلاهما (أشعياء ١١).

في بعض الترجمات، في الآية ٤، نجد الكلمات التي تقول "وقرأه". ولكنها ليست موجودة في ترجماتنا المألوفة.

رؤيا الحمل المذبوح:

٦، ٧- "وَرَأَيْتُ فَإذَا في وَسَط الْعَرْش وَالْحَيَوَانَات الأَرْبَعَة وَفي وَسَط الشُّيُوخ خَرُوفٌ قَائمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ، لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ، هيَ سَبْعَةُ أَرْوَاح الله الْمُرْسَلَةُ إلَى كُلّ الأَرْض. فَأَتَى وَأَخَذَ السّفْرَ منْ يَمين الْجَالس عَلَى الْعَرْش". إن الرائي "بكى كثيراً". والشيوخ، رؤساء الكهنوت السماوي، عرفوا وأمكنهم تفسير الفكر الإلهي لله. ما كان معتماً بالنسبة ليوحنا كان نوراً لهم؛ ما كان سبب ألم له كان سبب سعادة لهم. لفت أحد الشيوخ انتباه الرائي الباكي إلى ذاك الذي يتمتع بجلالة وقدرة هائلة لا تُقاوم الذي كان يتمتع إلى جانبها حقوق شخصية تخوّله إمكانية إعلان وإجراء مشورات الله. ولكن عندما نظر يوحنا رأى "حملاً" ٣ بدلاً من "أسد". وهذا يدل على الضعف بدل الجلالة.

وسط المشهد السماوي انبرى الحمل مذبوحاً. آثار الجراح فيه وهو قائم كما رآه التلاميذ (يوحنا ٢٠: ٢٠، ٢٥، ٢٧) يراها الآن يوحنا فيه وهو ممجد. إن ذكريات الجلجثة تُقدَّر كثيراً في السماء ٤. أشار يوحنا المعمدان أولاً إلى يسوع على الأرض على أنه "حمل الله" (يوحنا ١: ٢٩- ٣٦)؛ ويوحنا الرسول يراه الآن في نفس تلك الشخصية في الأعالي. ولكن يا للفرق الشاسع بين الحالتين! فهناك كان مجروحاً ومذبوحاً (أشعياء ٥٣)؛ وهنا هو مركز قوة ومجد السماء، ومع ذلك يحمل في شخصه علامات وندوب الصليب.

"الخَرُوف القَائم" بين العرش والشيوخ هو أول خطوة نحو الادعاء بحق الميراث. إنه على وشك أن ينتحل بنفسه قدرته العظيمة وملكه. حالياً يجلس مع أبيه في عرشه (رؤيا ٣: ٢١)، والرب إلى يمينه (مز ١١٠: ١). ولكن جلسة محكمة الصبر يراها الرائي قد أتت إلى نهايتها. يُخلي الحمل "العرش" و"الجلوس على اليمين" ويقف على أُهبة الاستعداد ليتصرف. الوقوف يدل على الاستعداد للتصرف؛ بينما الجلوس يشير إلى حالة هدوء.

٦- "سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ، هيَ سَبْعَةُ أَرْوَاح الله الْمُرْسَلَةُ إلَى كُلّ الأَرْض". هنا الرقم ذي المغزى "سبعة"، الذي يشير إلى الكمال، يتكرر ثلاث مرات. القوة والذكاء يُشار إليها باستخدام كلمات "القرون" و"الأعين"، وملء إدراة الروح القدس في الحكم في الـ "سَبْعَةُ أَرْوَاح الله". كلها في حالة كمال، وكلها مرتبطة مع حكومة الأرض التي على وشك أن يتسلمها الحمل في شخصه الفدائي "كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ".

تقدم الحمل وأَخَذَ السّفْرَ "منْ يَمين الْجَالس عَلَى الْعَرْش". يا له من دمج للأمجاد والحقوق يتمركز في المحبوب عند الله! جلال وقوة الأسد، وداعة الحمل والطابع القرباني عنده، ممتزجان بكل القدرة والذكاء، تتجلى ظاهرة بشكل واضح في شخص ذاك الممجد الذي رآه الرائي. فكم هي بسيطة تلك الكلمات التي تُسرد فيها تصرفاته الجليلة. فتح الدرج ذو السبعة أختام بيد الرب يدل على أخذه تلك الصفة الهامة جداً التي كان الصليب وحده يفوقها، العمل الذي يشتمل على مجد الله وبركة الخليقة، الذي يهم كل الكون بشكل مباشر (الآيات ١١- ١٤). "أَتَى وَأَخَذَ السّفْرَ منْ يَمين الْجَالس عَلَى الْعَرْش". ما من حاجة إلى قلم فنان أو يراع مؤرخ هنا. البساطة الخالية من الفن في السرد هي مثل الله. "يتميز المشهد بالبساطة والجلالة، دون تفخيم في الكلمات ودون محاولة لزخرفة المشهد"، يكتب موسيس ستورات. ويقول ف. و. غرانت: "يا له من مشهد هادئ وجليل". وإننا نشهد على تأييدنا لهذه الشهادة تماماً.

الأحياء والشيوخ: الترنيمة الجديدة:

٨- ١٠: "وَلَمَّا أَخَذَ السّفْرَ خَرَّت الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ وَالأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً أَمَامَ الخَرُوف، وَلَهُمْ كُلّ وَاحدٍ قيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ منْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُوراً هيَ صَلَوَاتُ الْقدّيسينَ. وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنيمَةً جَديدَةً قَائلينَ: «مُسْتَحقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للَّه بدَمكَ منْ كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإلَهنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلكُ عَلَى الأَرْض»". في الأصحاح السابق رأينا الرب في عظمة وأبدية كينونته، كما أيضاً في علاقته مع كل الخلائق كرب وسيد عليها، فهو مؤازرها وخالقها، وهذا ما يثير العبادة العميقة للأحياء و الشيوخ. ما من ملائكة تُذكر هنا لتأخذ دوراً في العبادة. ولكن لدينا هنا في مركز عبادة السماء الحمل المذبوح، وبالتالي كل الخليقة تتحرك من عمق أعماق. هناك ملامح إضافية لاهتمام القلب أضافت أُسساً وأسباباً للعبادة والتسبيح لا توجد عندما يكون الرب في المنظور. الحمل المذبوح يُحضر أمامنا المتألم القدوس الذي كان في الأرض وقد تُركَ ليعاني الهزأة والإساءة، منبوذاً ومصلوباً، دون أن ينطق بكلمة توبيخ، ودون أن يستخدم قوته لصالحه ولا حتى في آلامه. والآن كل شيء تبدل بشكل مبارك. الحمل الذي وقف يوماً وسط عصبة السفهاء (متى ٢٧: ٢٧- ٣١) صامتاً، مذعناً، غير مقاوم، وحيداً في قداسته، في وقار هادئ، محتملاً أقسى وأشنع أشكال الازدراء والتحقير من الحاقدين المتجمهرين حوله، الذين ضربوه دون أن يدافع عن نفسه وركعوا أمامه ساخرين، وقد أمطروه ببصاق ازدرائهم، وتوجوه بتاج الشوك الذي كان ينغرز في رأسه، وغرزوا مساميراً في يديه المقيدتين، وجلدوه وأطلقوا العنان لسخريتهم وكراهيتهم التي كانت تدل على طبيعتهم الفاسدة والرديئة. وأما هو فقد وقف ساكناً في الوسط، صامتاً صابراً محتملاً. أما الآن فنفس الحمل الذي يحمل في شخصه علامات آلامه يُرى هنا موضوع العبادة السماوية. ومن هنا فما من صوت يصمت أو يمكن أن يكون صامتاً عند ظهور الحمل المذبوح.

هنا يتحد الأحياء مع الشيوخ في سجود عميق أمام الحمل. لاحظوا أيضاً الزمن والمناسبة. يا لها من ملاءمة! "لَمَّا أَخَذَ السّفْرَ خَرَّت الأَرْبَعَةُ الْحَيَوَانَاتُ وَالأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ شَيْخاً أَمَامَ الخَرُوف". تلك اللحظة المهيبة التي ستنحى إليها كل طرق الله، والتي تتمخض الخليقة إليها، وإليها يتوق إسرائيل، ويرجو القديسون ويصلّون، قد أتت. وأول ما يحدث هو نقل زمام الحكم إلى الحمل المذبوح. الملكوت يكون وسيطاً في طابعه. الصولجان سيستخدمه المسيح ببراعة في علاقته مع قديسيه السماويين، الذين يمثلهم هنا الشيوخ، ومع جماعات المفتدين الآخرين ولكن الشهداء الذين نُقلوا في ما بعد.

٨- "وَلَهُمْ كُلّ وَاحدٍ قيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ منْ ذَهَبٍ" تنطبق على الشيوخ، وليس على الأحياء. هؤلاء السابقون هم الحكام التنفيذيون لله، وكما أن ذلك الحكم سيترأسه المسيح، الحمل المذبوح، فإنهم يقرون بحقه واللقب الذي يستحقه في إمساكه بالسيادة الكونية. الأحياء والشيوخ يعبدون الرب في الأصحاح ٤، وعلى نفس المستوى يعبدون الحمل في الأصحاح ٥. وهذا يبرهن أن الابن مساوٍ للآب، وأن كل أمجاد إضافية يكتسبها بالتجسد والكفارة، فمع ذلك، وكابن، هو الله، وبما أنه هكذا فله الحق بأن يعبده ويسبحه كل كائن مخلوق.

٨- "قيثَارَاتٌ". في التسبيح الألفي في الأرض تُذكر عدة آلات موسيقية (مز ١٤٩، ١٥٠). ولكن تسبيح جوقة طغمات السماء تُمثلها القيثارة فقط. فالقيثارة والترنيمة ينسجمان كما الحال في جماعة الشهداء من يهوذا (١٥: ٢). في التسبيح والعبادة المباشرين للرب في العهد القديم يبدو أن القيثارة كانت أكثر استخداماً من أي أداة موسيقية أخرى، وذلك بفضل دمجها الفريد من نوعه للعلامات الموسيقية العريضة والجليلة مع الألحان الناعمة والحانية على يد عازف ماهر (أشعياء ٢٤: ٨؛ مز ٣٣: ٢؛ ٤٣: ٤؛ أخبار الأيام الأول ٢٥: ٦). وعادة ما تُذكر القيثارة والترنيمة مترافقين معاً.

٨- "جَامَاتٌ ٥ منْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُوراً، هيَ صَلَوَاتُ الْقدّيسينَ". التسبيح الكهنوتي (القيثارة) والخدمة (الجامات) مترافقتان هنا. في أخبار الأيام الثاني، الأصحاحات ٣ و٤ ، الهيكل وأوانيه مقدسة تُصوّر مسبقاً المشهد الألفي في بعض أرفع جوانبه. دور أو رمز الْمَنَاضِحَ الذهبية في الهيكل (٤: ٢٢)، مع الفروقات المميزة عن الجامات الذهبية في يدي القديسين السماويين، "جَامَاتٌ منْ ذَهَبٍ" تدل على قيمتها وتشهد على رفعة وقداسة الخدمة التي تُستخدم من أجلها. عبارة "مَمْلُوَّةٌ بَخُوراً" ٦ تشتمل ضمناً في المعنى على وجود أكثر من نوع واحد من العطور. إن العبير كبير ومنوع. بقوله "بَخُوراً، هيَ صَلَوَاتُ الْقدّيسينَ" يشير إلى أن الصلاة على الأرض هي بخور في السماء. نعتبر أحياناً أن صلاتنا لا قيمة لها. ولكنها ليست كذلك. إن الله بطريقته الفريدة التي لا مثل لها وغنى رحمته يُثمِّنُ صلواتنا وتضرعاتنا إليه، فتصعد إليه كالبخور.

ولكن من هي جماعة القديسين المصلّية تلك التي يهتم لشأنها الكهنوت السماوي بشدة! يشير القسم المحوري في السفر بوضوح إلى وجود جماعة شهدت على الأرض خلال مسير الدينونات الرؤيوية، وهي جماعة تُحفظ من وسط اليهود والأمميون (١١: ٣؛ ١٢: ١٧؛ ١٣: ٧- ١٠). هؤلاء القديسون المتألمون تحت السلطة المدنية المرتدة (الوحش)، وتحت القوة الدينية المرتدة (ضد المسيح)، ستخضع لغيظ الشيطان التي ستُطلق عليهم من خلال رئاساته على الأرض. الجميع سيعانون في الأسبوع المريع من السنوات السبع (دانيال ٩: ٢٧) التي ستسبق فجر الألفية. الكثيرون يستشهدون، وهكذا ينالون مكاناً في السماء ونصيباً معيناً لهم؛ آخرون يبقون ويُشكّلون نواة سكان ألفية الذين سيفرحون بالمجيء العلني والحكم العادل للمسيح، حمل الله، وابن الإنسان. صلوات هؤلاء القديسين هي البخور ٧. ولكن انتبهوا بعناية إلى أن الشيوخ لا يتصرفون كوسطاء ولا كشفعاء. إنهم لا ينقلون هذه التضرعات إلى الله، ولا يتوسطون لدى الله. الشيوخ في السماء هم إخوة أولئك المقدسين الذين يعانون على الأرض. ومن هنا فمن الغريب أن لا يهتموا بالصراعات والنزاعات التي كان لهم دور فيها سابقاً. ولكن لهم دور إيجابي بسبب المودة العميقة التي لديهم. الكاهن الملاك الذي يضيف البخور إلى صلوات القديسين ليس كائناً مخلوقاً (٨: ٣، ٤)؛ المسيح، والمسيح وحده، هو المؤهل ليفعل ذلك. هو وحده الوسيط (١ تيموثاوس ٢: ٥) والشفيع (رومية ٨: ٣٤). وسيط واحد، ألا وهو "الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ". إذاً لدينا شفيعان، المسيح في السماء، والروح القدس فينا الآن.

٩- "يَتَرَنَّمُونَ (الشيوخ) تَرْنيمَةً جَديدَةً". ليس من ترنيمة مدونة في سفر التكوين. كان البطاركة أناساً ذوي فكر عميق وعقل جدي وغير فرح. أول ترنيمة على الأرض نجد حديثاً عنها يرويها خروج ١٥. تحرير بني إسرائيل (الأصحاح ١٤) شكَّل أساساً ومادة للترنيمة (الأصحاح ١٥: ١- ١٩) واللازمة (الآية ٢١). الترنيمة القديمة هي الله يُحتفى به في مجد الخليقة (أيوب ٣٨: ٧). الترنيمة في نصنا تُسمى "جديدة" بسبب موضوعها- الفداء، وليس رمزياً، بل تحقق فعلياً؛ "جديدة" لأنه تم الترنم بها في السماء في ليلة الانطلاق الكامل للفرحة الألفية. نلاحظ أنه ليس من ترنيمة في الأصحاح ٤ ولا نسمع في الكتابات المقدسة عن ملائكة يُرنمون. نشيد موسى ونشيد الحمل (رؤيا ١٥: ٣) تتحدان للاحتفال بطرق الله الماضية مع إسرائيل ونعمته الحالية في الحمل ومن خلاله. "الترنيمة عن الخلق يجب أن تُفسح مجالاً، في المحيط واللحن، للترنيمة التي تتغنى بانتصارات يسوع" (J. G. B )، وهذه هي الترنيمة الجديدة التي تتكلم، في موضوعها وفحواها، عن حمل الله الغالب؛ ترنيمة تتناول الماضي والمستقبل، الصليب والملكوت. لقد كانت فخمة تلك الترنيمة التي تغنى بها بنو إسرائيل على الضفة الشرقية للبحر الأحمر، ولكن هذه الترنيمة في طابعها ومناسبتها هي أعظم منها بشكل لا يُضاهى. فالمُفتدون يُرنمون عنه وله.

٩- "مُسْتَحقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ". لافت للانتباه هنا كيف أن دخول الحمل يغلق كل شيء آخر. بتلك الشخصية التي تقدمه كمذبوح يجتذب انتباه السماء. أين هو أسد سبط يهوذا؟ الأسد يُفسح مجالاً للحمل تحت اللقب السابق، والذي يكون ذا قدرة وسلطان، فيهزم ما تسبب في قمع بني إسرائيل، وفي سيرة حياته وانتصاره لا يستقر أو يستريح إلى أن يضمن نصر ذلك الشعب. ولكن ذلك اللقب بالقوة الجازمة كانت معطلة خلال ذلك الوقت، والحمل هو كل المجد في السماء والأرض. بالطبع، إن قوة الأسد ونعمة الحمل تتمركزان في يسوع. هنا تتم مخاطبة الحمل بشكل شخصي في هذه الترنيمة. استحقاقه لأن يكشف مشورات الله ويجريها هو موضوع احتفالهم. وبعد ذلك، يوضع أساس استحقاق الحمل بأن يجري أهداف الله وصولاً إلى نتيجة كاملة ومجيدة.

٩- "لأَنَّكَ ذُبحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للَّه بدَمكَ منْ كُلّ قَبيلَةٍ وَلسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ". لكونه أسد يهوذا فإنه يتصرف بقوة وسلطان، ولكن كحمل كان مذبوحاً. هنا تحقيق مشورات الله في النعمة والمجد نتتبعها إلى الصليب كأساس. "لأَنَّكَ ذُبحْتَ". بدون الصليب، كان المسيح سيدخل إلى عوالم المجد لوحده؛ وبدونه ما كان ليصير فداء للخطأة. الصليب هو أعظم مشورة للأبدية وأعظم حقيقة في الزمان. إنه الأساس الراسخ الذي تستند عليه كل بركة إسرائيل والخليقة، وأيضاً مجد الكنيسة وقديسي السماء.

فداء العرق شيء مختلف عن الفكر اللاهوتي، وبالتأكيد خالٍ من أي سلطان كتابي. هل تؤيد الآيات في فيلبي ٢: ١٠، ١١؛ كولوسي ١: ٢٠؛ أعمال ٣: ٢١ ولو بأدنى درجة فكرة أن كل الأشياء والأشخاص والشياطين والأرواح الشريرة ستُفدى أو تُستعاد إلى حالتها الأصلية؟ نجيب بشكل قاطع أن "لا". تؤكد الآيات في فيلبي ٢: ١٠، ١١ خضوع الكون للمسيح، ولكنه خضوع وليس فداءً. كولوسي ١: ٢٠ تحصر المصالحة بكل الأشياء (وليس الأشخاص) في السماء والأرض، والعالم السفلي يكون مستثنى. وتشير أعمال ٣: ٢١ إلى امتلاء وكمال البركة الألفية، شهادة النبوءة. ولكن بدل إعلان الفداء لكل الناس، أنبياء العهد القديم دحضوا ذلك بشكل واضح وقاطع (دانيال ١٢: ٢؛ أشعياء ٦٦: ٢٤). ماذا أيضاً عن الشهادة الجليلة لرائي بطمس؟ (رؤيا ١٩: ١٩، ٢٠؛ ٢٠: ٧- ١٥). ليس من فداء للسلالة أو الجنس البشري بأكمله، بل أشخاص منه، وهذا التمييز في توافق تام مع الشهادة القديمة لموسى في المزمور ٩٠: ٣. "تُرْجِعُ الإِنْسَانَ (أي الجنس البشري) إِلَى الْغُبَارِ وَتَقُولُ: [ارْجِعُوا يَا بَنِي آدَمَ] (أي الأفراد)". إن الشراء هو عالمي، ويشير إلى تغير المالك. أما الفداء فهو خاص، ويشير إلى تغير الحالة. "مفتدين لله"، إذاً فنحن خاصته. ليس هذا فقط، بل كما يكتب الرسول بولس: "نَفْتَخِرُ أَيْضاً بِاللَّهِ" (رومية ٥: ١١)، هذه الحالة الأخلاقية الأعلى المتوافقة مع الخلْقية. يا له من ثمن باهظ دُفع لأجل ضمان بركتنا! "بالدم". فداء إسرائيل الماضي قد صنعته القوة (خروج ١٥: ١٣؛ مز ١٠٦: ١٠)؛ وفداء الخطأة من بني البشر كان بالدم (١ بطرس ١: ١٨؛ رومية ٣: ٢٤). تبعثر العائلة البشرية هو تحت العامل الهام المألوف والمعروف ألا وهو رقم ٤، أي الأُمَم وَالْقَبَائل وَالشُّعُوب وَالأَلْسنَة. ومن هذه يجمع الله ويفتدي شعباً لنفسه.

١٠- "وجَعَلْتَنَا لإلَهنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلكُ عَلَى الأَرْض". من اللافت والهام للتفسير أن نلاحظ استخدام ضمائر المتكلم الجمع في هذه الآية. الشيوخ لا يُرنمون منشدين عن فدائهم هم، بل عن فداء شعب على الأرض. خدمتهم الكهنوتية كانت لأجل آخرين، ولذا فإن ترنيمتهم هنا هي عن المفتدين آنذاك على الأرض. إنهم يترنمون ويحتفلون بالبركة التي ينالها الآخرون، وليس بركتهم الذاتية. نلاحظ هنا انعدام الأنانية والغيرة. كم هو شديد وكثيف اهتمام الله بعمل نعمته في الأرض خلال الفاصل الزمني بين الانتقال (١ تسا ٤: ١٧) ومجيء الرب بقوة (رؤيا ١٩: ١١- ١٤). المفتدون في السماء يُسرون بإعلان البركة للمفتدين على الأرض. "جَعَلْتَنَا لإلَهنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً"، وفي هذه جلاء وقار ملوكي ودنوٌ كهنوتي. "فَسَنَمْلكُ عَلَى الأَرْض". كان الشعب اليهودي يتوقع أن تصبح أورشليم مركز حكم الشعب الأرضي (إرميا ٣: ١٧)، وأن الشعب اليهودي سيخلص بعدئذ ويرأس الأمم (حزقيال ٤٨: ١٥- ٣٥؛ أشعياء ٥٢: ١- ١٠؛ مزمور ٤٧). إلا أن القديسين السماويين هم الذين سيملكون، ولكن ليس على الأرض. فملكوت الآب وملكوت الابن (متى ١٣: ٤١، ٤٣) يشيران إلى عوالم هائلة من البركة. كل القديسين الذين يموتون، مع أولئك الذين يتغيرون لدى المجيء (١ تسا ٤: ١٥؛ ١ كور ١٥: ٥١، ٥٢)، يملكون على الأرض في اتحاد مبارك مع المسيح. ليسوا من أتباع الملكوت؛ بل إنهم ملوك، وهم سيقومون بكل المهمات الملكية التي يكشف عنها رؤيا ٢٠: ٤. إن ملكنا في طبيعته يأخذ نمطه من المسيح، ومن اتحاد السلطة الملكية والنعمة الكهنوتية (انظر زكريا ٦: ١٣، "وَيَكُونُ كَاهِناً عَلَى كُرْسِيِّهِ").

استحقاق الحمل. العالم الملائكي في تسبيح لله وللحمل:

١١- ١٤- "وَنَظَرْتُ وَسَمعْتُ صَوْتَ مَلاَئكَةٍ كَثيرينَ حَوْلَ الْعَرْش وَالْحَيَوَانَات وَالشُّيُوخ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَات رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائلينَ بصَوْتٍ عَظيمٍ: «مُسْتَحقٌّ هُوَ الخَرُوفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغنَى وَالْحكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ». وَكُلُّ خَليقَةٍ ممَّا في السَّمَاء وَعَلَى الأَرْض وَتَحْتَ الأَرْض، وَمَا عَلَى الْبَحْر، كُلُّ مَا فيهَا، سَمعْتُهَا قَائلَةً: «للْجَالس عَلَى الْعَرْش وللخَرُوف الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلَى أَبَد الآبدينَ». وَكَانَت الْحَيَوَانَاتُ الأَرْبَعَةُ تَقُولُ: «آمينَ». وَالشُّيُوخُ الأَرْبَعَةُ وَالْعشْرُونَ خَرُّوا وَسَجَدُوا". "نَظَرْتُ" و"سَمعْتُ" عبارتان تشيران إلى الانتباه الجذل للرائي ٨. إدخال الملائكة في مشهد سماوي والمكان الذي يشغلونه هو أمر ذو اهتمام عميق. لقد أعلنوا ميلاد يسوع وسبحوا الله بكلمات لا تُنسى (لوقا ٢: ٨- ١٤)؛ وملاك راح يخدمه في البستان المظلم الكئيب عندما أرخت ظلال الصليب والكآبة بظلها المعتم على روحه (لوقا ٢٢: ٤٣)؛ وملاكان شاهدان على قيامته (يوحنا ٢٠: ١٢، ١٣)؛ وملاكان أيضاً شهدا على صعوده (أعمال ١: ١٠، ١١). وعندما عاد فدخل بيته السماوي، حدث كما نقول في ذلك البند من الإيمان المسيحي "تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ" (١ تيموثاوس ٣: ١٦). إن المسيحية برمتها هي مسألة تساؤل واهتمام عند الطغمات السماوية (١ بطرس ١: ١٢). إنها تُسر بأن تخدم ورثة الخلاص الآن (عبرانيين ١: ١٤)، حتى إنهم يجدون مسرتهم في خدمتهم في المجد (رؤيا ٢١: ١٢). إنهم يرافقون الرب بين القوات السماوية التي لا يحصى لها التي ترافقه في دخوله الظافر إلى هذا العالم (متى ٢٥: ٣١؛ عبرانيين ١: ٦). ولكن لا تُذكر أية نبوءة عما إذا كانت الملائكة يُحِبُّون أو يُحَبُّون.

في المركز يقف الحمل المذبوح، وحول العرش الأحياء والمفتدين، بينما الحلقة الخارجية تتشكل من الملائكة الذين عددهم يعجز البشر عن عده (انظر دانيال ٧: ١) ٩. في تجاوب القوات الملائكية مع ترنيمة المفتدين هم يقولون، بينما الشيوخ يرنمون. هناك أكثر من فارق لفظي في هذا، إذ بينما الملائكة يعرفون الحمل لا يمكنهم أن يقولوا "لقد ذُبح لأجلنا". إننا نعرفه بطريقة أعمق وأكمل وشخصية أكثر من الملائكة. لقد مات عنا، وليس عنهم؛ ومن هنا يكون الفرق، فنحن نرنم، أما هم فيقولون. لا يُقال أبداً أن الملائكة يُرنمون. لاحظوا أيضاً أن الشيوخ في ترنيمتهم يخاطبون الحمل مباشرة، بينما الملائكة، في حفظهم لمكانتهم وخدمتهم، يأخذون مكاناً أبعد ولا يستطيعون مخاطبة الحمل مباشرة. السابقون يُرنمون له، بينما الملائكة يتكلمون عنه. الانطلاقة الكاملة للتسبيح من القوات الملائكية كبيرة. السيمفونية لا تشوبها أية نغمة ناشدة. إنهم ينسبون له العدد الأكمل (سبعة) من الصفات ١٠. كما يفعلون أيضاً في الأصحاح ٧: ١٢؛ ففي السابق، على كل حال، الحمل المذبوح هو الفكرة الرئيسية في شهادتهم، بينما في الأخير إنه "إلهنا"، إله الملائكة والبشر. الترتيب الذي تُذكر فيه الصفات في اللحنين الملائكيين يختلف. هناك أيضاً نقاط ثانوية أخرى يجدر بنا الانتباه إليها في نسب المديح أيضاً. العبارات السبع تشير إلى أعلى وأكمل تعبير يمكن لمخلوق أن يقدمه. إنها تجسد التسبيح الكامل والمثالي لأعلى مخلوقات الله وأسماها.

ولكن الموجة الأكبر من التسبيح لم تُستنفد بعد. إنها تتدحرج، جامعة القوة والحجم، إلى أن تشمل الكون برمته. "كُلُّ خَليقَةٍ ممَّا في السَّمَاء وَعَلَى الأَرْض وَتَحْتَ الأَرْض، وَمَا عَلَى الْبَحْر، كُلُّ مَا فيهَا"، الكون الواسع لله في كل أجزاءه. الرب على عرشه والحمل هما مواضيع العبادة الكونية. التسبيح الرباعي الجوانب- "البركة، والكرامة، والمجد، والقدرة"- تميز العالمية في انطلاق العبادة العفوية هذه. التسبيح لا يتوقف أبداً- "إلَى أَبَد الآبدينَ".

المخلوقات الحية تضيف قائلة "آمين"، بينما الشيوخ أيضاً "خَرُّوا وَسَجَدُوا". في ختام حديث ملاحظاتنا على هذه الصفحة الثمينة من الإعلان الإلهي سنذكر أن الترنيمة والتجاوبات المرافقة لها هي متوقعة. الأفكار الألفية والأبدية يُحتفى بها ويتم الكلام عنها على أنها قد أُكملَت. الزمن الماضي يُستخدم عموماً. الحمل المذبوح هو الموضوع الذي يتحلق حوله الجميع وكل شيء. في شخص الحمل لدينا الضمانة الأكيدة للإظهار المجيد لكل مشورات الله. ومن هنا، وقبل أن يُنجز العمل، يصرخ الإيمان بابتهاج، قائلاً أن "قَدْ تَمَّ".


١. البعض يصيغ العبارة على الشكل التالي: "مكتوب من الداخل، ومن الوراء مختوم بالأختام السبعة"، ولكن أين يمكن أن يُختم سوى على الخلفية؟ وما الدليل على صحة ذلك؟ لقد كانت عادة أن ينهوا الدرج وأن يستمروا بالكتابة على الخلفية. الدرج الذي رآه حزقيال (٢: ١٠) كان، كما يخبرنا الكتاب بشكل واضح، "مكتوباً منْ دَاخل ومن خارج". ملء أو اكتمال الإعلانات النبوية التي على وشك إعلانها يبدو كأنها الفكر المصمم في الدرج إذ كُتب على كلا الوجهين.

٢. "ميخائيل رئيس الملائكة" (يهوذا ٩). لا يتكلم الكتاب المقدس أبداً عن "رؤساء ملائكة". الكتاب اليهود يقسمون طغمات الملائكة إلى صفوف وطبقات كـ "عروش، وسلاطين، وفضائل، وإمارات، وقدرات"، والتي إليها يُشير النص في أفسس ١: ٢١ بوضوح. في نطاق ما هو فائق الطبيعة، الخدام غير المنظورين للإرادة الإلهية سيقودون ويسيطرون ويؤثرون على قضايا البشر بكل الطرق. إنهم خدام الله.

٣. ترد كلمة "حمل" ٢٨ مرة في الرؤيا: وتشير الكلمة إلى حيوان بالغ الصغر: Arnion ، وليس Amnos ، كما في الإنجيل (١: ٢٩، الخ). إن كلمة "أسد" تنطبق مرة واحدة فقط على المسيح في هذا السفر.

٤. ليس من الصعب علينا أن نفترض أن الجسد الممجد لربنا المبارك ستظهر فيه العلامات المتعذّر محوها للندوب الناجمة عن الصلب (يوحنا ٢٠: ٢٠- ٢٧).

٥. "آنية مفتوحة واسعة أو مرحضة". انظر الحواشي، ص. ١٥٨، "محاضرات على سفر الرؤيا"، بقلم وليم كيلي.

٦. "كان البخور يحوي روائح عطرية متنوعة"- هوبر. انظر أيضاً "الترجمة الجديدة".

٧. يؤكد العديد من الذين يكتبون عن الرؤيا قناعتهم بأن القيثارة وجامات البخور ترمز إلى تسبيح وصلوات المفديين في السماء. السابق صحيح، ولكن ليس الأخيرين. الصلاة كتعبير عن حاجة ستكون خارج السماء. من العبث الاستشهاد بالآية ٦: ٩ لإثبات العكس. "تحت المذبح" وانتظار قيامة الجسد ليسا نفس الأمر كمثل القائمين والممجدين في السماء الذين يكونون بلا حاجة إلى أي شيء كما الحال مع الشيوخ بلا ريب.

٨. الأولى، أي "رأيت"، ترد ٤٤ مرة؛ والأخير أي "سمعت" ترد ٢٧ مرة. نجد هاتين العبارتين معاً في نفس المكان في القسم الختامي من هذا السفر. عندما يُذكرها يوحنا في المرة الخامسة والأخيرة على أنه كاتب الرؤيا فإنه يؤكد مرتين لنا أنه "رأى" هذه الأشياء و"سمعها" (٢٢: ٨). شهادة الرسول إلى حقيقة أن هذه الرؤى كان قد رآها فعلاً وسمع الأصوات العديدة التي يقول عنها حقيقة لا يلقى إليها الشك وهي شخصية وقاطعة حاسمة.

٩. بالنسبة إلى الأعداد التي تذكرها الرائي والنبي نلاحظ أن الترتيب ليس نفسه. يوحنا يذكر أولاً أسماء العدد الأكبر. دانيال أولاً يذكر العدد الأكبر. ولكن جوهرياً ليس هناك فرق.

١٠. "القدرة" تُذكر أولاً لأن الظروف تستدعي تطبيقها المباشر. "القدرة" طابعها الأوسع والأكثر شمولية تُنسب له. "الغنى"، ثروات الكون، المادية والمعنوية، له أيضاً. "الحكمة" كما تُرى في كل طرق وأعمال الله تأتي تالياً في القائمة. "القوة" هي تلك الميزة التي تُمكن المرء من تنفيذ ما يعزم أن يفعله. "الكرامة" تتضمن المعنى بأن كل علامة من التمييز العام العلني يستحق أن يُمنح للحمل. "المجد" يشير إلى الإظهار العلني والمعنوي، والذي يُعتبر الحمل وحده جدير به. "البركة"، كل شكل وطابع من البركة أو السعادة يُنسب هنا إلى الحمل.